الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: حكم النكاح بغير علم الولي
لقد دار جدل واسع في المجتمع، حول شرعية هذا النكاح من عدمها، ورأينا أن الأكمل في بيان حكمه الشرعي، أن نسرد أقوال الفقهاء وأدلتهم، ثم نناقش تلك الأدلة، لنخرج برؤية واضحة، في بيان الراجح منها؛ وقد اختلف الفقهاء فيه على خمسة أقوال، نوجزها فيما يلي:
القول الأول: جواز تولي المرأة لعقد النكاح، وليس للأولياء الاعتراض، إلا إن وضعت نفسها، عند غير كفء، ما لم تكن عليها ولاية جنون، أو صغر، وعند أصحاب هذا القول، أن الولي مستحب فقط.
وبه قال أبو حنيفة، وزفر، وأبو يوسف (1) في آخر أقواله. (2)
القول الثاني: جواز أن تتولى العقد إن كانت دنيئة، وعدم جواز ذلك إن كانت شريفة.
…
وبه قال الإمام مالك. (3)
القول الثالث: جواز أن تتولى المرأة عقد النكاح، ولكن بشرط أن يأذن لها وليها.
…
وبه قال أبو (4) ثور. (5)
(1) هو أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي البغدادي، أبو يوسف: صاحب الامام أبي حنيفة، وتلميذه، وأول من نشر مذهبه. كان فقيها علامة، من حفاظ الحديث. ولد بالكوفة، سنة 113 هـ. وتفقه بالحديث والرواية، ثم لزم أبا حنيفة، فغلب عليه " الرأي " وولي القضاء ببغداد أيام المهدي والهادي والرشيد. ومات في خلافته، ببغداد، وهو على القضاء. وهو أول من دعي " قاضي القضاة " ويقال له: قاضي قضاة الدنيا! ، وأول من وضع الكتب في أصول الفقه، على مذهب أبي حنيفة. وكان واسع العلم بالتفسير والمغازي وأيام العرب. من كتبه " الخراج - ط " و " الآثار - ط " وهو مسند أبي حنيفة، و " النوادر " و " اختلاف الأمصار " و " أدب القاضي " و " الامالي في الفقه. توفي سنة 182 هـ. الأعلام للزركلي - (ج 8 / ص 193) ط، دار العلم للملايين، بيروت لبنان، الطبعة السادسة، تأريخ الطبع، 1984 م، وانظر طبقات الحفاظ 1/ 136 برقم 260.
(2)
انظر المبسوط للسرخسي م 3، ج 5 /صـ 10، وانظر بدائع الصنائع للكاساني 2/ 513.
(3)
انظر المدونة الكبرى 2/ 166، 170.
(4)
هو إبراهيم بن خالد الكلبي البغدادي الفقيه أحد الأعلام، تفقه وسمع من ابن عيينة وغيره، وبرع في العلم ولم يقلد أحداً، الإمام، مفتي العراق، لقبه أبو ثور، ويكنى بأبي عبدالله، كان يتفقه أولاً بالرأي، ويذهب إلى قول العراقيين، حتى قدم الشافعي فاختلف إليه، ورجع عن الرأي إلى الحديث، قال عنه ابن حبان: كان أحد أئمة الدنيا فقهاً، وعلماً، وورعاً، وفضلاً، صنف الكتب، وفرع على السنن، وذب عنها رحمه الله تعالى. ولد في حدود سنة 170 هـ، وتوفي سنة 240 هـ. انظر سير أعلام النبلاء للذهبي 12/ 72، وما بعدها، ط، مؤسسة الرسالة، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، تأريخ الطبع، 1409 هـ ـ 1988 م.
(5)
انظر الحاوي الكبير في فقه الإمام الشافعي، وهو شرح مختصر المزني، 9/ 38.
القول الرابع: جواز أن تتولى الثيب العقد، دون البكر، وبه قال داوود (1) بن علي الظاهري. (2)
القول الخامس: عدم جواز أن تتولى المرأة عقد النكاح، لنفسها، أو لغيرها، حتى وإن أذن لها الولي، سواء كانت صغيرة، أم كبيرة، شريفة أم دنيئة، بكراً كانت أم ثيباً. وبه قال الإمام الأوزاعي، والثوري (3)، وابن أبي ليلى (4)، وإسحاق (5)،
والشافعي، وأحمد، ومن الصحابة، عمر وعلي وابن عباس، وابن عمر، وعائشة، ومن التابعين، الحسن (6)
(1) هو داود بن علي بن خلف الحافظ الفقيه المجتهد أبو سليمان الأصبهاني البغدادي. فقيه أهل الظاهر.، وهو أول من أظهر انتحال الظاهر، ونفى القياس في الأحكام قولاً، واضطر إليه فعلاً، فسماه دليلاً، وكان يقول بخلق القرآن ولد سنة مائتين وأخذ العلم عن إسحاق وأبي ثور وسمع القعنبي. وحدث عنه ابنه محمد وزكريا الساجي. وصنف التصانيف وكان بصيراً بالحديث صحيحه وسقيمه إماماً ورعاً ناسكاً زاهداً كان في مجلسه أربعمائة صاحب طيلسان مات في رمضان سنة سبعين ومائتين. طبقات الحفاظ، 1/ 279، برقم 571. لجلال الدين السيوطي، ط، مكتبة الثقافة الدينية، شارع بور سعيد، الظاهر. وانظر تأريخ بغداد، للخطيب
…
البغدادي، 8/ 369 وما بعدها.
(2)
المصدر السابق.
(3)
هو سفيان بن سعيد بن مسروق بن حمزة بن حبيب الثوري أبو عبد الله وهم إخوة أربعة سفيان والمبارك وحبيب وعمر كان مولد سفيان سنة خمس وتسعين ومات بالبصرة مختفيا عند عبد الرحمن بن مهدى وفى داره مات في شعبان سنة إحدى وستين ومائة وقبره بالبصرة في مقبرة بنى كليب وكان رحمة الله عليه من الحفاظ المتقنين والفقهاء في الدين ممن لزم الحديث والفقه وواظب على الورع والعبادة ولم يبال بما فاته من حطام هذه الفانية الزائلة مع سلامة دينه له حتى صار علما يرجع اليه في الأمصار وملجئا يقتدى به في الأقطار. انظر مشاهير علماء الأمصار [جزء 1 - صفحة 169] برقم 1349، لمحمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي ط، دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان، تأريخ الطبع-، 1959 م، تحقيق: م. فلايشهمر
(4)
هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى يسار (وقيل: داود) ابن بلال الانصاري الكوفي: ولد سنة 74 هـ، قاض، فقيه، من أصحاب الرأي ولي القضاء والحكم بالكوفة لبني أمية، ثم لبني العباس واستمر 33 سنة، له أخبار مع الامام أبي حنيفة وغيره، مات بالكوفة سنة 148 هـ، أنظر الأعلام للزركلي 6/ 189.
(5)
هو إسحاق بن إبراهيم ين مخلد الحنظلي، إمام أهل المشرق في زمانه، حفظاً وفقهاً، وصلاحاً، قرين الإمام أحمد مات بنيسابور سنة 238 هـ وهو ابن سبعة وسبعين عاماً، كما قال ابن حبان أو إثنان وسبعين عاماً كما قال ابن حجر. انظر الثقات لابن حبان 8/ 115، ط، دار الفكر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، بتأريخ 1395 هـ تحقيق السيد شرف الدين أحمد ..
(6)
هو الحسن بن أبي الحسن يسار، أبو سعيد مولى زيد بن ثابت، وكانت أم الحسن مولاة لأم سلمة، وقد كان سيد أهل زمانه، علماً وعملاً، رأى عثمان وطلحة والكبار، وروى عن عمران بن حصين، والمغيرة، وغيرهما، وروى عن خلق من التابعين، وروى عنه أيوب وشيبان النحوي، وغيرهما، كان رجلاً تام الشكل، مليح الصورة، بهياً، وكان من الشجعان الموصوفين، وكان من أعلم الناس بالحلال والحرام، توفي أول رجب سنة 110 هـ انظر تقريب التهذيب 160، وانظر تهذيب سير أعلام النبلاء 1/ 166 وما بعدها، ط، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، بتأريخ 1413 هـ 1992 م.
وابن المسيب (1)، وعمر بن عبد العزيز (2)، وشريح (3)
والنخعي (4). (5)
(1) هو سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي أبو محمد المدني سيد التابعين ولد لسنتين مضتا - وقيل: لأربع - من خلافة عمر. قال محمد بن يحيى بن حبان: كان رأس من بالمدينة في دهره المقدم عليهم في الفتوى سعيد ويقال: فقيه الفقهاء. وقال قتادة: ما رأيت أحداً قط أعلم بالحلال والحرام منه وكذا قال مكحول والزهري وسليمان بن موسى وعنه إن كنت لأرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد. وقال أحمد بن حنبل: أفضل التابعين سعيد بن المسيب قيل له فعلقمة والأسود قال: سعيد وعلقمة والأسود. وقال يحيى بن سعيد: كان أحفظ الناس لأحكام عمر وأقضيته كان يسمى رواية عمر وقال أبو حاتم: ليس في التابعين أنبل منه وهو أثبتهم في أبي هريرة مات سنة أربع وتسعين وقيل: ثلاث. طبقات الحفاظ 1/ 25، لجلال الدين السيوطي، ط، مكتبة الثقافة الدينية، بور سعيد ـ الظاهر. وانظر تقريب التهذيب لابن حجر، 1/ 241، برقم 2396.
(2)
هو أبو حفص أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص القرشي الأموي المدني ثم المصري، الخليفة الراشد، من تابعي أهل المدينة، كان ثقة مأموناً، له فقه وعلم وورع، وكان إمام عدل، قال الشافعي: الخلفاء خمسة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم. ولد عمر بن عبد العزيز سنة 63 هـ، وقيل: 61 هـ، وتوفي بحمص سنة 101 هـ، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأياماً. انظر سير أعلام النبلاء 5/ 114، وما بعدها.، ط، مؤسسة الرسالة، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، تأريخ الطبع، 1409 هـ ـ 1988 م. وانظر تأريخ الخلفاء 1/ 239.
(3)
هو شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي، أبو أمية: من أشهر القضاة الفقهاء في صدر الاسلام. أصله من اليمن. ولي قضاء الكوفة، في زمن عمر وعثمان وعلي ومعاوية. واستعفى في أيام الحجاج، فأعفاه سنة 77 هـ .. وكان ثقة في الحديث، مأمونا في القضاء، له باع في الادب والشعر. وعمر طويلا، ومات بالكوفة. يقال: له صحبة، ولم يصح، بل هو ممن أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وانتقل من اليمن زمن الصديق. صح أن عمر ولاه قضاء الكوفة. فقيل: أقام على قضائها ستين سنة. وقد قضى بالبصرة سنة. وفد زمن معاوية إلى دمشق. وكان يقال له: قاضي المصرين. مات سنة ثمان وسبعين وقيل: سنة ثمانين وقيل: اثنتين وثمانين وقيل: سبع وثمانين وقيل: سنة ثلاث وتسعين وقيل: ست وتسعين وقيل: سبع وقيل: تسع. طبقات الحفاظ 1/ 27 برقم 42، ، لجلال الدين السيوطي، ط، مكتبة الثقافة الدينية، بور سعيد، الظاهر. وانظر الأعلام للزركلي 3/ 161، وانظر سير أعلام النبلاء 4/ 100.
(4)
هو إبراهيم النخعي بن يزيد بن قيس بن الأسود أبو عمران. فقيه أهل الكوفة ومفتيها هو والشعبي في زمانهما. قال الأعمش: كان صيرفيا في الحديث. وقال إسماعيل بن أبي خالد: كان الشعبي وإبراهيم وأبو الضحى مجتمعين في المسجد يتذاكرون الحديث فإذا جاءهم شيء ليس عندهم فيه رواية رموه بأبصارهم. وقال الشعبي: ما ترك بعده أعلم منه ولا الحسن ولا ابن سيرين ولا من أهل الكوفة ولا البصرة ولا الحجاز ولا الشام. مات سنة ست وتسعين عن تسع وأربعين أو ثمان وخمسين. انظر طبقات الحفاظ 1/ 38 برقم 68، وتقريب التهذيب 1/ 95.
(5)
انظر الحاوي الكبير 9/ 38، ومغني ابن قدامة 9/ 345.
أدلة القائلين بجواز تولي المرأة لعقد النكاح
وقد استدلوا بأدلة نذكر منها على سبيل الإيجاز ما يلي: ـ
أولاً: من القرآن
1) قول الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) والاستدلال بالآية من وجهين:
أحدهما: أنه أضاف النكاح إليهن، فدل على جواز النكاح بعبارتهن، من غير شرط الولي، والثاني: أنه نهى الأولياء عن منعهن نكاح أزواجهن إذا تراضوا بينهم. (2) وهذا على فرض أن الخطاب في الآية، موجه للأولياء، أما إن كان للأزواج، فإن معنى الآية يقتضي، أن الأولياء لا حق لهم البتة، وقد اُستدل بأن الخطاب موجه للأزواج، بأنه في بداية الآية وجه الخطاب إليهم، حيث قال وإذا طلقتم، قالوا فيسري الخطاب لهم فيما بعدها بقوله فلا تعضلوهن. (3)
2) قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (4) وقال أيضاً في آية أخرى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (5) ووجه الاستدلال بالآيتين، أنه أضاف العقد إليهن، فدل على أنهما تملكان مباشرته. (6)
(1) سورة البقرة الآية 232
(2)
انظر بدائع الصنائع 2/ 515.
(3)
انظر المبسوط للسرخسي م 3 ج 5 صـ 11، 12.
(4)
سورة البقرة الآية 234
(5)
سورة البقرة الآية 230
(6)
المبسوط م 3 ح 5 صـ 11، 12.
ثانياً: من السنة والآثار
1) حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس للولي مع الثيب أمرٌ، واليتيمة تستأمر، فصمتها إقرارها". (1) وهذا تصريح بأن الولي ليس له شيء في إنكاح موليته الثيب، فإذا تولت إنكاح نفسها كان نكاحاً صحيحاً؛ لأن الولي ليس له أمر عليها، أو أن حقها في نفسها مقدم على حقه، يؤيد ذلك أيضاً:
2) حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها". (2) فإذا كانت أحق بنفسها، كان ذلك دليلاً على جواز توليها عقد النكاح، وضعف حق الولي في ذلك. وقد استدل داوود الظاهري بهذا الحديث، على عدم وجوب الولي في نكاح المرأة الثيب، ووجوبه في البكر. (3) وعلى ذلك فإن المرأة يمكن أن تلي عقد النكاح لنفسها، أو لغيرها، ويعد عقداً صحيحاً، يؤيد ذلك:
3) أن عائشة رضي الله عنها زوجت بنت أخيها حفصة بنت عبد الرحمن، من المنذر بن الزبير، وهو غائب بالشام، فلما قدم عبد الرحمن، قال ومثلي يصنع به هذا، أو مثلي يفتات عليه، فكلمت عائشة المنذر ابن الزبير، فقال المنذر: فإن ذلك بيد عبد الرحمن فقال عبد الرحمن ما كنت لأرد أمرا قضيتيه، فقرت حفصة عند المنذر. (4) فبهذا يتبين أن ما ورد من حديث عائشة في منع التزويج بغير ولي، غير صحيح، فإن فتوى الراوي بخلاف الحديث دليل على وهن الحديث، ثم إن مدار ذلك الحديث على الزهري، وقد أنكره الزهري، وجوز النكاح بغير ولي. (5) إذا تبين ذلك، فإن سائر ما يُرى من الأخبار في منع التزويج بغير ولي، تُحمل على الندب، لا على الإيجاب، أو تُحمل على الصغيرة التي ليست برشيدة. (6)
(1) أخرجه، عبد الرزاق في المصنف في كتاب النكاح 6/ 145 برقم، 0299، وأحمد في المسند 5/ 206، برقم 3087، وأبو داوود في السنن في كتاب النكاح 2/ 578، برقم 2100، والدارقطني في السنن كتاب النكاح م 2 ج 3 صـ 239 برقم 66.
(2)
أخرجه مسلم في كتاب النكاح 2/ 841 برقم 1421، وأبو داوود في السنن كتاب النكاح 2/ 577 برقم 2098، وابن ماجة في كتاب النكاح 1 ج 2 صـ 597 برقم 1870، والترمذي في السنن كتاب النكاح 3/ 416، برقم 155، وابن حبان في صحيحه في كتاب النكاح م 3 ج 2 صـ 155 برقم 4075
(3)
انظر بداية المجتهد 3/ 22.
(4)
رواه: مالك بن أنس أبو عبدالله الأصبحي في كتابه الموطأ من رواية يحيى الليثي، الناشر: دار إحياء التراث العربي - مصر، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، عدد الأجزاء: 2، ج 2 /صـ 555، باب ما لا يبين من التمليك، والبيهقي في سننه الكبرى كتاب النكاح 7/ 183 برقم 13653.
(5)
المبسوط م 3 / ج 5 / صـ 11 وما بعدها.
(6)
المبسوط م 3 / ج 5 صـ 12
ثالثاً: من المعقول
أما ما يمكن الاستدلال به من جهة النظر، فيتمثل بالآتي:
1) أن المرأة تصرفت في خالص حقها، ولم تلحق الضرر بأوليائها، فينعقد تصرفها كما لو تصرفت في مالها. (1)
2) أنه لا اعتبار لنقص عقل المرأة، في النكاح وذلك لأن الشارع جعل لها الحق في اختيار الزوج، وفوضه إليها، ولو كان لنقصان عقلها اعتبار لما جعل لها ذلك (2).
3) اعتبر الشارع رضاها، في مباشرة الولي، ولو كانت بمنزلة الصغير لما اعتبر
…
رضاها. (3)
4) لا اعتبار لحق الأولياء إن زوجت نفسها بكفء، وذلك لأن حقهم في النكاح يتمثل في صيانتهم عما يوجب لحوق العار، والشين بهم، وهذا قد اندفع بالتزويج من كفء، يحقق هذا أنها لو وجدت كفئاً، وطلبت من وليها، الإنكاح منه، فإنه لا يحل له الامتناع، ولو امتنع يصير عاضلاً. (4)
5) أن للمرأة حرية البيع والشراء، إذا كانت رشيدة، فكيف يحجر عليها في عقد زواجها، وهو أهم العقود التي تتطلب حرية، لما يترتب عليه من مهام الأمور، فينبغي أن يقاس عقد النكاح على عقد البيع. (5) فيكون هذا القياس مخصصاً لعموم الأحاديث.
هذه الأدلة تقرر أنه يجوز للمرأة أن تلي عقد النكاح لنفسها، أو لغيرها، وأن عقدها صحيح، وأن الولي ليس شرطاً في صحة عقد النكاح، وتُحمل سائر الأخبار في ذلك على الندب.
…
والله أعلم.
(1) المصدر السابق.
(2)
المصدر السابق
(3)
المصدر السابق صـ 13.
(4)
بدائع الصنائع 2/ 517، 518.
(5)
الفقه على المذاهب الأربعة 4/ 46.
استدلال الإمام مالك
وقد استدل الإمام مالك رحمه الله تعالى، في التفريق بين الشريفة والدنيئة، بأن الولي يراد لحفظ المرأة، أن تضع نفسها عند غير كفء، أما الدنيئة فإنها مكافئة لكل دنيء، فلم يبق لوليها نظر. (1)
أما أبو ثور
فقد استدل على قوله بالجواز في حين الإذن من الولي، بحديث عائشة المصرح باشتراط الإذن، إذ جاء فيه" أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، ثلاثاً"(2)، فمفهوم المخالفة يقتضي أن المرأة إذا أذن لها وليها، جاز نكاحها.
وكذا داوود الظاهري
فقد استدل لقوله القاضي بجواز أن تنكح الثيب نفسها، دون البكر، استدل بقوله صلى الله عليه وسلم:" ليس للولي مع الثيب أمر، واليتيمة تستأمر فصمتها إقرارها"(3) وفهم منه أن الأمر المراد في الحديث، هو ولاية العقد، فليس للولي مع الثيب ولاية في عقد نكاحها، وحيث خص الحديث الثيب فقط، فنحن نخصها بهذه الميزة، والتي هي عدم الولاية عليها، أما البكر فتثبت عليها الولاية، للأخبار الأخرى القاضية بها، وبهذا نجمع بين الأدلة، ثم قال أيضاً إن الثيب قد خبرت الرجال، دون البكر، فاحتاط الشرع في البكر ما لم يحتط في الثيب، من ثبوت الولاية وعدم صحة النكاح بدونها. (4)
(1) الحاوي 9/ 44.
(2)
سبق تخريجه صـ 48
(3)
سبق تخريجه صـ 132
(4)
الحاوي 9/ 44.
أدلة القائلين باشتراط الولي في صحة عقد النكاح
وقد استدل أصحاب هذا القول بعدة أدلة، نذكر منها ما يلي: ـ
أولاً: من القرآن
استدل أصحاب هذا القول، بالنصوص الآمرة للرجال بتزويج النساء، أو الناهية عن تزويجهم لهن، فمن ذلك:
1) قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)} (1)
2) وقوله تعالى: {وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (2) فالخطاب في هاتين الآيتين موجه للأولياء كما نرى، فدل على أن أمر التزويج لهم دون النساء، قال ابن تيمية: فإنه قد دل عليه القرأن في غير موضع، والسنة في غير موضع، وهو عادة الصحابة، إنما كان يزوج النساءَ الرجال، لا يعرف أن امرأة تزوج نفسها، وهو مما يُفرق به بين النكاح، ومتخذات أخدان. (3) كما استدلوا أيضاً
3) بقوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (4) ووجه الاستدلال بالآية، أن الله خاطب الأولياء ناهياً لهم عن أن يمنعوا مولياتهم عن التزويج من أزواجهن الذين طلقوهن، وقد انقضت عدتهن، إذا عادوا خاطبين لهن، وتراضوا فيما بينهم، وهذا النهي دليل على أن أمر التزويج للأولياء، وإلا لما صح توجيه الخطاب لهم، يحقق هذا التوجيه ما ورد في صحيح البخاري وغيره، في أن هذه الآية نزلت في معقل ابن يسار، عندما منع أخته من الرجوع إلى زوجها، بعد طلاقه إياها وخروجها من عدتها، ثم عاد إليها خاطباً، وعند رفضه زواجها منه قائلاً: زوجتك وفرشتك، وأكرمتك، فطلقتها ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبدا، فأنزل الله هذه الآية،
(1) سورة النور الآية 32.
(2)
سورة البقرة الآية 221.
(3)
مجموع الفتاوى 32/ 131.
(4)
سورة البقرة الآية 232.
فدعاه الرسول صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه الآية، فترك الحمية واستقاد لأمر الله تعالى (1). قال الشافعي رحمه الله: قوله فلا تعضلوهن يعني الأولياء، ولا أعلم الآية تحتمل غيره. (2) وهذا التفسير للآية هو التفسير المنقول عن السلف، ولم يذكر الذين يفسرون القرآن بالمأثور قولاً عن واحد عن السلف غيره. (3)
4) قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (4) وجه الاستدلال بهذه الآية أن الولاية من القوامة المنصوص عليها. (5)
ثانياً: من السنة
وردت أحاديث صريحة في اشتراط الولي، هذه الأحاديث بعضها صحيح، وبعضها ضعيف، نذكر منها ما صح: ـ
1) حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن أصابها فلها مهرها بما أصابها، وإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له"(6) وهذا تصريح في بطلان النكاح، بغير الولي، وعدم اعتباره نكاحاً صحيحاً، فإذا كان السلطان ولي من لا ولي له فإنه يدل على عدم اعتبار عقد المرأة بلفظها لنفسها، أو لغيرها، حتى في حال تشاجر الأولياء أو عدم وجود الولي للمرأة، ويؤكد ذلك ما روي:
2) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تزوج المرأةُ المرأةَ ولا تزوج المرأة نفسها، إن البغية التي تزوج نفسها، [وفي رواية] فإن الزانية هي التي تزوج نفسها"(7) فهذان الحديثان صحيحان وصريحان في بطلان نكاح المرأة بغير ولي، وأن الولي شرط في صحة عقد النكاح، وأي دليل أقوى من ذلك وأصرح، وقد جاءنا عن نبي الهدى صلى الله عليه وسلم قول كهذا،
…
كما جاء عنه أيضاً:
(1) أخرجه البخاري في كتاب النكاح 5/ 1972 برقم 4837، والبيهقي في السنن كتاب النكاح 7/ 167 برقم 13596 وغيرهما.
(2)
الأم 5/ 22.
(3)
انظر كتاب أحكام الزواج في ضوء الكتاب والسنة، تأليف الدكتور عمر سليمان الأشقر، ط، دار النفائس للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، تأريخ الطبع 1418 هـ، 1997 م صـ 131.
(4)
سورة النساء الآية 34.
(5)
الأم 5/ 21.
(6)
سبق تخريجه صـ 48
(7)
سبق تخريجه صـ 48
3) عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم " لا نكاح إلا بولي"(1) والنفي في قوله [لا نكاح] يتوجه إلى الصحة التي هي أقرب المجازين إلى الحقيقة، فيكون النكاح بغير ولي باطلاً، كما هو مصرح به في الحديثين السابقين؛ لأن النهي يدل على الفساد المرادف للبطلان. (2) فهذه الأحاديث أقوى وأصرح ما يمكن الاستدلال به لأصحاب هذا القول.
أما ما جاء من الآثار
فقد أخرج البيهقي بسنده، والدارقطني في سننه، عن عكرمة ابن خالد قال: جمعت الطريق ركباً، فجعلت امرأة ثيباُ أمرها بيد رجل، غير ولي، فأنكحها، فبلغ ذلك عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فجلد الناكح والمُنكِح، ورد نكاحها. (3) وأما ما جاء من آثار عن علي رضي الله عنهم فقد أخرج كذلك البيهقي، والدارقطني عن الشعبي قال: ما كان أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أشد في النكاح بغير ولي من علي ابن أبي طالب، حتى أنه كان يضرب فيه (4). وقد ذكر البيهقي آثاراً عن علي بأسانيدها، تفيد غير ما ذكرنا عنه، مثل تصحيحه نكاح بحرية بنت هانئ بنت قبيصة، عندما زوجت نفسها من القعقاع، لكنه أومئ إلى ضعفها قائلاً: والإسناد الأول عن علي في اشتراط الولي إسناد صحيح فالاعتماد عليه. (5) وقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه عن الشعبي أن عمر وعليا، وابن مسعود وشريحا، لا يجيزون النكاح إلا بولي. (6) وقد روي ذلك عن عائشة رضي الله عنها أيضاً، حيث جاء عنها أنها إذا أرادت إنكاح امرأة من نسائها، دعت رهطاً من أهلها فتشهدت، حتى إذا لم يبق إلا النكاح، قالت يا فلان أنكح، فإن النساء لا ينكحن. (7) وبهذا يتبين أن عائشة رضي الله عنها، قد وافقت ما روت من عدم جواز النكاح
(1) سبق تخريجه صـ 47
(2)
المجموع للنووي 17/ 243.
(3)
انظر سنن البيهقي في كتاب النكاح 7/ 179 برقم 13639 ى، والدارقطني في سننه كتاب النكاح م 2 / ج /صـ 252 برقم 20، وقد ضعف هذا الأثر الألباني في الإرواء 6/ 249 برقم 1842، ووسمه بالانقطاع.
(4)
أحرجه البيهقي في السنن كتاب النكاح 7/ 180 برقم 13644، والدارقطني في النكاح م 2 / ج 3 / صـ 229 برقم 33.
(5)
سنن البيهقي كتاب النكاح 7/ 181 برقم 13649.
(6)
المصنف، للإمام أبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، ومعه كتاب الجامع لمعمر بن راشد الأزدي رواية عبد الرزاق الصنعاني، ط، المكتب الإسلامي، بيروت لبنان، الثانية، بتأريخ، 1403 هـ 1983 م، كتاب النكاح باب النكاح بغير ولي 6/ 197، برقم 10480.
(7)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف في كتاب النكاح باب النكاح بغير ولي 6/ 201 برقم 10499 ، وابن أبي شيتة في مصنفه 3/ 444، برقم 15953، وصححه الحافظ ابن حجر في فتح الباري في باب من قال لا نكاح إلا بولي 10/ 233.
بغير ولي، وأن كان قد روي عنها غير ذلك، في أنها زوجت بنت أخيها حفصة، من المنذر ابن الزبير، فإن ذلك ليس صريحاً في أنها تولت هي عقد النكاح، بينهما (1)، كما سيأتي.
وقد ذهب إلى اشتراط الولي، علي وعمر وابن عباس، وابن عمر وبن مسعود، وأبو هريرة، وعائشة والحسن البصري، وابن المسيب وابن شبرمة، وابن أبي ليلى، والعترة، وأحمد وإسحاق، والشافعي وجمهور أهل العلم، بل قال ابن المنذر: إنه لا يُعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك. (2) وعبر الماوردي عن ذلك بقوله: وهذا منتشر في الصحابة لا يعرف له مخالف. (3)
ثالثاً: من المعقول
لأصحاب هذا القول أيضاً أدلة من جهة النظر، نوجزها فيما يلي:
1) أن المرأة ناقصة في عقلها، بنقصان الأنوثة فلا تملك مباشرة عقد النكاح لنفسها، لأنه عقد عظيم، وخطره كبير، ومقاصده شريفة، ولهذا أظهر الشارع خطره باشتراط الشاهدين فيه، من بين سائر المعاوضات، فلإظهار خطره تجعل مباشرته مفوضة إلى أولي الرأي الكامل، من الرجال، والدليل على اعتبار نقصان عقلها [من جهة النظر] أنه لم يجعل إليها من جانب رفع العقد شيء، بل الزوج هو الذي يستبد بالطلاق. (4)
2) إن الشارع جعل للمرأة مطالبة وليها بالزواج، في حالة وجود الكفء، ولو كانت تملك مباشرة العقد بنفسها، لما جعل لها مطالبة الولي بذلك، ثم إنه جعل للأولياء حق الاعتراض في إنكاحها نفسها، من غير كفء ولو كانت لها ولايةً مباشرة لنفسها، لما كان لأوليائها حق الاعتراض كالرجال. (5)
3) يمكن أن يقال أيضاً أن المرأة مائلة بالطبع إلى الرجال، أكثر من ميلها إلى تبذير الأموال، فاحتاط الشارع بأن جعلها محجورة في هذا المعنى على التأبيد. (6)
(1) انظر مثلاً فتح الباري 10/ 233.
(2)
انظر المجموع للإمام النووي 17/ 243 وما بعدها.
(3)
الحاوي 9/ 150.
(4)
انظر المهذب، باب ما يصح به النكاح 4/ 118 بتصرف، وانظر الكافي 3/ 10، وانظر المبسوط م 3 /ج 5 صـ 11
(5)
انظر المبسوط م 3 /ج 5 صـ 11
(6)
انظر بداية المجتهد ونهاية المقتصد 3/ 26.
المناقشة والترجيح
بعد هذا العرض الموجز لأقوال أهل العلم وأدلتهم، يمكن أن يتلخص ما يلي: ـ
إن جماهير أهل العلم يقولون باشتراط الولي لصحة عقد النكاح، وأن العقد لا يصح بدونه، وأن الأحناف يقولون أن الولي ليس شرطاً في صحة عقد النكاح، وإنما مندوب إليه، وأن العقد بدونه صحيح.
ولكن الفاحص يجد أن قول الجماهير هو الراجح، لقوة أدلتهم وتصريحها في موضع الخلاف على مرادهم.
فمن الكتاب
قول الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) قال ابن حجر رحمه الله تعالى: هي أصرح دليل على اعتبار الولي وإلا لما كان لعضله معنى (2) وليس الأمر كما قال الأحناف، إن النهي عن العضل موجه للأزواج، وما أحسن ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وهو يؤكد أن النهي في الآية موجه للأولياء، لا الأزواج، فقال رحمه الله: ولا أعلم الآية تحتمل غيره لأنه إنما يؤمر بأن لا يعضل المرأة من له سبب إلى العضل، بأن يتم به نكاحها من الأولياء، والزوج إذا طلقها فانقضت عدتها فليس بسبيل منها، فيعضلها، وإن لم تنقض عدتها فقد يحرم عليها أن تنكح غيره، وهو لا يعضلها عن نفسه، وهذا أبين ما في القرآن من أن للولي مع المرأة في نفسها حقاً، وأن على الولي أن لا يعضلها إذا رضيت أن تنكح بالمعروف (3). ثم إنه يزيد هذا التوجيه قوةً، سبب نزول الآية، وهو أن معقل ابن يسار كان قد زوج أختاً له ابن عم له، فطلقها ثم أراد الزوج وأرادت النكاح فأبى معقل، فنزلت الآية. (4)
(1) سورة البقرة الآية 232.
(2)
فتح الباري 10/ 235.
(3)
الأم 5/ 21.
(4)
سبق تخريجه صـ 136
ومن السنة
فالأحاديث مصرحة باشتراط الولي، كشرط صحة، فمنها: حديث أبي موسى رضي الله عنه والذي فيه " لا نكاح إلا بولي"(1) وهو يفيد انتفاء النكاح الشرعي عند فقد الولي، وهذا هو معنى الشرط، وحديث عائشة رضي الله عنها يقرر بطلان النكاح بدون ولي بقوله صلى الله عليه وسلم " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، ثلاثاً"(2) والباطل لا تترتب عليه آثار الصحيح. وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فإنه ينهى المرأة صراحة أن تزوج نفسها، أو أن تتولى العقد لغيرها، إذ جاء فيه " لا تزوج المرأةُ المرأةَ، ولا تزوج المرأةُ نفسها"(3) ثم يقرر هذا الفهم بقوله: " فإن البغية التي تزوج نفسها". هذه الأحاديث وغيرها من الآثار، التي رويت عن الصحابة، كافية في إثبات الحكم باشتراط الولي، مما يضعف قول من قال بضعف الأحاديث في ذلك وأن ما صح منها محتملاً، ولو كانت الولاية واجبةً، لتواترت الأخبار بوجوبها، ولبينت الأولى بالتزويج وصفات الولي. (4) على أنه قد نُقل تواتر أحاديث الولي (5).
كما لا يصح منهم تضعيف تلك الأحاديث، فقد صححها أهل الحديث، كما مر معنا، فلا نطيل بتفصيلها هنا، لكنَّ أهم ما تكلموا عليه هو حديث عائشة رضي الله عنها، في أن مداره على الزهري، وقد سأله ابن جريج عنه فأنكره الزهري، وأنه كان يجوز النكاح بغير ولي، وهو من روى لنا حديث اشتراط الولي، فيكون ذلك دليلاً على وهن وضعف الحديث، هذا الاعتراض مدفوع من عدة أوجه: ـ
1) إن حكاية إنكار الزهري لهذا الحديث عند سؤاله من ابن جريج، ضعيفة، فإنه لم يروها عن ابن جريج إلا ابن عليه، قال يحيى ابن معين: لم يذكر هذا عن ابن جريج غير ابن علية، وضعَّف رواية ابن علية عن ابن جريج، وقال: سماع ابن عليه من ابن جريج ليس بذاك؛ وقد أعل ابن حبان، وابن عدي وابن عبد البر والحاكم وغيرهم هذه الحكاية عن بن جريج، وأجابوا على تقدير الصحة، بأنه لا يلزم من نسيان الزهري له، أن يكون سليمان بن
(1) سبق تخريجه صـ 47
(2)
سبق تخريجه صـ 48
(3)
سبق تخريجه صـ 48
(4)
القائل بذلك هو ابن رشد الحفيد رحمه الله تعالى في كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد 3/ 26.
(5)
انظر نظم المتناثر من الحديث المتواتر 1/ 157 وما بعدها، لأبي الفيض جعفر الحسني الأدريسي الشهير بالكتاني، ط، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، تأريخ الطبع 1403 هـ 1983 م.
موسى [راويه عن الزهري] وهم فيه. (1) وإعلال يحيى بن معين هذا ذكره ابن عدي بسند صحيح، حيث قال: قال ابن معين: لا يقول هذا إلا ابن علية، وابن علية عرض حديث ابن جريج، على عبد المجيد بن عبد العزيز فأصلحها له. (2) مما يدل على أن أحاديث ابن علية عن ابن جريج ليست مضبوطة، وهو ما عبر به ابن معين بقوله: سماع ابن علية من ابن جريج ليس بذاك، ثم إنه قد روى هذا الحديث عن الزهري، مع سليمان بن موسى حجاج بن أرطأة، ويزيد بن أبي حبيب، ومرة بن عبد الرحمن بن حيوئيل، وأيوب بن موسى، وابن عيينة، وإبراهيم بن سعيد. (3) مما يدل على ضبط سليمان بن موسى لهذا الحديث، وأن الزهري حدث به فعلاً.
فيتلخص مما سبق أن حكاية ابن علية عن ابن جريج في إنكار الزهري ضعيفة، فلا يصح الاعتراض بها على هذا الحديث. والله أعلم
2) ثم إنه على تقدير صحة حكاية إنكار الزهري، لحديث عائشة هذا؛ لا يبطله لأن من رواه عن الزهري جمع من الثقات وهم، سليمان بن موسى، وابن عيينه، ويزيد بن أبي حبيب، وأيوب بن موسى، وإبراهيم بن سعيد؛ فعليه يتعين أن الزهري كان قد نسي هذا الحديث، ونسيانه هذا لا يضر، فإنه قد ينسى الثقة، ولا يعد ذلك ضعفاً في الراوي أو الرواية.
3) إذا تقرر هذا فإن الحديث يكون صحيحاً، ويلزمنا القول به، ولا تضر مخالفة من خالف، على أن ما روي عن عائشة في إنكاحها ابنت أخيها حفصة من المنذر ابن الزبير في غيبة أخيها عبد الرحمن، ليس صريحاً في أنها تولت عقد النكاح بنفسها، بل قال البيهقي: المراد أنها مهدت تزويجها ثم تولى عقد النكاح غيرها، فأضيف التزويج إليها لإذنها في ذلك، وتمهيدها أسبابه. (4) ويؤكد هذا ما روي عنها بإسناد صحيح، أنها أنكحت رجلاً من بني أخيها، فضربت بينهم ستراً ثم تكلمت حتى إذا لم يبق إلا العقد، أمرت رجلاً فأنكح ثم قالت
(1) انظر تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، تأليف أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني، المتوفى سنة 852 هـ، ط، دار المعرفة، بيروت لبنان، الأولى، بتأريخ 1406 هـ 1986 م، م 2 /ج 3 / صـ 156، 157 برقم 1504.
(2)
انظر إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، تأليف محمد ناصر الدين الألباني، ط، المكتب الإسلامي - بيروت لبنان، الطبعة: الثانية - 1405 هـ - 1985 م، م 6/ 245 برقم 1840.
(3)
إرواء الغليل 6/ 247.
(4)
انظر سنن البيهقي 7/ 183 برقم 13653.
ليس إلى النساء نكاح. (1) فكيف نرد نصاً بل نصوصاً صحيحة وصريحة، بأثر غير صريح وإن كان صحيحاً.
والحاصل أنه قد صح الخبر عن من لا ينطق عن الهوى، ومن كلامه تشريع إلى قيام الساعة، فلا نعدل عنه بتأويلات متكلفة ونقولات ضعيفة. والله أعلم، ، ،
وأما ما استدل به الأحناف بأن الأيم أحق بنفسها، كما في الحديث، فغير متجه، وذلك أن لفظ أحق، موضوع في اللغة للاشتراك، كما هو معلوم من صيغ التفضيل، فقوله أحق تعني الاشتراك في الاستحقاق، بين المرأة ووليها، وعلى ذلك فإنه لا يجوز أن تسقط المرأة حق وليها تماماُ، فتتولى هي عقد زواجها، بل إن الولي هو الذي يتولى العقد، ولكن يبقى للمرأة الحق في الاختيار، وعدم الإجبار، وهو معنى [أحق بنفسها]، وكذا استدلالهم بحديث " ليس للولي مع الثيب أمرٌ" فإن الأمر هنا المراد به الإجبار والإلزام من قِبل الولي للمرأة، وذلك ليس له ما دامت ثيباً، ولا يقتضي ذلك أن تنفرد هي بعقد النكاح دون وليها، كما لا تنفرد به دون شهود. (2)
كما أن قياسهم عقد النكاح على البيع، قياس مع وجود النص، ومعلوم فساد هذا النوع من الأقيسة.
فالحاصل أن قول الجماهير هو الراجح، لقوة أدلتهم وتصريحها في موضع الخلاف.
…
والله أعلم، ، ،
تنبيه
ينبغي أن نعلم أن أبا حنيفة رحمه الله جوز النكاح بغير ولي، لكنه جعل له حق الاعتراض، وفسخ النكاح، إذا كان الزوج غير كفء، وفي رواية الحسن عنه، إن كان الزوج كفء لها جاز النكاح، وإن لم يكن كفء لها لم يجز (3). وقد احتاط بعضهم كأبي يوسف بأن قال الأحوط بأن يُجعل عقدها موقوفاً على إجازة الولي، ليندفع الضرر عن الولي، إلا أن الولي إذا قصد بالفسخ دفع الضرر عن نفسه، بأن لم يكن كفء لها صح فسخه، وإن قصد الإضرار بها بأن كان الزوج كفء لها لم يصح فسخه، ولكن القاضي يقوم
(1) انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري، باب من قال لا نكاح إلا بولي 10/ 233، أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، ط، دار الفكر، بيروت لبنان، تأريخ الطبع 1411 هـ 1991 م،
(2)
انظر الحاوي 9/ 43، 44 بتصرف.
(3)
المبسوط م 3 ج 5 / صـ 10، 11
مقامه في الإجازة، كما يقوم مقامه في العقد، إذا عضلها، فالحاصل أن الأحناف لم يسقطوا اعتبار الولي تماماً، بل أثبتوا له حق الاعتراض بالفسخ، وبعضهم اشترط إجازة الولي، أو القاضي في حالة كفاءة الزوج وعضل الولي، وجعلوا العقد موقوفاً على ذلك.
إذا تبين هذا فإن الذين يصححون النكاح بغير ولي ثم لا يجعلون للولي حقاً في الاعتراض أو الإجازة، لا يتبعون أحد من أهل العلم. والله أعلم، ، ،