الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الخامس: حكم النكاح بنية الطلاق (السياحي)
سبق وأن ذكرنا أنه دار جدل واسع في المجتمع، حول شرعية هذا النكاح، وخاصة وأنه يتكرر بتكرار مجيء الصيف، وقدوم السياح، أوعند ارتحال أبناء المسلمين إلى بلاد أخرى للدراسة فيها، وما يعانون هناك من الفتن، مما يجعل دراسة هذا الموضوع أمراً مهماً، ونحن إذ نتكلم عن حكمه الشرعي، سنقسم هذا المطلب إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: نذكر فيه القائلين بالجواز، وأهم ما يمكن أن يستدلوا به.
القسم الثاني: نذكر فيه القائلين بالمنع، وأهم ما يمكن أن يستدلوا به.
القسم الثالث: نذكر فيه مناقشة الأدلة، والترجيح بين الأقوال.
فنقول وبالله التوفيق: ـ
القسم الأول: القائلون بالجواز
لم أطلع على قول للإمام أبي حنفية في هذه المسألة، إلا ما ذكره ابن تيمية (1) في الفتاوى من نسبة الترخيص لأبي حنيفة في هذا النكاح، حيث قال:
وأما إذا نوى الزوج الأجل، ولم يظهره للمرأة، فهذا فيه نزاع يرخص فيه أبو حنيفة، والشافي، ويكرهه مالك، وأحمد. (2)
وممن أجازه كذلك، الإمام زفر رحمه الله تعالى، (3) حيث قال: أما لو تزوج وفي نيته أن يطلقها بعد مدة نواها صح (4).
وممن قال بجوازه أيضاً، الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى، حيث جاء في المنتقى شرح الموطأ ما نصه " ومن تزوج امرأة لا يريد إمساكها ألا أنه يريد أن يستمتع بها مدة، ثم يفارقها، فقد روى محمد عن مالك أن ذلك جائز، وليس من الجميل، ولا من أخلاق الناس) "(5)
إلا أنه يفهم من قوله وليس من الجميل، ولا من أخلاق الناس، كراهته لذلك، وهذا ما صرح به ابن تيمية في نقله عنه، ونسبة الكراهة له كما سبق.
(1) هو أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني ثم الدمشقي، الإمام الفقيه ، والمجتهد الحافظ ، والمفسر البارع ،شيخ الإسلام وعلم الأعلام ، رزقه الله قوة الإدراك والفهم ، وسرعة الحفظ ، وكان بطيء النسيان حتى ذكر جماعة أنه لم يكن يحفظ شيئاً فينساه ، ولد سنة 661 هـ ، وتوفي في سجن القلعة بدمشق سنة 728 هـ انظر المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد لبرهان الدين بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن مفلح، المتوفي سنة 884 هـ، ط، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، تأريخ الطبع، 1410 هـ، 1990 م.
(2)
مجموع الفتاوى 32\ 108
(3)
هو زفر بن الهذيل العنبري، الفقيه المجتهد الرباني، العلامة أبو الهذيل بن الهذيل بن قيس بن سلم.: ولد سنة عشر ومئة، وحدث عن الاعمش، وإسماعيل بن أبي خالد، وأبي حنفية، ومحمد بن إسحاق، وحجاج بن أرطاة، وطبقتهم قال أبو نعيم الملائي: كان ثقة مأمونا، وقع إلى البصرة في ميراث له من أخته، فتشبث به أهل البصرة، فلم يتركوه يخرج من عندهم.: هو من بحور الفقه، وأذكياء الوقت. تفقه بأبي حنيفة، وهو أكبر تلامذته، وكان ممن جمع بين العلم والعمل، وكان يدري الحديث ويتقنه. قال علي بن مدرك، عن الحسن بن زياد الفقيه، قال: كان زفر، وداود الطائي متواخيين، فأما داود فترك الفقه وأقبل على العبادة، وأما زفر، فجمعهما. وقال الحسن بن زياد اللؤلؤي: ما رأيت فقيها يناظر زفر إلا رحمته. مات زفر سنة ثمان وخمسين ومئة انظر سير أعلام النبلاء 8/ 38، شمس الدين محمد ين أحمد بن عثمان الذهبي المتوفى سنة 748 هـ ط، مؤسسة الرسالة، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، تأريخ الطبع 1409 هـ 1988 م. وانظر الأعلام للزر كلي 3/ 45.
(4)
فتح القدير مع حواشيه 3\ 238
…
241 للإمام محمد بن عبد الواحد السيوطي ثم السكندي المعروف بابن الهمام الحنفي المتوفى سنة 681 هـ ط، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، تأريخ الطبع 1415 هـ 1995 م.
(5)
المنتقى شرح الموطأ 5\ 142، لأبي الوليد سليمان بن خلف بن سعد ين أيوب الباجي المتوفى سنة 494 هـ، ط، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، تأريخ الطبع 1420 هـ 1999 م.
لكن ابن العربي (1) رحمه الله تعالى، نقل عن الإمام مالك، عدم الجواز إذا كان يؤقته بالنية، ثم علق قائلاً:" وأجازه سائر العلماء " ثم قال: "وعندي أن النية لا تؤثر في ذلك". (2) فيكون هذا النقل عن الإمام مالك يناقض النقل الأول، لكن الأغلب في النقول تدلنا على أنه كان يجوز هذا النوع من النكاح، فقد روى اللخمي (3) عن مالك أيضاً، قوله:"فمن نكح لغربة أو لهوى، ليقضي أربه ويفارق فلا بأس "(4)
وقد قال ابن القاسم: وهو مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم، مما علمنا، أو سمعنا قال: وهو عندنا نكاح ثابت، الذي يتزوج يريد أن يبر في يمينه، وهو بمنزلة من يتزوج المرأة للذة يريد أن يصيب منها، لا يريد حبسها، ولا ينوي ذلك، على ذلك نيته، وإضماره في تزويجها، فأمرهم واحد فان شاءا أن يقيما أقاما، لأن أصل النكاح حلال؛ وفي الكافي الذي يقدم البلدة فيتزوج المرأة، ومن نيته أن يطلقها بعد السفر أن قول الجمهور جوازه. (5)
بل قد بالغ القاضي عياض (6) ـ رحمه الله تعالى ـ فقال: " وأجمعوا على أن من نكح نكاحاً مطلقاً، ونيته أن لا يمكث معها إلا مدة نواها، فنكاحه صحيح، حلال وليس نكاح متعة، وإنما نكاح المتعة ما وقع بالشرط المذكور". (7)
ولا شك أن في نقل الإجماع نظر، بل إن الخلاف وارد على مدار واسع، بين الفقهاء، من أصحاب المذاهب وغيرهم، كما سنعرف.
(1) هو الإمام الحافظ القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن العربي الأندلسي الإشبيلي، مالكي المذهب، كان يقال إنه ممن بلغ رتبة الاجتهاد، وكان رئيساً محتشماً، وافر الأموال، أنشأ على إشبيلية سوراً من ماله، من مصنفاته: عارضة الأحوذي، وأحكام القرآن، والأصناف في الفقه، ولد سنة 468 هـ، وتوفي سنة 543 هـ. انظر سير أعلام النبلاء 20/ 197،
…
وما بعدها.
(2)
الموافقات في أصول الشريعة 1\ 182
(3)
هو علي بن محمد الربعي، أبو الحسن، المعروف باللخمي: فقيه مالكي، توفي سنة 478 هـ، له معرفة بالادب والحديث، قيرواني الاصل. نزل سفاقس وتوفي بها. صنف كتبا مفيدة، من أحسنها تعليق كبير على المدونة في فقه المالكية، سماه " التبصرة " أورد فيه آراء خرج بها عن المذهب. وله " فضائل الشام - بدار الكتب، ألفه سنة 435 هـ انظر كتاب الأعلام 4/ 328.
(4)
المصدر السابق 1\ 183
(5)
المصدر السابق 1\ 182
(6)
هو القاضي عياض بن موسى بن عياض بن عمر بن موسى بن عياض العلامة عالم المغرب أبو الفضل اليحصبي السبتي الحافظ. ولد سنة ست وسبعين وأربعمائة. أجاز له أبو علي الغساني. وتفقه وصنف التصانيف التي سارت بها الركبان كالشفاء وطبقات المالكية وشرح مسلم والمشارق في الغريب وشرح حديث أم زرع والتاريخ وغيرذلك. وكان إمام أهل الحديث في وقته وأعلم الناس بعلومه وبالنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم. وولي قضاء سبتة ثم غرناطة. مات ليلة الجمعة سنة أربع وأربعين وخمسمائة بمراكش. انظر طبقات الحفاظ، 1/ 492 برقم 1050، لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي، بتحقيق د/ علي محمد عمر ط، مكتبة الثقافة الدينية، شارع أبو سعيد الظاهر.
(7)
صحيح مسلم بشرح النووي م 5\ج 9\ 170
وقد ذهب إلى جوازه أيضاً الإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ ففي الأم مانصه: "وإن تقدم رجل وأحب أن ينكح امرأة، ونيته ونيتها أن لا يمسكها إلا مقامه بالبلد، أو يوما، أو اثنين، أو ثلاثة كانت على هذا نيته، دون نيتها، أو نيتها دون نيته، أو نيتهما معا، ونية الولي غير أنهما إذا عقدا النكاح مطلقا، لا شرط فيه فالنكاح ثابت، ولا تفسد النية من النكاح شيئا؛ لأن النية حديث نفس، وقد وضع عن الناس ما حدثوا به أنفسهم؛ وقد ينوي الشيء ولا يفعله وينويه ويفعله فيكون الفعل حادثا غير النية، وكذلك لو نكحها ونيته ونيتها، أو نية أحدهما دون الآخر أن لا يمسكها إلا قدر ما يصيبها، فيحللها لزوجها، ثبت النكاح، وسواء نوى ذلك الولي معهما أو نوى غيره، أو لم ينوه ولا غيره؛ والولي في هذا لا معنى له يفسد شيئا، ما لم يقع النكاح بشرط يفسده."(1)
وممن ذهب إلى جوازه من الشافية أيضاً، صاحب الحاوي، (2) والمنهاج (3) ، وغيرهم.
وعموماً، فالشافعية يصححون النكاح بنية الطلاق (السياحي) وكذا بنية التحليل، لكنهم يصنفون هذه الأنكحة في قسم المكروه. (4)
أما من ذهب إلى جوازه من الحنابلة، فهو ابن قدامة المقدسي، (5) حيث قال: فصل: وإن تزوجها بغير شرط، إلا أن في نيته أن يطلقها بعد شهر، أو إذا انقضت حاجته في هذا البلد، فالنكاح صحيح في قول عامة أهل العلم
…
ثم قال: والصحيح أنه لا بأس به ولا تضر نيته، وليس على الرجل أن ينوي حبس امرأته. (6)
(1) الأم 5\ 118
(2)
انظر الحاوي الكبير في فقه الإمام الشافعي، وهو شرح مختصر المزني 9\ 333، للإمام أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري، ط، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، تأريخ الطبع 1419 هـ 1999 م. تحقيق وتعليق علي محمد معوضه، وعادل أحمد عبد الموجود.
(3)
أنظر مغني المحتاج بشرح المنهاج 3\ 243 للخطيب الشربيني.
(4)
انظر المصد السابق 3\ 243، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 6\ 282، لشمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة بن شهاب الدين الرملي المنوقي المصري الأنصاري الشهير بالشافعي الصغير المتوفى سنة 100 هـ، ط، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، تأريخ الطبع 1414 هـ 1993 م
(5)
هو الشيخ الإمام القدوة العلامة المجتهد، شيخ الإسلام، موفق الدين، أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، ثم الدمشقي، الصالحي، الحنبلي، عَدَّه بعض أهل العلم ممن بلغ رتبة الاجتهاد المطلق، خصه الله بالفضل الوافر، والخاطر الماطر، أخذ بمجامع الحقائق النقلية والعقلية، قال عنه ابن الحاجب: له المؤلفات الغزيرة، وما أظن الزمان يسمح بمثله، متواضع، حسن الاعتقاد، ذو أناة وحلم ووقار، مجلسه معمور بالفقهاء والمحدثين، وكان كثير العبادة، دائم التهجد، لم نر مثله، ولم ير مثل نفسه. ولد بجماعيل من عمل نابلس سنة 541 هـ، وتوفي سنة 620 هـ. انظر سير أعلام النبلاء 22/ 165، وما بعدها. لشمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي المتوفى 748 هـ، ط، مؤسسة الرسالة، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، تأريخ الطبع 1409 هـ 1988 م
(6)
المغني 10/ 48
أما ابن تيمية رحمه الله تعالى، فقد ترددت النقولات عنه، بين الجواز، والكراهة، نرى ذلك من خلال الفتاوى؛ ففي الفتاوى ما نصه: "وسئل رحمه الله عن رجل ركاض يسير في البلاد، في كل مدينة شهراً، أو شهرين، ويعزل عنها، ويخاف أن يقع في المعصية، فهل له أن يتزوج في مدة إقامته في تلك البلدة؟ وإذا سافر طلقها، وأعطاها حقها، أو لا؟ وهل يصح النكاح أم لا؟
فأجاب رحمه الله تعالى:
له أن يتزوج، لكن ينكح نكاحاً مطلقاً، لا يشترط فيه توقيتاً، بحيث يكون إن شاء أمسكها، وإن شاء طلقها، وإن نوى الطلاق حتماً عند انقضاء سفره، كره في مثل ذلك، وفي صحة النكاح نزاع" (1)؛ فنحن نرى في هذا النص تصريح بالكراهة، لكنه تكلم بعد هذا الموطن بما يفيد الجواز مع عدم الكراهة، قائلاً: "وأما نكاح المتعة إذا قصد أن يستمتع بها مدة، ثم يفارقها، مثل المسافر إلى بلد يقيم به مدة، فيتزوج وفي نيته إذا عاد إلى وطنه أن يطلقها، ولكن النكاح عقده عقداً مطلقاً، فهذا فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد، قيل هو نكاح جائز، وهو اختيار أبي محمد المقدسي، وهو قول الجمهور، وقيل هو نكاح تحليل لا يجوز، وروي عن الأوزاعي، وهو الذي نصره القاضي وأصحابه في الخلاف، وقيل هو مكروه وليس بمحرم، والصحيح أن هذا ليس بنكاح متعة ولا يحرم." (2) فبهذا يكون ابن تيمية رحمه الله تعالى له في المسألة قولان: الأول: قول بالكراهة الثاني: قول بالجواز مع عدم الكراهة، والله أعلم.
(1) مجموع الفتاوى 32/ 106 وما بعدها.
(2)
المصدر السابق 32/ 147.
أدلة المجيزين
يمكن أن نبرز أهم ما يعتمد عليه أصحاب هذا القول، من خلال النقاط التالية: ـ
أولاً: أن عقد النكاح السياحي (بنية الطلاق) اكتملت أركانه وشروطه، وخلا من التوقيت الذي يفسده، فيكون بذلك نكاحاً صحيحاً، لا سبيل لإبطاله؛ كما أن النية لا أثر لها في إبطال عقد النكاح، حيث أن الأسباب الشرعية قد توفرت، فالمعاني لا اعتبار لها في إبطال الأحكام إذا وجدت أسبابها، وإلا لبطلت فائدة نصب الأسباب (1).
ثانياً: اختلاف النكاح السياحي عن نكاح المتعة المؤقت من عدة أوجه:
1) نكاح المتعة يكون بلفظ التمتع، بخلاف السياحي يكون بلفظ التزويج.
2) نكاح المتعة يحدد فيه المدة والأجل لانتهاء العقد، ولا سبيل لبقائه بعد انتهاء تلك المدة إلا بعقد جديد؛ بخلاف النكاح السياحي، فإنه لا يصرح فيه بتحديد الأجل، ويستطيع الزوج إبقاء زوجته، حتى بعد انقضاء المدة التي أضمرها بنفس العقد الأول، بل قد تتغير نيته المؤقتة، فيبقيها معه، ويرضاها زوجة دائمة له.
3) نكاح المتعة ينتهي بانقضاء الأجل المحدد، ولا يحتاج إلى طلاق؛ بينما السياحي لا يمكن حل رباطه إلا بالطلاق، أو الخلع، أو الفسخ، فدل على أنه عقد صحيح، كسائر العقود.
4) نكاح المتعة لا يشترط فيه الولي، أو الشهود، كشرطي صحة بخلاف النكاح السياحي، فإن هذه تعتبر من شروط الصحة فيه، بل يكون مستوفياً لجميع أركان وشروط النكاح الشرعي الصحيح.
إذا تبين هذا، كيف نقول أن النكاح السياحي شبيه بنكاح المتعة، مع ما بينهما من الفوارق والاختلاف؟ .
ثالثاً: غاية قصد الرجل في النكاح السياحي، هو الطلاق، وهذا القصد ليس بمحرم، بل يكون الرجل قد قصد أمراً جائزاً، فكيف نبطل عقد النكاح المستوفي لجميع الأركان والشروط، بأمر جائز. (2)
(1) انظر تخريج الفروع على الأصول، للإمام أبي المناقب شهاب الدين محمود بن أحمد الزنجاني المتوفى سنة 656 هـ، تحقيق وتقديم الدكتور محمد أديب الصالح صـ 262 بتصرف.
(2)
انظر مجموع الفتاوى 32/ 148 بتصرف.
رابعاً: إن الحسن بن علي رضي الله عنه كان كثير الطلاق، فلعل غالب من تزوجهن كان في نيته أن يطلقهن بعد مدة، ولم يقل أحد أن ذلك متعةٌ. (1)
خامساً: إن العزم على الطلاق بعد عقد النكاح لا يبطله، ولا يكره مقام الرجل مع المرأة،
…
وإن نوى طلاقها، من غير نزاع بين العلماء (2)، فكما أن العزم لا يؤثر بعد العقد على صحة النكاح، فمثله العزم قبل العقد، أو أثنائه.
(1) المصدر السابق.
(2)
المصدر السابق.
القسم الثاني: القائلون بالمنع
أما القائلون بالمنع، فهم: الإمام الأوزاعي (1) ـ رحمه الله تعالى ـ حيث قال: لو تزوجها بغير شرط، ولكنه ينوي أن لا يحبسها إلا شهراً، أو نحوه، ويطلقها فهو متعة ولا خير فيه. (2)
وممن أيد الإمام الأوزاعي الحنابلة، وعلى رأسهم إمام المذهب، أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، عدا الموفق ابن قدامة المقدسي ـ رحمه الله تعالى ـ؛ فقد نُقل عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رواية أبي داوود (3) أنه قال: إذا تزوجها على أن يحملها إلى خراسان، ومن رأيه إذا حملها خلى سبيلها، قال لا، الشبه المتعة، حتى يتزوجها ما حييت. (4) قال الزركشي معلقاً على ذلك: وفي هذا النص إشعار بتعليل آخر، وهو أن وضع النكاح على الدوام، وهذا الشرط ينافيه، وأن النية كافية في المنع. (5)
وقال أيضاً في رواية عبد الله (6): إذا تزوجها ومن نيته أن يطلقها، أكرهه، هذه متعة. (7)
(1) هو عبد الرحمن الأوزاعي بن عمرو أبو عمرو: ولد سنة ثمان وثمانين ومات سنة سبع وخمسين ومائة. وكان من سبي أهل اليمن ولم يكن من الأوزاع، ومات وله ستون سنة وسئل عن الفقه وله ثلاث عشرة سنة. وقال عبد الرحمن بن مهدي: ما كان أحد بالشام أعلم بالسنة من الأوزاعي. وقال هقل بن زياد: أجاب الأوزاعي في سبعين ألف مسألة. وروي أن سفيان الثوري بلغه مقدم الأوزاعي فخرج حتى لقيه بذي طوى؛ قال: فحل سفيان رأس البعير عن القطار ووضعه على رقبته فكان إذا مر بجماعة قال: الطريق للشيخ. وأخذ عنه العلم أبو إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك وهقل بن زياد وأبو العباس الوليد ابن مسلم والوليد بن مزيد وعمر بن عبد الواحد وعمرو بن أبي سلمة وعقبة ابن علقمة ومحمد بن يوسف الفريابي. نزيل بيروت روى عن عطاء وابن سيرين ومكحول وخلق. وعنه أبو حنيفة وقتادة ويحيى بن أبي كثير والزهري وشعبة وخلق. قال ابن عيينة كان إمام أهل زمانه. انظر طبقات الفقهاء 1/ 71، لأبي إسحاق الشيرازي، ط، مكتبة الثقافة الدينية، بور سعيد، الظاهر، الطبعة الأولى، تأريخ الطبع 1418 هـ 1997 م. وانظر أيضاً طبقات الحفاظ، 1/ 93 برقم 168.
(2)
(انظر التمهيد لما في الموطأ من المعاني والمسانيد 11/ 106.، لأبي عمرو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عند البر النمري الأندلسي المولود سنة 368 هـ والمتوفى سنة 463 هـ، ط، الفاروق الحديثة، القاهرة، الأولى بتأريخ 1420 هـ 1999 م،
(3)
هو سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد الأزدي السجستاني، أبو داود، ثقة، حافظ، مصنف السنن، من كبار العلماء، وهو من أشهر تلاميذ الإمام أحمد بن حنبل، مات سنة 275 هـ. انظر تقريب التهذيب صـ 250 برقم 2533، والكاشف للذهبي، 1/ 456، نشر مؤسسة علوـ جدة ـ الطبعة الأولى 1413 هـ بتحقيق محمد عوامة.
(4)
انظر شرح الزركشي على متن الخرقي، 3/ 246، للإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله الزركشي، بتحقيق ودراسة الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش، ط، دار خضر بيروت لبنان، بتأريخ 1418 هـ 1997 م.
(5)
(المصدر السابق
(6)
هو عبد الله بن أحمد بن حنبل أبو عبد الرحمن، ولد في جمادى الأولى سنة 213 هـ وكان ثبتاً، فهماً، ثقة حدث عن أبيه، وعن كامل بن طلحة، ويحيى بن معين، وغيرهم توفي في حمادى الآخرة سنة 290 هـ عن عمر سبعة وسبعين عاماً، انظر طبقات الحنابلة 1/ 180
(7)
(المصدر السابق
قال الزركشي (1): وعلى هذا جمهور الأصحاب. (2) وهو كما قال رحمه الله تعالى فجمهور الحنابلة على منع هذا النوع من الأنكحة، وأن النية تؤثر في صحة عقد النكاح، فقد قال في الروض المربع شرح زاد المستقنع: أو قال وليٌ زوجتك، وإذا جاء غداً، أو وقت كذا فطلقها، أو وقته بمدة، بأن قال زوجتكها شهراً، أو سنةً، أو يتزوج الغريب بنية طلاقها إذا خرج، بطل الكل، وهذا النوع هو نكاح المتعة. (3)
بل جعل الحنابلة النية المضمرة في القلب، بمنزلة الشرط المتلفظ به في العقد، في فساد النكاح وعدم صحته.
فقد قال في الإنصاف: فائدةٌ: لو نوى بقلبه (أي الطلاق) فهو كما لو شرطه على الصحيح من المذهب، نص عليه، وعليه الأصحاب. (4) وعلى ذلك فإنه يستوي عندهم التصريح بتوقيت النكاح؛ والإضمار في ذلك فالكل متعة، لاشتمالهما جميعاً على التوقيت؛ قال في التوضيح: ومنه (أي من الأنكحة الفاسدة) نكاح المتعة، يتزوجها إلى مدة، أو يشترط طلاقها في وقت، أو ينويه بقلبه نصاً، وخالف الموفق وغيره فيها فباطل. (5) ولعله يقصد بقوله ـ وغيره ـ ابن تيمية، حيث أنني لم أجد من خالف من الحنابلة إلا ابن قدامة، وابن تيمية رحمهما الله تعالى، وقد قال المرداوي (6) في الإنصاف:" قال الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى لم أر أحداً من الأصحاب قال لا بأس به". (7)
(1) هو شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد الزركشي المصري الحنبلي، كان إماماً في المذهب الحنبلي، له تصانيف، أشهرها شرح الخرقي لم يسبق إلى مثله، أخذ الفقه من قاضي القصاة موفق الدين عبد الله الحجاوي، قاضي الديار المصرية. انظر شذرات الذهب لابن العماد 8/ 384، ط، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، الطبعة الأولى، تأريخ الطبع 1413 هـ 1992 م.
(2)
المصدر السابق
(3)
الروض المربع شرح زاد المستقنع، صـ 371.
(4)
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، 8/ 161. علاء الدين أبي الحسن علي ين سليمان المرداوي ثم الدمشقي الصالحي الحنبلي، ط، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، الأولى بتأريخ 1418 هـ 1997 م.
(5)
التوضيح في الجمع بين المقنع والتنقيح 2/ 974، 975، تأليف أحمد بن محمد بن أحمد الشويكي المولود سنة 875 هـ والمتوفى سنة 939 هـ، ط، المكتبة العلمية، مكة المكرمة، الأولى بتأريخ 1418 هـ 1997 م،
…
.
(6)
هو علي بن سليمان بن أحمد المرداوي ثم الدمشقي: ولد سنة 817 هـ في مردا (قرب نابلس) وانتقل في كبره إلى دمشق فتوفي فيها سنة 885 هـ، فقيه حنبلي، من العلماء .. من كتبه " الانصاف في معرفة الراجح من الخلاف - ط " في اثني عشر جزءا، و " التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع - ط " و " تحرير المنقول - خ " في أصول الفقه، وشرح " التحبير في شرح التحرير " مجلدان، و " الدر المنتقى المجموع في تصحيح الخلاف. انظر الأعلام للزركلي 4/ 292.
(7)
(الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 8/ 161.
أما ابن حزم (1) الظاهري رحمه الله تعالى، فقد بدى في كتابه المحلى متعجباً، ممن أجاز النكاح بنية الطلاق، قائلاً: والعجب أن المخالفين لنا يقولون فيمن تزوج امرأة وفي نيته ألا يمسكها إلا شهراً، ثم يطلقها، إلا أنه لم يذكر ذلك في عقد النكاح، فإنه نكاح صحيح لا دخلة فيه، وهو مخير، إن شاء طلقها، وإن شاء أمسكها؛ وأنه لو ذكر ذلك في نفس العقد، لكان عقداً فاسداً، مفسوخاً، فأي فرق بين ما أجازوه، وبين ما منعوا منه. (2)
وكأنه رحمه الله يومئ إلى أن النية المضمرة، كالشرط المتلفظ به في العقد، سواءً بسواء، كمذهب الحنابلة.
وأما من منعه من المتأخرين، فمنهم الشيخ محمد رشيد رضا (3)
ـ رحمه الله تعالى ـ فقد تكلم كلاماً رصيناً فقال: إن تشديد علماء السلف والخلف، في منع المتعة يقتضي منع النكاح بنية الطلاق، وإن كان بعض الفقهاء يقولون أن عقد النكاح يكون صحيحاُ، إذا نوى الزوج التوقيت، ولم يشترطه في صيغة العقد؛ ولكن كتمانه إياه خداعٌ وغش، وهو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت، الذي يكون بالتراضي بين الزوج، والمرأة، ووليها، ولا يكون فيه من المفسدة إلا العبث بهذه الرابطة العظيمة، التي هي أعظم الروابط البشرية، وإيثار التنقل في مرتع الشهوات، بين الذواقين والذواقات، وما يترتب على ذلك من المنكرات؛ وما لا يشترط فيه ذلك، يكون في اشتماله على ذلك غشاً وخداعاً، تترتب عليه
(1) (هو أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، القرطبي، اليزيدي، نشأ في تنعم ورفاهية، ورزق ذكاءً مفرطاً، وذهناً سيالاً، وكتباً نفيسة كثيرة، من مصنفاته: المحلى، والتوحيد في إثبات الصفات، والإيصال إلى فهم كتاب الخصال، قيل أن مؤلفاته بلغت أربع مائه مجلد، ولد بقرطبة سنة 384 هـ، وتوفي سنة 456 هـ. انظر سير أعلام النبلاء 18/ 184، وما بعدها. لشمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي المتوفى 748 هـ، ط، مؤسسة الرسالة، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، تأريخ الطبع 1409 هـ 1988 م.
(2)
(المحلى، تأليف أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، المتوفى سنة 456 هـ، ط، دار الفكر. 10/ 183
(3)
هو محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني، البغدادي الاصل، الحسيني النسب: صاحب مجلة (المنار) وأحد رجال الاصلاح الاسلامي. من الكتاب، العلماء بالحديث والادب والتاريخ والتفسير. ولد ونشأ في القلمون (من أعمال طرابلس الشام) وتعلم فيها وفي طرابلس. وتنسك، ونظم الشعر في صباه، وكتب في بعض الصحف، ثم رحل إلى مصر سنة 1315 هـ، فلازم الشيخ محمد عبده وتتلمذ له.
وكان قد اتصل به قبل ذلك في بيروت. ثم أصدر مجلة (المنار) لبث آرائه في الاصلاح الديني والاجتماعي. وأصبح مرجع الفتيا، في التأليف بين الشريعة والاوضاع العصرية الجديدة. ولما أعلن الدستور العثماني (سنة 1326 هـ) زار بلاد الشام، واعترضه في دمشق، وهو يخطب على منبر الجامع الاموي، أحد أعداء الاصلاح، فكانت فتنة، عاد على أثرها إلى مصر. وأنشأ مدرسة (الدعوة والارشاد) ثم قصد سورية في أيام الملك فيصل بن الحسين، وانتخب رئيسا للمؤتمر السوري، فيها. وغادرها على أثر دخول الفرنسيين إليها (سنة 1920 م) فأقام في وطنه الثاني (مصر) مدة. ثم رحل إلى الهند والحجاز وأوربا. وعاد، فاستقر بمصر إلى أن توفي فجأة في (سيارة) كان راجعا بها من السويس إلى القاهرة. ودفن بالقاهرة. أشهر آثاره مجلة (المنار) أصدر منها 34 مجلدا، و (تفسير القرآن الكريم - ط) اثنا عشر مجلدا منه، ولم يكمله، و (تاريخ * (هامش 1) * (1) معجم الشيوخ 1: 91 - 93 والنهضة العلمية - خ. لابن زيدان، وإتحاف المطالع - خ. لابن سودة. انظر الأعلام 6/ 126، لخير الدين الزركلي، ط، دار العلم للملايين، بيروت لبنان، الطبعة السادسة، تأريخ الطبع 1984 م.
مفاسد أخرى من العداوة، والبغضاء وذهاب الثقة حتى بالصادقين، الذين يريدون بالزواج حقيقته، وهو إحصان كل من الزوجين للآخر، وإخلاصه له، وتعاونهما على تأسيس بيت صالح، من بيوت الأمة. (1)
فقد لحظ رحمه الله تعالى تلك المفاسد بعين الفاحص اللبيب، كما أدركها غيره من العلماء قديماً وحديثاً؛ فقرروا بطلان هذا النوع من الأنكحة.
نرى منهم أيضاً لجنة الإفتاء في المملكة العربية السعودية، فقد أجابت على سؤال قدمه المستفتي (جهاد أحمد أمين) قائلاً: نخن هنا في غربة وفي بلد تنتشر فيه أللأخلاقيات بشكل كبير، وقد سأل أحد الشباب شيخ قدم إلينا عن حكم الزواج المؤقت، فأباحه بشرط عدم بيان ذلك للفتاة، والحقيقة أنني عندي شك كبير في صحة هذه الفتوى، وقد تبينت فتنته في صفوف الشباب، فأرجوا توضيح المسألة، وماذا يفعل من خشي على نفسه الفتنة؟
فأجابت اللجنة بما بلي:
إن الزواج المؤقت، زواج باطل؛ لأنه متعة، والمتعة محرمة بالإجماع، والزواج الصحيح أن يتزوج بنية بقاء الزوجية والاستمرار فيها، فإن صلحت له الزوجة وناسبت وإلا طلقها، قال تعالى:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَان} (2). وقد صادق على هذه الفتوى، فضيلة الشيخ، عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى، رئيس لجنة الإفتاء آن ذاك. (3)
(1) (تفسير المنار 5/ 18، محمد رشيد رضا، ط، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، تأريخ الطبع 1423 هـ 2002 م الطبعة الأولى، تحقيق سمير مصطفى رباب.
(2)
سورة البقرة الآية رقم 229
(3)
كانت هذه الفتوى بتأريخ 18/ 5/1415 هـ برقم (17030) انظر كتاب الزواج بنية الطلاق 46
أدلة المانعين
سبق وأن سقنا أدلة الفريق الأول، في صحة النكاح بنية الطلاق، وها نحن الآن نسوق أدلة المانعين، في خلال النقاط الآتية:
أولاً: إن الزواج السياحي (بنية الطلاق) يخالف مقاصد الشرع الحنيف، ويتعارض مع قواعده العامة، والتي بينها فقهاء الإسلام، عبر استقراءهم لنصوص الشريعة، نذكر منها على سبيل الإيجاز ما يلي:
(1)
الأمور بمقاصدها
والأصل في هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (1) " وقد قال الإمام السيوطي رحمه الله تعالى: وتدخل (أي النية) في النكاح إذا نوى ما لو صرح به بطل (2)، فهذا النكاح لا يقصد الرجل فيه إلا مجرد المتعة، ولكنه ألبس نكاحه هذا ثوب الشرعية، بإضفاء الأركان والشروط عليه، وتوصل بهذا العقد الصوري إلى مقصده وغرضه الدنيء، عبر هذه الوسيلة الشرعية في الظاهر، وعليه فإن الفقهاء قد قرروا أن الوسائل لها حكم المقاصد، ولمَّا كان قصد هذا الناكح هي المتعة المؤقتة المحرمة شرعاً، كانت الوسيلة إليها محرمة أيضاً؛ لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني (3)، وما المباني إلا إشارات معرفة على المعاني، ألا ترى أن الهبة بشرط العوض بيعاً، والإعارة بشرط العوض إجارة (4)؛ فالعبرة إذاً، للمعاني، ولكن لمَّا كانت المعاني والنيات لا سبيل إلى معرفتها، أقيمت الألفاظ والمباني مقامها، فإذا ظهرت المعاني، أو تعارضت مع المباني، كان الاعتبار لها دون المباني (5)، ورحم الله ابن القيم إذ يقول: ومما يوضح ما ذكرناه من أن القصود في العقود معتبرة دون الألفاظ المجردة التي لم تقصد بها معانيها وحقائقها أو قصد غيرها أن صيغ العقود كبعت واشتريت وتزوجت وأجرت إما إخبارات، وإما إنشاءات وإما
(1) أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب بدء الوحي 1/ 3، رقم 1، ومسلم في كتاب الإمارة بنحوه، 3/ 1204، برقم 1907 وغيرهما.
(2)
انظر الأشباه والنظائر، في فقه الشافعية، للسيوطي، 25
(3)
انظر هذه القاعدة والتخريجات عليها في كتاب الوجيز في شرح القواعد الفقهية، 15، لشيخنا عبد الكريم زيدان ..
(4)
انظر الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، تأليف جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكرالسيوطي المتوفى
…
سنة 911 هـ تحقنق عبد الكريم الفضيلي، ط، المكتبة العصرية، صيدا بيروت، الأولى، بتأريخ 1421 هـ 2001 م،
…
صـ 231، وانظر أيضاً الوجيز في شرح القواعد الفقهية في الشريعة الإسلامية، تأليف شيخنا الدكتور عبد الكريم زيدان حفظه الله، ط، مؤسسة الرسالة، بيروت لبنان، الأولى، بتأريخ 1422 هـ 2001 م، صـ 15
(5)
انظر المصدر السابق صـ 14 بتصرف ..
أنها متضمنة للأمرين، فهي إخبارات عما في النفس من المعاني التي تدل على العقود وإنشاءات لحصول العقود في الخارج، فلفظها موجب لمعناها في الخارج وهي أخبار عما في النفس من تلك المعاني، ولا بد في صحتها من مطابقة خبرها لمخبرها، فإذا لم تكن تلك المعاني في النفس كانت خبراً كاذبا، وكانت بمنزلة قول المنافق أشهد أن محمداً رسول الله وبمنزلة قوله آمنت بالله وباليوم الآخر؛ وكذلك المحلل إذا قال تزوجت وهو لا يقصد التزوج المعني الذي جعله الله في الشرع، كان إخباراً كاذباً وإنشاء باطلاً فإنا نعلم أن هذه اللفظة لم توضع في الشرع، ولا في العرف، ولا في اللغة لمن قصد رد المطلقة إلى زوجها وليس له قصد في النكاح الذي وضعه الله بين عباده، وجعله سببا للمودة والرحمة بين الزوجين، وليس له قصد في توابعه حقيقة، ولا حكماً، فمن ليس له قصد في الصحبة، ولا في العشرة ولا في المصاهرة، ولا في الولد، ولا المواصلة، ولا المعاشرة ولا الإيواء؛ بل قصده أن يفارق لتعود إلى غيره؛ فالله جعل النكاح سببا للمواصلة والمصاحبة، والمحلل جعله سببا للمفارقة فإنه تزوج ليطلق، فهو مناقض لشرع الله ودينه وحكمته، فهو كاذب في قوله تزوجت بإظهاره خلاف ما في قلبه. (1) والنكاح السياحي (بنية الطلاق) نية الناكح فيه هي توقيت النكاح بمدة معلومة، أو مجهولة، فيكون الاعتبار لهذه النية، في تصحيح العقد، أو إبطاله إن علمنا بها، لا إلى صيغة العقد الشكلية.
(2)
الأصل في الأبضاع التحريم
الأبضاع هي الفروج، أي أن الأصل في وطئ الفروج الحرمة، وأن لا تباح إلا بعقد النكاح الصحيح، أو ملك اليمين، وقد قيل أن الأصل في النكاح، الحضر، وأبيح للضرورة، فإذا تقابل في المرأة الحل والحرمة، غلبت الحرمة (2)؛ وعليه فإنه لا يجوز التحري في الفروج، لأنه يجوز في كل ما جاز للضرورة، والفروج لا تحل للضرورة (3)، وهذا النكاح نكاح مختلف في صحته، والخلاف فيه شديد، وهذه القاعدة تقوي جانب المانعين، لأن الأصل معهم، وعلى مدعي خلافه إقامة الدليل الصحيح الناقل عن هذا الأصل.
(1) انظر إعلام الموقعين عن رب العالمين 3/ 119، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله المعروف بابن القيم
الناشر: دار الجيل - بيروت، 1973 م، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد
(2)
انظر الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان، تأليف الشيخ زين العابدين بن إباهيم بن نجيم، ط، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، تأريخ الطبع 1400 هـ 1980 م صـ 67
(3)
انظر الوجيز في شرح القواعد الفقهية صـ 176
(3)
درء المفاسد أولى من جلب المصالح
إذا تعارضت مفسدة ومصلحة، قُدم دفع المفسدة غالباً، لأن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات، ولذلك جاء في الحديث" إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه"(1)
وفي النكاح السياحي مفاسد عظيمة، على مستوى الفتاة وأسرتها، وعلى مستوى المجتمع كله، كما أظهرتها الدراسات الميدانية (2)، كما أنه خلا من المصالح المعتبرة شرعاً، إلا ما يذكره البعض من تخفيف معاناة العزوبة، في الغربة عن الأهل والوطن، وما قد يحقق من تحصين مؤقت للغريب في بلاد الشهوات؛ وفي ذلك القول بعض الوجاهة، أما إن كان هذا الناكح في بلده، أو في بلاد تقل فيها الإغراءات والمفسِدات، أو تكون فترة مكوثه يسيرةً في ذلك البلد، كما هي عادة السياح، إذا كان الأمر كذلك فلا أرى في ذلك القول أي وجاهة؛ وعلى الأول نقول: إن دفع المفاسد الناتجة عن هذا النكاح، التي يدفع ثمنها المجتمع، وأولهم الفتاة، المغرر عليها، مقدَّم على جلب مصلحة الناكح، ويُتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
(4)
تحريم الغش والتدليس وأنواع الغرر
إن المصلحة المشتركة واحترام الآخر، وسد أبواب العداوة والبغضاء، ركيزة هامة، أولاها الإسلام عناية خاصة، وحرم لذلك كثيراً من البيوع التي كانت في الجاهلية، والتي تكون عاقبتها، الخديعة والغبن، فمنها مثلاً بيع حَبَل الحَبَلة، وبيع ما لم يخلق، وبيع الثمار حتى تزهو، وبيع الملامسة، والمنابذة، وبيع الحصاة، وكذا نهى عن المعاومة (3)؛ وقرر قاعدة عظيمة، وقانوناً عاماً، حيث قال صلى الله عليه وسلم:" من غشنا فليس منا"(4)، ومعلوم ما ينتج عن الغش،
(1) أخرجه البخاري في كتاب الإعتصام بالكتاب والسنة 6/ 2658 برقم 6858، ومسلم في كتاب الحج 2/ 795 برقم 1337.
(2)
راجع المطلب الرابع من هذا المبحث.
(3)
انظر بداية المجتهد ونهاية المقتصد، تأليف الإمام القاضي أبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الحفيد، المولود سنة 520 هـ والمتوفى سنة 595 هـ، تحقيق وتعليق وتخريج محمد صبحي حسن حلاق، ط، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الأولى بتأريخ 1415 هـ، 3/ 285 وما بعدها.
(4)
أخرجه أحمد في المسند من حديث ابن عمر 9/ 122 برقم 5113، ومسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة كتاب
…
الإيمان 1/ 94 برقم 102، ، وأبي داوود في السنن 3/ 731، برقم، 3452، والترمذي في السنن في كتاب البيوع وقال حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم 3/ 606 برقم 1315، ، والحاكم في المستدرك في كتاب البيوع وقال حديث صحيح ووافقه الذهبي، 2/ 9، وغيرهم.
والخديعة، من حقد وبغضاء في المجتمع، مما يؤدي إلى تناحر وتفكك أبناء المجتمع الواحد، ولذلك كانت المعاملات، والعقود التي تقوم على الغرر، والتدليس، منهياً عنها في ديننا الحنيف، بل جعلها بيوعاً فاسدة، سداً لأبواب التنازع والتناحر بين أفراد المجتمع، كما أنه حرص في بناء المجتمع المسلم على الحب، والإخاء، وسلامة الصدر.
ولنا أن نتصور هذا النكاح (السياحي) وما يحمل من غش وتدليس، بإيهام المرأة الضعيفة، بأن هذا النكاح نكاحٌ دائم، فيُسلب منها أعز ما تملك، وأغلى ما في حياتها، ثم بعد قضاء الوطر، ترمى في مجتمع لا رغبة له فيها، بعد أن سلبت بكارتها؛ وما ينعكس من عداوة وبغضاء بين أفراد المجتمع الواحد، والشعوب بشكل عام، ولو أظهر الرجل ما أبطن، وأعلن ما كتم، قبل العقد، لقلب له أولياء المرأة ظهر المجن، وأبوا أن يزوجوه، ولكنه أبى إلا الغش والتدليس، والإيهام والتلبيس، ليتم له مقصوده، ويقضى له أربه، فالله المستعان.
إذاً فالنية المبيتة بالطلاق نوع من أنواع الغش والتدليس، وهو أشد من الغش والتدليس في الأموال، لأن الأبضاع مبناها على التكريم، وتقوية رابطة المودة والرحمة، كما أن الزواج رباط مقدس، سماه الله ميثاقاً غليظاً فقال:{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} (1) كما أنه يصعب في هذه الرابطة تدارك الغبن، أو التعويض فيه، إذا ما وقع، فالغش والتلبيس فيه أعظم ضرراً من الغش والتلبيس في الأموال بكثير، والإثم على قدر الضرر.
(5)
لا ضرر ولا ضرار
أصل هذه القاعدة قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار"(2)، وهذا الحديث يشتمل على حكمين:
الأول: لا ضرر أي لا يجوز لأحد الأضرار بغيره ابتداءً، لا في نفسه، ولا في عرضه، ولا في ماله، لأن إلحاق الضرر بالغير ظلم، والظلم حرام في الإسلام.
(1) سورة النساء الآية رقم 21
(2)
أخرجه أحمد في المسند من حديث ابن عباس 1/ 55 برقم 2865، وأبو داوود في كتاب الأقضية عن أبي صرمة 4/ 49 برقم 3635، وابن ماجة في كتاب الأحكام من حديث عبادة ابن الصامت م 2 ج 1/ 68 برقم 2340، والترمذي في كتاب البر والصلة 4/ 293 برقم 1940، والحاكم في المستدرك في كتاب البيوع من حديث أبي سعيد وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه 2/ 58 والبيهقي في السنن الكبرى في كتاب الصلح من حديث أبي سعيد 6/ 115 برقم 11384 وغيرهم.
الثاني: لا ضرار أي لا يجوز مقابلة الضرر بالضرر، وإنما على المتضرر، أن يراجع جهة القضاء (1)، ومما لا شك فيه أن الناكح بنية الطلاق، يلحق الضرر بالمرأة، وأوليائها، برهان ذلك الواقع، والدراسات، التي أجريت (2)، ثم أي ضرر للمرأة أعظم، من خديعتها وغشها في نفسها؟
إن توقيت عقد النكاح، يلحق الضرر بالمرأة، ويجعلها بمثابة السلعة المستأجرة، فكيف إذا اشتمل هذا التوقيت، وانطوى على غش، وتدليس، كما في النكاح السياحي (بنية الطلاق).
ثانياً: إن هذا النكاح يدخل في باب الحيل، وأعني بالحيل، تلك التي يتوصل بها إلى أمر ممنوع شرعاً، قال ابن القيم (3) رحمه الله تعالى، وقد قسم الحيل إلى خمسة أقسام:
"القسم الخامس: أن يقصد حل ما حرمه الشارع، أو سقوط ما أوجبه، بأن يأتي بسبب نصبه الشارع سبباً إلى أمر مباح، مقصود، فيجعله المحتال المخادع، سبباً إلى أمر محرم مقصود
اجتنابه، فهذه هي الحيلة المحرمة، التي ذمها السلف، وحرموا فعلها، وتعليمها". (4)
فإن هذا الناكح أتى إلى عقد النكاح، الذي نصبه الشارع لأمر مباح، مقصود، (هو النكاح) فجعله سبباً إلى أمر محرم، (هو المتعة المؤقتة) والتي هي مقصودة الاجتناب، فيكون بذلك قد قصد حل ما حرمه الشارع، وقال أيضاً: وإذا نوى بالفعل التحيل على ما حرمه الله ورسوله، كان له ما نواه، فإنه قصدٌ المحرم، وفعل مقدوره في تحصيله، ولا فرق في التحيل على المحرم بين الفعل الموضوع له، وبين الفعل الموضوع لغيره، إذا جعل ذريعة له لا في عقل ولا في شرع، ولهذا لو نهى الطبيب المريض عما يؤذيه وحماه منه فتحيل على تناوله، عد متناولاً لنفس ما نهى عنه، ولهذا مسخ الله اليهود قردة لما تحيلوا على فعل ما حرمه الله، ولم يعصمهم من عقوبته إظهار الفعل المباح لما توسلوا به إلى ارتكاب محارمه
(1) انظر الوجيز في شرح القواعد الفقهية لشيخنا زيدان بتصرف 85
(2)
راجع المطلب الرابع من هذا المبحث.
(3)
هو شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ين أيوب بن سعد الزرعي، المعروف بابن القيم، قال عنه برهان الدين الزرعي: ما تحت أديم السماء أوسع علماً منه. من أشهر مؤلفاته زاد المعاد في هدي خير العباد، وإعلام الموقعين، ومدارج السالكين، ومفتاح دار السعادة، ولد سنة 691 هـ، وتوفي سنة 715 هـ. انظر المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد، لابن مفلح، 2/ 384، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع، الرياض، سنة النشر 1990 م الطبعة الأولى، بتحقيق عبد الرحمن بن سليمان العثيمين.
(4)
إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان صـ 455، تأليف الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، تحقيق وتعليق مجدي فتحي السيد، ط، دار الحديث القاهرة.
ولهذا عاقب أصحاب الجنة بأن حرمهم ثمارها لما توسلوا بجذاذها مصبحين إلى إسقاط نصيب المساكين، ولهذا لعن اليهود لما أكلوا ثمن ما حرم الله عليهم أكله، ولم يعصمهم التوصل إلى ذلك بصورة البيع، وأيضا فإن اليهود لم ينفعهم إزالة اسم الشحوم عنها بإذابتها فإنها بعد الإذابة يفارقها الاسم، وتنتقل إلى اسم الودك، فلما تحيلوا على استحلالها بإزالة الاسم لم ينفعهم ذلك. (1)
والحيلة محرمة شرعاَ، في الكتاب والسنة، فكل حكم عمل بالحيلة، في طلاق أو خلع، أو بيع، أو شراء، فهو مردود مذموم، عند العلماء الربانيين، والفقهاء الديانيين (2). فإن هذا الناكح الذي يضمر نية الطلاق، غرضه وقصده، المتعة، وقضاء الوطر، ولما كان الشرع لا يوافقه على ذلك، كما أن الناس، لا يرضونه لبناتهم، (إذا ما أعلن ما كتم، وأظهر ما أسر) احتال فكتم الطلاق، وأظهر خلاف ما أبطن، ليلبس عقد زواجه ثوب الشرعية، ويرضى به الأولياء زوجاً لمولياتهم، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وقد ذم الله المستهزئين بآياته، والمتكلم بالأقوال التي جعل الشارع لها حقائق، ومقاصد، مثل كلمة الإيمان، وكلمة الله تعالى التي يستحل بها الفروج، ومثل العهود والمواثيق التي بين المتعاقدين، وهو لا يريد بها حقائقها، المقومة لها، ولا مقاصدها، التي جعلت هذه الألفاظ محصلة لها
…
ومقصوده به ما حرمه الله تعالى ورسوله، فهو ممن اتخذ آيات الله هزواً". (3) فالنكاح السياحي (بنية الطلاق) نوع من أنواع الحيل، التي يتوصل بها إلى ما حرمه الله تعالى، بطريق ظاهره الشرعية، ورحم الله ابن القيم حيث يقول أيضاً: والمقصود أن أهل المكر والحيل المحرمة، يخرجون الباطل، في القوالب الشرعية، ويأتون بصور العقود، دون حقائقها، ومقاصدها. (4) فالله المستعان، ، ،
(1) انظر إعلام الموقعين 3/ 111.
(2)
إبطال الحيل، تصنيف الإمام أبي عبد الله بن محمد بن بطه العكبري الحنبلي، المولود سنة 304 هـ والمتوفى سنة 387 هـ، بتحقيق وتعليق د/ سليمان بن عبد الله العمير، الأستاذ المساعد بكلية الشريعة في الجامعة الإسلامية، ط /مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، بتأريخ 1417 هـ 1996 م. صـ 120.
(3)
إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 337.
(4)
المصدر السابق 457.
ثالثاً: إن النكاح بنية الطلاق (السياحي) لا يحقق مقاصد، وأهداف النكاح السامية، من تحقيق السكن، وحصول المودة والرحمة، وإنشاء الأسرة، وتحصين الفروج، وغيرها من المقاصد التي بيناها فيما سبق (1)، لكون هذا الناكح ما تزوج ابتداءً لتحقيق تلك المقاصد، التي شُرع الزواج لأجلها، فلا تتواءم النفوس، ولا تحصل المودة، ناهيك عن إنشاء الأسرة، وإنجاب الأطفال، بل الحاصل عكس ذلك تماماً؛ من نفرة النفوس، ونشوء الغلظة، وسوء الخلق، ومنع الإنجاب، من قِبل الزوج خاصة، مما يؤثر سلباً على الزوجة، بجعلها تتعامل بالمثل مع زوجها، وقد أثبتت الدراسات الميدانية سوء المعاملة لكثير ممن تزوجن هذا الزواج، من قِبل أزواجهن، وفقدانهن أدنى المودة والرحمة في عش الزوجية، حتى أن بعضاً ممن كان هذا حاله، ترك زوجته في فندق في حدود دولة مجاورة، وفر هارباً إلى بلده التي جاء منها (2)، لتظل المسكينة تنتظره طوال عمرها، فلا هو طلقها، ولا هو أنفق عليها، وأعطاها حقوقها الباقية عنده، أو حتى ما أخذ من حليها الذي أعطاها، فلنا أن نتصور هذا الزواج أين هو من المودة والرحمة خاصةً، وأهداف النكاح عامة، التي تنشأ عن الزواج الشرعي الصحيح.
…
فالله المستعان، ، ،
(1) انظر المطلب الأول من المبحث الثاني من الفصل الأول صـ 23 وما بعدهها
(2)
هذه الأحداث معروفة في مدينة إب وريفها لبعض من تزوجن هذا الزواج.
القسم الثالث: ـ المناقشة والترجيح
بعد هذا العرض الموجز لأدلة الفريقين، وأهم ما يمكن أن يتكئ عليه القولان من أدلة، يمكننا أن نلحظ ما يلي:
أولاً: أن المسألة لا نص فيها، وأنها خاضعة للإجتهاد بحسب ما يراه الفقيه المجتهد، من تحقيق المصالح، أو دفع المفاسد، التي جاءت لأجلها الشريعة.
ثانياُ: إن الفقهاء قد اختلفوا فيها على ثلاثة أقوال، فمن قائل بالجواز وهم الجمهور، ومن قائل بالجواز مع الكراهة وهم الشافعية، وابن تيمية في رأي له، ومن قائل بالتحريم، وهم الإمام الأوزاعي، والحنابلة، وعلى رأسهم إمام المذهب أحمد بن حنبل، وابن حزم الظاهري، ومن المتأخرين محمد رشيد رضا، ولجنة الإفتاء في السعودية.
ثالثاً: إننا إذا أردنا الخروج برؤية واضحة حول شرعية هذا النكاح من عدمها، فإنه لابد من معرفة واقعنا اليوم، وأحوال مَن يعيشون فيه، وما يتوافق مع قصد الشارع، من تحقيق المصالح، ودفع المفاسد للمكلفين، وخاصة أن المسألة خاضعة للاجتهاد.
رابعاً: يمكن ترجيح قول المانعين، وذلك لقوة أدلتهم، وللاعتبارات التالية:
(1)
أن النكاح بنية الطلاق اكتملت أركانه وشروطه، وهي ما يعبر عنها بالأسباب الشرعية، ولكن العبرة في العقود بالمعاني لا بالألفاظ والمباني كما بينا، وإنما نصب الشارع هذه الأسباب، لتكون دليلاً على المعاني والنيات التي لا يُستطاع الكشف عنها، وجعلها معرفة لها، وأناط الحكم بها، ولكن في حالة ظهور هذه المعاني والمقاصد، فأن الاعتبار يكون لها، دون الأسباب، برهان ذلك، أن صور الأسباب لا تتناسب مع الأحكام، وإنما المناسب ما تتضمنه تلك الأسباب، وحيث اعتبرنا الأسباب دون مضمونها، فذلك لتعذر الوقوف والاطلاع على مضمونها، وإلا فمتى أمكن الاطلاع على مضمون السبب، فهو المعتبر، لا صورة السبب. (1) قال ابن القيم: وما مثل من وقف مع الظواهر والألفاظ ولم يراع المقاصد والمعاني إلا كمثل رجل قيل له لا تسلم على صاحب بدعة فقبل يده ورجله ولم يسلم عليه، أو قيل له اذهب فاملأ هذه الجرة، فذهب فملأها ثم تركها على الحوض وقال لم تقل ايتني بها، وكمن قال
(1) انظر تخريج الفروع على الأصول 262، 263، للإمام أبي المناقب شهاب الدين محمود بن أحمد الزنجاني المتوفى
…
سنة 656 هـ حققه وقدم له وعلق حواشيه د/ محمد أديب صالح استاذ ورئيس قسم القرآن والسنة بجامعة دمشق سابقاً ورئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام، ط جامعة دمشق.
لوكيله بع هذه السلعة، فباعها بدرهم وهي تساوي مائة، ويلزم من وقف مع الظواهر أن يصحح هذا البيع، ويلزم به الموكل، وإن نظر إلى المقاصد تناقض، حيث ألقاها في غير موضع. (1) والنكاح بنية الطلاق (السياحي) تكون نية الرجل فيه هي التوقيت لعقد النكاح، فيكون الاعتبار لها دون الأسباب والصور الشكلية.
(2)
صحيح أن ثمة فروقاً بين نكاح المتعة المؤقت، والنكاح بنية الطلاق (السياحي) ومن أبرز هذه الفروق، وأقواها، التصريح بتحديد الأجل لانتهاء عقد النكاح بين الزوجين، ولكن الناظر يرى أيضاً أوجه وفاق بينهما لا يمكن تجاهلها، منها على سبيل المثال، اتحاد مقصود الناكحَين فيهما، المتمثل بالمتعة وقضاء الوطر، وخلو النكاحين عن تحقيق المقاصد التي شُرع من أجلها، ومنها كذلك حصول الفرقة بين الزوجين، فنكاح المتعة بانتهاء المدة المتفق عليها، والسياحي بانتهاء المدة المضمرة في قلب الزوج، والنكاح لم يُشرع من أجل الفرقة والطلاق، بل شُرع للديمومة والبقاء، وجُعل الطلاق حلاً اضطرارياً عند عدم حصول الوفاق، بعد الوعظ، والهجر، والضرب، والتحكيم، كما هو معلوم من الشريعة، كما أنهما يشتركان في كثير من النتائج والأضرار على الفرد والمجتمع، والتي تتمثل في ضياع الأولاد، وامتهان المرأة، وجعلها كالسلعة المستأجرة، لقضاء الوطر، وإفراغ الشهوة فحسب، أضف إلى ذلك زيادة نسبة المطلقات في المجتمع، وما ينتج عنها من آثار سلبية، هذا كله مع ما في ذلك من الاستهانة بهذه الرابطة العظيمة، والتلاعب بها، وإيثار التنقل في مراتع الشهوات، بين الذواقين والذواقات على مقاصد وحِكم النكاح السامية.
ثم إن وجه الشبه بينه وبين نكاح المحلل، المضمر لنية التحليل، كبير جداً، إذ لا مراء أن نكاح المحلل، غايته إصابة المرأة بعقد صورته الشرعية، لتحل لزوجها الأول، ثم يطلقها بعد ذلك، وهذا النوع من التحليل، حرام كما هو معلوم، لدخوله تحت حديث عقبة ابن عامر السابق الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه المحلل، والمحللة له، وشبهه بالتيس المستعار (2)، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى، بعد ذكره لتحريم هذا النوع من الأنكحة: وهو مذهب أهل المدينة، وأهل الحديث، وغيرهم. (3)
(1) إعلام الموقعين 3/ 115.
(2)
انظر الطلب الثاني من هذا المبحث صـ 71
(3)
انظر مجموع الفتاوى 32/ 155.
قال إسماعيل بن سعد (1) عن الرجل يتزوج المرأة، وفي نفسه أن يحلها لزوجها الأول، ولم يُعلِم المرأة بذلك، قال: هو محلل، إن أراد بذلك الإحلال، فهو ملعون، وهذا ظاهر قول الصحابة. (2) وقد أخرج الحاكم، من طريق نافع قال: جاء رجل إلى ابن عمر رضي الله عنه فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثاً، فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه، ليحلها لأخيه هل تحل للأول؟ فقال: لا إلا نكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. (3) إذا تبين هذا، فما هو المعنى، الذي من أجله لقب بالتيس المستعار؟ ووردت الأحاديث بذمه ولعنه؟ لا شك أن توقيت هذا النكاح بزمن، وعزم الزوج على تطليق المرأة عند انتهاء المدة، هو الذي أفقده الشرعية، واستحق اللعن والذم، لأنه ليس نكاح رغبة، ولأنه عار عن المقاصد الشرعية، التي من أجلها شُرع النكاح. (4)
فنية هذا الناكح المؤقتة، في هذا النكاح، (التحليل) والتي تعتبر سبباً لبطلان العقد، هي عين النية في النكاح الزواج بنية الطلاق (السياحي) لأن عنصر التوقيت حاصل في النكاحين، في القصد والعزم، وإن لم يُتلفظ به أثناء العقد، بل إن النكاح السياحي أسوء حالاً من حيث أن نكاح التحليل قد يكون في بعض صوره، تواطؤ الأطراف الثلاثة، الزوج الأول، والثاني، والزوجة، فتكون المرأة على علم بما هي صائرة إليه، فخلا عن الغش والتدليس، ولكنه لما كان مؤقتاً استحق فاعله الذم واللعن، ووسم عقده بالبطلان، فما بالك بالزواج بنية الطلاق! فإنه بالإضافة إلى توقيته بزمن، فيه غش وخداع للمرأة، وتغرير عليها، ومفاسد أخرى، فلا غرو أن نقول أن هذا النكاح (السياحي) أسوأ حالاً من شقيقيه نكاح المتعة، ونكاح المحلل. (5) ورحم الله ابن القيم إذ يقول: فأي فرق بين التوسل إلى الحرام بطريق الاحتيال والمكر والخداع، والتوسل إليه بطريق المجاهرة التي يوافق فيها السر الإعلان، والظاهر الباطن، والقصد اللفظ بل سالك هذه الطريقة قد تكون عاقبته أسلم، وخطره أقل من سالك تلك من وجوه كثيرة كما أن سالك طريق الخداع والمكر عند الناس أمقت، وفي قلوبهم أوضع، وهم عنه أشد نفرة ممن أتى الأمر على وجهه، ودخله من بابه،
(1) هو إسماعيل بن سعد بن أبي وقاص بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وأمه أم عامر، وأسمها مكينة بنت عمرو. انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 5/ 170.
(2)
انظر المغني لابن قدامة المقدسي 10/ 199.
(3)
أخرجه الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه 2/ 99.
(4)
الزواج بنية الطلاق حقيقته، وحكمه، وآثاره، تأليف الدكتور أحمد بن موسى السهلي، ط، مكتبة دار البيان الحديثة، الطائف السعودية، تأريخ الطبع 1400 هـ 2001 م صـ 110 ..
(5)
الزواج بنية الطلاق 113 بتصرف.
ولهذا قال أيوب السختياني وهو من كبار التابعين وساداتهم وأئمتهم في هؤلاء: يخادعون الله كما يخادعون الصبيان لو أتوا الأمر على وجهه كان أسهل عليهم. (1)
كل أوجه الوفاق هذه بين النكاح بنية الطلاق (السياحي) والنكاح المؤقت بأنواعه، لا تجعل المنصف يرى فرقاً كبيراً بينهما، وما ذكره الفريق الأول من فروق، جُلها يرجع إلى مسائل لفظية وصور شكلية في صيغة العقد.
(3)
لا يصح الاعتراض لتجويز هذا النكاح، بأن الطلاق أمر جائز، للرجل أن يوقعه متى شاء، وإذا كان كذلك فإنه يجوز له إضماره متى شاء؛ لأنا نقول: الطلاق أمر جائزٌ، ولكن بعد عقد صحيح شرعاً، لفك رباطه، وحل وثاقه، لا قبل إبرام العقد والذي سيكون لا محل له، وإضماره في الحياة الزوجية لا يضر، بخلاف إضماره قبل العقد أو أثنائه، فإن فيه معارضةً لقصد الشارع من جهة، ويشتمل على الغش والتدليس من جهة أخرى، ثم هل يسلم أن الطلاق يجوز إذا ترتب عليه إضرار بالمرأة، دون ما سبب يدعو إليه، إلا مجرد المتعة، والتنقل في مراتع الشهوات، وطلب اللذات عبر الزواج بنساءٍ عديدات؟
إن الإسلام قد جعل طلاق المرأة في حيضها، أو في طهر أُصيبت فيه، طلاقاً بدعياً، لما يترتب عليه من إضرار بالمرأة، والذي يتمثل بإطالة عدتها، فكيف إذا ترتب على هذا الطلاق أضراراً أكبر وأعظم؟ كما في النكاح السياحي، بل كيف إذا كان هذا النكاح قائمٌ أساساً على الإضرار بالمرأة، بالغش والتدليس عليها ابتداءً ورميها والتخلي عنها دون ما سبب انتهاءً؟
ليس هذا من محاسن الإسلام، ولا من أخلاق الناس في شيء، فإن الإسلام قد أعز المرأة وكرمها أيما تكريم، ثم إنه كذلك لا يصح الاستدلال بفعل أحد غير المعصوم صلى الله عليه وسلم.
(4)
كما لا يصح الإعترض كذلك؛ بأن العزم على الطلاق لا تأثير له في حل رباط الزوجية، فإذا كان كذلك، فإنه لا تأثير له أيضاً في إبطاله أثناء انعقاده؛ لما علمنا من حرص الشارع الحكيم على بقاء هذه الرابطة، وحفاظه على قدسية النكاح، وعدم انفراط عقده، وفكاك رباطه بعد أن تم، بل رغب في بالصبر وعدم التسرع، وجعل بعض القيود التي تجعل الرجل، يتروى ولا يتسرع، فأرشد أولاً إلى الوعظ، ثم الهجر، ثم الضرب غير المبرح، ثم
(1) إعلام الموقعين 3/ 122.
التحكيم، وبعد كل ذلك جعل التسريح بإحسان، هو الحل الأخير؛ لهذا كله لم يؤثر ذلك العزم على ديمومة وبقاء النكاح، أما إن كان هذا العزم قبل إبرام العقد، أو أثناءه، فالمتجه شرعاً ألا يصح النكاح ابتداءً، حفاظاً على قدسية النكاح وحرمته، والحرص على عدم انفراط عقده، بعد أن تم واكتمل؛ والناظر في نصوص الشرع الحنيف، يرى مدى حرصه على ديمومة وبقاء النكاح، لهذا كان العزم الأول غير مؤثر في ديمومة النكاح وبقائه، بخلاف العزم الثاني فإنه مؤثر.
(5)
ثم إن هذا الناكح في الحقيقة، لا يريد بنكاحه هذا تحقيق أهداف ومقاصد النكاح التي شُرع من أجلها، بل يريد المتعة، وحصول اللذة فحسب، قال ابن القيم: فمن ليس له قصد في الصحبة، ولا في العشرة، ولا في المصاهرة ولا في الولد ولا المواصلة ولا المعاشرة ولا الإيواء؛ بل قصده أن يفارق لتعود إلى غيره؛ فالله جعل النكاح سببا للمواصلة، والمصاحبة والمحلل جعله سببا للمفارقة، فإنه تزوج ليطلق، فهو مناقض لشرع الله ودينه وحكمته فهو كاذب في قوله تزوجت، بإظهاره خلاف ما في قلبه، وبمنزلة من قال لغيره وكلتك أو شاركتك، أو ضاربتك أو ساقيتك، وهو يقصد رفع هذه العقود وفسخها، وقد تقدم أن صيغ العقود إخبارات عما في النفس من المعاني، التي هي أصل العقود، ومبدأ الحقيقة التي بها يصير اللفظ كلاما معتبراً، فإنها لا تصير كلاماً معتبراً إلا إذا قرنت بمعانيها، فتصير إنشاء للعقود والتصرفات من حيث إنها هي التي أثبتت الحكم، وبها وجد، وإخبارات من حيث دلالتها على المعاني التي في النفس، فهى تشبه في اللفظ أحببت، أو أبغضت وكرهت، وتشبه في المعنى قم واقعد، وهذه الأقوال إنما تفيد الأحكام إذا قصد المتكلم بها حقيقة أو حكماً ما جعلت له، وإذا لم يقصد بها ما يناقض معناها .. (1) وليت الأمر يقف هنا، بل يتعدى إلى الإضرار بالمرأة، وأوليائها، والمجتمع كله، وكل ذلك باسم النكاح المشروع، بل وصل بالبعض منهم، أن تزوج في صيف واحد، بأربع فتيات، يقضي مع الواحدة منهن شهراً واحداً، أو أقل أو أكثر بقليل، بحثاً عن لذته وقضاء وطره (2)، أين هذا من أهداف النكاح ومقاصده؟ لكنه التلاعب بهذه الرابطة المقدسة، تحت ستار حلية الزواج السياحي وشرعيته.
(1) إعلام الموقعين 3/ 119 وما بعدها.
(2)
مقابلة في قناة العربية مع الأستاذ عبد السلام الخديري أحد قيادات المجلس المحلي في محافظة إب سابقاً.
(6)
إن لنا أن ندرك أحوال مجتمعاتنا اليوم، وما وصلت إليه من ضعف وانعدام للمصداقية والضمير، وتهافت على المادة ـ إلا ما رحم ربي ـ جراء ما وصلت إليه شعوبنا من أحوال اقتصادية رديئة، كل ذلك وغيره يجعل استيعاب أمثال هذه النساء المطلقات من مثل هذا الزواج وكذا أولادهن، أمراً صعباً وشاقاً للغاية، فما ذنب المرأة ومن تعول أن يرميها زوجها، دون ما ذنب لها في مجتمعٍ لا يرحم؟ لتظل مرهونة بعوامل الضعف من الفقر، والقهر، والتعرض للانحلال والفساد والإفساد، وقد رأينا العديد من هذه الضحايا في المجتمع؛ إن وضع المرأة اليوم قد تغير، وما عادت مجتمعات اليوم تستوعب مثل هذه الإفرازات، لقد أصبح الطلاق بالنسبة للمرأة عبارة عن إعدام لحياتها الزوجية، ونادراً ما يتقدم إنسان لخطبتها مرة أخرى، وعليها بعد ذلك أن تتحمل أعباء الحياة وقساوتها، بكل ما تحمل من تخوف على كرامتها وعفتها، والتي حفظتها لها الشريعة عبر الأزمان.
وعليه فإن القول بجواز هذا النوع من النكاح، لا يتواءم مع مقاصد الشرع الحنيف، وما عُلم من تكريمه للمرأة، وقد قال صلى الله عليه وسلم "اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله "(1) ناهيك عن ما ينتج من مفاسد محققة من وراء هذا النكاح، كما أظهرت الدراسات الميدانية، وما فيه من مقاصد وغايات، تتناقض مع مقاصد الشارع الحكيم في هذه الرابطة الإنسانية العظيمة، من إنشاء الأسفار بغرض السياحة الجنسية والاستمتاع، وتعطيل للإنجاب، ومنع التناسل، وما يجر وراءه من عداءات بين أفراد المجتمع الواحد خاصة، وبين الشعوب والمجتمعات عامة، وبخاصة عندما يصبح هذا النكاح ظاهرة مستفحلة في المجتمع، يجني من ورائها تلك المفاسد.
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحج من حديث جابر بن عبد الله، 2/ 724 برقم 1218، وأبي داوود في كتاب الحج 2/ 455 برقم 1905، وابن ماجة في الحج أيضاً م 2 ج 3 صـ 321 برقم 3074، والبيهقي في السنن الكبرى في كتاب الحج 5/ 10 برقم 8827.
وإن كنت قد خالفت في ذلك قول الجمهور، إلا أن تلك الأقوال كانت ضمن نظام اجتماعي لا أظنها اليوم، تتوافق مع هذا النظام الذي نعيشه، لتحقق مقاصد الشرع الحنيف، بل أستطيع القول، أنهم لو كانوا في واقعنا هذا، وشاهدوا تلك المفاسد، والأضرار، والتي تفتح باب الطعن، والتشويه (1) لهذا الدين، لما كان منهم إلا أن يمنعوا أمثال هذه الأنكحة، لأن جلب المصلحة، ودفع المفسدة، هي روح هذا الدين، كما هي رائدهم ومبتغاهم جميعاً، وحسبي أني اجتهدت في دراسة هذه الظاهرة من خلال الواقع، وأثرها على المجتمع، وربطها بأحكام ومقاصد الشرع الحنيف. والله أعلم، ، ،
(1) مثل إشاعة بعض المغرضين والحاقدين من أعداء هذا الدين، ومن تأثر بفكرهم من المسلمين، بأن الإسلام ظلم المرأة، وأهانها، وهذه الحملة الشرسة من أعداء الدين تنطوي اليوم تحت ستار حقوق الإنسان، وبمسميات مختلفة، مثل تحرير المرأة، ومساواة المرأة بالرجل، وغيرها من المسميات التي تعددت في الساحة، وأُقيمت لها المنظمات والهيئات والجمعيات، في كثير من البلدان الإسلامية.