الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ما وقع من الحوادث سنة 865]
ذكر سلطنة الملك المؤيد أبى الفتح أحمد [بن إينال]«1» على مصر هو السلطان السابع والثلاثون من ملوك التّرك وأولادهم بالديار المصرية، والثالث عشر من الجراكسة وأولادهم.
تسلطن في يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الأولى من سنة خمس وستين وثمانمائة الموافق لأول برمهات، فلما كان ضحوة النهار المذكور نزل الزينى خشقدم الأحمدى الطواشى الساقى الظاهرى بطلب القضاة الأربعة إلى القلعة، ونزل غيره إلى الخليفة المستنجد بالله يوسف، فبادر كلّ منهم بالطلوع إلى القلعة، حتى تكامل طلوع الجميع، وجلس الكل بقاعة دهليز الدهيشة من قلعة الجبل، وجلس الخليفة والمقام الأتابكى أحمد المذكور في صدر المجلس، وجلس كلّ من القضاة في مراتبهم، ودار الكلام بينهم في سلطنة الملك المؤيد هذا؛ لكون أن والده الملك الأشرف إينال ما كان عهد إليه قبل ذلك بالسلطنة، فتكلم القاضى كاتب السر محب الدين بن الشّحنة في أن تكون ولايته في السلطنة نيابة عن والده مدة حياته، ثم استقلالا بعد وفاته، أو معناه، فلم يحسن ذلك ببال من حضر، وقام الجميع ودخلوا إلى قاعة الدهيشة، وبها الملك الأشرف إينال مستلق على خطة «2» ليسمعوا كلامه بالعهد لولده أحمد هذا، فكلّمه الأمير يونس الدوادار غير مرة في معنى العهد، وهو لا يستطيع الرد، وطال وقوف الجميع عنده وهو لا يتكلّم، فخرجوا إلى ولده المؤيد هذا وهو جالس بدهليز الدهيشة عند الشباك وعرفوه الحال، ثم رجعوا إلى الملك الأشرف ثانيا، وكرروا عليه السؤال، وهو ساكت، إلى أن تكلم بعد حين، وقال باللغة التركية:«أغلم، أغلم» ، يعنى
«إبنى، إبنى» ، فقال من حضر:«هذا إشارة بالعهد لولده» ، فإنه لا يستطيع من الكلام أكثر من هذا، وخرجوا من وقتهم إلى الدهيشة، وانتدب كاتب السّرّ لتحليف الأمراء، فحلف من حضر من الأمراء الأيمان المؤكدة، ولم ينهض أحد منهم أن يورّى في يمينه ولا يدلس، لأنهم أجانب من معرفة ذلك، وأيضا المحلف له فطن وكاتب سرّه رجل عالم، وكان من جملة اليمين: المشى إلى الحاج كذا كذا مرة، والطلاق والعتق وغير ذلك.
فلما انقضى التّحليف وتمّت البيعة قام كل أحد من الأمراء والخاصكية والأعيان وبادر إلى لبس الكلفتاة «1» والتترى الأبيض، كما هى العادة، وأحضرت خلعة السلطنة الخليفتية السوداء، ولفت له عمامة سوداء حرير، وقام المقام الشهابى المذكور ولبس الخلعة والعمامة على الفور، وركب من باب الدهيشة فرس النوبة بسرج ذهب وكنبوش «2» زركش، ومشت الأمراء والأعيان بين يديه من باب الحوش إلى أن اجتاز بباب الدور السلطانية فتلقته الجاووشية «3» والزردكاش ومعه القبة والطير وأبهة السلطنة، فتناول الأمير خشقدم الناصرى المؤيدى أمير سلاح القبة والطير بإذن السلطان وحملها على رأسه وهو ماش، وسار في موكب «4» الملك بعظمة زائدة خارجة عن الحد، وصار جميع الأمراء والقضاة مشاة بين يديه إلا الخليفة المستنجد بالله فإنه ركب فرسا من خيل السلطان، ومشى بها خطوات، ثم نزل عنها لقوتها عليه، ولا زال على تلك الهيئة، حتى نزل على باب القصر السلطانى من قلعة الجبل، ودخل وجلس
على سرير الملك، فلم تر العيون فيما رأت أحسن ولا أجمل منه في الخلعة السوداء، لأنه كان أبيض اللون، والخلعة سوداء، مع حسن سمته، وطول قامته، حتى إنه لعله لم يكن أحد في العسكر يوم ذاك يدانيه في طول القامة.
ولما جلس على تخت الملك قبّلت الأمراء الأرض بين يديه، ودقّت الكئوسات، ونودى في الحال بالدعاء للملك المؤيد أبى الفتح أحمد بشوارع القاهرة.
ثم في الوقت خلع على الخليفة فوقانى حرير بوجهين أبيض وأخضر بطرز زركش، وأنعم عليه بفرس بسرج ذهب، وكنبوش زركش، وأنعم عليه بقرية منبابة بالجيزة.
ثم خلع على الأمير خشقدم أمير سلاح أطلسين متمّرا، وفوقانيا بطرز زركش، بسرج ذهب وكنبوش زركش.
وأقام الملك المؤيّد يومه وليلته بالقصر، وأصبح حضر الخدمة حسبما يأتى ذكره، بعد أن نذكر وقت سلطنته.
وكان الطالع وقت مبايعته ولبسه خلعة السلطنة وجلوسه على سرير الملك السرطان، وصاحب الطالع بالسنبلة- وهو القمر- قطع اثنتين وعشرين درجة وخمسين دقيقة، والرأس بالسرطان أيضا ست عشرة درجة وثلاثين دقيقة راجعا، والمشترى بالقوس صفرا وسبعا وعشرين دقيقة، وزحل بالجدى أيضا ثمانيا وعشرين درجة وستا وأربعين دقيقة، والذنب بالجدى أيضا ست عشرة درجة وثلاثين دقيقة، والزّهرة في الدلو ثلاث درجات وتسع عشرة دقيقة، والليلة بالدلو أيضا ثمانى درج وثمانيا وخمسين دقيقة، وعطارد أيضا بالدلو اثنتين وعشرين درجة وخمسين دقيقة، والشمس في الحوت خمس عشرة درجة وأربعا وخمسين دقيقة، والساعة «1» السادسة، وهى للزّهرة- انتهى.
ولما كان صبيحة نهار الخميس المقدّم ذكره، وهو ثانى يوم من يوم سلطنته، وهو عشر جمادى الأولى، وقد عمل السلطان فيه الخدمة السلطانية، وخلع على جماعة كثيرة من الأمراء بعدة وظائف، فاستقرّ بالأمير خشقدم أمير سلاح أتابك العساكر عوضا عن نفسه، ولكن لم يجد له في ذلك اليوم خلعة الأتابكية، لكونه كان لبسها في أمسه، لما حمل القبة والطير على رأس السلطان، فجددت له أخرى لم يفرغ عملها في هذا اليوم.
ثم أنعم السلطان على الأمير خشقدم المذكور بإقطاع نفسه، وهو إقطاع الأتابكيّة.
ثم خلع على الأمير جرباش المحمدى أمير مجلسه باستقراره في إمرة سلاح عوضا عن الأمير خشقدم بحكم استقراره أتابك العساكر.
واستقر الأمير قرقماس الأشرفى رأس نوبة النّوب أمير مجلس عوضا عن جرباش المقدّم ذكره.
واستقرّ الأمير قانم من صفرخجا المؤيّدى التاجر رأس نوبة النّوب عوضا عن قرفماس المذكور.
وأنعم السلطان بإقطاع الأتابك خشقدم على الأمير بيبرس الأشرفى خال الملك العزيز يوسف حاجب الحجاب، لكون متحصل هذا الإقطاع يزيد عن متحصل الإقطاع الذي كان بيده أولا، وطلب الأمير جانبك من أمير الأشرفى الخازندار إقطاع بيبرس، فتوقّف السلطان فيه، ووقع- بسبب توقّف السلطان في الإنعام على جانبك به- بين جانبك المذكور وبين الأمير يونس الدّوادار الكبير كلام، فأفحش الدّوادار في الرّدّ على جانبك، ودام الإقطاع موقوفا لم ينعم به على أحد، وانفض الموكب، وقام السلطان الملك المؤيد أحمد من القصر، وتوجه إلى الدهيشة، وجلس بالشباك المطل على الحوش، وأمر المنادى فنادى بين يديه بالحوش، بأن النفقة في المماليك السلطانية تكون لكل واحد مائة دينار، وتكون أول التفرقة يوم الثلاثاء عشرين الشهر، فضج الناس له بالدعاء.
ثم قام ودخل إلى عند أبيه وهو في السياق، فمات في اليوم، وهو يوم الخميس المقدم ذكره بين الظهر والعصر، فجهز من وقته، وصلى عليه بباب القلّة من قلعة الجبل، ثم حمل حتى دفن من يومه بتربته التي أنشأها بالصحراء خارج القاهرة- حسبما تقدم ذكر ذلك كله في ترجمته.
ثم أصبح الملك المؤيد يوم الجمعة صلى الجمعة بجامع الناصرى بالقلعة مع الأمراء على العادة، وخلع بعد انقضاء الصلاة على الأمير خشقدم الناصرى المؤيدى خلعة الأتابكية على العادة، واستمر السلطان إلى يوم الأحد ثامن عشره- أعنى جمادى الأولى- فأنفق على الأمراء نفقة السلطنة، فحمل إلى الأمير الكبير أربعة آلاف دينار، تفصيلها: ألف دينار بسبب حمله القبة والطير على رأس السلطان يوم سلطنته، والبقية نفقة السلطنة، وحمل إلى أمير سلاح جرباش وغيره من أمراء الألوف من أصحاب الوظائف لكلّ واحد ألفين وخمسمائة دينار، وإلى غير أرباب الوظائف من مقدمى الألوف لكلّ ألفى «1» دينار فقط، وحمل لكل أمير من أمراء الطبلخانات خمسمائة دينار، ولكل أمير من أمراء العشرات مائتى دينار «2» .
ثم في يوم الاثنين تاسع عشر جمادى الأولى خلع السلطان على الأتابك خشقدم، وعلى قانم رأس نوبة النوب خلع الأنظار المتعلقة بوظائفهما على العادة، وأنعم السلطان على الأمير يشبك البجاسى الأشرفى إينال أحد مقدمى الألوف بحلب بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية، وهو إقطاع بيبرس الذي وقع بين يونس الدوادار وبين جانبك [الظريف]«3» الخازندار بسببه، وأنعم بتقدمة يشبك المذكور التي بحلب على الأمير تمراز [الأشرفى]«4» الدّوادار، [- كان-]«5» وأنعم بإقطاع تمراز، وهو إمرة
طبلخاناه بطرابلس، على الأمير لاچين الظاهرى، ويشبك هذا المنعم عليه بالتقدمة كان أصله من مماليك الأمير تنبك البجاسى نائب الشام، وملكه بعد موت تنبك الأشرف إينال، وهو من جملة الأمراء، وأعتقه ورقّاه حتى صار دواداره، ثم أخذ له من الملك الظاهر جقمق إمرة بصفد، فلما تسلطن رفع قدره إلى أن صار من جملة أمراء الألوف بحلب، واتفق مجيئه إلى مصر لينظر أستاذه، فاتفق في مجيئه ضعف أستاذه ثم موته.
وفيه أيضا خلع السلطان على جماعة من الأمراء والخاصكية لتوجههم بحمل تقاليد نوّاب البلاد الشّاميّة.
فكان الأمير مغلباى الأبوبكرى المؤيّدى المعروف بطاز، أحد أمراء العشرات ورأس نوبة، يتوجّه إلى نائب الشام الأمير جانم الأشرفى.
والأمير بيبرس الأشرفى الأشقر أحد أمراء العشرات ورأس نوبة يتوجّه إلى الأمير حاج إينال اليشبكى نائب حلب.
والسيفى برقوق الناصرى الظاهرى الساقى [يتوجه]«1» إلى إياس المحمدى الناصرى نائب طرابلس.
والسيفى آقبردى الساقى الأشرفى [يتوجه]«2» لجانبك التاجى المؤيّدى نائب حماة.
وتنم الفقيه الأبوبكرى المؤيّدى [يتوجه]«3» لخيربك النّوروزى نائب صفد، ولبردبك العبد الرحمانى نائب غزّة معا.
وخلع على جماعة أخر من الخاصكية بتوجههم إلى جماعة أخر إلى البلاد الشامية، والجميع خاصّكيّة ما عدا مغلباى طاز وبيبرس الأشقر.
ثم في يوم الثلاثاء العشرين من جمادى الأولى المذكورة ابتدأ السلطان بالنفقة في المماليك السلطانية من غير تسوية، فأعلى من أخذ مائة دينار، وأدنى من أخذ ثلاثين دينارا،
وأعطى لكل مملوك من الكتابية عشرة دنانير، «1» فاستمرت النفقة على المماليك السلطانية فى كل يوم سبت وثلاثاء إلى ما يأتى ذكره.
ثم بعد أيام وصل القاهرة كتاب جانبك الأبلق الظاهرى من قبرس أنه هو ومن معه من المماليك السلطانية وغيرهم من الفرنج واقعوا أهل شرينة في عاشر شهر ربيع الآخر، وحصروا قلعتها، وقتلوا من الفرنج بشرينة ثمانية نفر، وأسروا مثلهم، ثم ذكر أيضا أنه واقع ثانيا أهل شرينة، وقتل صاحب الشرطة بقلعتها، وآخر من عظمائها أرمى نفسه إلى البحر فغرق، قلت:«مما خطاياهم أغرقوا فأدخلوا نارا «2» »
ثم ذكر جانبك أيضا: أنه قبض على خمسة منهم، وأن الملكة صاحبة شرينة أخت جاكم صاحب قبرس قد توجّهت من شرينة إلى رودس تستنجد بهم، ثم ذكر أيضا أنه ظفر بعدة مراكب ممن كان قدم من الفرنج نجدة للملكة المذكورة، وأنه أسر منهم خلائق تزيد عدتهم على مائة نفر، وأنه أخذ بالحصار عدّة أبراج من أبراج قلعة باف «3» بعد أن قاسوا منه شدائد، وأنه يستحث السلطان في إرسال عسكر بسرعة قبل مجىء نجدة لهم من الفرنج أهل الماغوصة الجنوية، وإلى أهل شرينة من غير الجنوية- انتهى.
وفي يوم الأربعاء ثامن عشرينه استقر عميرة بن جميل بن يوسف شيخ عربان السخاوة بالغربية «4» بعد موت أبيه.
قلت: والشيء بالشيء يذكر، وقد أذكرنى ولاية عميرة هذا حال أرياف الديار المصرية الآن، فإنه من يوم تسلطن الملك المؤيد أحمد هذا حصل الأمن في جميع الأعمال برّا وبحرا، شرقا
وغربا، من غير أمر يوجب ذلك، ووقع رعب السلطان في قلوب المفسدين حتى صار أحدهم لا يستطيع أن يخرج من داره فكيف يقطع الطريق، فانطلقت الألسن بالدعاء للملك المؤيد هذا، وتبارك كل أحد بقدومه واستيلائه على الأمر، ومالت النفوس إلى محبته ميلا زائدا خارجا عن الحد؛ فإنه أول ما تسلطن قمع مماليك أبيه الأجلاب عن تلك الأفعال التي كانوا يفعلونها أيام أبيه، وهدّدهم بأنواع النكال إن لم يرجعوا، فرجع الغالب منهم عن أشياء كثيرة مما تقدم ذكرها، وعلم الناس من السلطان ذلك، فطمع كل أحد في الأجلاب فانحطّ قدرهم، حتى صار أحدهم لا يستطيع أن يزجر غلامه ولا خدمه، فزاد حبّ الناس للملك المؤيّد لذلك، فكل من أحبه فهو معذور؛ لما قاست الناس منهم أيام أبيه من تلك الأفعال القبيحة، على أن الملك المؤيّد أيضا كان له في أيام والده مساوئ كثيرة من جهة حماياته البلاد والمراكب بساحل النيل، وأشياء أخر غير ذلك، فقاست الناس من حماياته أهوالا، فلما تسلطن ترك ذلك كله كأنه لم يكن، وأقبل على العدل وإرداع المفسدين، فبدّل في أيامه الجور بالعدل، والخوف بالأمن، والراحة بعد التعب- ولله الحمد.
وفيه عزل السلطان الصاحب شمس الدين منصورا عن الأستادارية، وخلع من الغد على مجد الدين أبى الفضل البقرى كامليّة بمقلب سمّور، باستقراره في الأستادارية، عوضا عن الشمسى منصور، ووعد بأنه يلبس خلعة وظيفة الأستادارية في يوم السبت أول جمادى الآخرة، فوقع ذلك «1» .
ثم في يوم الخميس سادس جمادى الآخرة خلع السلطان على الصفوى جوهر النّوروزىّ الطواشى الحبشى بإعادته إلى تقدمة المماليك السلطانية، بعد موت الطواشى مرجان الحصنى الحبشى.
وفي هذه الأيام أشيع «2» بين الناس «3» بركوب المماليك السلطانية على السلطان بعد النفقة،
ولم يعلم أحد من هو القائم بالفتنة، فلم يلتفت السلطان لهذا الكلام.
ثم في يوم الخميس ثالث عشر جمادى الآخرة قرئ تقليد السلطان الملك المؤيد بين يديه بالقصر الأبلق، تولى قراءته القاضى محبّ الدين بن الشّحنة كاتب السّرّ، وهو من إنشائه، وحضر الخليفة المستنجد القراءة والقضاة الأربعة، وغالب أركان الدّولة وأمرائها، فلما تمت القراءة خلع السلطان على الخليفة فوقانى حرير [بوجهين]«1» أخضر وأبيض بطرز زركش، وقيّد له فرسا بسرج ذهب، وكنبوش زركش، ثم خلع على القضاة كوامل بمقالب سمور، وانفضّ الموكب.
وفي يوم السبت خامس عشر وصل إلى القاهرة قاصد الأمير جانم الأشرفى نائب الشام، وعلى يده كتاب مرسله يتضمن أنه حصل له سرور زائد بسلطنة الملك المؤيد، وأنه مستمرّ على طاعته، ممتثل أوامره.
وفيه أيضا ورد الخبر بأن عرب لبيد العصاة نزلوا البحيرة، ونهبوا الأموال، [وشنوا الغارات]«2» ، فعيّن السلطان تجريدة من الأمراء، وأمرهم بالتجهيز والسفر إلى البحيرة.
ثم في يوم الأربعاء رابع شهر رجب وصل الأمير تمراز الإينالى الأشرفى الدوادار- كان- من طرابلس إلى الديار المصرية بغير إذن السلطان، ولم يجتز بمدينة قطيا، ونزل عند الأتابك خشقدم، وأرسل دواداره إلى الملك المؤيد، أعلمه بمجئ تمراز المذكور، فقامت قيامة السلطان لمجيئه على هذه الصورة، وغضب غضبا شديدا، ورسم بإخراجه من القاهرة لوقته، فأخذ تمراز في أسباب الردود والخروج إلى خانقاه سرياقوس، فشفعت الأمراء فيه في عصر يومه بالقصر، فقبل السلطان شفاعتهم على أنه يقيم بالقاهرة ثلاثة أيام لعمل مصالحه، ثم يسافر إلى حيث جاء منه، فعاد تمراز من جهة الخانقاه إلى القاهرة، فترقّب كلّ أحد وقوع فتنة، لأن تمراز هذا شرّ مكانا، ودأبه الفتنة وإثارة الفتن، وهو
من أوخاش «1» بنى آدم، فقام تمراز إلى يوم الجمعة سادسه فطلع إلى القلعة، وقبّل الأرض بين يدى السلطان، وأخذ في الاعتذار الزائد لمجيئه بغير إذن، فقبل السلطان عذره، وخلع عليه كاملية بمقلب سمّور، وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق، ورسم له أن يقيم بالقاهرة ثلاثة أيام من يومه هذا ويسافر، فنزل إلى داره، والناس على ما هم عليه من أن تمراز هذا لا بد له من إثارة فتنة وتحريك ساكن، هذا والأمراء تكرر الشفاعة فيه ليقيم بالديار المصرية، وخچداشيته الأشرفية في غاية ما يكون من الاجتهاد في ذلك، والسلطان مصمم على سفره، إلى أن سافر حسبما يأتى ذكره.
وفي يوم الجمعة هذا- الموافق لثانى عشرين برمودة- لبس السلطان القماش الأبيض البعلبكى، أعنى كشفا من غير لبس صوف كما هى العادة أيام الصيف «2» .
وفي يوم الثلاثاء عاشر شهر رجب المذكور خلع السلطان الملك المؤيد على تمراز المذكور خلعة السفر، وسافر من يومه إلى دمشق، بعد أن أنعم السلطان عليه بخمسمائة دينار وعدة خيول وبغال، وتوجّه تمراز ولم يتحرك ساكن.
وفي يوم الخميس ثانى عشره استقر القاضى شرف الدين الأنصارى ناظر الجوالى بعد عزل [ناصر الدين]«3» بن أصيل «4» .
وفيه وصل الأمير مغلباى طاز الأبوبكرى المؤيدى بعد أن بشّر الأمير جانم نائب الشام بسلطنة المؤيد وعاد.
وفيه وصل السّيفى شاهين الطواشى الساقى الظاهرى المتوجّه قبل تاريخه لإحضار تركة زوجة الأمير قانى باى الحمزاوى من دمشق، وأحضر شيئا كثيرا جدا من الجواهر واللآلئ والأقمشة وغير ذلك، حتى إنه أبيع في أيام كثيرة.
ثم في يوم الجمعة العشرين من شهر رجب المذكور نزل السلطان الملك المؤيد أحمد من قلعة الجبل إلى جهة العارض «1» خلف القلعة، وعاد بسرعة إلى القلعة، وهذا أول نزوله من يوم تسلطن، قلت: وآخر نزوله؛ فإنه لم ينزل بعدها إلا بعد خلعه إلى الإسكندرية.
وفيه أمطرت السماء بردا، كل واحد مقدار بيضة الحمام، فأتلفت غالب الزرع، وأهلكت كثيرا من ذوات الجناح، وكان معظم هذا المطر بقرى الشرقية من أعمال القاهرة، وببعض بلاد من المنوفية والغربية، وقليلا بإقليم البحيرة.
وفي يوم الخميس سادس عشرينه رسم السلطان بنفى سنطباى قرا الظاهرى إلى البلاد الشامية، وسببه أن سنطباى هذا كان من المنفيين إلى طرابلس في دولة الملك الأشرف إينال، فلما سمع بموت الأشرف قدم القاهرة بغير إذن واختفى بها نحو الشهر عند بعض خچداشيته، ففطن السلطان به فرسم بنفيه، فاجتهدت خچداشيته الظاهريّة في إقامته، فلم تقبل فيه شفاعة، فخرج من يومه، وعظم ذلك على خچداشيته الظاهرية في الباطن، قلت: ولا بأس بما فعله السلطان في إخراج سنطباى المذكور على هذه الهيئة، فإنه أخرج قبله تمراز من الأشرفية، ثم أخرج هذا من الظاهرية، فكأنه ساوى بين الطائفتين، هذا والناس في رجيف من كثرة الإشاعة بوقوع فتنة.
ثم في يوم الاثنين سابع شعبان استقر شادبك الصارمى- أحد أمراء الألوف بدمشق- أتابكا بحلب، على مال بذله في ذلك، نحو العشرة آلاف دينار.
وفيه وصلت رسل السلطان إبراهيم بن قرمان إلى القاهرة بهديّة إلى السلطان، وقبل هديّة مرسلهم، ورحّب بهم.
ثم في يوم الخميس سابع عشر شعبان وصل إلى القاهرة الشرفى يحيى ابن الأمير جانم نائب الشام، وطلع إلى السلطان من الغد، وقبّل الأرض نيابة عن أبيه، وسأل
السلطان في إطلاق الأمير تنم من عبد الرزّاق المؤيدى أمير سلاح- كان- والأمير قانى باى الچاركسى الأمير آخور- كان- من سجن الإسكندرية، فلم يقبل السلطان شفاعته، وسوّف به إلى «1» وقت غير معلوم، وعلم السلطان أن مجىء ابن جانم هذا ليس هو بصدد الشفاعة فقط، وإنما هو لتجسس الأخبار وعمل مصلحة والده مع خچداشيته الأشرفية، وغيرهم من الظاهرية والمؤيدية، وكذا كان، ولم يظهر الملك المؤيد لأحد، وإنما أخذ في حساب جانم نائب الشام في الباطن، والتدبير عليه بكل ما تصل القدرة إليه، ولم يسعه يوم ذلك إلا أن تجاهل عليهم.
وهذا الأمر أحد أسباب حضور جانم إلى الديار المصرية حسبما يأتى ذكره مفصلا- إن شاء الله تعالى- فى ترجمة الملك الظاهر خشقدم، لأن يحيى ولد جانم لما حضر هذه الأيام إلى الديار المصرية اتفق مع أعيان المماليك الظاهرية بعد أن اصطلحوا مع المماليك الأشرفية- على عداوة كانت بينهم قديما وحديثا- ورضوا الظاهرية بسلطنة جانم عليهم، وهم أكره البرية فيه، حيث لم يجدوا بدا من ذلك؛ وما ذاك إلا خوفا من الملك المؤيد هذا، فكان أمرهم في هذا كقول القائل:
[الوافر]
وما من حبّه أحنو عليه
…
ولكن بغض قوم آخرين
وسافر الشرفى يحيى بن مصر إلى جهة أبيه في يوم الجمعة خامس عشرين شعبان، بعد أن خلع عليه السلطان، وأنعم عليه بخمسمائة دينار، وقد مهّد لأبيه الأمور بالدّيار المصرية مع الظاهرية، وأما الأشرفية خچداشيته فهم من باب أولى لا يختلف على جانم منهم اثنان، وما كان قصد جانم إلا رضاء الظاهريّة، وقد رضوا.
وسار يحيى وهو يظن أن أمر أبيه قد تم في سلطنة مصر، ولم يفطن إلى تقلبات الدهر، فلما أن وصل يحيى إلى والده حدّثه بما وقع له بمصر مع زيد وعمرو، وكان عند جانم- رحمه الله تعالى- خفّة لما كان أوحى إليه الكذابون من أقوال الفقراء، ورؤية
المنامات، وعبارات المنجمين، فتحقّق المسكين أنه لا بد له من السلطنة، ووافق ذلك صغر سن ولده يحيى، وعدم معرفته بالمكايد والتجارب، وحاله كقول من قال:
[الطويل]
ويا دارها بالخيف إنّ مزارها
…
قريب، ولكن دون ذلك أهوال
وقوّى أمر يحيى وخفة جانم اجتماع تمراز الأشرفى الدّوادار المقدم ذكره بجانم في دمشق، وقد صدق هذا الخبر لما في نفسه من الملك المؤيد هذا، ومن أبيه الأشرف إينال لما عزله من الدّوادارية الثانية، وأخرجه من مصر بطالا إلى القدس، ثم وقع له معه ما حكيناه، هذا مع كثرة فتن تمراز، وقلة عقله، وسوء خلقه، وشؤم طلعته، فوافق تمراز يحيى، وتسلطا معا على جانم، ولا زالا به حتى وافقهما في الباطن، وأخذ في أسباب ذلك، فلم يمض إلا القليل، ووقع لجانم ما سنذكره مع عوام «1» دمشق من النهب والفتك به، وإخراجه من دمشق على أقبح وجه، حسبما هو مقول في ترجمة الملك الظاهر خشقدم بعد خلع المؤيّد.
وأما أمر الملك المؤيد هذا فإنه بعد خروج يحيى بن جانم، أخذ يوسع الحيلة والتدبير في أخذ جانم بكل طريق، فلم ير أحسن من أن يرسل بكاتب أعيان دمشق بالقبض على جانم المذكور إن أمكن، وهذا القول لم أذكره يقينا، ولكن على قول من قال عنه ذلك، وليس هو ببعيد لأن أهل دمشق وحكامها ما في قدرتهم القيام على نائب الشام إلا بدسيسة من السلطان، والله أعلم بحقيقة الأمر.
واستمر الملك المؤيّد على ما هو عليه بالديار المصرية، وأمره في انحطاط من عدم تدبيره في أواخر أمره، وأيضا من قلة المساعدة بالقول والفعل، وإلا فتدبيره هو كان فى غاية الحسن في أوائل أمره، غير أنه كان لا يعرف مداخلة الأتراك، ولا رأى تقلب «2» الدّول، ولا حوله من رأى؛ لأنه أبعد الناس عنه قاطبة، وقرّب الأمير بردبك
الدوادار الثانى، لكونه صهره زوج أخته، مملوك أبيه، بل قيل إن تقريبه لبردبك أيضا ما كان على جليته، فعلى هذا ضعف الأمر من كل جهة، ونفرض أنّ أمر بردبك كان على حقيقة، فما عساه كان يفعل، وهو أيضا أجنبىّ عن معرفة ما قلناه؟ فإنه ما ربّى إلا عند أستاذه الأشرف إينال وهو أمير، فلا يعرف أحوال المملكة إلا بعد سلطنة أستاذه أيام الأمن والسعادة- انتهى.
وفي يوم الخميس تاسع شهر رمضان خلع السلطان الملك المؤيد على شرف الدين البقرى باستقراره ناظر الإصطبلات السلطانية، بعد عزل محمود بن الديرى.
وفي يوم الجمعة عاشره أخذ قاع النيل، فجاءت القاعدة- أعنى الماء القديم- ستة أذرع ونصفا.
وفي ليلة الثلاثاء رابع عشر شهر رمضان المذكور خسف جميع جرم القمر، وغاب في الخسف تسعين درجة، وصارت النجوم في السماء كليلة تسع وعشرين الشهر، ولعلّ ذلك يكون نادرا جدا، فإنى لم أر في عمرى مثل هذا الخسف.
هذا وأمر الملك المؤيد آخذ في اضطراب من يوم عيّن تجريدة إلى البحيرة، ولم تخرج التجريدة وخالفه من كتب إليها من المماليك السلطانية، فإنه لما عين التجريدة إلى البحيرة لم يعين من المماليك السلطانية أحدا من مماليك أبيه الأجلاب، فعظم ذلك على من عين من غيرهم، وعلى من لم يعيّن أيضا، لمعرفتهم أنه كلموه في أمر مماليك أبيه واستمالوه لهم؛ فإنه استفتح سلطنته بإبعادهم ومقتهم وإرداعهم، فأحبه كل أحد، فلما فطنوا الآن بميله إليهم، نفرت القلوب منه، وخافوا من أفعال الأجلاب القبيحة التي فعلوها في أيام أبيه أن تعود، فصممت المماليك المعينة إلى البحيرة في عدم الخروج إلا إن عين معهم جماعة من أجلاب أبيه، وساعدهم في ذلك المماليك السلطانية من كل طائفة؛ مخافة من تقريب الأجلاب، فأساء المؤيد التدبير من أنه لم يبت أمرا لا بقوة ولا بلين، بل سكت وسمع قول من أملاه المفسود من قوله: إذا أرسلت مماليك أبيك من يبقى حولك،
وإذا أبعدت مماليك والدك فمن تقرب؟ فكأنه مال لهذا القول الواهى واستحسنه، وهذا نوع مما كنا فيه أولا من أنه ما كان عنده من يرشده إلى الطريق.
ثم كلم الملك المؤيد المماليك أيضا في السفر، فاعتلّوا بطلب الجمال، فأراد تفرقة الجمال، فلم يأخذوها، واستمروا على ذلك، وسكنت «1» حركة السفر بسكات السلطان، وبذلك فشا انحطاط قدره وتلاشى أمره، بعد أن كان له حرمة عظيمة، ورعب في القلوب.
فلقد رأيت في تلك الأيام شخصا من أوباش المماليك الظاهرية يكلم الأمير بردبك الدوادار الثانى بكلام لو كلّمه لمن يكون فيه شهامة لحمل السلطان على شنقه في الحال، وكان ذلك هو الحزم على قول بعض النّهابة:«إما إكديش، أو نشابة للريش» ، وتلافى الأمور إما يكون بها أو عليها، والحزم إنما هو الشد على من عين وسفرهم غصبا، فإن تم ذلك فقدها به كل أحد، وقد قيل «من هاب خاف «2» » أو اللين والتلطف بمن كتب «3» والاعتذار لهم عن عدم كتابته لمماليك أبيه الأجلاب، بقوله: ما منعنى أن أكتب هؤلاء معكم إلا أنهم ليسوا بأهل لمرافقتكم، فحيثما أحببتموا ذلك فأنا أكتب منهم جماعة، ثم يكتب منهم عدة، فإن تم ذلك ومشى فالأمر إليك بعد سفرهم دبّر ما شئت، وإن لم يتم فبادر للفعل الأول بكل ما تصل قدرتك إليه واستعمل قول المتنبى فى قوله من قصيدته المشهورة:[الكامل]
لا يخدعنك من عدوّك دمعه
…
وارحم شبابك من عدو ترحم
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
…
حتى يراق على جوانبه الدم
فلم يقع منه ذلك، ولا ما يشبهه، ولا أشار «4» عليه أحد من أصدقائه بشىء يكون فيه مصلحة لثبات ملكه، بل سكت كل أحد عنه، وصار كالمتفرج، إما لبغض فيه، أو لقلة معرفة بالأمور.