الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقام إليه السلطان وعانقه واعتذر إليه؛ وأمر في الحال بإحضار خچداشيته الذين أرسلهم إلى سجن الإسكندرية، وطلع النهار فخرج السلطان من القاعة إلى مقعد البحرة بالحوش السلطانى، وفعل ما أرضى به الظاهرية.
قلت: كان في تدبير الملك الظاهر في إحضار الظاهرية على الوجه المحكى وهم بالسلاح والرجال، زوال ملكه لو قدر لغيره، فإنه لما أرسل إلى الأمير قايتباى، وجاء الأمير قايتباى ومعه تلك الخلائق وعليهم السلاح، وليس عند السلطان سوى الأمراء الذين كانوا بالحوش، وليس عند الأمراء أحد من مماليكهم ولا عليهم آلة الحرب، ولا عند السلطان أيضا بالقاعة من مماليكه إلا جماعة قليلة جدا، وجميع من كان عند السلطان بأسرهم لا يقدرون على دفع بعض من كان مع الأمير قايتباى، بل لو أراد قايتباى المذكور الوثوب على الأمر والفتك بالسلطان لأمكنه ذلك، ولم أدر ما طرق السلطان من الأمر العظيم حتى فعل ذلك، وكان يمكنه أن يفعل ما شاء ولو كان ما طرقه أهم من ذلك وأعظم، وما عسى أن تصل يدهم من الفعل به من شهامة السلطنة وعز الملك وعنده أمراؤه وأعيان مملكته، ولم يملك أحد منه الزردخاناه ولا بابا من أبواب القلعة، وباب السلسلة والإسطبل السلطانى بيده، والمماليك السلطانية ملء الديار المصرية من سائر الطوائف، ولكن ليقضى الله أمرا كان مفعولا.
[ما وقع من الحوادث سنة 868]
ثم أرسل السلطان في الحال بالإفراج عن الأمير تمربغا الظاهرى، وعن خچداشيته الذين أمسكوا معه، ومجيئهم إلى الديار المصرية بعزّ وإكرام، فأفرج عنهم وحضروا إلى الديار المصرية في يوم الاثنين خامس المحرم من سنة ثمان وستين وثمانمائة، وباتوا تلك الليلة في بيت يشبك الدّوادار، وطلعوا إلى القلعة من الغد وقبّلوا الأرض، فخلع السلطان على كل من تمربغا وأزبك كاملية بمقلب سمّور «1» ، ورسم لهم باستقرارهم على إقطاعاتهم ووظائفهم؛ لأن السلطان ما كان أخرج عن أحد منهم إقطاعه ولا وظيفته فإن غضبه عليهم كان يوما واحدا، وكذلك كان سجنهم بالإسكندرية.
وفي هذا اليوم استقرّ يونس بن عمر بن جربغا العمرى دوادار الطواشى فيروز النّوروزى وزيرا، وكانت خلعته أطلسين بخلاف خلعة الوزر؛ لكونه يتزيا بزى الجندى.
وفي يوم الخميس ثامن المحرم سنة ثمان وستين أعيد قاضى القضاة محب الدين بن الشّحنة إلى قضاء الحنفية بالديار المصرية، بعد موت بدر الدين حسن بن الصواف.
وفي يوم الاثنين ثانى عشره نودى بشوارع القاهرة: أن أحدا من الأعيان لا يستخدم ذميّا في ديوانه- أعنى من الكتبة وغيرهم- قلت: ما أحسن هذا لو دام أو استمرّ، فمنعت هذه المناداة أهل الذمّة قاطبة من التصرّف والمباشرة بقلم الديونة بوجه من الوجوه بأعمال مصر، وكتب بذلك إلى سائر الأقطار، ثم عقد السلطان بالصالحية [ببين القصرين]«1» عقد مجلس بالقضاة الأربعة، وحضره الدوادار الكبير، وجماعة من الأعيان بسبب هذا المعنى، وقرئت العهود المكتتبة قديما على أهل الذّمة، فوجدوا فى بعضها أن أحدا من أهل الذمة لا يباشر بقلم الديونة عند أحد من الأعيان، ولا في عمل من الأعمال، وأشياء من هذه المقولة، إلى أن قال فيها: ولا يلف على رأسه أكثر من عشرة أذرع، وأن نساءهم يتميزن من نساء المسلمين بالأزرق والأصفر على رءوسهن في مشيهن بالأسواق، وكذلك بشىء في الحمامات، فحكم قاضى القضاة علم الدين صالح البلقينى الشافعى بإلزام أهل الذمة بذلك جميعه، ما عدا الصرف والطبّ بشروطه، وصمم السلطان على هذا الأمر، وفرح المسلمون بذلك قاطبة، فأسلم بسبب ذلك جماعة من أهل الذمة من المباشرين، وعظم ذلك على أقباط مصر، ودام ذلك نحو السنة، وعاد كلّ شىء على حاله أوّلا، وبلغ السلطان ذلك فلم يتكلم بكلمة واحدة، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلى العظيم، وأين هذا من همّة الملك المظفر بيبرس الجاشنكير- رحمه الله لما قام في بطلان عيد شبرا، ولبس النصارى
الأزرق واليهود الأصفر، فلله درّه ما كان أعلى همته، وأغزر دينه- رحمه الله تعالى ورضى عنه.
وفي يوم السبت رابع عشرين المحرم نفى السلطان مملوكه أزبك، الذي كان من جملة مسفّرى الأمراء المتوجهين إلى الإسكندرية، وكان نفيه لأمر يعلمه السلطان.
وفيه طلب السلطان جماعة من أمراء الألوف إلى داخل قاعة الدهيشة، وحلّفهم على طاعته بأيمان مغلظة.
وفي يوم السبت ثانى صفر استقرّ أبو بكر بن صالح نائب ألبيرة في حجوبية حجّاب حلب، بعد استقرار تغرى بردى بن يونس في نيابة قلعة حلب، واستقرّ كمشبغا السيفى نخشباى نائب قلعة حلب في نيابة ألبيرة.
وفي يوم الاثنين رابع صفر رسم السلطان أن يفرج عن الأمير سودون الشمسى المعروف بالبرقى من سجن الإسكندرية، وحضوره إلى القاهرة، بعد أن أنعم السلطان عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق.
ثم في يوم السبت أمسك السلطان برسباى الخاصكى أحد المماليك الذين أخذهم من تركة الملك الأشرف إينال، وهو أحد من تولّى قتل جانبك الدّوادار، ثم ممن أراد قتل السلطان بعد ذلك في تلك الليلة المقدم ذكرها، وضربه بين يديه ضربا مبرحا، ثم أمر بتوسيطه، فوسّط بين يديه بالحوش، وكان السلطان وسّط قبله آخر من مماليكه يسمى قانم.
ثم في يوم الاثنين حادى عشره أعيد الصاحب مجد الدين بن البقرى إلى الوزر بعد تسحّب يونس بن جربغا.
وفي يوم الخميس استقرّ شرامرد العثمانى المؤيّدى أحد أمراء العشرات بالديار المصرية دوادار السلطان بدمشق، وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه عوضا عن أزدمر الإبراهيمى بحكم القبض عليه.
وفي يوم الثلاثاء ثالث شهر ربيع الأول أشيع بمجيء الغزاة من قبرس إلى سواحل
البلاد الشامية وغيرها بغير إذن السلطان، فغضب السلطان من ذلك غضبا شديدا، ولم يسعه إلا السكات.
وفي يوم الأحد ثامنه عمل السلطان المولد النبوى على العادة، وعمل من الغد مولدا آخر لزوجته.
وفي يوم الاثنين سادس عشره خلع السلطان على الشهابى أحمد بن عبد الرحيم ابن العينى ابن بنت زوجة السلطان باستقراره أمير حاج المحمل، بسفارة حج جدته زوجة السلطان في هذه السنة.
وفيه استقر الصاحب مجد الدين بن البقرى أستادارا بعد اختفاء الأمير زين الدين، وطلب السلطان المعلم محمدا البباوى اللّحام «1» الذي كان استقرّ ناظر الدولة، وقرّره وزيرا بالدّيار المصرية، ولبس خلعة الوزر في يوم الثلاثاء سابع عشره.
فيا نفس جدّى إنّ دهرك هازل «2»
وقد ذكرنا أصل هذا البباوى، وسبب استقراره في «الحوادث» .
ثم في يوم الجمعة سابع عشرينه وصلت الغزاة من سواحل متعددة، وخلع السلطان على الأمير بردبك، وعلى الأمير جانبك قلقسيز، وأنعم على كل واحد منهما بفرس بسرج ذهب وكنبوش زركش، وخلع على جميع من كان معهما من الأمراء، فأقام الأمير بردبك إلى يوم الاثنين سادس جمادى الأولى، وخلع عليه باستقراره في نيابة حلب، بعد عزل جانبك التاجى المؤيّدى، ومجيئه إلى القاهرة على إقطاع بردبك.
وفي يوم الخميس تاسعه استقرّ الأمير أزبك من ططخ الظاهرى حاجب الحجاب عوضا عن بردبك المذكور.
وفي يوم سلخه ورد الخبر بموت الأمير تنم نائب الشام، وأحضر سيفه قانصوه الجلبّانى الحاجب الثانى بدمشق، فرسم السلطان للأمير جانبك التاجى المعزول عن نيابة حلب باستقراره في نيابة دمشق، عوضا عن تنم، وتعيّن قانى باى الحسنى المؤيّدى مسفّره، وأنعم السلطان بإقطاع بردبك- الذي كان عيّن «1» لجانبك التاجى «2» - على الأمير يشبك الدّوادار، وأنعم بإقطاع يشبك على مغلباى طاز المؤيدى، وكلاهما تقدمة ألف، لكن التفاوت في كثرة المتحصل، وأنعم بإقطاع مغلباى طاز على الأمير قايتباى شاد الشرابخاناه زيادة على إقطاعه، ليكون قايتباى أيضا من جملة مقدمى الألوف، فزيدت المقدمون تقدمة أخرى، واستقرّ نانق الظاهرى الأمير آخور الثانى شاد الشرابخاناه عوضا عن قايتباى، واستقرّ جانبك من ططخ الفقيه أمير آخور ثانيا عوضا عن نانق «3» .
وفي يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الآخرة عيّن السلطان إلى البحيرة تجريدة عليها الأمير أزبك حاجب الحجّاب، وصحبته من أمراء الطبلخانات جانبك الإسماعيلى كوهية الدوادار الثانى، وكسباى الشّشمانى الناصرى ثم المؤيدى، ومن العشرات أرغون شاه أستادار الصحبة، وقانم نعجة، وجانم أمير شكار، وتنبك الأشقر، والجميع أشرفية، وتغرى بردى الطيّارى، وقانصوه، وقانى باى الساقى، وهما ظاهريان، وأربعمائة مملوك من المماليك السلطانية.
وفي يوم الأحد ثامن عشره ركب السلطان ونزل إلى بيت الأمير بردبك نائب حلب، ثم «4» خرج من عند بردبك «5» ودخل إلى برقوق الناصرى فلم يجده.
وفي يوم الاثنين تاسع عشره وصل سيف الأمير جانبك التاجى المعزول عن نيابة حلب والمتولى نيابة الشام بحلب قبل أن يخرج منها، فلما كان يوم الثلاثاء العشرون من جمادى الآخرة المذكورة رسم السلطان لبرسباى البجاسى نائب طرابلس بنيابة دمشق عوضا عن جانبك التاجى، وصار قانى باى الحسنى مسفّره أيضا، فإنه وافى قانى باى الحسنى موت جانبك وهو بقطيا متوجها إليه بتقليد نيابة الشام وتشريفه، فقرره السلطان مسفّر برسباى هذا، كما كان مسفّر جانبك، ثم رسم السلطان بانتقال جانبك الناصرى نائب حماة إلى نيابة طرابلس عوضا عن برسباى البجاسى، واستقرّ مسفّره الأمير لاجين الظاهرى، واستقرّ بلاط نائب صفد في نيابة حماة ومسفّره الأمير طوخ الأبوبكرى المؤيّدى الزردكاش، واستقر يشبك أوش «1» قلق المؤيّدى أحد أمراء الألوف بدمشق عوضا عن بلاط في نيابة صفد، واستقر الأمير خشكلدى البيسقى مسفّر يشبك هذا، وأنعم بإقطاع هذا على خچداشه شرامرد العثمانى المؤيّدى دوادار السلطان بدمشق.
وفي يوم الجمعة ثالث عشرينه وصل قاصد صاحب قبرس جاكم، وأخبر أنه أخذ مدينة الماغوصة «2» وقلعتها من يد الفرنج، وأنّه سلّمها للأمير جانبك الأبلق المقيم بجزيرة قبرس بمن بقى معه من المماليك السلطانية، فأساء جانبك المذكور السيرة في أهل الماغوصة، ومدّ يده لأخذ الصبيان الحسان من آبائهم أعيان أهل الماغوصة فشقّ ذلك عليهم، وقالوا: نحن سلمناكم البلد بالأمان، وقد حلفتم لنا أنكم لا تفعلوا معنا بعد أخذكم المدينة إلا كل خير، وأنتم مسلمون، فما هذا الحال؟ فلم يلتفت جانبك الأبلق إلى كلامهم،
واستمرّ على ما هو عليه، فأرسل أهل الماغوصة إلى جاكم عرفوه الخبر، فأرسل جاكم إلى جانبك ينهاه عن هذه الفعلة، فضرب جانبك القاصد المذكور، بعد أن أوسعه سبّا،
فأرسل إليه قاصدا آخر، فضربه جانبك بالنشّاب، فركب جاكم إليه من الأفقسية «1» مدينة قبرس، وجاء إليه وكلّمه، فلم يلتفت إليه، وخشّن عليه الكلام، فكلمه جاكم ثانيا، فضربه بشىء كان في يده، فسقط جاكم مغشيا عليه، فلما رأت الفرنج ذلك مدت أيديها إلى جانبك ومن معه من المسلمين بالسيوف، فقتل جانبك وقتل معه خمسة وعشرون مملوكا من المماليك السلطانية، وهذا معنى ما حكاه يعقوب الفرنجى قاصد جاكم الذي حضر إلى القاهرة رسولا من عند جاكم- والله أعلم- هذا مع اختلاف الروايات فى قتل جانبك ورفقته، واستولى جاكم على الماغوصة على أنه نائب بها عن السلطان، وعلى كل حال صارت الماغوصة بيد جاكم صاحب قبرس.
ثم عيّن السلطان سودون المنصورى الساقى إلى رواح «2» قبرس مع يعقوب المذكور، فسافر سودون المذكور، ووقع له أمور ذكرناها في موضعها من تاريخنا «الحوادث»
ثم في يوم السبت ثامن شهر رجب أعيد قاضى القضاة شرف الدين يحيى المناوى إلى منصب قضاء الشافعية «3» بعد موت قاضى القضاة علم الدين صالح البلقينى.
ثم في يوم الاثنين عاشر رجب أدير المحمل، فلعبت الرمّاحة على العادة.
وفي يوم السبت ثانى عشرينه عيّن السلطان تجريدة إلى البحيرة يردف بها الأمير قرقماس لأمر وقع له مع العرب، قتل فيه جماعة من المماليك السلطانية.
ثم في يوم الأحد سابع شعبان وصل الأمير قرقماس بمن معه من البحيرة.
وفي هذا الشهر ورد الخبر بأخذ قلعة كركر «4» ، وقتل نائبها جكم بحيلة من الأكراد.
وفي يوم الاثنين سادس شوال استقرّ الأمير بردبك هجين أمير جاندار «1» ، وكان لهذه الوظيفة مدة طويلة لا يليها إلا الأجناد، وكانت في القديم أجل الوظائف.
ثم في يوم الجمعة تاسع عشرين ذى القعدة الموافق لعاشر مسرى أو في النيل، ونزل السلطان بنفسه، وخلّق المقياس وفتح خليج السد، ثم ركب وعاد إلى القلعة وبين يديه أربعة من أمراء الألوف، وعليهم الخلع التي خلعها السلطان عليهم، وقيد لكل واحد فرسا بسرج ذهب وكنبوش زركش، وهم: الأتابك جرباش، وقرقماس أمير سلاح، وقانم أمير مجلس، وتمربغا رأس نوبة النّوب، وباقى الأمراء عليهم الخلع لا غير، وتعجب الناس لنزول السلطان لكسر البحر، لبعد عهد الناس من نزول السلاطين إلى هذا المعنى، لأنه من سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة ما نزل سلطان، وكان الذي نزل في سنة ثلاث وثلاثين الملك الأشرف برسباى- رحمه الله.
وفرغت هذه السنة.