الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم في يوم الخميس تاسع عشرينه استقرّ الأمير جرباش المحمدى الأمير آخور الكبير أمير مجلس عوضا عن طوخ المقدم ذكره بحكم مرضه، واستقر عوضه في الأمير آخورية يونس العلائى أحد مقدّمى الألوف.
وفي هذه السنة كان فراغ الرّبع والحمامين الذين بناهم السلطان الملك الأشرف إينال هذا بخط بين القصرين.
وفرغت هذه السنة وقد انحلّ أمر حكّام الدّيار المصريّة أرباب الشرع الشريف والسياسة أيضا؛ لعظم شوكة المماليك الأجلاب، وصار من له حقّ عند كائن من كان من الناس قصد مملوكا من المماليك الأجلاب في تخليص حقّه، فما هو إلا أن أعلم ذلك المملوك بقصده خلّص من غريمه في الحال، فإن هؤلاء المماليك صاروا في أبواب أعيانهم شكل رأس نوبة ونقباء، ولبعضهم دوادار، فيرسل خلف ذلك الرجل المطلوب، ويأمره بإعطاء حق ذلك المدّعى- حقّا كان أو باطلا- بعد أن يهدّده بالضرب والنّكل، فإن أجاب وإلا ضرب في الحال ونكّل به، وعلم بذلك كل أحد، فصار كلّ أحد يستعين بهم فى قضاء حوائجه، وترك الناس الحكّام، فقوى أمر الأجلاب، وضعفت شوكة الحكّام، وتلاشى أمرهم إلى الغاية والنهاية.
وفي هذه السنة كانت زلزلة عظيمة بمدينة أرزنكان «1» ، هدّمت معظمها.
وفي هذه السنة أيضا كان بالشرق فتن كبيرة بين جهان شاه بن قرا يوسف، وبين أولاد باى سنقر بن شاه رخّ بن تيمور لنك، أصحاب ممالك العجم «2»
[ما وقع من الحوادث سنة 862]
ثم استهلت سنة اثنتين وستين وثمانمائة.
ففى يوم الاثنين ثالث محرم من السنة المذكورة أنعم السلطان على قايتباى
المحمودى الظاهرى الدّوادار بإمرة عشرة، وعيّن السلطان الأمير جانبك الإسماعيلى المؤيدى المعروف بكوهية أن يتوجّه إلى حلب، وعلى يده تشريف تغرى يردى بن يونس حاجب حلب بنيابة ملطية، وتشريف جانبك الجكمى نائب ملطية إلى حجوبية حلب، كل منهما عن الآخر، وذلك لكلام وقع بين تغرى بردى هذا وبين الأمير جانم الأشرفى نائب حلب.
ثم في يوم الاثنين رابع عشرين المحرم «1» وصل أمير حاج المحمل بالمحمل إلى القاهرة، وهو المقام الشهابى أحمد بن السلطان، وصحبته والدته وإخوته، وطلع إلى القلعة ومعه أخوه محمد، وبين يديهما وجوه الدّولة، وخلع السلطان عليه وعلى أخيه محمد المذكور، وكانت خلعة المقام الشهابى أطلسين متمرّا، وعلى الأطلسين فوقانى حرير بوجهين بطرز زركش، ثم خلع السلطان على من له عادة بلبس الخلع في عود الحاج إلى الدّيار المصرية.
ثم في يوم الاثنين سادس عشر صفر وصل الأمير أزبك من ططخ الظاهرى الخازندار- كان- من القدس الشريف بطلب من السلطان، وطلع إلى القلعة، وخلع السلطان عليه سلّاريّا «2» من ملابيسه بفرو سنجاب، ووعده بكل خير، ثم رسم له بالمشى فى الخدمة السلطانية بعد أيام.
وفي أوّل شهر ربيع الأوّل من سنة اثنتين وستين المذكورة نودى من قبل السلطان على الذّهب بأن يكون سعر الدينار الذهب بثلاثمائة درهم نقرة، بعد ما كان وصل سعر الدينار لأربعمائة وستين درهما الدينار، وأن يكون سعر الفضة المغشوشة كل درهم بستة عشر درهما، وأن يكون سعر الدرهم من الفضة الطيبة التي رسم السلطان بضربها بدار الضرب بأربعة وعشرين درهم نقرة، وحكم السلطان بذلك، ونفذ حكمه
القضاة، وسرّ الناس بهذا الأمر غاية السرور؛ فإنه كان حصل بتلك الفضّة المغشوشة غاية الضرر في المعاملات وغيرها.
غير أنه ذهب للناس بهذا النقص في سعر الفضة المغشوشة مال كثير، وصار كل أحد يخسر ثلث ما كان معه من المال من هذه الفضة المذكورة، فانحسر «1» كل من كان عنده من هذه الفضة لوقوع النقص في ماله، فرسم السلطان في اليوم المذكور بالمناداة بنقص ثلث ثمن جميع البضائع في المأكول والملبوس كما نقص سعر الدرهم الثلث، وكذلك في نقص الذهب، فهان عند ذلك على الناس ما وقع من خسارة الذهب والفضة بهذه المناداة الثانية التي هى بنقص ثلث أثمان جميع الأشياء، وقال كل واحد في نفسه:«كما نقص من مالى الثلث نقص من ثمن ما كنت أبتاعه الثلث» ، فكأنه لم ينقص له شىء.
ثم في يوم الخميس سابع عشره عمل السلطان المولد النبوى بالحوش من القلعة على العادة في كل سنة.
ثم في يوم الأربعاء ثامن شهر ربيع الآخر أنعم السلطان على الأمير أزبك من ططخ الظاهرى المقدّم ذكره بإمرة عشرة، عوضا عن الأمير جانم الأشرفى البهلوان، بحكم وفاته كما سيأتى ذكر وفاته ووفاة غيره في ذكر الوفيات بعد فراغ الترجمة، على عادة هذا الكتاب.
وفي يوم الاثنين ثالث عشر شهر ربيع الآخر المذكور وجد السلطان نشاطا في نفسه من مرض كان حصل له أياما، وخرج إلى قاعة الدّهيشة، ودقّت البشائر لذلك بقلعة الجبل وغيرها ثلاثة أيام.
ثم في يوم الأحد سادس عشرين ربيع الآخر مات الأمير سودون السلحدار نائب قلعة الجبل، فأنعم السلطان من إقطاعه بنصف قرية كوم أشفين «2» على شريكه الأمير يشبك الفقيه المؤيدى، ليكون من جملة أمراء الطبلخانات، وأنعم بباقى إقطاع سودون
المذكور على الأمير أرغون شاه «1» الأشرفى ليكون من جملة أمراء العشرات، وأنعم بإقطاع أرغون شاه «2» المذكور على شريكه الأمير تنبك الأشرفى ليكون تنبك أيضا أمير عشرة، واستقر كسباى المؤيدى السمين نائب قلعة الجبل «3» عوضا عن سودون المذكور على إمرة عشرة ضعيفة، واستقرّ الأمير جانبك الإسماعيلى المؤيّدى المعروف بكوهية من جملة رؤوس النّوب عوضا عن كسباى المقدّم ذكره، ولبسا الخلع بعد ذلك بأيام.
ثم في سلخ شهر ربيع الآخر المذكور خلع السلطان على الأمير برسباى البجلسى حاجب الحجاب باستقراره أمير حاج المحمل.
وفيه خلع السلطان على الحكماء لعافيته من مرضه، وحضر السلطان موكب «4» القصر مع الأمراء والخاصكية على العادة.
ثم في يوم الاثنين رابع جمادى الأولى استقر [الطواشى]«5» مرجان [الحصنى]«6» مقدّم المماليك السلطانية أمير حاج الرّكب الأول، فحصل بتولية مرجان هذا إمرة الحاج الأول على أهل مكة مالا خير فيه؛ لأنه كان في نفسه وضيعا «7» ، لم تشمله تربية مربّ، لأنه نشأ ببلاد الحصن، وخرج منها على هيئة المكدّين من فقراء العجم، ودار البلاد على تلك الهيئة سنين كثيرة، إلى أن اتصل بخدمة جماعة كثيرة من الأمراء، ثم آل أمره إلى بيت السلطان، وغلط الدهر بولايته النيابة ثم التّقدمة، ثم بولايته إمرة الركب الأول في هذه السنة، فلما سافر أخذ معه جماعة كبيرة من إنياته «8» المماليك الأجلاب، ففعلوا في أهل مكة أفعالا ما تفعلها الخوارج، من الظلم وأخذ أموال الناس له ولأنفسهم، كما سيأتى ذكر ذلك عند عوده من الحج إن شاء الله تعالى.
وفي يوم الخميس سابع جمادى الأولى «1» استقرّ شمس الدين منصور بن الصّفّى ناظر ديوان المفرد.
وفي يوم الثلاثاء ثانى عشر ركب السلطان الملك الأشرف إينال من قلعة الجبل باكر النهار في أمرائه وأرباب دولته، وشق خط الصّليبة بغير قماش الموكب، وتوجّه إلى ساحل بولاق، ودام سيره بساحل بولاق إلى أن وصل إلى مدرسة السعدى إبراهيم ابن الجيعان التي أنشأها على النيل، ورأى ما أنشئ بالجزيرة وساحل بولاق من العمائر والبيوت، ثم عاد إلى جهة القاهرة، ومرّ من الشارع الأعظم إلى أن خرج من باب زويلة، وطلع إلى القلعة «2» .
وأصبح من الغد في يوم الأربعاء أمر بالمناداة بأن أحدا من الناس لا يعمّر عمارة بجزيرة أروى المعروفة بالوسطى، ولا بساحل بولاق؛ لما رأى من ضيق الطريق من كثرة العمائر والأخصاص، وأمر أيضا بهدم أماكن كثيرة فهدمت في اليوم المذكور، واستمر والى القاهرة بعد ذلك مستمرا للهدم أياما كثيرة، وأما الأخصاص والدكاكين التي بالطريق فهدمت عن آخرها، وكلّم السلطان في الكفّ عن ذلك جماعة كثيرة فلم يسمع لأحد، واستمر على ما رسم به من هدم الأماكن المذكورة، قلت: ولا بأس بهذه الفعلة؛ لأن كل أحد له في الساحل حق كحق غيره، فلا يجوز استقلال أحد به دون غيره.
وفي يوم الأحد سابع عشر جمادى الأولى المذكور خاشنت المماليك الأجلاب الصاحب جمال الدين ناظر الجيش والخاص في اللفظ بسبب غلو سعر أثواب البعلبكى، فأجابهم «بأن هذا ليس هو داخل في حكمى ولا من تعلقاتى، بل ذلك راجع إلى محتسب القاهرة» وبلغ السلطان ذلك، فأصبح السلطان أمر بعزل صلاح الدين أمير حاج بن
بركوت المكينى عن حسبة القاهرة، واستقرّ عوضه بالحاج خليل المدعو قانى باى اليوسفى المهمندار، مضافا إلى المهمنداريّة «1» .
ثم في يوم الخميس ثامن عشرينه وصل إلى القاهرة قصّاد الصارمى إبراهيم بن قرمان، صاحب قونية وغيرها، وعلى يدهم كتب ابن قرمان المذكور تتضمن الترقق والاستعطاف، وأنه داخل تحت طاعة السلطان، وأنه إن كان وقع منه ما أوغر خواطر السلطنة، فقد جرى عليه وعلى بلاده من العساكر السلطانية ما فيه كفاية من النهب والسّبى والإحراق وغير ذلك، وأنه يسأل الرّضى عنه، وأشياء غير ذلك مما ذكرناه بالمعنى، فعفا السلطان عنه بعد توقّف كبير.
وفي يوم الجمعة تاسع عشرين جمادى الأولى المذكور سافر الأمير بردبك الدّوادار الثانى صهر السلطان زوج ابنته إلى دمشق، لينظر جامعه الذي أنشأه بها.
ثم في يوم الاثنين عاشر جمادى الآخرة خلع السلطان على «2» أيدكى الأشرفى الخاصكى ليسافر إلى ابن قرمان صحبة قصّاده، لتقرير الصلح بين السلطان وبينه.
وفي يوم الجمعة رابع عشره- الموافق لثالث بشنس أحد شهور القبطلبس السلطان القماش الأبيض البعلبكىّ، المعد لأيام الصيف على العادة في كل سنة.
ثم في يوم الخميس خامس شهر رجب من سنة اثنتين وستين المذكورة شفع الصاحب جمال الدين ناظر الجيش والخاص عند السلطان في الأمير تمربغا أن يفرج عنه من حبس الصّبيبة، فسمح السلطان له بذلك، ورسم له أن يتوجّه من الصّبيبة إلى دمشق، ويقيم بها لعمل مصالحه لأيّام الحج، ويسافر إلى مكة ويقيم بها بطالا، فوقع ذلك.
ثم في يوم الجمعة سادس شهر رجب المذكور كان الحريق العظيم بساحل بولاق
الذي لم نسمع بمثله في سالف الأعصار إلا قليلا، بحيث إنه أتى على غالب أملاك بولاق من ساحل النيل إلى خط البوصة التي هى محل دفن أموات أهل بولاق، وعجزت الأمراء والحكام عن إخماده.
وكان أمر هذا الحريق أنه لما كان صبيحة يوم الجمعة سادس رجب من سنة اثنتين وستين المذكورة هبّت ريح عظيمة مريسىّ «1» ، وعظمت حتى اقتلعت الأشجار وألقت بعض مبان، واستمرت في زيادة ونموّ إلى وقت صلاة الجمعة، فلما كان وقت الزّوال أو بعده بقليل احترق ربع الحاج عبيد البرددار بساحل البحر «2» ، وذهب الرّبع في الحريق عن آخره ومات فيه جماعة من الناس، كلّ ذلك في أقلّ من ساعة رمل، ثم انتقلت النار إلى ربع القاضى زين الدين أبى بكر بن مزهر وغيره، وهبّت الرّياح وانتشرت النيران على الأماكن يمينا وشمالا «3» ، هذا وحاجب الحجّاب «4» وغيره من الأمراء والأعيان وكلّ أحد من الناس في غاية الاجتهاد في تخميد النار بالطفى والهدم، وهى لا تزداد إلا قوّة وانتشارا على الأماكن، إلى أن وصلت النار إلى ربع الصاحب جمال الدين ناظر الجيش والخاص، وإلى الحواصل التي تحته، وأحرقت أعلاه وأسفله، وذهب فيه من بضائع الناس المخزونة فيه ما لا ينحصر كثرة «5» ، وسارت النار إلى الدّور والأماكن من كل جهة.
هذا وقد حضر الحريق جميع أمراء الدولة بمماليكهم وحواشيهم، شيئا بعد شىء،
والأمر لا يزداد إلا شدّة، إلى أن صار الذي حضر من الناس لأجل طفى النار كالمتفرج من عظم النار والعجز عن إخمادها، وصارت النار إذا وقعت بمكان لا تزال به حتى يذهب جميعه، ويضمحل عن آخره، فعند ذلك فطن كل أحد أن النار تسير من دار إلى دار إلى أن تصل إلى القاهرة؛ لعظم ما شاهدوا من هولها، والريح المريسى يتداول هبوبها من أول النهار إلى نصف الليل، ولشدة هبوب الريح صارت رياحا لأنها بقت تارة تهب مريسيّا، وهو الأكثر، وتارة شمالا، وتارة غير ذلك من سائر الجهات، فيئس كل من كان له دار تحت الرّيح، وتحقّق زوالها، وشرع في نقل متاعه وأثاثه، وهو معذور في ذلك، لأننا لم نشاهد في عمرنا مثل هذا الحريق؛ لما اشتمل عليه من الأمور الغريبة، منها سرعة الإحراق، حتى إن الموضع العظيم من الأماكن الهائلة يذهب بالحريق في أسرع وقت، ومنها أن المكان العظيم كان يحترق وبجانبه مكان آخر لم تلحقه شرارة واحدة، وربما احترق الذي كان بالبعد عن تلك الدار المحروقة من شرارها، والتي بالقرب سالمة، ووقع ذلك بعدة أماكن، أعجبها وأغربها مسجد كان بالقرب من ساحل البحر وبه منارة من غرد «1» قصيرة، وكان هذا المسجد في وسط الحريق والشرار يتطاير من أعلاه من الجهات الأربع من أوّل الحريق إلى آخره، لم تتعلق به شرارة واحدة، وفي المسجد المذكور قبر رجل صالح مدفون فيه قديما يعرف بالشيخ محمد المغربى.
واستمر الأمراء والأعيان يشاهدون الحريق، ويطفئون ما قدروا عليه من أطراف المواضع المنفردة، وأمّا الحريق العظيم فلا يستجرئ أحد أن يقربه لعظمه بل يشاهدونه من بعد، واستمروا على ذلك إلى بعد أذان عشاء الآخرة، ثم ذهب كل واحد إلى داره والنار عمّالة إلى نصف الليل، فأخذ أمر الريح في انحطاط.
فلما كان باكر نهار السبت سابع شهر رجب المذكور نزل المقام الشهابى أحمد بن
السلطان من قلعة الجبل، وتوجّه إلى بولاق لأجل الحريق، فوجد جميع أمراء الدّولة هناك كما كانوا في أمسه، فلم يؤثر حضور الجميع في النار شيئا، غير أن الريح كان سكن وأخذت النار حدّها في الإحراق من كل مكان كانت به، فعند ذلك اجتهد كل أحد في إخمادها، وهدم ما تعلق به النار من الأماكن، وأقاموا على ذلك أيّاما كثيرة، والنار موجودة في الأماكن والجدر والحيطان، والناس تأتى لبولاق أفواجا أفواجا للفرجة على هذا الحريق العظيم، حتى صارت تلك الأماكن كبعض المفترجات، وعملت الشعراء والأدباء في هذا الحريق عدّة قصائد وقطع، وقد أنشدنى الشيخ علم الدين الإسعردىّ الحصنى «1» قصيدة من لفظه لنفسه في هذا المعنى أولها:[البسيط]
أتتهم الذاريات ذروا
…
وتلوها العاصفات عصفا
أثبتّ هذه القصيدة في تاريخنا «الحوادث» كونه محل ذكر هذه الأشياء، والقصيدة المذكورة نظم عالم لا شاعر، وقد حرّرنا أيضا في تاريخنا «الحوادث» ما ذهب في هذا الحريق من الأماكن تخمينا، فكان عدة ما احترق فيه من الأرباع زيادة على ثلاثين ربعا، كلّ ربع يشتمل على مائة سكن وأكثر، أعنى أعاليه وأسفله، وما به من الحوانيت والمخازن ذكرناها في «الحوادث» بأسمائها، ماخلا الدور والأماكن والأفران والحوانيت وغير ذلك.
وقد اختلف في سبب هذا الحريق على أقوال كثيرة.
منهم من قال: إنها صاعقة نزلت من السماء والخطيب على المنبر.
ومنهم من قال: إنه نزلت من جهة السماء نوع شرارة فاحترق المكان الأول منها.
ومنهم من قال: إن الأرض كأنّ النار تنبع منها.
والأقوال كلّها على أن سبب هذه النار آفة سماوية.
ثم بعد ذلك بأيام أشيع أن الذي كان يفعل ذلك- أعنى يلقى النار في الأماكن- هم جماعة من القرمانيّة ممن أحرق العسكر المصرى أمكنّهم لما توجهوا إلى تجريدة ابن قرمان، وشاع القول في أفواه الناس.
ثم ظهر للناس بعد ذلك أن الذي صار يحرق من الأمكنة بالقاهرة وغيرها بعد حريق بولاق إنما هو من فعل المماليك الجلبان؛ لينهبوا ما في بيوت الناس عندما تحرق، فإنه تداول إحراق البيوت أشهرا- والله أعلم «1» .
وقد افتقر من هذا الحريق خلائق كثيرة، وعلى الله العوض.
وفي يوم الثلاثاء ثالث عشر شهر رجب المذكور وصل الأمير بردبك الدّوادار الثانى من الشّام.
وفيه أيضا نودى بزينة القاهرة لدوران المحمل، ونهى السلطان المماليك الأجلاب عن أن «2» يعمل أحد منهم عفاريت المحمل.
وسببه أنهم فعلوا ذلك في السنة الخالية وأفحشوا في الطلب من الناس، وصاروا يدخلون إلى دور الأمراء والأعيان، ويكلفونهم الكلفة الزائدة، وما كفاهم ذلك حتى صار العفريت منهم إذا مرّ بالشارع على فرسه بتلك الهيئة المزعجة يجبى الدكاكين، وإذا صدف رئيسا من بياض الناس أمسكه وأخذ منه ما شاء غصبا، وإن لم يعطه أخرق به ورماه عن فرسه، حتى صار الرّجل إذا رأى واحدا من هؤلاء أسرع في مشيه بالدخول في زقاق من الأزقة، أو بيت من البيوت، فضرّ ذلك بحال الناس كثيرا، وتركوا فرجة المحمل.
بل صاروا يترقّبون فراغ المحمل، ليستريحوا من هذه الأنواع القبيحة.
فلما جاء أوان المحمل في هذه السّنة دخل على قلوب الناس الرّجيف بسبب ما وقع من المماليك في العام الماضى، فكلّم أعيان الدّولة السلطان في إبطال المحمل، أو نهى الجلبان عن تلك الفعلة القبيحة، فلهذا رسم السلطان في هذه السنة بإبطال عفاريت المحمل بالكليّة.
ثم في يوم الاثنين سادس عشر شهر رجب هذا أدير المحمل على العادة في كل سنة، ولم يقع من الأجلاب شىء مما وقع منهم في السنة الماضية.
ثم تداول الحريق بعد ذلك بخط بولاق والقاهرة، وقوى عند الناس أن الذي يفعل ذلك إنما هو من تركمان ابن قرمان.
ثم وقع الحريق أيضا في شعبان بأماكن كثيرة، وداخل الناس جميعا الرّعب من هذا الأمر.
فلما كان يوم السبت ثانى عشر شعبان نودى بشوارع القاهرة ومصر بتوجّه كل غريب إلى أهله، وكذلك في يوم الأحد، فلم يخرج أحد لعدم التفات السلطان لإخراجهم.
ثم وقع حريق آخر وآخر، فنودى في آخر شعبان بخروج الغرباء بسبب الحريق من الدّيار المصرية، فلم يخرج أحد.
وتداول وقوع الحريق بالقاهرة في غير موضع.
ثم في أول شهر رمضان مرض السلطان مرضا لزم منه الفراش، وأرجف بموته، وطلع إليه أكابر الأمراء، فتكلم معهم في العهد لولده أحمد بالسلطنة من غير تصريح، بل في نوع النكر «1» من ولده، ويقول ما معناه: إن ولده ليس كمن مضى من أولاد الملوك الصغار، وإن هذا رجل كامل يعرف ما يراد منه، وما أشبه هذا المعنى، فصار هو
يتكلم وجميع الأمراء سكوت، لم يشاركه أحد فيما هو فيه إلى أن سكت، وانفضّ المجلس، ثم عوفى بعد ذلك، ودقّت البشائر بقلعة الجبل وغيرها أياما.
ثم في يوم الاثنين سادس شهر رمضان أخرقت المماليك الأجلاب بالأمير قانم التاجر المؤيّدى «1» أحد مقدمى الألوف، وهو نازل من الخدمة بعير قماش الموكب، وضربه بعضهم على رأسه وظهره، جاءوا بجموعهم إلى داره من الغد ليهجموا عليه، فمنعهم مماليكه من الدخول عليه، فوقع القتال بينهم، وجرح من الفريقين جماعة، فأخذ قانم المذكور يتلافى أمرهم بكل ما تصل القدرة إليه، فلم يفد ذلك إلا أنه صار يركب وحده من غير مماليك، ويطلع الخدمة وينزل على تلك الهيئة، واستمرّ على ذلك نحو السنتين «2» .
ثم في هذه الأيام أيضا تداول الحريق بالقاهرة وظواهرها، وضرّ ذلك كثيرا بحال الناس، وقد قوى عندهم أن ذلك من فعل القرمانية والمماليك الأجلاب، يعنون بالقرمانية والأجلاب أن القرمانية إذا فعلوا ذلك مرة ويقع الحريق، فتنهب المماليك الأقمشة وغيرها لما يطلعون الدور المحروقة للطفى، فلما حسن ببال المماليك ذلك صاروا يفعلون ذلك.
قلت: ولا أستبعد أنا ذلك لقلة دينهم وعظم جبروتهم، عليهم من الله ما يستحقونه من العذاب والنكال- انتهى.
ثم استهل شوال، أوّله الجمعة، فوقع فيه خطبتان، وتشاءم الناس بذلك على الملك، فلم يقع إلا الخير والسلامة، وكذبت العادة.
ثم في يوم الجمعة خامس عشره ورد الخبر على السلطان بموت چاك الفرنجى صاحب قبرس، وأنهم ملّكوا عليهم ابنته مع وجود ولد ذكر، لأمر أجاز تقديم البنت
على الصّبى، على مقتضى شريعتهم، ووقع بسبب ذلك أمور وغزوات يأتى ذكرها في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، وقد حررنا ذلك كله في «الحوادث» .
وفي يوم الاثنين ثامن عشره خرج أمير حاج المحمل بالمحمل من القاهرة، وهو الأمير برسباى البجاسى حاجب الحجاب، وأمير الركب الأول [الطواشى]«1» مرجان [الحصنى]«2» مقدّم المماليك السلطانية.
ثم في العشر الأخير من هذا الشهر ورد الخبر من الإسكندرية بموت الخليفة القائم بأمر الله حمزة بها، كما سيأتى ذكره في الوفيات إن شاء الله.
ثم في يوم الخميس سابع عشرين ذى القعدة خلع السلطان على ولده المقام الشهابى أحمد باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية، عوضا عن الأمير الكبير تنبك البردبكى بحكم وفاته، وأنعم السلطان بإقطاع ولده أحمد على ولده الصغير المقام الناصرى محمد، وصار محمد أمير مائة ومقدّم ألف، وأنعم بإقطاع محمد المذكور- وهو إمرة طبلخاناه- على الأمير جانبك الصوفى الناصرى المرتد «3» أحد أمراء الطبلخانات، زيادة على ما بيده؛ ليكون جانبك أيضا أمير مائة ومقدّم ألف.
ثم في يوم الاثنين ثانى عشرين ذى الحجة خلع السلطان على القاضى شرف الدين التتائى «4» الأنصارى باستقراره ناظر الجيوش المنصورة، عوضا عن الصاحب جمال الدين يوسف بن كاتب جكم، بحكم وفاته في يوم الخميس ثامن عشر ذى الحجة.
وخلع السلطان أيضا على الأمير زين الدين عبد الرحمن بن الكويز، باستقراره ناظر الخاص الشريف، عوضا أيضا عن الصاحب جمال الدين يوسف المقدّم ذكره