الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر نكبة الملك المؤيد أحمد ابن الملك الأشرف إينال وخلعه من الملك
لما كان آخر يوم الجمعة سابع عشر شهر رمضان من سنة خمس وستين المذكورة رسم السلطان الملك المؤيد أحمد لنقيب الجيش الأمير ناصر الدين محمد بن أبى الفرج أن يدور على الأمراء مقدمى الألوف، ويعلمهم أن السلطان رسم بطلوعهم من الغد في يوم السبت إلى الحوش السلطانى من قلعة الجبل بغير قماش الموكب، ولم يعلمهم لأى معنى يكون طلوعهم واجتماعهم في هذا اليوم بالقلعة، وهو غير العادة، فدار دوادار نقيب الجيش على الأمراء وأعلمهم بما رسم به السلطان من طلوعهم إلى القلعة، وأخذ الأمراء من هذا الأمر أمر مريج «1» ، وخلا كل واحد بمن يثق به، وعرفه الخبر، وهو لا يشك أن السلطان يريد القبض عليه من الغد، وماجت الناس وكثر الكلام بسبب ذلك، وركبت الأعيان بعضها على بعض، وأما الأمراء فكل منهم تحقق أنه مقبوض عليه من الغد، ووجد لذلك من كان عنده كمين من الملك المؤيّد أو يريد إثارة فتنة فرصة، وحرّض بعضهم بعضا؛ إلى أن ثارت المماليك الظاهريّة في تلك الليلة، وداروا على رفقتهم وإخوانهم وعلى من له غرض في القيام على الملك المؤيّد، وداموا على ذلك ليلتهم كلها.
فلما كان صبح نهار السبت تفرّقوا على أكابر الدّولة والأمراء في بيت الأتابك خشقدم لعمل المصلحة، فداروا على الأمراء، وأمسكوا منهم جماعة كبيرة، وأحضروهم إلى بيت الأتابك خشقدم، على كره من خشقدم، وسارت فرقة في باكر النهار إلى
بيت الأمير بردبك الأشرفى الدّوادار الثانى الملاصق لمدرسة السلطان حسن، وأحضروه إلى بيت الأمير الكبير خشقدم، بعد أن أخرقوا به.
هذا وقد اجتمعت طوائف المماليك، مثل الناصريّة فرج، والمؤيدية شيخ، والأشرفية برسباى، والظاهرية جقمق، والسيفية، الجميع في بيت الأمير الكبير، ولم يطلع إلى القلعة في هذا اليوم أحد من الأمراء والأعيان إلا جماعة يسيرة جدا.
فلما تكامل جمعهم في بيت الأمير الكبير، وأكثر الطوائف يوم ذاك الأشرفية والظاهرية، وكبير الأشرفية الأمير قرقماس أمير مجلس، ولا كلام له، بل الكلام لجانبك القجماسى الأشرفى المشدّ، ولجانبك من «1» أمير الخازندار، والظاهرية كبيرهم جانبك نائب جدّة، أحد مقدمى الألوف، وقد صارت خچداشيته يوم ذاك في طوع يده وتحت أوامره؛ لحسن سياسته وجودة تدبيره، فانضمت كلمة الظاهريّة به، حتى صارت كلمة واحدة، وهم حسّ «2» وهو المعنى، وهذا بخلاف الأشرفية، فإنهم وإن كانوا هم أيضا متفقين فالاختلاف بين أكابرهم موجود بالنسبة إلى هؤلاء، وعدم اكتراثهم بهذا الأمر المهم، ولتطلّعهم على مجىء خچداشهم الأمير جانم نائب الشام، ولو أنّ أمر المؤيد طرقهم على بغتة ما طاوعوا على الرّكوب في مثل هذا اليوم قبل مجىء خچداشهم.
فأخذ الأمير جانبك نائب جدّة المذكور في تأليف الأشرفية على الظاهرية بحسن تدبير، حتى تمّ له ذلك، وصاروا على كلمة واحدة، ثم شرعوا في الكلام بحضرة الأمراء في الاجتماع بسببه، فتكلم بعض من حضر من الأمراء بأن قال:«أيش المقصود بهذا الجمع؟» أو معنى هذا الكلام، فأجاب الجميع بلسان واحد:«نريد خلع الملك المؤيد أحمد من السلطنة، وسلطنة غيره» .
وكان الباعث لهذه الفتنة ما قدّمناه، وأيضا الظاهرية، فإن الملك المؤيد لما تسلطن لم يحرك ساكنا «1» ولم يتغير أحد مما كان عليه، فشقّ ذلك على الظاهريّة، وقال كل منهم في نفسه: كأنّ الملك الأشرف إينال مامات، فإن الغالب كل «2» منهم كان أخذ ما بيده من الإقطاعات، وحبس ونفى في أوّل سلطنة الأشرف إينال، كما هى عادة أوائل الدّول، وبقى منهم جماعة كثيرة بلا رزق ولا إمرة ولم يجدوا عندهم قوة ليخلعوا الملك المؤيد هذا ويسلطنوا غيره وحدهم، فكلموا الأشرفيّة في هذا المعنى غير مرّة، وترققوا لهم، فلم يقبلوا منهم ذلك، لنفرة كانت بين الطائفتين قديما وحديثا، وأيضا فلسان حال الأشرفية يقول عندما سألوهم الظاهريّة: نحن الآن في كفاية من الأرزاق والوظائف، فعلام نحرك ساكنا «3» ، ونخاطر بأنفسنا؟ فعجزوا فيهم الظاهرية وقد ثقل عليهم الملك المؤيد، وكثر خوفهم منه، فإنه أوّل ما تسلطن أبرق وأرعد، فانخزى كل أحد، وحسبوا أنّ في السويداء رجالا، ولهذا قلت فيما تقدّم:
لو فعل ما فعل لمشى له ذلك، لمعرفتى بحال القوم وشجاعتهم.
وكان دخول المؤيد السلطنة بحرمة وافرة، لأن سنّه كان نحو الثلاثين سنة يوم تسلطن، وكان ولى الأتابكية في أيّام أبيه، وأخذ وأعطى، وسافر أمير حاج المحمل، وحجّ قبل ذلك أيضا وسافر البلاد، ومارس الأمور في حياة والده وهذا كله بخلاف من تقدّمه من سلاطين أولاد الملوك، فإن الغالب منهم حدث السّنّ يريد له من يدبّره، فإنه ما يعرف ما يراد منه، فيصير في حكم غيره من الأمراء فتتعلّق الآمال بذلك الأمير، وتتردّد الناس إليه، إلى أن يدبّر في سلطنة نفسه، بخلاف المؤيّد هذا. فإنه ولى السلطنة وهو يقول في نفسه:«إنه يدبر مع مملكة مصر ممالك العجم زيادة على تدبير مصر» .
قلت: وكان كما زعم، فإنه تقدم أنه كان عارفا عاقلا مباشرا، حسن التدبير،
عظيم التنفيذ شهما، وكان هو المتصرف في الأمور أيّام أبيه في غالب الولايات والعزل وأمور المملكة، فلما تسلطن ظنّ كل أحد أن لا سبيل في دخول المكيدة على مثل هذا، لمعرفة الناس بحذقه وفطنته.
وكان مع هذه الأوصاف مليح الشكل، وعنده تؤدة في كلامه، وعقل وسكوت خارج عن الحد، يؤديه ذلك إلى التكبّر، وهذا كان أعظم الأسباب لنفور خواطر الناس عنه، فإنه كان في أيام سلطنته لا يتكلم مع أحد حتى ولا أكابر الأمراء إلا نادرا، ولأمر من الأمور الضروريات، وفعل ذلك مع الكبير والصغير، وما كفى هذا حتى صار يبلغ الأمراء أنّه في خلوته يسامر الأطراف الأوباش الذين يستحى من تسميتهم، فعظم ذلك على الناس، فلو كان عدم الكلام مع الناس قاطبة لهان على من صعب سكاته عليه، من كون الرفيع يكون مبعدا والوضيع مقربا، فهذا أمر عظيم لا تحمله النفوس إلا غصبا، فلما وقع ذلك وجد من عنده حقد فرصة، وأشاع عنه هذا المعنى وأمثاله، وبشّع في العبارة وشنّع، وقال هذا وغيره: إنه لا يلتفت إلى المماليك ويزدريهم، وهو مستعزّ بمماليك أبيه الأجلاب وأصهاره وحواشيه وخچداشية أبيه وبالمال الذي خلّفه أبوه، ومنهم من قال أيضا: إنما هو مستعز «1» بحسن تدبيره، فإنه قد عبّأ «2» لكل سؤال جوابا، ولكل حرب ضربا، وكان مع هذا قد قمع مباشرى الدّولة وأبادهم، وضيّق عليهم، ودقّق في حسابهم كما هو في الخاطر وزيادة، فما أحسن هذا لو كان دام واستمر!! فنفرت قلوب المباشرين أيضا منه، وحقّ لهم ذلك، واستمرت هذه الحرمة من يوم تسلطن إلى مجىء يحيى بن جانم نائب الشام إلى القاهرة، ثم إلى أن عيّن التجريدة إلى البحيرة، فأخذ أمره في إدبار، لعدم مثابرته على سير طريقه الأوّل من سلطنته، فلو جسر لكسر، لكنه هاب فخاب، ولكلّ أجل كتاب- ولنعد إلى ذكر ما كنا بصدده:
فلما تكامل الجمع في بيت الأمير الكبير خشقدم الناصرى المؤيدى، ومتكلم الأشرفية جانبك المشدّ، وجانبك الظريف الخازندار، ومن معهم من خچداشيتهم الأعيان؛ ومتكلم الظاهرية الأمير جانبك نائب جدّة أحد مقدّمى الألوف، وأعيان خچداشيته، مثل: الأمير أزبك من ططخ الظاهرى، والأمير بردبك البجمقدار ثانى رأس نوبة جدّة، وقد وافقه الأشرفيّة، وهم يظنون أن الجمع ما هو إلا لسلطنة الأمير جانم نائب الشام؛ لأنهم كانوا اتفقوا على ذلك حسبما تقدم ذكره، وهو أن الظاهريّة كانوا إذا شرعوا في الكلام مع الأشرفيّة في معنى الركوب، يقولون بشرط أن لا يكون السلطان منا ولا منكم، وإنما يكون من غير الطائفتين، فيقع بذلك الخلف بينهم، ويتفرقون «1» بغير طائل، إلى أن استرابت الظاهريّة من الملك المؤيّد أحمد هذا، وعظم تخوّفهم منه، فوافقوهم على سلطنة جانم لما جاء ولده يحيى كما تقدم ذكره.
ثم وقع هذا الأمر بغتة، وعلم جانبك نائب جدة أن الأمر خرج عن جانم لغيابه، ولا بد من سلطنة غيره لأن الأمر ما فيه مهلة، فلم يبد للأشرفية شيئا من ذلك، وأخذ فيما هو بصدده إلى أن يتمّ الأمر لغير جانم، ثم يفعل له ما بدا له، وكذا وقع حسبما يأتى ذكره في مجىء جانم، وفي سلطنة الملك الظاهر خشقدم.
هذا وقد جلس جميع الأمراء بمقعد الأمير الكبير خشقدم، فعندما تكامل جلوسهم قام الأمير جانبك نائب جدّة إلى مكان بالبيت المذكور، ومعه الأمير جانبك الأشرفى المشدّ، والأمير جانبك الأشرفى الظريف الخازندار، والأمير أزبك من ططخ الظاهرى، والأمير بردبك البجمقدار الظاهرى، وجماعة أخر من أعيان الطائفتين، وتكلموا فيمن يولونه السلطنة، وغرض جانبك نائب جدّة في سلطنة الأتابك خشقدم، لا في سلطنة جانم نائب الشام، غير أنه لا يسعه الآن إظهار ما في ضميره، خوفا من نفرة الأشرفية، وقال لهم ما معناه: «نحن قد كتبنا للأمير جانم بالحضور، وبايعناه بالسّلطنة، وأنتم تعلمون ذلك عن يقين، وقد دهمنا هذا الأمر على حين غفلة،
فما تكون الحيلة في ذلك، ولا بدّ من قتال الملك المؤيّد في يومنا، والسلطان ما يقاتل إلا بسلطان مثله، ومتى تهاونّا في ذلك ذهبت أرواحنا» ، فعلم كلّ أحد ممن حضر أن كلام جانبك نائب جدّة صواب، وطاوعه كلّ من حضر على مقالته هذه، فلما وقع ذلك أجمع رأى الجميع على سلطنة أحد من أعيان الأمراء.
ثم تكلموا فيمن يكون هذا السلطان، فدار الكلام بينهم في هذا المعنى، إلى أن قال بعضهم:«سلطنوا الأمير جرباش المحمدى الناصرى أمير سلاح» ، فلم تحسن هذه المقالة ببال الأمير جانبك، ولم يقدر على منعه تصريحا «1» وقال:«جرباش أهل لذلك بلا مدافعة، غير أنه متى تسلطن لا يمكنكم صرفه من السلطنة بغيره- يعنى بالأمير جانم- تلويحا- لأنه رجل عظيم، ومن الجنس، وصهر خچداشنا بردبك البجمقدار، وصهر خچداشكم خيربك البهلوان الأشرفى وغيره، وقد قارب مجىء الأمير جانم من الشام، والأمر إليكم، ما شئتم إفعلوا» .
فكان هذا كله إبعادا لجرباش المذكور، وأخذا بخواطر الأشرفية، فمال كلّ أحد إلى كلامه، ثم قال جانبك:«الرأى عندى سلطنة الأمير الكبير خشقدم المؤيدى، فإنه من غير الجنس، يعنى كونه رومى الجنس، وأيضا إنه رجل غريب ليس له شوكة، ومتى أردتم خلعه أمكنكم ذلك، وحصل لكم ما تقصدونه من غير تعب» .
فأعجب الجميع هذا الكلام، وهم لا يعلمون مقصوده ولا غرضه؛ فإن جلّ قصد جانبك كان سلطنة خشقدم، فإنه مؤيّدى، وخچداشيّته جماعة يسيرة، وأيضا يستريح من جانم نائب الشام وتحكّم أعدائه الأشرفيه فيه وفي خچداشيته الظاهريّة، ويعلم أيضا أنه متى تمّ سلطنة الأتابك خشقدم، وأقام أياما عسر خلعه، وبعدت السلطنة عن جانم وغيره، فدبّر هذه المكيدة على الأشرفية، فمشت عليهم أولا، إلى أن ملكوا القلعة، وخلع الملك المؤيّد بسرعة فتنبّهوا لها.
وكانت الأشرفية لما سمعوا كلام جانبك، وقالوا:«نعم نرضى بالأمير الكبير» كان في ظنهم أن قتالهم يطول مع الملك المؤيّد أيّاما كثيرة، كما وقع في نوبة المنصور عثمان، ويأتيهم جانم وهم في أشد القتال، فلا يعدلون عنه لخشقدم، فيتمّ لهم ما قصدوه، فاتفقت كل طائفة مع الأخرى «1» فى الظاهر، وباطن كل طائفة لواحد، فساعد الدّهر الظاهريّة، وانهزم الملك المؤيّد في يوم واحد حسبما نذكره الآن.
فلما وقع هذا الكلام جاءت الطائفتان الأشرفيّة والظاهريّة إلى الأمراء وهم جلوس بمقعد الأمير الكبير خشقدم، والجميع جلوس بين يدى خشقدم، فافتتح الأمير جانبك نائب جدّة الكلام وقال:
«نحن- يعنى الظاهرية والأشرفية- نريد رجلا نسلطنه، يكون لا يميّز طائفة على أخرى، بل تكون جميع الطوائف عنده سواء في الأخذ والعطاء، والولاية والعزل، وأن يطلق الأمراء المحبوسين من سائر الطوائف، ويرسم في سلطنته بمجيء المنفيّين من البلاد الشّاميّة وغيرها إلى البلاد المصريّة، ويطلق الملك العزيز يوسف ابن الملك الأشرف برسباى، والملك المنصور عثمان ابن الملك الظاهر جقمق من برجى الإسكندرية، ويسكنا الإسكندرية في أى دار شاءا، ويأذن لهما في الرّكوب إلى الجامع وغيره بثغر الإسكندرية من غير تحفّظ بهما.
وكان كلام الأمير جانبك لجميع الأمراء لم يخص أحدا منهم بكلام دون غيره، فبادر الأتابك خشقدم بالكلام وقال:«نعم» ثم التفت جانبك إلى الجمع، وقال:
«فمن يكون السلطان على هذا الحكم؟» فبدأ سنقر قرق شبق الأشرفى الزّردكاش، وقال ما معناه:«ما نرضى إلا بالأمير جانم نائب الشام، أنتم كتبتم «2» له بالحضور، وأذعنتمو بسلطنته، فكيف تسلطنوا غيره؟ فنهره الأمير خيربك من جديد الأشرفى لنفس كان بينهما قديما، وقال:
«لست بأهل الكلام في مثل هذا المجلس» فعند ذلك قال الأمير قائم التاجر المؤيّدى أحد مقدمى الألوف ما معناه «يا جماعة إن كنتم كاتبتم الأمير جانم نائب الشام فلا تسلطنوا غيره إلى أن يحضر وسلطنوه، فإنه لا يسعكم من الله أن تسلطنوا غيره الآن ثم تخلعوه عند حضور جانم، فهذا شىء لا يكون» فلم يسمعوا كلامه، وسمع في الغوغاء قول قائل لا يعرف:
فامتنع جرباش من ذلك وقال ما معناه: «إن هذا شىء راجع إلى الأمير الكبير» ، وقبّل الأرض من وقته، «1» فقام الأمير جانبك الأشرفى الظريف الخازندار وبادر بأن قال:«السلطان الأمير الكبير» ، وقبّل الأرض «2» ، ثم فعل ذلك جميع من حضر من الأمراء، ونودى بالحال بسلطنته بشوارع القاهرة، ثم شرعوا بعد ذلك في قتال الملك المؤيّد أحمد هذا.
كل ذلك والملك المؤيّد في القلعة في أناس قليلة من مماليكه ومماليك أبيه الأجلاب، ولم يكن عنده من الأمراء أحد غير مملوك والده قراجا الطويل الأعرج، أحد أمراء العشرات، وهو كلا شىء، والأمير آخور الكبير برسباى البجاسى، وليته لا كان عنده «3» ، وخيربك القصروى نائب قلعة الجبل وكان أضرّ عليه من كل أحد حسبما يأتى ذكر فعله، كلّ ذلك والملك المؤيد لا يعلم حقيقة ما العزم فيه، غير أنه يعلم باجتماع المماليك والأمراء في بيت الأمير الكبير خشقدم، وأنهم في أمر مريج، غير أنه لا يعرف نص ما هم فيه، وصار الملك المؤيّد يسأل عن أحوالهم، وينتظر مجىء أحد من مماليك أبيه إليه، فلم يطلع إليه أحد منهم، بل العجب أن غالبهم كان مع القوم عند الأمير الكبير مساعدة على ابن أستاذهم، وليتهم كانوا من المقبولين، وإنما كانوا من المذبذبين
لا غير، على أن الملك الظاهر خشقدم لما تسلطن أبادهم، وشوّش عليهم بالمسك وإخراج أرزاقهم أكثر مما عمله مع الذين كانوا عند المؤيد- فلا شلّت يداه- وبقى الملك المؤيد كلما فحص عن أمر الفتنة لا يأتيه «1» أحد بخبر شاف، بل صارت الأخبار عنده مضطربة، وآراؤه مفلوكة، وهو في عدم حركة، ويظهر عدم الاكتراث بأمر هذا الجمع، إلى أن تزايد الأمر، وخرج عن الحد، وصار اللعب جدّا، فعند ذلك تأهّب من كان عنده من المماليك، وقام الملك المؤيّد من قاعة الدهيشة، ومضى إلى القصر السلطانى المطلّ على الرّميلة «2» ، ثم نزل بمن معه إلى باب السلسلة، وقبل أن يصل إلى الإسطبل جاءه الخبر بأن القوم أخذوا باب السلسلة، وملكوا الإسطبل السلطانى، وأخذوا الأمير برسباى البجاسى الأمير آخور الكبير أسيرا إلى الأمير الكبير خشقدم، وكان أخذ باب السلسلة مكيدة من برسباى المذكور، فلما سمعت الأجلاب أخذ باب السلسلة نزل طائفة منهم وصدموا من بها من عساكر الأتابك خشقدم صدمة هزموهم فيها، واستولوا على باب السلسلة ثانيا، وهو بلا أمير آخور.
وجلس السلطان الملك المؤيد بمقعد الإسطبل المطل على الرّميلة، وكان عدم نزول المؤيّد إلى الإسطبل بسرعة له أسباب، منها: أنه كان مطمئن الخاطر على باب السلسلة؛ لكون الأمير آخور برسباى ليس هو من غرض أحد من الطائفتين، وأيضا كونه صهره زوج بنت أخته من الأمير بردبك الدّوادار الثانى، وقد صار بردبك من الممسوكين عند الأتابك خشقدم، وأيضا أن والده إينال هو الذي رقّاه وخوّله في النعم، فلم يلتفت برسباى لشىء من ذلك، وأنشد قول من قال:[الوافر]
لعمرك والأمور لها دواع
…
لقد أبعدت ياعتب الفرارا
ومنها: أنه صار ينتظر من يأتيه من أصحابه وحواشيه وخچداشية «3» أبيه ومماليكه،
فلم يأته أحد منهم، فلما يئس منهم قام من الدّهيشة بعد أن جاءه الخبر بأخذ باب السلسلة واسترجاعها بيد مماليك أبيه الأجلاب، ولما جلس بالمقعد ورأى القوم قد تكاثف جمعهم وكثر عددهم، وهو فيما هو فيه من قلّة العساكر والمقاتلة، لم يكترث بذلك، وأخذ في الدفع عن نفسه بمن عنده، غير أن الكثرة غلبت الشجاعة، وما ثمّ شجاعة ولا دربة بمقاومة الحروب، وصار كذلك خذلانا من الله تعالى، فإنه لم يطلع إليه في هذا اليوم واحد من مماليك أبيه القديمة ولا خچداشيته، وما كان عنده من الأمراء غير قراجا المقدم ذكره، ومن أعيان الخاصكية فارس البكتمرى أحد الدّوادارية الأجناد، ومقبل دواداره قديما قبل سلطنته، وهؤلاء الثلاثة كلا شىء، ولولا ذكر أسماء من كان عنده علم خبر ما ذكرت مثل هؤلاء الأصاغر، وكان عنده مع هؤلاء أجلاب أبيه الذين بالأطباق، وهم عدة كبيرة نحو الألف أو دونها بيسير، أو أكثر منها بقليل، وهم الذين اشتراهم والده الأشرف بعد سلطنته من التجار، وأما الذين اشتراهم من تركة الظاهر جقمق ومن مماليك ولده الملك المنصور عثمان- وعدتهم تزيد على المائتين، وهم أعيان مماليك الأشرف إينال وأصحاب الوظائف والإقطاعات- فقد استمالهم الأمير جانبك نائب جدّة قبل ذلك، وقال لهم:«أنتم ظاهرية وشراء الأشرف لكم غير صحيح» فمالوا إلى كلامه وإحسانه وعطاياه الخارجة عن الحدّ في الكرم، وصاروا من حزب الظاهرية، وركبت الجميع معه في هذا اليوم، وقاتلوا ابن أستاذهم أشدّ قتال، وصاروا هم يوم ذلك أعيان العسكر بالشبيبة والإمكان والكثرة، هذا مع من كان مع الأتابك خشقدم من الناصرية والمؤيديّة والظاهرية والسيفية.
فلما رأى الملك المؤيّد كثرة هذه العساكر وميل مماليك والده معهم تعجّب غاية العجب، وعلم أن ذلك أمر ربّانىّ ليس فيه حيلة، وما هو إلا بذنب سلف من دعوة مظلوم غفلوا عنها لم يغفل الله عنها، أو للمجازاة؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وقد ركب أبوه الملك الأشرف إينال على الملك المنصور عثمان بعد أن تخوّل فى نعم الظاهر جقمق، فإنه هو الذي رقّاه وولّاه الأتابكية، فغدر به وخلعه من الملك، وتسلطن مكانه، وحبسه إلى أن مات.
وأغرب من هذا كله أن الملك المؤيد هذا كان له أيام والده جماعة كبيرة من أعيان الظاهريّة والأشرفيّة والسيفية يصحبونه ويمشون في خدمته، ويتوجهون معه في الرّمايات والأسفار، وإحسانه متصل إليهم من الإنعام والمساعدة في الأرزاق والوظائف، فلم يطلع إليه واحد منهم، وأيضا فانضافوا «1» الجميع للأتابك خشقدم ومن معه قبل أن يستفحل أمر خشقدم ويضعف أمر المؤيد، فماذاك إلا عدم موافاة لا غير.
وأعجب من هذا أن أصحاب المؤيد ومماليك أبيه الذين تقدم ذكرهم ممّن انضاف مع الأتابك خشقدم كانوا يوم الواقعة من المقوتين لا من المتأهلين، وذلّ الإبعاد لائح عليهم، وكان يمكنهم «2» تلافى الأمر والطلوع إلى الملك المؤيد ومساعدته، فلم يقع ذلك، فهذا هو السبب لقولى: إن هذا كله مجازاة لفعل والده السّابق، وقد ورد في الإسرائيليات، يقول الرب:«يا داود، أنا الرّب الودود، أعامل الأبناء بما فعل الجدود»
ثم التحم القتال بين الطائفتين مناوشة لا مصاففة، غير أن كلا من الطائفتين مصرّ على قتال الطائفة الأخرى، والملك المؤيد في قلة عظيمة من المقاتلة ممن يعرف مواقع الحرب وليس معه إلا أجلاب، وهذا شىء لم يقع لأحد غيره من السلاطين أولاد السلاطين؛ فإن الناس لم تزل أغراضا، ووقع ذلك للعزيز مع الملك الظاهر جقمق، فكان عند العزيز جماعة كثيرة من الأمراء والأعيان لا تدخل تحت حصر، وكذلك للمنصور عثمان مع الملك الأشرف إينال، وكان عنده خلائق من أعيان الأمراء، مثل الأمير تنم المؤيدى أمير سلاح، ومثل الأمير قانى باى الچاركسى الأمير آخور الكبير، وغيرهما من أعيان أمراء أبيه، ولا زالت الدنيا بالغرض، فقوم مع هذا، وقوم مع هذا، غير أن الملك المؤيد هذا لم يكن عنده أحد البتة، فانقلب الموضوع في شأنه؛ فإنه كان يمكن الذي وقع له يكون للعزيز والمنصور؛ فإنهما كانا حديثى سن، والذي وقع لهما-
أعنى العزيز والمنصور- كان يكون للمؤيّد؛ لأنه كبير سن، وصاحب عقل وتدبير- فسبحان الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
قلت: ولهذا لم تطل وقعة المؤيد هذا، فإنه علم بذلك زوال ملكه، وتركه برسباى البجاسى الأمير آخور، وخيربك القصروى نائب قلعة الجبل، ونزلا إلى الأتابك خشقدم، فإن العادة في الحروب إذا كان كل من الطائفتين يقابل الأخرى في القوة والكثرة يقع القتال بين الطائفتين، وكلّ من الطائفتين يترجّى النّصرة، إلى أن يؤول النصر لإحدى الطائفتين، وتذهب الأخرى، إلّا هذه الوقعة لم يكن عند المؤيّد إلّا من ذكرناه. وأما عساكر الأتابك خشقدم فانتشرت على مفارق الطرق، فوقف الأمير جانبك الظاهرى نائب جدّة بجماعة كثيرة من خچداشيته ومماليكه برأس سويقة منعم، وتلقّى قتال الملك المؤيد بنفسه وبحواشيه المذكورين، وعظم أمر الأمير الكبير خشقدم به حتى تجاوز الحدّ «1» ، واجتهد جانبك المذكور في حرب المؤيد حتى أباده.
وكان الملك المؤيّد أولا يقرّب جانبك هذا في ابتداء سلطنته تقريبا هيّنا مع عدم التفات إليه ولا إلى غيره؛ لأنه كان يقول في نفسه: إن ابتداءه كانتهاء أبيه في العظمة، ولما تسلطن أخذ في الأمر والنهى أولا بغير حساب عواقب، استعزازا بكثرة ماله وبحواشيه ومماليك أبيه، فسار في الناس بعدم استمالة خواطرهم، وسار على ذلك مدّة أيام، وجعل جانبك هذا في أسوة من سلك معهم هذه الفعلة، فاستشارنى جانبك في أن يداخله لعله يرقّع عليه أمره، فإنه ما كان «2» حمولا للذّل، وإنما كان طبعه أن يبذل
المال الجزيل في القدر اليسير في قيام الحرمة، فأشرت عليه بالمداخلة، فداخله، وكنت أنا قبل ذلك داخلته أياما، فإذا به جامد نفور بعيد الاستمالة إلا لمن ألفه، وحدّثته «1» بما رأيته منه قبل أن أشير عليه بصحبته، فقال ما معناه: إنى أنا آخذ الشيء بعزة وتمهل، وهو يدور مع الدهر كيفما دار، ثم اجتمع بى بعد مدّة أيام في يوم الجمعة بعد أن صلّى معه الجمعة، وقلع ما عليه من قماش الموكب، ودخل إليه في الخلوة بقاعة الدهيشة، ثم خرج من عنده وهو غير منشرح الصدر، وقال لى:«القول ما قلته» ، ثم شرعنا فيما نحن في ذكره مجلسا طويلا، وقمنا على غير رضاء من الملك المؤيّد.
ووقع في أثناء ذلك ما ذكرناه من أمر الوقعة والفتنة، ووقوف جانبك ومن معه برأس سويقة منعم، هذا مع ما كان بلغ المؤيد في هذا اليوم وفي أمسه أن القائم بهذا الأمر كله جانبك نائب جدّة، وأنه هو أكبر الأسباب في زوال ملكه، وفي اجتماع الناس على الأتابك خشقدم، ثم رأى في هذا اليوم بعينه من قصر القلعة وقوف جانبك على تلك الهيئة، فعلم أن كل ما قيل عنه في أمسه ويومه صحيح، فأخذ عند ذلك يعتذر وكتب كتابا للأمير جانبك بخطّه يعده فيه بأمور، منها: أنه يجعله إن دخل في طاعته أتابك العساكر بالدّيار المصريّة، وأنه لا يخرج عن أوامره، وأنه يكون هو صاحب عقده وحلّه، ويترقّق له، وبسط الكلام في معنى ما ذكرناه أسطرا كثيرة، وهو يكرّر السؤال فيه، ويحلف له فيما وعده به، ورأيت أنا الكتاب بعينى، وفيه لحن كثير، كأنه كان مامارس العربيّة، ولا له إلمام بالمكاتبات، على أنه كان حاذقا فطنا، غير أن الفضيلة نوع آخر، كما كانت رتبة المقام الناصرى محمد ابن الملك الظاهر جقمق- رحمهما الله تعالى- فلم يرث جانبك لما تضمن هذا الكتاب، ودام على ما هو عليه، ونهر قاصده الحامل لهذا الكتاب، وقال له:«إن عدت إلىّ مرّة أخرى أرسلتك إلى الأمير الكبير» ، واستمر على ما هو عليه من الاجتهاد في القتال، وصار أمر الملك المؤيد في إدبار، وعساكر الأتابك خشقدم في نموّ وزيادة.
هذا والمناوشة بالقتال مستمرّة بين الطائفتين، وقد أفطر في هذا اليوم خلائق من شدة الحر، وتعاطى القتال من الطائفتين؛ وجرح جماعة كثيرة من الفريقين، فلم ينقض النهار حتى آل أمر الملك إلى زوال، وهو مع ذلك ينتظر من يجيء إليه لمساعدته، وهو بين عسى ولعلّ، وكاتب جماعة من أصحابه ممن كان عند الأتابك خشقدم؛ فلم يلتفت إليه أحد لتحقق الناس زوال ملكه.
وبينما الناس في ذلك وإذا بخير بك القصروى نائب قلعة الجبل ترك باب المدرّج، ونزل إلى الأمير الكبير خشقدم، وصار من حزبه، فعلم كلّ أحد أنه قد ذهب أمر الملك المؤيّد، ولو كان فيه بقية ما نزل نائب القلعة منها وانضاف إلى جهة الأمير الكبير، وبقى باب القلعة بغير ضابط، فأرسل الملك المؤيد في الحال بعض أصحابه وجلس مكان خيربك هذا، فلم يشكر أحد خيربك المذكور على فعلته هذه.
كل ذلك وأمر المؤيّد في انحطاط فاحش، وصارت العامة تسمعه المكروه من تحت القلعة: لا سيما لما دخل الليل، فإنه بات بالقصر في قلّة من الناس إلى الغاية؛ لأن غالب من كان عنده تركه ونزل إلى تحت، وكانوا في الأصل جمعا يسيرا، وبات من هو أسفل وقد استفحل أمرهم، وتأهبوا للقتال في غد، وهمتهم قد عظمت من كثرة عددهم، وتكاثف عساكرهم من كل طائفة، حتى من ليس له غرض عند أحد بعينه جاء إلى الأمير الكبير مخافة على رزقه ونفسه؛ لما علم من قوّة شوكة الأمير الكبير وما يؤول أمره إليه.
هذا مع حضور الخليفة والقضاة الأربعة عند الأمير الكبير وجميع أعيان الدولة من المباشرين وأرباب الوظائف وغيرهم، والملك المؤيد في أناس قليلة جدا، ومضت ليلة الأحد المذكور، والملك المؤيد في أقبح حال، هذا وقد عدم ترجّى من كان عنده بالقلعة من نصرته، وتقاعد غالب من كان عنده عن القتال، وهم الأجلاب من مماليك أبيه لا غير.
فلما أصبح نهار الأحد تاسع عشر شهر رمضان من سنة خمس وستين وثمانمائة
ظهر ذلك عليهم، وبردت همتهم، وركضت ريح عزائمهم، وأخذ كل واحد من أصحابه فى مصلحة نفسه، إما بالإذعان للأمير الكبير خشقدم، أو بالتّجهّز للهرب والاختفاء، وظهر ذلك للملك المؤيد عيانا، فأراد أن يسلّم نفسه، ثم أمسك عن ذلك من وقته.
كلّ ذلك وأصحاب الأمير الكبير لا يعلمون بذلك، فقد أصبحوا في أفحل أمر، وأقوى شوكة، وأكثر عدد، وقد تهيئوا في هذا اليوم للقتال ومحاصرة قلعة الجبل، زيادة على ما كانوا عليه في أمسه، وفي نفوسهم أن أمر القتال يطول بينهم أيّاما، وبيناهم في ذلك ورد عليهم خبر الملك المؤيد مفصلا، وحكى لهم انحلال برمه وانفلاك أمره، وما هو فيه من أنه أراد غير مرّة تسليم نفسه، وزاد الحاكى وأمعن لغرض ما، فقوى بذلك قلوب من هو أسفل، وتشجّع كلّ جبان، فطلب المبارزة كلّ مولّ، وتقدّم كل من كان خاف هذا من هؤلاء، فكيف أنت بالشجاع المقدام؟!
فعند ذلك اجتمعوا على القتال، وزحفوا على القلعة بقلب رجل واحد، فقاتلهم عساكر الملك المؤيد قتالا ليس بذاك ساعة هيّنة، فلما رأى الملك المؤيد أن ذلك لا يفيده إلا شدّة وقسوة أمر عساكره ومقاتلته بالكفّ عن القتال، وقام من وقته وطلع القلعة بخواصه، وأمر أصحابه بالانصراف إلى حيث شاءوا.
ثم دخل هو إلى والدته خوند زينب بنت البدرى حسن بن خاص بك، وترك باب السّلسلة لمن يأخذه بالتسليم، وتمزّقت عساكره في الحال كأنها لم تكن، وزال ملكه في أقلّ ما يكون، فسبحان من لا يزول ملكه وبقاؤه الدائم الأبدى.
فلما بلغ الأمير الكبير خشقدم الخبر قام من وقته بمن معه من أصحابه وعساكره، وطلع إلى باب السلسلة، واستولى على الإسطبل السلطانى، وملك قلعة الجبل أيضا في الحال من غير مقاتل ولا مدافع، وأمر الأمير الكبير في الحال بقلع السّلاح وآلة الحرب وسكن الأمر، وخمدت الفتنة كأنها لم تكن، ثم أرسل الأتابك خشقدم في الحال جماعة من أصحابه قبضوا على الملك المؤيد أحمد هذا من الدّور السلطانية، فأمسك من غير ممانعة، وسلم نفسه، وأخرج من الدّور إلى البحرة من الحوش السلطانى، وحبس
هناك بعد أن قيّد واحتفظ به، وأمسك أخوه محمد أيضا، وحبس معه بالبحرة، فخرجت والدتهما خوند زينب المقدّم ذكرها معهما، وأقامت عندهما بالبحرة المذكورة، وقد علمت وعلم كلّ أحد أيضا بأن الذي وقع لهم من زوال ملكهم في أسرع وقت إنما هو بدعوة مظلوم غفلوا عنها، لم يغفل الله عنها، ولله در القائل:[الوافر]
أرى الدّنيا تقول بملء فيها
…
حذار حذار توبيخى وفتكى «1»
ولا يغرركم منّى ابتسام
…
فقولى مضحك، والفعل مبكى
قلت: «على قدر الصّعود يكون الهبوط، وكما تدين تدان، وما ربّك بظلّام للعبيد، والجزاء من جنس العمل» وكأنّ لسان حال إسكندرية قبل ذلك يقول: «كل ثان لا بدّ له من ثالث» ، فالأوّل ممّن كان فيها من السّلاطين أولاد الملوك: الملك العزيز يوسف ابن الملك الأشرف برسباى، وقد خلعه الملك الظاهر جقمق، وتسلطن مكانه، ثم الملك المنصور عثمان ابن الملك الظاهر جقمق، خلعه الملك الأشرف إينال، وتسلطن عوضه، وهو الثانى، فاحتاجت الإسكندرية إلى ثالث، ليجازى كلّ على فعله، فكان المؤيد هذا، خلعه الملك الظّاهر خشقدم، وتسلطن مكانه، واستولى على جميع حواصل الملك المؤيد وذخائره، فلم يجدوا فيها ما كان في ظنّهم، فطلبوا منه المال، فذكر أنّه أصرف جميع ما كان في خزانة والده في نفقة المماليك السّلطانية لما تسلطن، ولم يبق في الخزانة إلا دون المائة ألف دينار.
ثم تتّبعوا حواصله وحواشيه بعد ذلك، فأخذوا منهم زيادة على مائة ألف دينار، وبعض متاع، وصينى وقماش. واستمرّ الملك المؤيّد محتفظا به بالبحرة إلى ما سنذكره.
وكانت مدّة تحكمه من يوم تسلطن إلى يوم خلع من السلطنة بالملك الظاهر خشقدم أربعة أشهر وستة أيام بغير تحرير، وبتحرير الأوقات والساعات:
وخمسة أيام.
ولما نكب الملك المؤيد وخلع من السلطنة على هذا الوجه كثر أسف الناس عليه إلى الغاية والنهاية، فإنه كان سار في سلطنته سيرة حسنة جميلة، وقمع أهل الفساد وقطّاع الطريق بجميع إقليم مصر، وأمنت السّبل في أيامه أمنا زائدا، واطمأنّت النفوس من تلك المخاوف التي كانت في أيام أبيه، وزالت أفعال الأجلاب بالكليّة مما أردعهم في أوائل سلطنته بالإخراق والوعيد وأبعدهم عنه، ثم سلك الطريق الجميلة فى الرعيّة فعظم حبّ الناس له، وانطلقت الألسن له بالدعاء والابتهال سرّا وعلانية، وسر بسلطنته كلّ أحد من الناس، ومالت القلوب إليه، لولا تكبّر كان فيه وعدم التفات إلى الأكابر، حسبما تقدّم ذكره، وهذا كان أكبر الأسباب لتوغّر خواطر الأمراء منه، وإلا فكان أهلا للسلطنة بلا نزاع، فلو أنّه سار مع الأمراء سيرة والده الأشرف من الملق، وأخذ الخواطر مع إرادة الله تعالى، لدامت أيّامه مقدار المواهب الإلهية، لأنه كان ملكا عارفا سيوسا، فطنا عالى الهمة يقظا، لولا ما شان سؤدده من التكبّر، ومصاحبة الأحداث، ولله در القائل:
[الطويل]
ومن ذا الّذى ترضى سجاياه كلّها؟
…
كفى المرء فخرا أن تعدّ معايبه «1»
ودام الملك المؤيد هذا بالبحرة من الحوش السلطانى بقلعة الجبل إلى يوم الثلاثاء حادى عشرين شهر رمضان فرسم السلطان الملك الظاهر خشقدم بتوجّهه وتوجّه أخيه محمد إلى سجن الإسكندرية، فأنزلا في باكر النهار المذكور، وأخرج الملك المؤيد هذا مقيّدا، وحمل على فرس، ولم يركب خلفه أحد من الأوجاقية «2» - كما هى عادة
من يحمل من أعيان الأمراء إلى سجن الإسكندرية- فنزّهوا مقامه عن ذلك، وأنا أقول: لعل أنه ما قصدوا بذلك إجلاله، فإنه «1» ليس في القوم من هو أهل لهذه المعانى. وإنما الملك المنصور عثمان كان لما أنزل من القلعة إلى الإسكندرية على هذه الهيئة لم يركب خلفه أوچاقى، فظن القوم أن العادة لا يركب خلف السلطان أوچاقى ففعلوا بالمؤيد كذلك، ولقد سمعت هذا المعنى من جماعة من أكابر الجهلة المشهورين بالمعرفة، فلو قيل له: وأى سلطان أنزل من القلعة بعد خلعه من السلطنة إلى الإسكندرية على هذا الوجه، لما كان يسعه أن يقول رأيت ذلك في بلاد الچاركس- انتهى.
وحمل أخوه محمد أيضا على فرس آخر بغير قيد فيما أظن، ونزل أمامه، وبين يديهما مملوك أبيهما قراجا الأشرفى الطويل الأعرج على بغل بقيد، وخلفه أوچاقى- على عادة الأمراء- بسكين، وأنا أقول: عظم قراجا بهذا النزول مع هؤلاء الملوك في مثل هذا اليوم، والذي أراه أنا أنه كان يتوجّه بين يدى هؤلاء ماشيا إلى أن يصل إلى البحر، وإلا فهذا إجلال لقدر هذا الوضيع، وإن كان فيه ما فيه من النكد، ففيه ثوع من رفع مقامه.
وسار الجميع والعساكر محتفظة بهم، وعلى أكثرهم السلاح وآلة الحرب، وجلست الناس بالحوانيت والطّرقات والبيوت لرؤية الملك المؤيد هذا، كما هى عادة العوامّ وغيرهم من المصريين، وتوجهوا بهم من الصليبة إلى أن اجتازوا بالملك المؤيد وأخيه محمد على تلك الهيئة بدار أخته شقيقته زوجة الأمير يونس الدّوادار الكبير، وهو في حياض الموت، لمرض طال به أشهرا تجاه الكبش، فلما وقع بصر زوجة الأمير يونس على أخويها وهما في تلك الحالة العجيبة المهولة صاحت بأعلى صوتها هى ومن حولها من الجوارى والنسوة، فقامت عيطة عظيمة من الصّياح واللّطم والرءوس المكشوفة، فحصل للناس من ذلك أمر عظيم من بكاء وحزن وعبرة «2» على ما أصاب هؤلاء من النّكبة
والهوان بعد الأمن والعزّ الذي لا مزيد عليه، وما أحسن قول من قال في هذا المعنى:
[البسيط]
جاد الزّمان بصفو ثمّ كدّره
…
هذا بذاك، ولا عتب على الزمن
ودام سيرهم على هذه الصفة إلى أن وصلوا بهم إلى البحر بخط بولاق بساحل النّيل، فأنزل الملك المؤيد وأخوه ومعهما قراجا المذكور في مركب واحد، وسافروا من وقتهم على الفور إلى الإسكندرية، وقد كثر تأسّف الناس عليهم إلى الغاية، ما خلا المماليك الظاهرية فإنهم فرحوا به لما كان فعل الملك الأشرف إينال بابن أستاذهم الملك المنصور كذلك، فجازوه بما فعلوه الآن مع ابنه الملك المؤيد هذا، قلت: هكذا فعل الدهر، يوم لك ويوم عليك.
ودام الملك المؤيد ومن معه مسافرا في البحر إلى ثغر رشيد، فسافروا على البر إلى أن وصلوا إلى الإسكندرية، فسجنوا بها، واستمر الملك المؤيد مسجونا بقيده إلى أن استهلّت سنة ست وستين فرسم السلطان الملك الظاهر خشقدم بكسر قيده فكسر، وتوجهت والدته خوند زينب إليه وسكنت عنده بالثغر ومعها ابنتها زوجة الأمير يونس بعد موته، ثم مرض ولدها محمد في أثناء السّنة أيّاما كثيرة، ومات بالثغر، ودفن به في ذى الحجة، وقبل موته ماتت ابنته بنت أشهر، ولم يتهم أحد لموته، لأن مرضه كان غير مرض المتهومين، ولما وقع ذلك أرسلت والدته خوند زينب تستأذن السّلطان في حمل رمّة ولدها محمد المذكور من الإسكندرية إلى القاهرة لتدفنه عند أبيه الأشرف إينال، فأذن لها في ذلك، فحملته بعد أشهر، وجاءت به إلى القاهرة في شهر ربيع الأوّل من سنة سبع وستين وثمانمائة، ودفن محمد المذكور على أبيه في فسقية واحدة- رحمهما الله تعالى والمسلمين- ولم تحضر والدته المذكورة مع رمّة ولدها محمد، وإنما قامت عند ولدها الملك المؤيد أحمد بالإسكندرية، لمرض كان حصل للملك المؤيد أبطل بعض أعضائه، ثم عوفى بعد ذلك بمدّة، وحضرت بعد ذلك إلى القاهرة بطلب من السلطان بسبب المال، وصادفت
وفاة الأمير يونس المؤيدى الدوادار الكبير صهره زوج أخته بعد يوم، ثم تزوّجها الأمير كسباى الخشقدمى الدّوادار الثانى، فقبل دخولها ماتت معه.
وكان عمره وقت سلطنته نيفا وثلاثين سنة، فإن مولده وأبوه نائب بغزة.
وكانت مدة سلطنة الملك المؤيّد أحمد على مصر أربعة أشهر وأربعة أيام، مرّت أيامه كالدقائق، لسرعتها وحسن أوقاتها، ودام في الإسكندرية، وقد كمل له بها الآن مدّة عشر سنين سواء.
ولما مات الظاهر خشقدم وتسلطن الملك الظاهر تمربغا الظاهرى، ففى أوّل يوم رسم بإطلاق الملك المؤيّد أحمد من سجن الإسكندرية، ورسم له بأن يسكن في الإسكندرية في أى بيت شاء، وأنه يحضر صلاة الجمعة راكبا، وأرسل إليه خلعة وفرسا بقماش ذهب، فاستمرّ يركب، ولما تسلطن صهره الملك الأشرف قايتماى زاد فى إكرامه، وبقى يسافر، وصاهره على ابنته الأمير يشبك من مهدى الظاهرى الدّوادار الكبير، ودام «1» .
وهذه السنة وهى سنة خمس وستين وثمانمائة هى التي اتفق فيها أن حكم فيها ثلاثة ملوك؛ حكم الملك الأشرف إينال من أوّلها إلى نصف جمادى الأولى، وحكم ولده الملك المؤيّد هذا من نصف جمادى الأولى المذكورة إلى تاسع عشر شهر رمضان فقط، وحكم الملك الظاهر خشقدم من تاسع عشر شهر رمضان فقط إلى آخرها.
وسنذكر وفيات هذه السنة بتمامها في محلها في أول سنين سلطنة الملك الظاهر خشقدم- حسبما اصطلحنا عليه في مصنفنا هذا- إن شاء الله تعالى.