الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ما وقع من الحوادث سنة 872]
واستهلت سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة بيوم الأحد ويوافقه تاسع مسرى.
ففى يوم السبت سابعه- الموافق لخامس عشر مسرى- أو في النيل «1» ، ونزل السلطان الملك الظاهر خشقدم، وعدّى النيل، وخلّق المقياس، وعاد وفتح خليج السّدّ على العادة.
وفي يوم الخميس ثانى عشره ورد الخبر من نائب حلب يشبك البجاسى أن شاه سوار نائب أبلستين خرج عن طاعة السلطان، ويريد المشى على البلاد الحلبية، فرسم السلطان في الحال بخروج نائب طرابلس ونائب حماة إلى جهة البلاد الحلبية لمعاونة نائب حلب إن حصل أمر، ثم عيّن السلطان تجريدة من مصر إلى جهات البلاد الحلبية إن ألجأت الضرورة إلى سفرهم، والذين عينهم في هذه التجريدة من أمراء الألوف: الأتابك يلباى، وأمير سلاح قرقماس، وأمير مجلس تمربغا، وقانى بك المحمودى، ومغلباى طاز المؤيّدى، وذكر أنه تعيّن عدة كبيرة من أمراء الطبلخانات والعشرات، وألف مملوك من المماليك السلطانية، هذا والسلطان قد بدأ فيه التوعّك من يوم عاشوراء، وهذا المرض الذي مات فيه، ثم لهج السلطان بعزل يشبك البجاسى نائب حلب وتولية الأمير مغلباى طاز المؤيّدى المقدّم ذكره عوضه في نيابة حلب «2» .
ثم في يوم الخميس تاسع عشره ورد الخبر بأن إقامة الحاج التي جهّزت من القاهرة أخذت عن آخرها، أخذها مبارك شيخ بنى عقبة بمن كان معه من العرب، وأنه قتل جماعة ممن كان مع الإقامة المذكورة، منهم جارقطلو السّيفى دولات باى أحد أمراء آخورية السلطان، فعظم ذلك على السلطان- وزاد توعّكه- وعلى الناس قاطبة، وضر أخذ إقامة الحاج غاية الضرر، وأشرف غالبهم على الموت.
فلما كان يوم الجمعة العشرين من المحرم وصل الحاج الرجبى، وعظيم من كان فيه زين الدين بن مزهر كاتب السّرّ المقدم ذكره، وأمير حاج الركب الأول الأمير سيباى إلى بركة الحاج معا، بعد أن قاست الحجاج أهوالا وشدائد من عدم الميرة والعلوفة وقلّة الظهر، ودخل نانق أمير الحاج من الغد.
فلما كان يوم الاثنين ثالث عشرين المحرم عيّن السلطان الأمير أزبك رأس نوبة النّوب الظاهرى، والأمير جانبك حاجب الحجّاب الأشرفى المعروف بقلقسيز، وصحبتهما أربعة من أمراء العشرات، وهم دولات باى الأبوبكرى المؤيّدى، وقطلباى الأشرفى، وتنبك الأشرفى، وتغرى بردى الطيّارى، وعدّة مماليك من المماليك السلطانية، لقتال مبارك شيخ عرب بنى عقبة ومن معه من الأعراب، وكتب السلطان أيضا لنائب الكرك الأمير بلاط، ونائب غزّة الأمير إينال الأشقر، بالمسير إلى جهة الأمير أزبك بعقبة أيلة، ومساعدته على قتال مبارك المذكور، وخرج الأمير أزبك بمن عيّن معه من القاهرة في يوم الاثنين سابع صفر.
كل ذلك والسلطان متوعك بالإسهال، وهو لا ينقطع عن الخروج إلى الحوش، بل يتجلّد غاية التجلّد، حتى إنه عمل الموكب في هذا اليوم بالقصر لأجل خروج الأمير أزبك، وهذا آخر موكب عمله الملك الظاهر خشقدم بالقصر السلطانى.
فلما كان يوم الخميس عاشر صفر أرجف بموته، وأشيع ذلك إشاعة خفيفة في ألسنة العوام.
فلما كان يوم الجمعة حادى عشره خرج السلطان الملك الظاهر خشقدم إلى صلاة الجمعة من باب الحريم ماشيا على قدميه من غير مساعدة، وعليه قماش الموكب الفوقانى، والسيف والكلفتاة على العادة، وصلى الجمعة وسنّتها قائما على قدميه، هذا وقد أخذ منه المرض الحدّ المؤلم، وهو يستعمل التجلّد وإظهار القوة، إلى أن فرغت الصلاة، وعاد إلى الحريم ماشيا أيضا، ولكن القاضى الشافعى أسرع في الخطبة والصلاة إلى الغاية حسبما كان أشار إليه السلطان بذلك، بحيث إن الخطبة والصلاة كانتا على نحو ثلاث درج رمل وبعض دقائق.
فلما عاد السلطان من الصلاة إلى الحريم سقط مغشيا عليه لشدة ما ناله من التعب وعظم التجلد، وهذه أيضا آخر جمعة صلاها، ولم يخرج بعدها من باب الحريم لا لصلاة ولا إلى غيرها، وصارت الخدمة بعد ذلك في الحريم بقاعة البيسرية «1»
ثم أصبح السلطان في يوم السبت ثانى عشره رسم بالمناداة بشوارع القاهرة بأن أحدا لا يخرج بعد صلاة المغرب من بيته ولا يفتح سوقىّ دكانه، وهدّد من خالف ذلك، فلم يلتفت أحد إلى هذه المناداة، وعلم أن المقصود من هذه المناداة عدم خروج المماليك فى الليل، وتوجه بعضهم لبعض لإثارة فتنة.
وفي هذه الأيام ورد الخبر من دمشق بأن الأمير بردبك نائب الشام خرج من دمشق بعساكرها في آخر المحرم إلى جهة حلب لمعاونة نائب حلب على قتال شاه سوار.
ثم في يوم الاثنين رابع عشر صفر عمل السلطان الخدمة بقاعة البيسريّة من الحريم السلطانى، لضعفه عن الخروج إلى قاعة الدهيشة، وحضرت الأمراء المقدمون وغيرهم الخدمة السلطانية بالبيسرية، ولكن بغير قماش، وعلّم السلطان على عدة مناشير ومراسيم دون العشرين علامة، ولكن ظهر عليه المرض، لكنه يتجلد ويقوم لمن دخل إليه من القضاة والعلماء.
فلما كان يوم الجمعة ثامن عشره لم يشهد «2» فيه صلاة الجمعة وصلّت الأمراء بجامع القلعة على العادة، وبعد أن فرغت الصلاة دخلوا عليه وسلّموا عليه، واستوحشوا منه، وجلسوا عنده إلى أن أسقاهم مشروب السّكر، وانصرفوا.
ثم في آخر يوم الاثنين حادى عشرينه وجد السلطان في نفسه نشاطا، فقام وتمشّى
خطوات فتباشر الناس بعافيته، كل هذا وهو مستمرّ في أول النهار وفي آخره يعلّم على المناشير والمراسيم، لكن بحسب الحال، تارة كثيرا، وتارة قليلا.
فلما كان يوم الجمعة خامس عشرينه لم يحضر السلطان فيه الصلاة أيضا لثقله في المرض، ودخلوا إليه الأمراء بعض صلاة الجمعة، وجلسوا عنده، وفعل معهم كفعله فى الجمعة الماضية.
واستهل شهر ربيع الأوّل يوم الخميس والسلطان ملازم للفراش، والناس في أمر مريج من توقف الأحوال، لا سيما أرباب الحوائج الواردون من الأقطار، هذا وجميع نوّاب البلاد الشاميّة قد خرجوا من أعمالهم إلى البلاد الحلبية، لقتال شاه سوار ابن دلغادر، ما خلاجكم نائب صفد، ونائب غزّة قد خرج أيضا إلى جهة العقبة لقتال مبارك شيخ عرب بنى عقبة، فبهذا المقتضى خلا الجو للمفسدين وقطّاع الطريق وغيرهم بالدرب الشامى والمصرى، ومع هذا فالفتن لم تزل قائمة بأسفل مصر الشرقية والغربية، وأيضا بأعلى مصر، الصعيد الأدنى والأعلى، وتزايد ذلك بطول مرض السلطان.
وبينما الناس في ذلك ورد الخبر من يشبك من مهدى الظاهرى الكاشف بالصعيد أن يونس بن عمر الهوّارى خرج عن طاعة السلطان، وقاتل يشبك المذكور، وقتل من عسكره عدّة كبيرة وانكسر يشبك منه بعد أن جرح في بدنه، ثم أنهى يشبك أنه يريد ولاية سليمان بن الهوّارى عوضا عن ابن عمه يونس، وأنه يريد نجدة كبيرة من الديار المصرية، فرسم السلطان في الحال بولاية سليمان بن عمر، وتوجّه إليه بالخلعة قجماس الظاهرى، ورسم السلطان بتعيين تجريدة إلى بلاد الصعيد.
فلما كان يوم السبت ثالثه عيّن السلطان التجريدة المذكورة إلى بلاد الصعيد، وعليها الأمير قرقماس الجلب الأشرفى أمير سلاح، ويشبك من سلمان شاه الفقيه الدّوادار الكبير، ومن أمراء العشرات خمسة نفر: قلمطاى الإسحاقى، وأرغون شاه أستادار الصحبة، ويشبك الإسحاقى، وأيدكى، ويشبك الأشقر، والخمسة أشرفية،
وجماعة كبيرة من المماليك السلطانية أشرفية كبار وأشرفية صغار، ونزل الأمير نقيب الجيش إلى المعينين، وأمرهم على لسان السلطان بالسفر من يومهم إلى الصعيد، فاعتذروا بعدم فراغ حوائجهم؛ لكون الوقت يوما واحدا.
فلما كان آخر هذا النهار أرجف بموت السلطان فماجت الناس، وكثر الهرج بشوارع القاهرة، ولبس بعض المماليك آلة الحرب، فاستمرت الحركة موجودة في الناس إلى قريب الصباح.
وأصبح في يوم الأحد رابع ربيع الأوّل والسلطان في قيد الحياة، غير أنه انحطّ فى المرض انحطاطا يشعر العارف بموته، ونودى في الحال بالأمان والبيع والشراء، ودقّت البشائر بعافية السلطان في باكر النهار وفي آخره أياما كثيرة، وصار السلطان أمره إلى التلف وهم على ذلك.
فلما كان عصر نهار الأحد المذكور نزل الأمير تنبك المعلم الأشرفى الرأس نوبة الثانى إلى الأمير قرقماس أمير سلاح على لسان السلطان وأمره بالخروج إلى السّفر من وقته بعد أن ذكر له كلاما حسنا من السلطان، فخرج قرقماس من وقته، وكذلك يشبك الفقيه الدّوادار، وتبعهما من بقى ممن عيّن إلى السفر، ونزلوا إلى المراكب، ووقفوا بساحل النيل ينتظرون من عيّن معهم من المماليك السلطانية فلم يأتهم أحد، كل ذلك والسلطان صحيح الذهن والعقل، يفهم الكلام ويحسن الرد، وينفذ غالب الأمور، ويولى ويعزل، والناس لا تصدّق ذلك، وأنا أشاهده بالعين، هذا والسلطان يستحثّ من ندب إلى الصعيد بالسّفر في كل يوم.
وأصبح السلطان في يوم الاثنين على حاله، وحضر عنده بعض أمراء، وعلّم على دون عشرة مناشير ومراسيم، وهو في غاية من شدة المرض، فلما نجزت العلامة استلقى على قفاه، فرأيت وجهه كوجه الأموات، وانفضّ الناس وخرجوا، فلما كان بعد الظهر طلع إلى السلطان بعض أمراء الألوف والأعيان، وسلّم عليه، فشكا إليه السلطان ما أشيع عنه من الموت، ثم قال: أنا ما أموت حتى أموّت خلائق، وأنا أعرف من
أشاع هذا عنى، يعنى بذلك الأشرفية الكبار والأشرفية الصغار، قلت: قد عرّفت الأشرفية الكبار والأشرفية الصغار وأمرهما وما وقع في مرض السلطان من أوّله إلى آخره فى تاريخنا «الحوادث» ، وليس ما نذكر هنا إلا علم خبر لا غير- انتهى.
ثم طلع القاضى كاتب السّرّ بعد ظهر يوم الأحد المذكور وأحضر آلة العلامة، فلم يطق السلطان أن يعلّم شيئا، وقيل: إنه علّم على أربعة مناشير، وقيل غير ذلك، وقيل إنه لم يطق الجلوس إلا بشدّة، هذا مع التجلد الذي لا مزيد عليه، وكان هذا دأبه من أوّل مرضه إلى أن مات- التجلد وعدم إظهار العجز- ولله دره ما كان أجلده.
وبات السلطان في تلك الليلة على حاله، والناس في أمره على أقوال كثيرة، هذا وهو يستحث على سفر الأمراء المعينين إلى الصعيد، والقصاد منه ترد إليهم، وهم يعتذرون عن السفر بعدم حضور من عيّن معهم من المماليك السلطانية، فيأمر بالمناداة بسفرهم، فلم يخرج أحد.
فلما كان صبيحة يوم الثلاثاء سادسة طلع الأمير الكبير يلباى إلى السلطان ومعه خچداشه قانى بك المحمودى، وجانبك كوهيّة، والثلاثة أمراء ألوف مؤيديّة، فلما دخلوا على السلطان لم ينهض إليهم للجلوس، بل استمر على جنبه؛ لشدة مرضه، وشكا إليهم ما به، فتألموا لذلك ودعوا له، ثم أمر السلطان وهو على تلك الحالة أن ينادى بسفر العسكر إلى الصعيد، ثم خلع على يوسف بن فطيس أستادار السلطان بدمشق بمشيخة نابلس، وخرج الناس من عند السلطان، ولم يعلّم شيئا، وهذا أوّل يوم منع السلطان فيه العلامة من يوم مرض إلى هذا اليوم.
وأصبح يوم الخميس ثامنه وقد اشتدّ به المرض، ويئس الناس منه، وكذلك يوم الجمعة، ولكن عقله واع، ولسانه طلق، وكلامه كلام الأصحاء.
وأصبح يوم السبت عاشر شهر ربيع الأول وهو في السياق، فلما كان ضحوة النهار المذكور حدثت أمور ذكرناها في تاريخنا «الحوادث» ، واجتمع الأمراء الأكابر بمقعد الإسطبل السلطانى عند الأمير آخور الكبير، والأمير آخور المذكور حسّ بلا
معنى، ليس له في المجلس إلا الحضور بالجثة، وجلس الأتابك يلباى في صدر المجلس وبإزائه الأمير تمربغا أمير مجلس، وهو متكلّم القوم، ولم يحضر قرقماس أمير سلاح لإقامته بساحل النيل كما تقدّم، وحضر جماعة من أمراء الألوف وكبير الظاهرية الخشقدميّة يوم ذاك خيربك الدّوادار الثانى، وأخذوا في الكلام إلى أن وقع الاتفاق بينهم على سلطنة الأتابك يلباى، ورضى به عظيم الأمراء الظاهرية الكبار الأمير تمربغا أمير مجلس، وكبير الظاهرية الصغار الخشقدميّة خيربك الدّوادار، وجميع من حضر، وكان رضاء الظاهرية الكبار بسلطنة يلباى بخلاف الظنّ، وكذلك الطاهريّة الصغار.
ثم تكلّم بعضهم بأن القوم يريدون من الأمير الكبير أن يحلف لهم بما يطمئن به قلوبهم وخواطرهم، فتناول المصحف الشريف بيده، وحلف لهم يمينا بما أرادوه، ثم حلف الأمير تمربغا أمير مجلس، وشرح اليمين وكيفيته معروفة، فإنه يمين لتمشية الحال، وأرادوا خيربك أن يحلف، فقال ما معناه. «نحن نخشاكم فحلّفناكم، فنحن نحلف على ماذا؟» .
ثم انفضّ المجلس ونزل الأتابك يلباى إلى داره وبين يديه وجوه الأمراء، ولم يحضر الأمير قايتباى الظاهرى معهم عند الاتفاق واكتفى عن الحضور بكبيرهم الأمير تمربغا الظاهرى، كل ذلك قبل الظهر بيسير، فلم يكن بعد أذان الظهر إلا بنحو ساعة رمل لا غير ومات السلطان بقاعة البيسرية، بعد أذان الظهر بدرجات، وفي حال وفاته طلعت جميع الأمراء إلى القلعة، وأخذوا في تجهيز السلطان الملك الظاهر خشقدم رحمه الله تعالى، وغسلوه وكفنوه، وصلوا عليه بباب القلّة من قلعة الجبل، كل ذلك قبل أن تبايع العساكر يلباى المذكور بالسلطنة كما سنذكره في سلطنة الأتابك يلباى، وهذا الذي وقع من تجهيز السلطان وإخراجه قبل أن يتسلطن سلطان بخلاف العادة، فإن «1» العادة جرت أنه «2» لا يجهّز سلطان إلا بعد أن يتسلطن سلطان غيره، ثم يأخذون بعد ذلك في تجهيزه- انتهى.
ولما صلّى عليه بباب القلّة، وحمل نعشه، وعلى نعشه مرقّعة الفقراء، ساروا به إلى أن أنزلوه من باب المدرج، ولم يكن معه كثير خلق، بل جميع من كان معه أمام نعشه، وحوله وخلفه من الأمراء والخاصكية دون العشرين نفرا، والأكثر منهم أجناد؛ فإنه لم ينزل معه أحد من أمراء الألوف كما هى العادة، ولا أحد من المباشرين غير الأمير شرف الدين بن كاتب غريب الأستادار وجماعة من أمراء الطبلخانات والعشرات، وساروا به وقد ازدحمت الناس والعوام حول نعشه، إلى أن وصلوه إلى تربته ومدرسته التي أنشأها بالصحراء بالقرب من قبة النّصر، ودفن بالقبة التي بالمدرسة المذكورة، وحضرت أنا دفنه- رحمه الله تعالى- ولم تتأسف الناس عليه يوم موته ذاك التأسّف العظيم، لكن تأسّفوا عليه بعد ذلك تأسّفا عظيما لما تسلطن بعده الأتابك يلباى، بل عظم فقده عند سلطنة يلباى على الناس قاطبة.
ومات الملك الظاهر خشقدم- رحمه الله تعالى- وسنه نحو خمس وستين سنة تخمينا، هكذا أملى علىّ من لفظه بعد سلطنته.
وكان الملك الظاهر خشقدم- رحمه الله تعالى- سلطانا جليلا عظيما، عاقلا مهابا، عارفا صبورا، مدبرا سيوسا، حشما متجملا في ملبسه ومركبه وشأنه إلى الغاية، بحيث إنه كان لا يعجبه من البعلبكى الأبيض إلا ما تزيد قيمته على ثلاثين دينارا، فما بالك بالصوف والسمّور وغير ذلك، وكان يقتنى من كل شىء أحسنه، وكان مع هذا التأنق لائقا في شكله وملبسه ومركبه، نشأ على ذلك عمره كله، أعرفه جنديا إلى أن صار سلطانا، وهو متجمل في ملبسه على ما حكيناه.
وكان مليح الشكل للطول أقرب، أعنى معتدل القامة، نحيف البدن، أبيض اللون، تعلوه صفرة ذهبية حسنة، كبير اللحية، تضرب إلى شقرة، قد شاب أكثرها، حسن فيها، وكان رشيق الحركات، خليقا للملك، عارفا بأنواع الملاعيب، كالرّمح والكرة، وسوق المحمل، له عمل كبير في ذلك أيام شبوبيّته، وله مشاركة في غير ذلك من أنواع الملاعيب جيدة.
وكان له إلمام ببعض القراءات، ويبحث مع الفقهاء، وله فهم وذوق بحسب الحال، وكان كثير الأدب، ويجلّ العلماء ويقوم لغالبهم إن قدم أحد منهم عليه، مع حشمة كانت فيه وأدب في كلامه ولفظه، وكان يتكلم باللغة العربية كلاما يقارب الفصاحة على عجمة كانت في لسانه قليلة، وذلك بالنسبة إلى أبناء جنسه.
وكان يميل إلى جمع المال ويشره في ذلك من أى وجه كان جمعه، وله في ذلك أعذار كثيرة مقبولة وغير مقبولة، وعظم في أواخر عمره من سلطنته، وضخم وكبرت هيئته في قلوب عساكره ورعيته لبطن صار فيه، وإقدام على المهولات مع دربة ومعرفة فيما يفعله، فإن كان المسىء ممن يتلافى أمره زجره ولقنه حجته بدربة ولباقة، وإن كان ممن لا يخاف عاقبته قاصصه بما يردع به أمثاله، من الضرب المبرح والنفى، وعدّ ذلك من معايبه، يقول من قال:«القوة على الضعيف ضعف في القوة» .
ومن ذلك أيضا أنه كان في الغالب يقدم على ما يفعله من غير مشورة ولا تأن، ولهذا كانت أموره تنتقض في بعض الأحيان، بل في كثير من الأحيان، ومما كان يعاب به عليه إمساكه، وتشويش المماليك الذين كان اشتراهم في أيام سلطنته الأجلاب، مع أنه- رحمه الله تعالى- كان كثيرا ما ينهاهم عن أفعالهم القبيحة، ويردع بعضهم بالحبس والضرب والنفى وأنواع النّكال، وهذا بخلاف من كان قبله من الملوك، وكان له عذر مقبول في إنشائه هذه المماليك الأجلاب، لا ينبغى لى ذكره؛ يعرفه الحاذق، ومن كل وجه فالمال محبوب على كل حال، وبالجملة إنه كانت «1» محاسنه أضعاف مساوئه، وأيامه غرر أيام، لولا ما شان سؤدده وممالكه «2» ، ولله در القائل:
[الطويل]
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلّها
…
كفى المرء فخرا أن تعدّ معايبه «3»
وعلى كل وجه هو من عظماء الملوك وأجلّائهم وأخفهم وطأة، مع شدة كانت فيه
ولين، وتكبر واتضاع، وبخل وكرم، فمن أصابه شرّه يلجأ لله، ويجعل أجره على الله تعالى، ومن أمطره خيره ورفده فليترحّم عليه، وأنا ممن هو بين النوعين، لم يطرقنى شرّه ولا أمطرنى خيره، غير أنه كان معظما لى، وكلامى عنده مقبول، وحوائجى عنده مقضية، وما قلته فيه فهو على الإنصاف- إن شاء الله تعالى- وبعد كل شىء، فرحمه الله تعالى، وعفا عنه.
وكانت مدة سلطنته على مصر ستّ سنين وخمسة أشهر واثنين وعشرين يوما بيوم سلطنته- انتهى.