الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ما وقع من الحوادث سنة 868]
السنة الرابعة من سلطنة الملك الظاهر خشقدم على مصر وهى سنة ثمان وستين وثمانمائة.
فيها توفّى قاضى القضاة بدر الدين حسن بن محمد بن أحمد بن الصّوّاف الحنفى «1» الحموى قاضى قضاة حماة، ثم الديار المصرية، إلى أن مات في يوم الأحد رابع المحرم ودفن من الغد في يوم الاثنين، وسنه نحو الستين سنة تخمينا، وكان أصله من حماة من أولاد التجار، واشتغل بالعلم في مبدأ أمره يسيرا، ثم مال إلى المتجر وتحصيل المال إلى أن حصل على جانب كبير منه، وولى قضاء حماة بالبذل سنين كثيرة، وطال تكراره إلى القاهرة غير مرّة، وأخذ منه- بوسائطجمل مستكثرة من المال غصبا ورضا، ثم قدم القاهرة في سنة ست وستين لأمر من الأمور، وحصل بينه وبين قاضى القضاة محب الدين بن الشّحنة الحنفى شنآن بواسطة صهارة، فسعى عليه وعزله، وولى عوضه في ثانى عشرين شهر رجب من سنة سبع وستين إلى أن مات في المحرم من هذه السنة، بعد أن مرض نحو الشهر، فكانت مدته كلها في القضاء خمسة أشهر وأياما بما فيها أيام مرضه، ولقد تعب بولايته وأتعب، واستراح بموته وأراح.
وتوفّى السلطان الملك العزيز أبو المحاسن جمال الدين يوسف ابن السلطان الملك الأشرف أبى النصر برسباى الدقماقى الظاهرى، بعد خلعه من السلطنة بسنين كثيرة، بثغر الإسكندرية في يوم الاثنين تاسع عشر المحرم، وهو في أوائل الكهولية؛ لأن مولده بقلعة الجبل في سلطنة أبيه في سنة سبع وعشرين وثمانمائة، وأمه خوند جلبّان أم ولد لأبيه چاركسية، تزوّجها أستاذها الملك الأشرف بعد أن ولدت الملك العزيز هذا،
ومانت أيام والده الأشرف، ونشأ الملك العزيز تحت كنف والده بالدّور السلطانية، إلى أن عهد له أبوه الأشرف بالسلطنة في مرض موته، ومات بعد أيّام.
وتسلطن العزيز هذا بعد عصر نهار السبت ثالث عشر ذى الحجة سنة إحدى وأربعين وثمانمائة، وهو السلطان الثالث والثلاثون من ملوك الترك بالديار المصرية وأولادهم، والتاسع من الچراكسة وأولادهم، وتم أمره في الملك، وصار الأتابك جقمق مدبّر مملكته وفرّق النفقة على المماليك السلطانية كل واحد مائة دينار، لا يتنفّل أحد على أحد كائنا من كان، على قاعدة الملوك العظام، بخلاف من جاء بعده من الملوك، ودام في الملك إلى أن وقع بين الأتابك جقمق وبين مماليك أبيه الأشرفية أمور آلت إلى خلعه من السلطنة، وسلطنة الأتابك جقمق عوضه في يوم الأربعاء تاسع عشر شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة، فكانت مدة ملكه نحوا من خمسة وتسعين يوما، ليس له فيها إلّا مجرّد الاسم فقط.
وبعد خلعه من الملك رسم له بالسكن في قاعة من الحريم السلطانى بقلعة الجبل، فسكن بها إلى أن حسّن له بعض حواشيه التسحّب منها والنزول من القلعة إلى القاهرة لتثور مماليك أبيه به على الملك الظاهر جقمق، ففعل ذلك، وتزيّا في نزوله في زى بعض صبيان الطّباخين، ونزل بعد الفطر وقت صلاة المغرب إلى القاهرة من باب المدرج «1» وكانت أيام شهر رمضان، فنزل ولم يفطن به أحد، لاشتغال الخدام وغيرهم بالفطر، فلما نزل إلى تحت القلعة لم ير شيئا مما قيل له، فندم على نزوله، وبقى لا يمكنه العود إلى مكانه، فاختفى من وقته هو ومملوكه أزدمر وطواشيه صندل، وطباخه إبراهيم، ووقع له وللناس في اختفائه أمور ومحن، ونكبت جماعة كثيرة من الناس بسببه وضرب جماعة من مماليك أبيه بسببه بالمقارع والكسّارات، ووسّط بعضهم، وقلق الملك الظاهر جقمق بسببه قلقا زائدا.
وضاقت الدنيا على الملك العزيز يوسف، وتفرقت عنه أصحابه إلى أن ظفر به
الملك الظاهر جقمق في أواخر شوال، وكان الذي أمسكه الملك الظاهر يلباى، وكان يوم ذاك أمير عشرة، فأنعم عليه الملك الظاهر جقمق بقرية سرياقوس، زيادة على ما بيده لكونه قبض على الملك العزيز في الليل، وطلع به إلى السلطان، ولما ظفر به الملك الظاهر جقمق حبسه بالدّور السلطانية، ثم بعثه إلى سجن الإسكندرية، فحبس بها إلى أن أطلقه الملك الظاهر خشقدم في أوائل سلطنته، هو والملك المنصور عثمان ابن الملك الظاهر جقمق، وسكن العزيز بدار في الإسكندرية إلى أن مات بها في التاريخ المقدّم ذكره، بعد أن قضى من عمره أياما عجيبة من حبس وقهر وتنغّص عيش- عوّضه الله الجنة بمنه وكرمه.
وتوفّى الشيخ الصالح المعتقد المجذوب عمر الببانى «1» الكردى بسكنه بجامع قيدان «2» على الخليج بالقرب من قناطر الأوز «3» خارج القاهرة، فى ليلة الجمعة سلخ محرم هذه السنة، وصلى عليه ثلاث مرار، مرّة بجامع قيدان حيث كان سكنه ووفاته، ومرّة في الطريق، ومرّة حيث دفن بتربة الملك الظاهر خشقدم في الصحراء، وكانت جنازته مشهودة إلى الغاية، بحيث إن نعشة رفع على الأصابع من كثرة الناس مع هذا المدى البعيد، ومات وقد جاوز الستين، وكان أصله ببانيّا- طائفة من الأكراد- ولد هناك وقدم القاهرة، ونزل صوفيا بخانقاه سعيد السعداء، ودام على ذلك دهرا إلى أن ظنّ منه نوع من الجنون الذي يسميه الفقراء جذبة، فنقله أهل الخانقاه عنهم، فسكن بدار، ثم انتقل إلى جامع قيدان، فدام به سنين كثيرة، وبه اشتهر بالصّلاح، وقصدته الناس للزيارة والتّبرّك بدعائه، مع أنه كان لا يقبل من أحد شيئا إلا نوع الأكل، وكانت جذبته غير مطبقة،
لأنه كان لا يخل بالمكتوبة بل يغتسل في الغالب لكل صلاة صيفا وشتاء، وكان له في مبدأ أمره اشتغال ببلاده، ولم يبلغنى من كراماته شئ، وببان ببائين ثانى «1» الحروف مفتوحين وبعدهما ألف ونون ساكنة- أظنها قبيلة في الأكراد- رحمه الله تعالى.
وتوفّى المقام الشهابى أحمد ابن الملك الأشرف برسباى الدقماقى الظاهرى بدار عمّه زوج أمه الأمير قرقماس الأشرفى أمير سلاح، بخط التبّانة خارج القاهرة، فى يوم السبت سابع شهر ربيع الأول، حضر السلطان الصلاة عليه بمصلاة المؤمنى، ودفن بتربة والده الملك الأشرف برسباى بالصحراء في فسقيّة واحدة، وبموت أحمد هذا انقرضت «2» ذرية الملك الأشرف برسباى لصلبه، لأن أحمد المذكور خلّف بنات صغارا.
وكان سيدى أحمد هذا أصغر أولاد الملك الأشرف، تركه حملا، وأمه أم ولد چاركسية، تزوجها الأمير قرقماس الأشرفى الجلب، وهو الذي تولّى تربيته إلى أن كبر، وماتت أمه، فلم يتركه قرقماس، واستمر عنده، وبهذا المقتضى لم يقدر أحد من السلاطين أن يأخذه منه وبرسله إلى ثغر الإسكندرية، ولما كبر أراد غير واحد من الملوك أن يرسله إلى الإسكندرية عند أخيه الملك العزيز يوسف المقدم ذكر وفاته في هذه السنة، فقال قرقماس:«إذا خرج أحمد هذا إلى جهة من الجهات أخرج أنا أيضا معه» فسكت القائل.
ولا زال الشهابى مقيما بالقاهرة إلى أن صار في حدود الرجال غير أنه لم ينظره أحد قط، ولم يخرج من بيته قط لأمر من الأمور حتى ولا إلى صلاة الجمعة ولا إلى العيدين، بل يسمع الناس به ولا يرونه إلى أن مات، ومع هذا كاء كانت الملوك مطمئنة بإقامته بالقاهرة لحسن طاعة قرقماس للسلاطين، وكان على ما قيل شابا طوالا جميلا فاضلا عارفا، وله محبة في الفضيلة ومطالعة الكتب، ويكتب المنسوب، وكان موته بعد أخيه العزيز من النوادر، فإنه عاش بعد موت أخيه العزيز شهرا وثمانية عشر يوما، والعجيب
أنهما شابان كاملان ماتا في هذه المدّة اليسيرة من غير طاعون، وإنما هى آجال متقاربة، ومحل الظن بالملك، وأظنه برئ من ذلك، اللهم إن كان وقع شيء من غير الملك من جهة النسوة أو غيرها فيمكن- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الشيخ جمال الدين عبد الله ابن الشيخ الإمام القدوة المسلك الرّبانى نور الدين أبى الحسن على بن أيّوب «1» الدمشقى الأصل والمولد والمنشأ، المصرى الدار والوفاة، خادم خانقاه سعيد السعداء، فى ليلة الأربعاء سابع عشر شهر ربيع الآخر، وصلّى عليه بعد أذان العصر من يوم الأربعاء المذكور بمصلاة باب النصر، ودفن بمقابر الصوفية.
وكان رحمه الله تعالى له اشتغال وفضيلة مع فصاحة وطلاقة لسان، ومحاضرة حسنة، وكرم نفس، مع العزلة والقناعة، مع التجمل في ملبسه وشأنه، وكان الناس في أمن من يده ولسانه- عفا الله عنه.
وتوفّى الأمير سيف الدين تنم بن عبد الله من عبد الرزاق المؤيدى نائب الشام بها فى يوم الأربعاء ثانى عشرين جمادى الأولى، ودفن بدمشق بعد يومين لأمر اقتضى ذلك، لتعلق كان عليه، ومات وهو في عشر السبعين، وكان چاركسى الجنس، من عتقاء الملك المؤيد شيخ وخاصكيته الصغار، ثم جعله خازندارا صغيرا، ومات الملك المؤيّد وهو على ذلك، ثم صار في دولة الملك الأشرف برسباى رأس نوبة الجمدارية، ثم أمير عشرة، ثم ولى حسبة القاهرة في أوائل دولة الملك الظاهر جقمق، ثم نقل إلى نيابة إسكندرية، ثم عزل وقدم القاهرة، وبعد عزله بمدّة يسيرة ولى نيابة حماة، فلم تطل مدّته بحماة، ونقل إلى نيابة حلب، فلم ينتج أمره في نيابة حلب، ورجم من أهلها، فعزله الملك الظاهر جقمق، واستقدمه إلى مصر أمير مائة ومقدّم ألف بها، ثم صار أمير مجلس، ثم صار في دولة الملك المنصور عثمان أمير سلاح بعد جرباش الكريمى قاشق، بحكم عزله وعجزه، ودام على ذلك إلى أن كانت الفتنة
بين الملك المنصور عثمان وبين أتابكه إينال العلائى، فكان تنم هذا من حزب الملك المنصور بالقلعة، فلما تسلطن الأتابك إينال حبس تنم المذكور بثغر الإسكندرية، إلى أن أطلقه الملك الظاهر خشقدم، وأطلق معه الأمير قانى باى الچاركسى، وسيّرهما إلى ثغر دمياط بطّالين، ثم بعد مدة يسيرة أحضره الظاهر خشقدم إلى القاهرة، وولّاه نيابة دمشق بعد عزل الأمير جانم الأشرفى، فتوجّه تنم إلى دمشق وحكمها، فلم تحمد سيرته وتشكر طريقته، إلى أن مات في التاريخ المذكور.
وكان- رحمه الله تعالى- له مساوئ ومحاسن، وأظن الأول أكثر، ومن غريب ما اتفق في أمره أنه لما كان محبوسا كان رجل من أصحابه ملتفتا إلى أمره ولما يصير من شأنه، فقصد الرجل بعض المشهورين بعلم النّجوم وأرباب التّقويم، فعمل الرجل لتنم المذكور زايرجاة، وأتقن عملها، فخرج له أبيات تشعر بسلطنة تنم المذكور، فجاءنى الرجل وهو مسرور، وحكى لى ذلك، فأجبته بكلام معناه:
إن هؤلاء كذبة، ليس لهم معرفة بهذه الأمور، وكل ما يقولونه كذب وبهتان واختلاق، نصبة على أخذ الأموال، فعظم ذلك عليه، فقلت له:«لى معك شرط، أكتب الأبيات، فإن تسلطن فهو كما تقول، وإن كانت الأخرى فأكتبها في ترجمة وفاته ليكون ذلك عبرة لمن يصدّق كذب هؤلاء الفسقة» فقال: نعم، الأبيات هى «1» [الطويل]
وإنّ الذي في السجن لا بدّ أنه
…
يكون مليكا للأنام عزيزا
فأوله تاء وآخر اسمه
…
على القطع ميم، كن عليه حريزا
وذلك كهل يا أخىّ وإنه
…
لضخم القفا والصدر فاصغ مميزا
ولا بد أن يأتى الزمان بقوة
…
ويعلو رقابا للعداة محيزا
فزايرجة في نظمها نطقت بذا
…
فكن لى بهذا العلم منك مجيزا
وهذا الذي عمل هذه الزّابرجة الناس مجمعون على معرفته، فما العجب من كذب
هؤلاء الكذبة الجهلة الأوقاح، وإنما العجب من تصديق الناس لكلامهم، وقد رأيت جماعة من ذوى العقول تقول:«صدق فلان في قوله كذا وكذا» فأقول له:
«ما صدق بل حزر مرّة وثانية وثالثة ورابعة فأخطأ، ثم أصاب في الخامسة، وكل أحد يقدر على أن يقول مثل ذلك، لان الخير والشر والولاية والعزل «1» واقع في كل أوان وزمان، وكل منتصب لا بدّ له من العزل أو الموت، فالفرق في هذا المعنى بين العارف والجاهل بباب الحزر واضح لا يحتاج إلى بيان» .
وتوفّى الأمير سيف الدين جانبك بن عبد الله التاجى المؤيدى المعزول عن نيابة حلب، والمرشح لنيابة الشّام بعد موت تنم المقدم ذكره، قبل أن يخرج من حلب بدار سعادتها، فى يوم الخميس ثامن جمادى الآخرة بعد أن مرض أياما يسيرة، وهو في عشر السبعين، وكان چاركسى الجنس، من صغار مماليك الملك المؤيّد شيخ، وصار خاصكيا بعد موته إلى أن صار نائب بيروت في أوائل دولة الملك الظاهر جقمق، ثم نقل إلى نيابة غزة، ثم ولى نيابة صفد، ثم حماة، كل ذلك ببذل المال لاتّضاع قدره، ثم ولى نيابة حلب بعد موت الحاج إينال اليشبكى، فباشر ذلك إلى هذه السنة، فرسم له أن يقدم إلى القاهرة «2» أمير مائة ومقدّم ألف بالديار المصرية، فتهيأ للخروج من حلب فمات الأمير تنم نائب الشام، فأقره الملك الظاهر خشقدم عوضه في نيابة الشام، فمات جانبك هذا قبل أن يصل إليه الخبر بولاية دمشق، وقيل بعد وصول الخبر بيوم، وكان متوسط السّيرة في ولايته، ولم تسبق له رئاسة بالديار المصرية غير الخاصكية، وكان غالب ولايته ببذل المال، والذي يبذل المال لا بد له من الظلم، وقد بلغنا عنه أنه كان يستعمل لقيمة الفقراء «3» الخضراء، والله أعلم بصحة ذلك.
وتوفّى الأمير سيف الدين جانبك بن عبد الله الأبلق أحد أمراء العشرات قتيلا بيد الفرنج في الماغوصة بجزيرة قبرس في إحدى الجمادين، وقد ذكرنا سبب قتله فى «الحوادث» وحاصل الأمر: أنه لما ملك الماغوصة، مدّ يده لأولاد أهل الماغوصة من الفرنج، فعزّ على الفرنج ذلك، لأنه كان أخذها بالأمان: فشكوا ذلك إلى صاحب قبرس جاكم الفرنجى، فنهاه عن ذلك فلم ينته، فوقع بينهم تشاجر أدّى ذلك إلى قتله، ولم ينتطح في ذلك شاتان، وبالجملة إن جانبك المذكور كان غير مشكور السيرة في مدّة إقامته بقبرس- رحمه الله تعالى.
وتوفّى شيخ الإسلام قاضى القضاة علم الدين صالح ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان بن نصير البلقينى الكنانى «1» الشافعى، قاضى قضاة الديار المصرية وعالمها، فى يوم الأربعاء وقت الزوال خامس شهر رجب، بعد أن مرض نحو عشرة أيام، ودفن من الغد بمدرسة والده تجاه داره بحارة بهاء الدين، بعد أن صلى عليه بالجامع الحاكمى، وتوجهوا بجنازته من طريق الجملون العتيق، ودخلوا بها من باب الجامع الذي بالشارع عند باب النصر، وعادوا بنعشه من الباب الذي بالقرب من باب الفتوح، وأعيد إلى مدفنه، وكانت جنازته مشهودة إلى الغاية.
ومات وسنه سبع وسبعون سنة، لأن مولده بعد عشاء ليلة الاثنين ثالث عشر جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، وهو من جملة الفقهاء الذين قرأت عليهم القرآن في صغرى، لأن أختى كانت تحت أخيه قاضى القضاة جلال الدين البلقينى، فكنّا بهذا المقتضى كشىء واحد، وكان إماما عالما فقيها، درّس وأفتى سنين كثيرة، وناب في الحكم عن أخيه جلال الدين المذكور، ثم ولى القضاء بعد ذلك غير مرّة، وطالت أيّامه في المنصب، وانتهت إليه رئاسة مذهبه في زمانه، وقد استوعبنا حاله في عدة مواضع من مصنفاتنا، ليس لذكرها في هذا المختصر محل، وفي شهرته ما يغنى عن الإطناب في ذكره هنا- رحمه الله تعالى ورضى عنه.
وتوفّى الأمير سيف الدين كمشبغا بن عبد الله السيفى نخشباى نائب ألبيرة بها فى أواخر شوال، وكان من عتقاء الأمير نخشباى الذي ضرب الملك الظاهر جقمق رقبته، ثم خدم كمشبغا هذا في بيت السلطان، ثم صار خاصكيا، ودام على ذلك دهرا إلى أن سعى في نيابة قلعة حلب فوليها دفعة واحدة بالبذل، فلم تشكر سيرته وعزل، ونقل إلى ألبيرة، فلم تطل مدته بها، ومات في التاريخ المذكور، وكان لا ذات ولا أدوات، ولولا أنه ولى هاتين الولايتين ما ذكرناه هنا.
وتوفّى الشيخ أبو الفضل محمد ابن الشيخ الإمام الفقيه الصالح القدوة المسلك شمس الدين محمد بن حسن المعروف والده بالشيخ الحنفى، فى ليلة السبت ثامن ذى الحجة بجزيرة أروى المعروفة بالوسطانية، بعد مجيئه من الوجه البحرى، وحمل من الجزيرة في باكر نهار «1» السبت المذكور، وصلّى عليه ودفن بزاوية أبيه خارج قنطرة طقزدمر «2» ، وهو في عشر الستين من العمر، وكانت لديه فضيلة، وله اشتغال بحسب الحال، ولكنه لم يكن أمينا على الأوقاف- عفا الله تعالى عنه بمنه وكرمه.
وتوفّى الوزير علاء الدين على ابن الحاج محمد الأهناسى «3» بمكة المشرفة بطالا في حياة أبيه، فى ثانى عشرين ذى القعدة، ومات وهو في أوائل الكهولية، وقد ولى على هذا الوزر والأستادارية والخاص غير مرّة، وعلىّ هذا وأبوه محمد هما من أطراف الناس الأوباش المعدودة رئاستهم من غلطات الدّهر، وقد ذكرنا من أحوال على هذا وولاياته نبذة كبيرة في تاريخنا «الحوادث» تغنى عن العيادة هنا- انتهى- رحمه الله تعالى.
وتوفّى السلطان صارم الدين إبراهيم بن محمد بن على بن قرمان صاحب بلاد الرّوم- قونية، ولا رنده وقيسارية وغيرها- فى أواخر ذى القعدة أو أوائل ذى الحجة
وقد ناهز الستين من العمر، بعد أن ولى بلاد قرمان أكثر من خمس وأربعين سنة، وتولى بعده ابنه إسحاق، وفي لغتهم إسحاق أيسق، ووقع الخلف بسبب ولاية إسحاق بين أولاده.
وبنو قرمان هؤلاء من أصلاء الملوك كابرا عن كابر، أبا عن جد فصاعدا إلى السلطان علاء الدين السّلجوقى، وقيل إن بنى قرمان هؤلاء من ذرية بايندر أحد أكابر أمراء جانكزخان ملك التّرك الأعظم.
وتوفّى القاضى شمس الدين محمد ابن الشيخ بدر الدين محمد بن السّحماوى «1» الشافعى أحد أعيان موقعى الدست الشريف بالديار المصرية، فى ليلة السبت خامس عشر ذى الحجة، ودفن صبيحة يوم السبت المذكور عن اثنتين وثمانين سنة، وكانت لديه فضيلة وعنده حشمة وأدب وتواضع، وباشر التوقيع أزيد من خمسين سنة، وخدم بالتوقيع عند جماعة من أعيان الأمراء، آخرهم الملك الظاهر خشقدم إلى أن تسلطن- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين طوخ بن عبد الله الجكمى الرأس نوبة الثانى- كان- وأحد أمراء الطبلخانات بطالا بعد ما كفّ بصره، فى ليلة الأربعاء تاسع عشر ذى الحجة، ودفن من الغد بالصحراء، وقد زاد سنه على الثمانين ولم يحج حجة الإسلام، وكان أصله من مماليك جكم المتغلب على حلب، وكان من مساوئ الدهر لا يصلح لدين ولا لدنيا، وكان مسرفا على نفسه، ما أظنه ترك الشرب إلا في مرض موته، ولم يحج حجة الإسلام مع طول عمره وسعة ماله- ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، اللهم وفقنا لما تحب وترضى يا رب العالمين.
وتوفّى الأمير سيف الدين بردبك بن عبد الله الأشرفى الدّوادار الثانى- كان-، قتيلا بيد العربان بالقرب من منزلة خليص «2» فى عوده من الحج في يوم
الاثنين سادس عشر ذى الحجة، وقد ناهز الخمسين أو جاوزها، وكان أصله من سبى قبرس قبيل سنة ثلاثين وثمانمائة مراهقا، وملكه الملك الأشرف إينال أيّام إمرته، وربّاه وأعتقه وجعله خازنداره، وزوّجه بابنته الكبرى، ثم جعله دواداره، ولما تسلطن أمّره وجعله دوادارا ثالثا ثم جعله دوادارا ثانيا، ونالته السعادة، وعظم في الدولة وقصده الناس لقضاء حوائجهم، وشاع ذكره وبعد صيته، وحمدت سيرته، وعمّر الجوامع في عدّة بلاد، وله مآثر وذكر في الصدقات والإعطاء، ودام على الدّوادارية إلى أن نكب ابن أستاذه السلطان الملك المؤيّد أحمد ابن الملك الأشرف إينال، وخلع من السلطنة، وأمسك بردبك هذا وصودر، وأخذ منه نحو من مائتى ألف دينار، ووقع له أمور.
وبالجملة إنه كان لا بأس به لولا محبته لجمع المال من أى وجه كان- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الشيخ الفقيه العالم المقرئ تاج الدين محمد بن أحمد الفطويسى «1» الإسكندرى المالكى إمام السلطان، ومدرس الحديث بالظاهرية العتيقة، مات في نصف ذى القعدة، ومولده سنة خمس عشرة وثمانمائة، واشتغل كثيرا في عدّة علوم، لكنه لم يكن ماهرا فى غير القراءات، وحصلت له وجاهة آخر عمره.
وتوفّى الأمير سيف الدين سودون بن عبد الله اليشبكى التركمانى المعروف بسودون قندورة، أحد مقدمى الألوف بدمشق وأمير حاج المحمل الشامى، بعد خروجه من المدينة الشريفة إلى جهة الشام، فى أواخر ذى الحجة، أو في أوائل المحرم، وقد زاد سنه على الستين، وكان من مماليك الأمير يشبك الجكمى الأمير آخور، وبقى بعد أستاذه من جملة مماليك السلطان، ودام على ذلك دهرا طويلا لا يلتفت إليه، إلى أن تحرك له بعيض سعد، وانتمى للصاحب جمال الدين ناظر الخاص ابن كاتب جكم بواسطة خچداشه جانبك اليشبكى والى القاهرة، فولى بعض قلاع البلاد الشامية:
قلعة صفد، وقلعة الشام، ثم تنقل في البلاد بالبذل إلى أن صار من أمره ما كان، ولم يكن سودون هذا من أعيان الأمراء لتشكر أفعاله أو تذم.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وخمسة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وثلاثة عشر إصبعا.