الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
حشوتها من نفيس الفوائد ما يعود على الخبير بالصلات والعوائد وينسى الغرثان (1) لذيذ الموائد والعاشق الولهان محاورة الغيد والخرائد.
والمطلب الأول في اختطاط البلاد، وذكر الخلاف في نشأتها بين الرؤساء والأفراد.
وثانى المطالب في نعوتها التي أسلت عن الحسناء والحسن، وأنست من البقاع سواها كل سهل وحزن.
وثالث المطالب في تفصيل تراجم علمائها وذوى الفضائل والحيثيات من رجالها ووجهائها، وإن انتقلوا إلى غيرها من البلاد، سيان عندى حاضرها والباد.
ورابعها وجيز الإشارة إلى ما توارد عليها من الأحوال وما مر بها من أنواع الحبور والمحال.
المقدمة
التاريخ لغة: تعيين الوقت مطلقا، وعرفا علم يبحث فيه عما مضى من سالف الدهور وعن أحوال المتقدمين من الأمم وأسماء المشاهير منهم ومعرفة أزمنتهم وأمكنتهم، وسيرهم وعوائدهم، وما يتعلق بحياتهم ووفياتهم.
وينقسم إلى أثرى وبشرى: فالأول ما قصته الكتب المنزلة، والسنة النبوية، والثانى ما دونه علماء الأمم من الوقائع والحوادث والحروب، وينقسم أيضا إلى قديم وحديث، فالقديم: ما كان قبل الإسلام والحديث: ما كان بعده.
وعلى هذا التقسيم جرى جل مؤرخى العرب، ولكل أمة وجيل تقاسيم اصطلحوا عليها لسنا بصدد التعرض لها، ثم ما دون أو يدون في التاريخ إما عام وإما خاص، فقد يقع في الدول من بدء الدنيا، وقد يختص بالدولة الإسلامية
(1) الغَرْثَان: الجَوْعان.
مثلا، وقد يكون في أعمار الأعيان ووفياتهم، وقد يكون في اختطاط البلدان والمساجد والربط وغير ذلك.
وأما أصل موضوعه فأعمال البشر في كل زمان ومكان، والفحص عن سير المتقدمين من الملوك والعلماء والصلحاء والوقائع الحربية وغيرها، وحالة المدنية والعمران، وقوة الدول وفشلها، وأسباب تقدمها وتأخرها واضمحلالها.
وأما واضع الأثرى منه فهو الله تبارك وتعالى، أنزله على رسله الكرام في كتبه الناطقة بالحق وأعظمها القرآن، فقد تكررت فيه أقاصيص المتقدمين وأحوال الماضين وخصوصا مع الأنبياء والمرسلين، حتى قال مولانا تبارك وتعالى فيه خطابا لنبينا صلى الله عليه وسلم: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ
…
(120)} [سورة هود آية 120]، وقال: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ
…
(5)} [سورة القمر آية 4، 5]. وفى هاتين الآيتين الكريمتين تنبيه على ما يقصده العاقل من الاطلاع على أحوال الماضين والوقوف على سير الغابرين من الاعتبار والاتعاظ والاستبصار، ولذلك نرى القرآن يتفنن في إيراد القصة الواحدة وإعادتها بأساليب. من طرق البلاغة ويبرزها في صور شتى على قدر ما فيها من وجوه العبر وضروب النظر، حتى احتوى من ذلك على جم مما كان لا يعرف الوجه الواحد من علوم أقاصيصه إلا أفراد الرهبان، ورؤساء الأحبار، ولذلك وصف نبينا صلى الله عليه وسلم كتاب ربنا هذا بقوله:"فيه نبأكم وخبر ما كان قبلكم".
وكذلك أوحى الله تعالى من هذا الفن التاريخى إلى أنبيائه -في غير ما أنزله عليهم من الكتب أيضا- ما لا يستطاع استقصاؤه، وقد حدث نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك بما ملأ الدفاتر، وعلى ذلك جرى سلفنا الصالح، فلم يزل الصحابة رضوان الله عنهم يتفاوضون في حديث من مضى، ويتذاكرون في أخبار من تقدمهم من الأمم، واقتدى بهم في ذلك سادات التابعين وأتباعهم بإحسان إلى يومنا هذا.
وأما واضع البشرى فهو الإنسان وهو قديم الوضع من عهد نبى الله آدم عليه الصلاة والسلام، ومأخذ ذلك هو قوله عندما تيقظ من نومته التي ألقاها الله عليه
-ليخلق حواء من ضلعه- كما ورد في التوراة: (هذه عظم عظمى ولحم لحمى) إذ قوله هذه حكاية حادثة شاهدها وواقعة حال حققها، ثم ترقى التاريخ بهذا المعنى شيئا فشيئا كسائر العلوم البشرية حتى دون ذلك، وكل شيء يبدو صغيرا ثم ينمو كما هو مشاهد، "سنة الله التي قد خلت في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلا".
والتاريخ أيضا بمعنى التوقيت أى تعيين الوقت، كذلك قديم الوضع، فقد روى ابن عساكر في تاريخه بإسناده إلى الزهرى والشعبى، قالا: لما أهبط آدم عليه الصلاة والسلام من الجنة وانتشر بنوه في الأرض، أرخوا من هبوطه إلى أن بعث الله سيدنا نوحا عليه السلام، فأرخوا من مبعثه إلى وقعة الطوفان، فأرخوا حتى جاءت حادثة نار سيدنا إبراهيم عليه السلام فأرخوا بها.
ثم اجتمع رأى كل أمة من الأمم على شيء، فأرخ الروم واليونان بميلاد إسكندر الرومى، وأرخ المسيحيون بظهور سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وأرخ بنو إسحاق من مبعث نبى إلى مبعث نبى آخر، وأرخ بنو إسماعيل -من بنيان البيت- حين بناه إبراهيم وإسماعيل- حتى تفرقوا، فكان كلما خرج قوم من تهامة أرخوا بخروجهم ومن بقى بتهامة منهم أرخ بخروج سعد ونهد وجهينة بنى زيد من تهامة حتى مات كعب بن لؤى فأرخوا من موته، ولا زالوا يؤرخون بما كان من الحوادث حتى أتى عام الفيل فجعلوه تاريخا إلى أن حصلت الهجرة فأرخوا بها وبقيت مبدءا للتاريخ الإسلامى إلى الآن (1).
ويعتبر التاريخ بالليالي، لأن الليل عند العرب سابق على النهار، لأنهم كانوا أميين لا يحسنون الكتابة ولم يعرفوا حساب غيرهم من الأمم، فتمسكوا بظهور الهلال، وإنما يظهر بالليل فجعلوه مبدءًا للتاريخ.
(1) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور 1/ 30.
وأما ثمرته فالانتفاع بتذكر الحوادث التي حصلت في الكون خيرا أو شرا، والتبصر في الأمور والاسترشاد بما فات في كل ما هو آت للتخلى عن الصفات الذميمة والتحلى بالآداب والأخلاق الحميدة، إذ قصص من قبلنا عبرة لأولى الألباب في أحوال الدين والدنيا وما يعقلها إلا العالمون.
فإذا اطلع العاقل على سير المتقدمين من الأمم الراقية وأخلاقهم وسياستهم تاسى بهم وقاس نفسه عليهم، فانتصح بأحوالهم في دينهم ودنياهم، واكتشف عن عورات الكاذبين فيجتنب سوء أعمالهم ووخيم منقلبهم، ووقف على أحوال الصادقين فيقتدي بهم ويحرز لنفسه من معلومات العالمين وتصانيفهم واكتشافاتهم ما يشحذ ذهنه ويزيد في قوة إدراكه بأقرب الطرق وأيسرها مما لم يحصل عليه من سبقه إلا بعد العناء والكد.
وأما فضيلته فهو من أعظم العلوم وأعزها وأشرفها وأنفعها وأجملها وأكملها فهو أكبر مرب للأذهان ومرق لحالة الإنسان والعمران، وهو في الحقيقة برنامج ما مضى وتذكرة ما عناه الأولون من أحوال وتقلبات، وتبصرة لأولى الألباب في المستقبل، وعمر جديد للمطالعين يغنم ولا يهمل وفى فضله قيل:
ألا إن في التاريخ علما وحكمة
…
وفيه اعتبار بالقرون الأوائل
إذا لم تكن بالجسم شاهدت من مضى
…
فبالفضل قد شاهدتهم والشمائل
لذاك اعتنى بالكتب فيه أئمة
…
جهابذة أولو التقى والفضائل
وهم كل قاض أو فقيه مدرس
…
وذو أدب لم يدره باسم جاهل
وقال لسان الدين ابن الخطيب في صدر أرجوزته رقم الحلل في نظم الدول:
وبعد فالتاريخ والأخبار
…
فيه لنفس العاقل اعتبار
وفيه للمستبصر استبصار
…
كيف أتى القوم وكيف صاروا
يجرى على الحاضر حكم الغائب
…
فيثبت الحق بسهم صائب
وينظر الدنيا بعين النبل
…
فيترك الجهل لأهل الجهل
وقيل:
إن شئت تكثير عقل فيه مصلحة
…
لأجلها دارت الأفلاك أدوارا
فانظر لمعنى المواليد التي اختلفت
…
واقرأ تواريخ من في الدهر قد صارا
وقيل:
ليس بإنسان ولا عاقل
…
من لا يعي التاريخ في صدره
ومن درى أخبار من قبله
…
أضاف أعمارا إلى عمره
وقيل:
إذا عرف الإنسان أخبار من مضى
…
توهمته قد عاش حينا من الدهر
وتحسبه قد عاش آخر دهره
…
إلى الحشر إن أبقى الجميل من الذكر
فكن عالما أخبار من عاش وانقضى
…
وكن ذا نوال واغتنم آخر العمر
وقيل:
وما التاريخ إن فكرت إلا
…
رياض تجتنى منها ثمارا
تنادم تارة فيها ملوكا
…
وأخرى سادة علما كبارا
وآونة تنادم شرب راح
…
أداروا في مجالسهم عقارا
تفيدك حالة الماضين علما
…
ولا تألوك نصحا وادكارا
ترى فيها البلاد وساكنيها
…
كأنك حاضر معهم جهارا
به يعرف من خلف سير من سلف، ولولاه لجهلت الأنساب، ونسيت الأحساب، وتقطعت الأسباب. ولم يعلم الإنسان أن أصله من تراب ومآله إلى خراب. وقد ضمنت مقالتى التاريخية التي أمليتها بنادى الخطابة بمكناس خمسة عشر وجها من فضائله فلتنظر ثَمَّة.
وأقوى دليل على فضله وشفوف شرفه بين العلوم وقوع الاستدلال به والاحتجاج في القرآن الكريم -الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- في قوله جل من قائل: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)} [سورة آل عمران آية 65]، وهذا كما قال العلماء من لطائف الاستدلالات وأنفسها.
وأما حكمه فإنه يكون مطلوبا في غالب الحالات، وربما كان فرض كفاية، وبالجملة فالقول الفصل ما أفصح به أبو على اليوسى -في قانونه- إذ قال: كل ما يحتاج فيه إلى شيء من أمور الشرع كتاريخ سكة معلومة، أو مكيال معلوم، أو مسجد عتيق، أو التقى فلان بفلان من الرواة، أو إمكان التقائه، أو كان فلان من المتقدمين أو من المتأخرين أو من الصحابة أو لا، وغير ذلك فهو داخل في العلوم الشرعية المهمة، وما سوى ذلك بخارج عنها غير أنه إن أفاد فائدة أخرى كالاعتبار والاستبصار والاهتزاز بوصف محمود بسماع أخبار من اتصف به من صلاح، أو عبادة، أو زهد، أو شجاعة أو حلم، أو سخاء ونحوه والانتهاء عن مذموم عند ذكر من نعي به، أو تعليم صنعة أو حيلة نافعة، أو غير ذلك من المصالح فهو محمود كسائر العلوم التي ليست من أمور الدين كالحرف والصنائع التي تجلب للإنسان -كما هو مشاهد- جزيل المنافع وذلك إن لم يعطل عما هو أهم منه وإلا فالأهم المقدم.
وأما نسبته إلى غيره من أصول العلوم الأدبية فهو جزئى لها، وهى اللغة والصرف والاشتقاق والنحو والمعانى والبيان والعروض والقافية والخط وقرض
الشعر والإنشاء والمحاضرات، نعم الثمانية الأولى أصول، والأربعة بعدها فروع، كما صرح بذلك أبو البقاء في كلياته وغيره، قال: ومنها التواريخ والبديع ذيل للمعانى والبيان، وقد جمعها الشيخ حسن العطار في قوله:
نحو وصرف عروض بعده لغة
…
ثم اشتقاق وقرض الشعر إنشاء
كذا المعانى بيان الخط قافية
…
تاريخ هذا العلم العرب إحصاء
وقد توقف الشيخ الأمير في عد التاريخ من علوم العرب وقوفا مع ظاهر كون الأمية فيهم هى الأصل وعمدة التاريخ الكتابة. ونحن نقول توقفه غير ظاهر، لأن العرب أكثر الناس اعتناء بالمحافظة على معرفة الأنساب وأشد الأمم ولوعا بحكاية الوقائع والأخبار والحروب والقصص، وذلك في أشعارهم كثير، وغير خاف أن شعر العرب مستودع أخبارها، ففيه علومهم وأخبارهم وحكمهم وهو ديوانهم الجامع لمآثرهم، وقد جعل الله تعالى أناجيلهم في صدورهم، وأغناهم بقوة الحفظ وسيلان الأذهان عن الاحتياج للكتابة وما يتبعها من الوسائل، ولو دفعنا عنهم التاريخ بعدم كتابتهم لدفعنا بذلك أيضا عنهم سائر العلوم الأدبية التي لا ينازعهم فيها أحد وذلك باطل بالضرورة، وسترى في كلام الحسن بن سهل الآتى قريبا أن علم النسب وأيام الناس عربى الأصل وكفى به ردا لتوقف الأمر.
ثم إن إطلاق الأدب على الاثنى عشر المذكورة مولد حدث في الإسلام كما أفصح بذلك شارح القاموس، فإن علم الأدب لغة هو: تعلم رياضة النفس ومحاسن الأخلاق. قال أبو ريد الأنصارى: الأدب يقع على كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل، والأزهرى نحوه كما في المصباح، ونقل الخفاجى في العناية عن الجواليقى في شرح أدب الكاتب أن معناه لغة حسن الأخلاق وفعل المكارم هـ.
وقال ابن خلدون في مقدمته: هذا العلم يعنى الأدب لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته وهى الإجادة في فنى المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم، فيجمعون لذلك من كلام العربَ مما عساه تحصل به الملكة: من شعر عالى الطبقة، وسجع مَبْثُوثة (1) أثناء ذلك متفرقة يستقرى منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية، مع ذكر بعض من أيام العرب يفهم به ما يقع في أشعارهم منها، وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة، والمقصود بذلك كله أن لا يخفى على الناظر فيه شئ من كلام العرب وأساليبهم ومناحى بلاغتهم إذا تصفحه، لأنه لا تحصل الملكة من حفظه إلا بعد فهمه، فيحتاج إلى تقديم جميع ما يتوقف عليه فهمه (2).
ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف، يريدون من علوم اللسان أو العلوم الشرعية من حيث متونها فقط وهى القرآن والحديث إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلام العرب إلا ما ذهب إليه المتأخرون عند كلفهم بصناعة البديع من التورية في أشعارهم وترسلهم بالاصطلاحات العلمية، فاحتاج صاحب هذا الفن حينئذ إلى معرفة اصطلاحات العلوم هـ (3).
ونقل أبو على اليوسى في محاضراته عن الحسن بن سهل قال: الأدب عشرة أصناف: ثلاثة شهرجانية وهى ضرب العود ولعب الشطرنج واللعب بالصوالجة، وثلاثة أنوشروانية وهى الطب والهندسة والفروسية، وثلاثة عربية وهى الشعر والنسب وأيام الناس، والعاشر مقطعات الحديث والسمر وما يتعاطاه الناس بينهم في المجالس وهذا عام هـ.
(1) تحرف في المطبوع إلى "ثبوتة" وصوابه لدى ابن خلدون الذى ينقل عنه المصنف.
(2)
مقدمة ابن خلدون 3/ 1139.
(3)
مقدمة ابن خلدون 3/ 1139.
وفى نفح الطيب أن علم الأدب في الأندلس كان مقصورا على ما يحفظ من التاريخ والنظم والنثر ومستظرفات (1) الحكايات، قال: وهو أنبل علم عندهم، ومن لا يكون فيه أدب من علمائهم فهو غفل مستثقل (2).
وإنما كان التاريخ من الفنون الأدبية لأنه أكبر مرشد للتخلق بمكارم الأخلاق ومجانبة أهل الرذائل والنقائص والفرار من الأشرار، ولأنه أقوى معين ومساعد على نمو قوة ملكة الإنشاء نظما ونثرًا للاستشهاد بشواهده والاستمداد من فوائده والائتمار بأوامره والانتهاء بنواهيه وزواجره لمن أبصر رشده وأراد الله هدايته.
وأما استمداده فهو إما من الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان. وإما من أخبار الأنبياء أهل التحقيق والعرفان. وإما من الحوادث المشاهدة بالعيان. والآثار الضخمة العظيمة الشان. وإما مما دونته رواة الأخبار وأولاه ما نقلته عن مشاهدة وعيان. فإن ذلك يغنى هم كل برهان. ويكسب صاحبه علما يقينا لا يشككه فيه ثان. وإما من الوقائع المسموعة ممن شاهدها من المعاصرين الأعيان.
نعم لا غنى لمن يعول في النقل على هذا الأصل من اعتبار أحوال المسموع والمسموع منه، أما الأول فبأن يعتبر إمكانه في نفسه باعتبار العقل والحقيقة فإن دخل في حيز الإمكان بهذين الطريقين نظر فيه، واعتبره ثانيا باعتبار حال المسموع منه بأن يكون ثقة غير مغفل فإن لم يكن فيهما مانع فحينئذ يعول عليه ويجعله أصلا لديه، وإنما اعتبرنا الإمكان شرطا في قبول ما جاء من هذه الطريق وفى الحقيقة كل الطرق مثلها لأن غير الممكن لا نظر فيه، إذ هو ملطوم به وجه الآتى به، وأما ما صح عن المعصوم فلا يكون إلا ممكنا إذ:
(1) في المطبوع "ومستطرفات" والمثبت لدى القرى في نفح الطيب الذى ينقل عنه المصنف.
(2)
نفح الطيب 1/ 222.
لم يمتحنا بما تعيا العقول به
…
حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم
وبهذا يأمن الخائض في هذا الفن من البناء على المستحيل، وإنما اعتبرنا حال المسموع منه لأنه لا التفات لنقل كذوب، ولا لمن ليس بضابط، فإنه لا بناء إلا على أساس صحيح، وإلا كان الإنسان عاقبته الخيبة، ومن هنا تعلم أن صاحب هذا الفن لا غنى له عن التبصر في علم الحقائق والرقائق والمهارة في المواد والطرائق حتى يكون ناقدًا بصيرًا، وبإماطة أذى غثه من سمينه كفيلًا خبيرًا.
ومن طرق استمداده أيضا الآثار القديمة والبناءات الضخمة العظيمة كقصر البنت الموجود أثره بالحِجر بكسر الحاء وسكون المعروف اليوم بمدائن صالح في وادى القرى على طريق المار من الشام إلى مكة المعظمة، وبقايا الرواق الأعظم، وقصر بصرى حوران، وقلعة صلخد في حوران، وبقايا قصر المشتى، وبقايا القصر الأبيض، وبقايا الأهرام وما بصعيد مصر من الآثار، وما بمصر أيضا عند أطلال مدينة طيبة القديمة.
وما بالقدس الشريف من بقايا بناء نبى الله سيدنا داود عليه الصلاة والسلام، وما كان شاخصًا من الأطلال قبل، بل وفى الحين الحالى الكائنة بمدينة وليلى (1) من جبل زرهون المعروفة في زماننا الحاضر بقصر فرعون مع ما اكتشفه علماء الفن من الآثار العجيبة الهائلة ذات البال في هذا العهد هنالك أيضا وغير ذلك مما يطول.
ومنها السكك المضروبة من ذهب وفضة وغيرهما كورق أهل الكهف، وبعث أحدهم به إلى المدينة كما نص الله تعالى في كتابه الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ونقود السبَّئِيّين في اليمن ، ونقود الرومانيين الموجودة في الزمن الحاضر بمتحف الآثار المكتشفة بمدينة وليلى المشار لها ووهب اللات وغيرها.
(1) لدى ياقوت: وَلِيلَى: مدينة قرب طنجة.
وقد شاهدت عين البعض مما ذكر وصور البعض في كتب المعتنين بذلك الشأن، وكالرسوم والأعمدة والقوائم الضخمة التي يستدل ببقائها من زمان نشأتها القديم إلى رمان الوقوف عليها على أنها منظور إليها بعين العناية والاعتبار والرعاية والرسوم والأطلال مع ما رقم عليها، وسيمر بك بعض ذلك إن شاء الله فترقب، وكل ما يشهد لحقيقة الأمر وينتفى به الشك في حكاية الواقع.
ثم بعد تحصيل الناظر في هذا الفن لهذه الأصول فعليه أن يعضدها بأصل رابع وهو التثبت والتحرى ولزوم الصدق وعدم الميل مع غير الحق حتى يتجرد بالكلية، عن الأغراض الشخصية، والمحاباة والحمية، وحكاية غير الواقع ونسبة الأمور والواقع ونسبة الأمور والوقائع لغير أربابها، إذ بالتثبت يثمر مقاله، ويزكو بين البرايا حاله، وبالعلم ينفذ من مهاوى السقوط في الزلات والأغاليط، وبالأمانة تنتفى عنه الشهوات والأغراض، فيتكلم بلسان الحوية، متجافيا عن الشهوات النفسية، وواقفا عند حد العدل والمدنية.
ولا غرو أن فحول المؤرخين قد استوعبوا أخبار ما تكلموا عليه من أيام الأمم وسطروها على صفحات الدفاتر، ولكن خلطها المتطفلون بدسائس من الباطل لاحظوها بطرف فاتر، ولفقوها بزخارف واهى الروايات، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال في تلك الحكايات، ولم يرفضوا ترهات الأقاويل، ولم يميزوا بين الصحيح وما ليس عليه تعويل، فتحققهم في أمرها قليل، وطرف تحقيقهم في الغالب كليل.
وعن ذلك نشأ ما حشيت به التواريخ من كثرة الدخيل، الذى لا يلتفت إليه إلا سقيم الإدراك عليل، ولا يؤبه به لا في قبيل ولا في دبير.
والغرض من التنبيه على هذا تحذير مطالع التواريخ من التعويل على كل قيل، والبناء عليه من غير تفرقة بين صحيح أصيل، وباطل دخيل.
أما الذين ذهبوا بفضل الشهرة والأمانة المعتبرة في التاريخ فهم قليلون، منهم اليعقوبى في منتصف القرن الثالث، وابن جرير في "تاريخ الأمم والملوك" المتوفى عام عشرة وثلاثمائة، والمسعودى في تواريخه الثلاث "أخبار الزمن" و "الأوسط" و"مروج الذهب" المتوفى سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، وابن الأثير في كامل التواريخ المولود سنة خمس وخمسين وخمسمائة، المتوفى سنة ثلاثين وستمائة. وابن خلدون في كتاب العبر وديوان المبتدإ والخبر، المتوفى رمضان سنة ثمان وثمانمائة.
وتواريخ هؤلاء من بدء العالم إلى أيامهم، وقد جاء من بعدهم في كل رمان ومكان من استدرك ما فاتهم وذيل عليهم بتدوين ما قصرت عنه حياتهم واستمر ذلك إلى وقتنا هذا وهو ثانى عشرى رجب الفرد الحرام عام تسعة وثلاثين وثلاثمائة وألف، فكثرت بسبب ذلك موضوعات هذا الفن وتنوعت أساليبه، وتعددت أسبابه، حتى لو رام أحد تقصى ذلك لعجز.
وقد ذكر المسعودى جملة كبيرة منها وتاريخه لغاية سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة فما ظنك بما بعد ذلك.
وقد عد الشيخ عبد الرحمن بن حسن الجبرتى في كتابه "عجائب الآثار" جملة صالحة منها، وسرد صاحب "كشف الظنون" من التواريخ في زمانه ثلاث عشرة مائة، وقد أوجز إذ لا موقع لهذا العدد في جانب ما فاته من ماض عنه فأحرى ما هو آت بعده.
فعلى الإنسان أن يستفرغ في الاستطلاع جهده ولا يوقع نفسه في ورطة الحصر، فإنه ما رامه أحد إلا تعدى طوره. وأفنى عمره ولم يبلغ غوره. وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.
وأما مسائله فهى عبارة عن كليات حكمية مأخوذة من التمحيص التفصيلى يهتدى بها في أحوال الدول ومآل حياتهم، كقولهم: كل دولة لا بد لها من عصبية
في أول نشأتها، وقولهم: الطمع والترف يؤديان إلى دمار الممالك، وتعطيل المسالك، وقولهم: إن الدول إذا تهممت بالطرف والذخائر وقصرت هممها على الحلى والحلل والفرش الهائلة والمبانى المشيدة دل ذلك على تحلل تركيبها واضمحلال ضخامتها وفناء رونقها وحسنها ونقصان كمالها وآل أمرها إلى الاندثار والدمار، وقولهم: العدل سور لا يغرقه ماء ولا تحرقه نار ولا يهدمه منجنيق وقولهم: عدل قائم، خير من عطاء دائم، وقولهم: لا يكون العمران، حيث لا يعدل السلطان، وقولهم: قيمة العدل ملك الأبد وقيمة الجور ذل الحياة، وقولهم: العدل يسع الخلق والجور يقصر عن واحد، وقولهم: من كثر ظلمه واعتداؤه قرب هلاكه، وقولهم: رأس المملكة وأركانها وثبات أحوال الأمة وبنيانها العدل والإنصاف، وقولهم: الظلم نقيصة لا يألفها إلا كل متوحش جاهل، والعدل فضيلة عظيمة لا يتحلى بها إلا كل متمدن عاقل.
العدل روح به تحيا البلاد كما
…
دمارها أبدا بالظلم ينحتم
الظلم شين به التعمير ممتنع
…
والعدل زين به التمهيدي ينتظم
وقولهم: إن خير السلاطين من عمل في أمر الرعية بالعدل والإنصاف ولم يقبل بغى بعضهم على بعض، وقولهم الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة والقيام لله بطاعته والتصرف تحت أوامره ونواهيه، وقولهم: بالعدل تطول المملكة وتصح الرعية وتكثر العمارة، وقولهم: إذا هم الوالى بالجور وعمل به أدخل الله النقص في أهل مملكته حتى في التجارات والزراعات وفى كل شيء، وإذا هم بالخير أو عمل به أدخل الله البركة على أهل مملكته حتى في التجارات والزراعات وفى كل شيء ويعم البلاد والعباد.
واعلم أن مدار جل هذه الكليات على العدل {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [سورة
النحل آية 90]، وأن العدل هو القسطاس المستقيم في الرعايا والعوالم، فإن الله تعالى خلق العوالم مختلفة متقابلة متضادة مزدوجة، ويعسوب ثباتها الكفيل بسعادة حياتها هو العدل فيها يربط شئونها بالطريق الوسط، الخالى من التفريط والشطط، فإن ذلك به تطمئن القلوب من الشعوب، وبه ترتبط على التعاضد في مدلهمات الخطوب، وبضده تنال مهاوى الفشل والتفرق والاندثار، وتلاقى الأمة من شقاوة الحياة سائر الأخطار.
فحقيق على كل دولة رامت السعادة والثبات أن تجعل العدل أساس تصرفاتها، ومركز سائر تقلباتها، وأن تتعاهد إصلاح ما اختل من ذلك كل حين، وأن تجعله محور دوائر المراقبة منها على ممر الأوقات والسنين، وليس يتأتى ذلك إلا بإدمان النهضة لتصفح أحوال المتولين، والمبادرة لطرد الظالمين، والضرب على أيديهم، وإظهار مزايا من وجد منهم لطريق العدل سالكا، ولسائر الأغراض الشخصية في ولايته تاركا، فقد قيل لبعض الحكماء: بم يزول الملك؟ قال: بغش الوزير، وسوء التدبير. وفساد الطوية، وظلم الرعية، {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [سورة ص آية 26].
هذا وقد آن أن نتخلص للمقصود فنقول: حيث كان فن التاريخ تقصر الحافظة عن الإحاطة بإفادته، وتنقض خطا القلم عن الإلمام بسائر مهماته، تعين صرف العنان من الإنسان لتحرير ما هو الأهم به في طوره الآن.
وذلك شيئان أصل تخطيط بلدة أقيم فيها. وأحوال دولة هو الآن بين رجالها، وأهمية الأول هى باعتبار أن جاهل تخطيط بلدته، التي بها مسقط رأسه ومحط رجال أهل جلدته، يكاد مع انتفاء الموانع أن لا يضرب له في الإنسانية بسهم من فئته، ويعد ذاهلا حتى عن أصل نشأته.
وأهمية الثانى هى باعتبار أن جاهل ما هو بين الأظهر حال، يكاد يحصل اليأس منه بمعرفة ما لمن بعد عنه ممن تقدم من الأحوال. فكانت معرفة الشخص بتخطيط بلدة إقامته، وأحوال رجال دولته، عنوانا كاملا لنجابته، ومحكا واضحا لشفوف قدره ومكانته.
وبهذه الطريقة تعين عليّ أن أجعل إفادة الطالب بملخص تخطيط وتقلبات بلدتنا، ووقائع وأحوال رجال دولتنا، من واجب الحقوق المرعية، والتحف السنية المرضية. فأقول:
من الرازق الوهاب أرجو هداية
…
وتسديد قول بين كل الخليقة
وفتحا قريبا يذهب الرين عن حشا
…
أقام بها عجب وداء ضغينة
ويشرح صدرا ضيقا حرجا بما
…
ألم من الأوزار من سوء سيرة
المطلب الأول
بلدتنا مكناسة الزيتون بكسر الميم كما جزم به ياقوت الحموى في معجم البلدان والفيروزابادى في القاموس. وقد تقال بدون هاء عند عدم الإضافة، ولم تكن إضافتها للزيتون مقارنة لنشأتها، وإنما حدثت بعد ذلك عند إنشاء الزيتون بها، وإنما صارت تضاف إليه وقتئذ للتحرز عن مكناسة القبيلة الحالة أحواز تازا التي بينها وبين فاس مائة وثمانية وعشرون كيلو مترا للذاهب من باب الساكمة بالكاف المعقودة أحد أبواب فاس، والساكمة التي ينسب هذا الباب إليها هى امرأة مجذوبة توفيت قرب عام خمسين ومائة وألف ودفنت يسار الخارج من الباب المذكور، فصار الباب ينسب إليها ذلك.
ووجه تسمية بلدتنا بمكناسة سكنى طائفة من القبيلة البربرية الشهيرة بمكناسة بها وذلك في سالف الدهور ونسبة هذه القبيلة هى لجدهم مكناس بن ورصطيف البربرى، وتلخيص ما في المقام أن فرقة من قبيلة مكناسة نزل البعض منها شرقى
مدينة فاس وهم الذين أفصحنا سابقا بكون مقرهم أحوار تازا ونزل بعض آخر منها غربى مدينة فاس على مسافة ستين كيلو مترا وهم سكان هذه المدينة في الأعصر المتقادمة.
وأشار ابن الرقيق إلى أنهم هم الذين أنشئوها، وأن سكانهم أولا كانت في بيوت الشعر، ثم حملتهم الثروة على التخاصم وإجلاء الأقوى للأضعف، فصاروا بذلك يتخذون الدور بموقع مكناسة ويتابع بعضهم في ذلك بعضا إلى أن كثرت دورها وصارت من أعاظم المدن، وصرح بذلك حسن بن محمد الوزان الغرناطى ثم الفاسى الشهير في أوربا بجان ليون في "رحلته" وعليه فنسبتها إليهم لإنشائهم لها وسكانهم بها، وقد كان اختطاطهم لها قديما قبل الإسلام كما أفصح به بعض المؤرخين، وصرح بعض المعاصرين من الأوربيين في مؤلف له في مكناسة بأن ذلك كان في القرن الرابع قبل ميلاد سيدنا عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكان تمدنها وقتئذ عبارة عن قرى متعددة كما يأتى عن ابن غازى.
تنبيهان اثنان: الأول: ما سبق من أن بين فاس ومكناسة ستين كيلو مترا هو الذى حرره أهل الفن من الدولة الحامية الآن، وقد حققوا ذلك بعلامات نصبوها على رأس كل عدد كما هو شأنهم في أمثال ذلك، وعليه فما وقع في رحلة حسن ابن محمد الوزان من أن بين فاس ومكناس ستة وثلاثين ميلا (1) وكذا ما وقع في كتاب فتوحات مولاى رشيد، ومولاى إسماعيل لمؤلفه مويت الفرنسى، من أن بين مكناسة وفاس الجديد ثمانية وأربعين ميلا.
وكذا ما وقع في الروض الهتون هنا من قوله مرة إن بين مكناس وفاس نحوا من ثلاثة برد ونصف بريد.
وقوله: مرة أخرى إن بينهما نحو أربعين ميلا. هـ.
(1) وصف إفريقيا لابن الوزان -ص 219.
كله مبنى على المتعارف عند أهل كل وقت أو ناحية في قدر الميل فإنه يختلف باعتبار ذلك؛ ولذلك وقع الاختلاف في حد الميل إلى أقوال كثيرة كما في القاموس وغيره وأيضا فقد كانت التقديرات مبنية على التقريب غالبا عند المتقدمين، وكذا يقال في المسافة التي بين تازا وفاس فإن القدر الذى قدرناه فيها هو الذى حرره أهل الفن الآن وحققوه على الوجه السابق، فينبغى أن يختبر به قول الروض هنا إن بينهما نحوا من سبعة برد.
ومن أبين طرق التوفيق أن يقال: إن المسافة التي قدر من قدمنا ذكرهم هى باعتبار الطرق التي كانت مطروقة في أزمنتهم والطرق الموجودة الآن هى غير تلك، لأنها تفارقها تارة وتجامعها أخرى، بحسب ما يقتضيه الخط الهندسى العصرى بالنسبة للسهل والوعر منها كما هو مشاهد وهو جمع حسن والله أعلم.
ولا تظن أن تحرير هذا المبحث لا أهمية له فإن عليه ينبنى مشروعية قصر الصلاة وعدمه لقاطع تلك المسافة، وذلك مما كان يتردد فيه أهل العلم لعدم تحرير قدرها.
الثانى: جزم في الروض هنا بأن مكناسة فرقة من زناتة، والذى جرى عليه ابن خلدون والقلقشندى في صبح الأعشا وابن الخطيب في الحلل الموشية وغيرهم أن مكناسة قبيلة مغايرة لزناتة، وإنما جعلت الإضافة للزيتون فارقا لأن الشيء يتميز عن غيره بخاصته التي اختص بها، إما باعتبار الوجود، وإما باعتبار الكثرة، والثانى هو المراد هنا.
فإن مدينتنا هذه كانت امتازت بكثرة زيتونها كثرة تليق بإضافتها إليه، وإنما قيدت بقولى كانت وبقولى كثرة تليق إلخ، لأن تلك الكثرة امتازت بها قبل لم تبق لهذا العهد ولا فيما قبله بكثير بما توالى عليها من الفتن والأهوال والحروب واختلاف الدول وتقلبات الأحوال، سنة الله التي قد خلت في أرضه وعباده ولأن
[صورة تقريبية تمثل الهيأة التي كان عليها قصر الستينية على عهد السلطان الأعظم مولاي إسماعيل]
زيتون فاس كان يزيد على زيتونها بنحو ثلاثة أعشار وما وقع في كتاب الاستبصار بعجائب الآثار المؤلف سنة سبع وثمانين وخمسمائة من أن زيت مكناسة أكثر زيت في جميع المغرب (1) يتعين تأويله بما يوافق ما ذكرناه.
قال ابن غارى في روضه: وغارس جل زيتونها وزيتون المقرمدة بفاس وزيتون رباط تازا هو عامل بلاد المغرب محمد بن عبدو الله بن واجاج أوائل أيام الموحدين، وقد كان يبلغ ثمن حب زيتونها عام حمله خمسة وثلاثين ألف دينار - أى مائة وخمسة وسبعين ألف فرنك تقريبا باعتبار صرف وقتنا هذا وهو رجب عام تسعة وثلاثين وثلاثمائة وألف = وذلك قبل أن يستولى على المغرب تخريب بنى مرين عند اختلال أمر الموحدين (2).
قلت: وهذا القدر الذى كان يبلغه ثمن الحب إذ ذاك له بال بالنسبة لذلك الزمان وسكته وسنبينه فيما يأتى بحول الله على مبدأ الدولة الموحدية وعلى وجه نسبتها للتوحيد وابن غازى المذيل بهذا على روضه تأتى ترجمته في المحمدين من رجال مكناسة إن شاء الله.
ومكناسة من البلادات العظيمة كما في شرح القاموس وكتاب الاستبصار ودونك لفظ الاستبصار: وهى من البلادات العتيقة المجيدة، إلى أن قال: وهى من عز (3) بلاد المغرب، لها أنظار واسعة (4) وقرى عامرة وعمائر متصلة (5).
وقال غيره: وكانت المداشر محدقة بها من كل جهة، كل مدشر بمزارعه وغراساته ومرابعه إلى أن ظهر فساد السعيد بن عبد العزيز في أرض المغرب،
(1) الاستبصار في عجائب الأمصار، ص 188.
(2)
الروض الهتون. ص 50.
(3)
في المطبوع: "أعز" والمثبت من الاستبصار الذي ينقل عنه المصنف.
(4)
في المطبوع: "متسعة" والمثبت رواية الاستبصار الذي ينقل عنه المصنف.
(5)
الاستبصار، ص 188.
وذلك في العشرة الثانية من القرن التاسع، فخلا المداشر وانجلى عنها أهلها، خلا من مداشرها اثنا عشر ألف مدشر والبقاء لله تعالى.
قلت: وهى واسطة عقد عواصم المغرب فاس ومراكش.
واقتصر ياقوت الحموى المولد الرومى الأصل البغدادى الدار المتوفى بحلب سنة ست وعشرين وستمائة في كتابه "معجم البلدان" على أنهار اسم جامع لمدينتين صغيرتين على ثنية بيضاء بينهما حصن [جواد] اختط إحداهما يوسف بن تاشفين والأخرى قديمة (1).
قلت: وكأنه يعنى بالقديمة تاورا المشتملة زمن عمارتها على الحمامات والمسجد الجامع، وغير ذلك مما يأتى لأن الخراب وإن وقع في مكناسة القديمة سنة خمس وأربعين وخمسمائة فإن تاورا وغيرها عمرت بعد ذلك إلى سنة ست عشرة وستمائة كما يأتى بحول الله فترقب، وقد كان ياقوت في هذا التاريخ موجودًا وتأخرت وفاته عنه بنحو عشر سنين كما تقدم.
لكن في "نشق الأزهار" لشمس الدين محمد بن أحمد بن إياس الحنفى ما نصه: أجل مدائن مكناسة مدينتان إحداهما تسمى تاقررت (2) وهى مدينة مرتفعة عن الأرض، وشرقها نهر عليه أرحاء بالماء، وبها بساتين، وأهلها ذوو مال وثروة، وإليها ينسب عسل النحل المكناسى.
والمدينة الأخرى تسمى بنى زياد، وهى مدينة عظيمة لم يكن في المغرب أنزه منها وبها نهر يجرى في شوارعها وأسواقها ودورها، وبها حمامات وهى مدينة مشهورة.
وكتاب "نشق الأزهار" هذا فرغ مؤلفه من تأليفه في رابع عشر شعبان عام اثنين وعشرين وتسعمائة هجرية فصاحبه متأخر عن ياقوت، وقد صرح بأن ثانى
(1) معجم البلدان 5/ 181.
(2)
في المطبوع: "أكرارت" والمثبت رواية نزهة المشتاق 1/ 244 التي ينقل عنها المصنف.
المدينتين المعتبرتين في مكناس بنى زياد، فمن الجائز أن تكون هى المرادة لياقوت بالمدينة القديمة، ويقوى ذلك ما يأتى عن نزهة المشتاق من أن مكناسة مدينة بنى زياد وأنها مدينة عامرة لها أسواق وحمامات وديار حسنة والمياه تخترق أرقتها، وأنها لم يكن في أيام الملثم أعمر قطر منها إلخ.
ولا يمكن أن يكون عنى بالقديمة وليلى لأن مدينة وليلى لا تعرف باسم مكناس، وإن كانت مجاورة له، ولأنها كانت بطلت عمارتها وخربت إلا النادر منها قبل ولادة ياقوت بما يزيد على مائتين من السنين، ولأن مكناسة القديمة بربرية كما تقدم وليلى رومانية كما يأتى ولغير ذلك مما سيفصل بعد.
ولا تنافى بين الصغر الموصوفة به مدينة مكناس في نقل ياقوت وبين العظم الموصوفة به في نقل شارح القاموس لأن شارح القاموس تأخر زمنه عن رمن ياقوت بالكثير فكل منهما وصفها بما كانت عليه في زمنه.
وزمن شارح القاموس متأخر عن زمن المولى إسماعيل مصير مكناسة على ما هى عليه من العظم حتى الآن فلذلك وصفها به، وأما المدينة الثانية في كلام ياقوت فهى الموجودة الآن.
وقول المعجم على ثنية بيضاء قال الراغب: الثنية من الجبل ما يحتاج في قطعة وسلوكه إلى صعود وحدور فكأنه يثنى السير.
هذا هو الواقع هنا فإن الآتى لمكناسة من ناحية زرهون يكون من عبوره وادى بُورُوح -بضم الباء وسكون الواو وضم الراء بعدها واو ساكنة ثم حاء مهملة - في صعود إلى أن يدخلها، وكذلك الآتى إليها من ناحية فاس من عبوره وادى وَيْسَلَنَ بفتح الواو وسكون الياء وفتح السين المهملة بعدها وفتح اللام -كذا رأيته- مضبوطا بخط صاحب الروض الهتون- يكون أيضا في صعود إلى أن يدخلها من سائر أبوابها والخارج منها ينحدر.
وقول المعجم بينهما حصن كأنه يعنى به قصر عامل مكناسة قديما الآتى في كلام ابن غارى وسيأتى عنه أيضا إطلاق اسم الحصن عليه كما أطلقه ياقوت، والظاهر أن هذا الحصن كان في زمن ياقوت لازال قائم الجدران فلذلك اعتبره، وإن كان قد خلا قبل ذلك ومسته أيدى التخريب وقت فتح مكناسة الآتى، ثم اضمحل أثره بعد بالكلية، ولا يصح أن يعنى به القصبة الأمرينية لأنها إنما حدثت بعد وفاة ياقوت بما يقرب من خمسين سنة كما يأتى في محله ولعدم صدق الثنية عليها في كلامه.
وقوله اختط إحداهما يوسف بن تاشفين. هـ.
يوسف هذا هو أعظم أمراء المرابطين ولد سنة أربعمائة وتوفى في مهَل محرم فاتح سنة خمسمائة، فيكون عمره على هذا مائة سنة.
وقد صرح ابن غازى بأن المدينة المسماة بمكناسة في زمنه إنما أحدثها المرابطون بعد ظهور الموحدين، وأول الموحدين ظهوراً المهدى بن تومرت، وهو إنما دخل عاصمة المرابطين مراكش في صفة ناسك قبل الإمارة عام أربعة عشر وخمسمائة كما قاله غير واحد منهم علي بن محمد بن أحمد بن عمر بن أبى زرع من أهل المائة الثامنة في كتابة الأنيس المطرب.
والأمير وقت دخول المهدى بن تومرت لمراكش هو علي بن يوسف المذكور، وأيضا قد اقتصر ابن أبى زرع على أن بناء حصن تاجرارت كان سنة خمس وأربعين وخمسمائة كما يأتى، وحينئذ فكيف يكون مختط المدينة الحادثة هو يوسف وهو قد مات قبل اختطاطها بنحو ست وأربعين سنة، فالصواب أن المختط لها من المرابطين من بعده.
فصل: قال في الروض وكانت البلاد قبل فتحها ديار كفر مجوس ونصارى، وحاضرتها إذ ذاك مدينة يقال لها وليلى سميت باسم ملكها وليلى، وآثارها عظيمة
[صورة]
آثار مدينة وليلي الأزلية
باقية لهذا العهد بأرض خيبر من ناحية جبل زرهون تعرف اليوم بقصر فرعون، هـ. من خطه (1).
وقال بعد هذا: وبأسفله -يعنى جبل زرهون- على اثنى عشر ميلا من مكناسة بموضع يقال له تازجا أثر بناء عتيق ضخم يسمى قصر فرعون، وكان ثَمَّ سوق غبار يجتمع فيه يوم الأربعاء، وتنسب هذه السوق لَوَلِيلَى، ويذكر أن وليلى كان ملك الروم وكان له هناك تلك المدينة، وهى كانت حاضرة تلك البلاد كذا ذكره بعض المؤرخين (2).
ولما استولى الفتح على المغرب شمل مدينة وليلى وغيرها وبها نزل السيد الطاهر النقى التقى إدريس بن عبد الله رضى الله تعالى عنه على شيخ أوْرَبَة حسبما هو مذكور في تاريخه من خطه (3).
قلت: تازجا ضبطه ابن غازى بفتح الزاى، ومدينة وليلى رومانية فتحها سيدنا عقبة بن نافع عام اثنين وستين، واعتنق أهلها الدين الإسلامى على يد والى سيدنا عمر بن عبد العزيز عام مائة، ثم استقلوا أيام العباسيين وقام بالأمر عبد المجيد الأوربى إلى عام اثنين وسبعين ومائة سنة، وفيه نزلها مولانا إدريس بن عبد الله الكامل ثم بنوه من بعده إلى أن تغلب موسى بن أبى العافية عام خمسة وثلاثمائة، وفى عام خمسين وأربعمائة دخل أميرها مهدى بن يوسف الجزنائى في طاعة يوسف بن تاشفين، وبقيت في طاعة لمتونة إلى عام واحد وأربعين وخمسمائة، فحاصرها عبد المؤمن بن على الموحدى ولما تمكن منها طمسها وخرب آثارها.
وفى عام أربعة وخمسين وخمسمائة جدد بالقرب منها حصنا سماه تاقرارت، كذا وقفت عليه بخط بعض عدول أعلام مكناسة الأثبات، وسيأتى لنا مزيد كلام ونقد في ذلك، وكون البلاد كانت ديار كفر إلخ، لا يخالف ما سبق من كون مكناسة بربرية، لأن أنواع الكفر التي ذكرها كلها كانت موجودة في بربر هذه البلاد.
(1) الروض الهتون - ص 51.
(2)
الروض الهتون - ص 69.
(3)
الروض الهتون - ص 69 - 70.
وقول ابن غازى: وكانت البلاد -يعنى بلاد مكناسة وما والاها وما هى منه من بلاد المغرب الأقصى هذا هو المتعين في محمل كلامه بقرينة قوله: قبل فتحها إلخ، لأنه أشار به للفتح الذى كان في صدر الإسلام، إذ هو الذى كان فيه أهل البلاد على ما وصفهم به وهو كان عموميا في المغرب الأقصى لا في خصوص مكناس، وبقرينة قوله وحاضرتها إلخ لأن مسمى مكناس لم يكن في القديم قطرًا ولا جهة متسعة فيها الحواضر والبوادى والقواعد وغيرها، وإنما مسماه بلاد مخصوصة في مساحة معينة ذات قرى بعضهم يطلق على جميعها اسم المدينة كما تقدم عن ابن الرقيق وغيره، وبعضهم يتسامح فيطلق على كل قرية مدينة كما يقع ذلك في القرطاس وغيره، وبعضها لا يسمح لها بواحد من الإطلاقين كما يأتى عن ابن غازى، وذلك باعتبار تقلبات الأحوال عمارة وخرابا ولما سبق من أن مكناسة سميت باسم مختطيها وسكانها ولا قائل بأن مدينة وليلى بناها مكناسة ولا سكنوها بل سيأتى أن مكناسة بمعنى القبيلة هى التي خربت أولا مدينة وليلى.
فإن قلت قول ابن غازى من قطر مكناسة وضواحيها جبل يقال له زرهون وبأسفله على اثنى عشر ميلا من مكناسة بموضع يقال له تازجا، أثر بناء عتيق ضخم يسمى قصر فرعون ويذكر أن وليلى كان ملك الروم، وكان له هناك تلك المدينة إلخ، صريح في كون مكناسة قطرًا من قوله من قطر إلخ، وفى كون زرهون ومن جملته وليلى منه لقوله ومن ضواحيها إلخ، فإن ضواحى البلاد جهاتها.
قلت: لا صراحة في ذلك ولا متمسك فيه أصلا، أما قوله قطر مكناسة فليست الإضافة فيه بيانية، وإنما هى على معنى في أى من القطر الذى فيه مكناسة بقرينة قوله: على اثنى عشر ميلا من مكناسة، وأما قوله: وضواحيها فإنه تصحيف والذى في نسخة عتيقة ونواحيها بالنون أى جمع ناحية وعليه فالأمر واضح، إذ النواحى بمعنى الجهات، وهى ظرف متسع لا تعيين فيه. وعلى فرض
أنه لا تصحيف فيه وأن الواقع في النسخ كلها وضواحيها بالضاد نقول: إنه لا حجة فيه لأن الضواحى لها إطلاقات منها النواحى وحينئذ فالنسختان متوافقتان، ثم بعد كتبي هذا وقفت على نسخة "الروض الهتون" التي بخط مؤلفها فإذا فيها ما، لفظه: من نظر مكناسة وضواحيها جبلا كبيرًا إلخ فانزاح الإشكال من أصله وظهر أن النساخ صحفوا نظر بقطر، وعليه فمعنى كون جبل زرهون من نظر مكناسة أنه تابع لها، ثم إن كلام ابن غازى في غير موضع مبين للتغاير بين مكناس وزرهون، من ذلك قوله: في قصر فرعون الذى هو من جملة جبل زرهون أنه على اثنى عشر ميلا من مكناسة إلخ، فهو ظاهر في مغايرة ما هو من زرهون لمكناسة بل وصريح في مغايرة قصر فرعون الذى هو مدينة وليلى عنده لمكناس.
ويعضد ذلك أيضا قوله وهى، أى وليلى كانت حاضرة تلك البلاد انتهى فإنه مبين للمراد من عبارته الأولى أعنى قوله: وحاضرتها إذ ذاك مدينة إلخ، وأنه لم يرد بها بلاد مكناسة بالخصوص بل هى وما جاورها ويعضده قوله قيل ولم تكن مكناسة في القديم ممدنة وكانت حوائر إلخ، فإنه صريح في أن مسمى مكناسة مغاير لحاضرة البلاد مدينة وليلى ويعضده أيضا قوله قبل ذلك: إن مكناسة هى كما وصف ابن الخطيب إذ يقول:
وكفاك شاهد حسنها وجمالها
…
أن أوثرت بالقرب من زرهون
فهو اعتراف منه ومن ابن الخطيب بأن زرهون ليس منها وإنما هو قريب منها وهو كذلك، ويعضده أيضا قوله: قيل ولم يكن لهذه الحوائر قديما مدينة مسورة إلخ، فهو كالصريح في أن ما كان قديما ممدنا مصورا وهو حاضرة البلاد وليلى ليس من مكناسة إلى غير هذا من نصوصه ونصوص غيره الدالة على المراد، وأن زرهون ووليلى أعنى قصر فرعون لا دخل لهما في مسمى مكناسة، وحينئذ فلا يشكل قوله أولا وثانيا أن مدينة وليلى هى حاضرة البلاد على ما تقرر -والعيان
يغنى فيه عن البيان- من أن مدينة وليلى هى من جبل زرهون الموالى لمكناسة لا من نفس بلاد مكناسة، ولا يكون في ذلك أدنى متمسك على أن مكناس القديمة هى مدينة وليلى كما قد توهم لما بيناه، ولأن ذلك ليس بمعروف، وقد تضافرت (1) نصوصهم على أن مولانا إدريس الأكبر لما قدم المغرب الأقصى نزل بمدينة وليلى ولم يقل أحد منهم نزل بمدينة مكناس، ولا صرح أحد من متقدمى المؤرخين بنسبة مدينة وليلى إلى مكناسة، وعليه فما وقع لبعض المعاصرين من الأوربيين في مؤلف له وصف فيه مكناس من قوله جعلت مكناس قاعدة وقتية لمولاى إدريس في القرن التاسع قبل بناء فاس، هـ.
لعل مستنده فيه فهم كلام ابن غازى على غير وجهه، وقد بان لك وجه الحق فيه، وهذا والله أعلم هو الذى أوقع صاحبنا النحرير النقاد أبا عبد الله محمد بوجندار في الجزم بأن مدينة مكناس القديمة هى المدينة الأثرية التاريخية وهى مدينة وليلى في كلماته الذهبية.
وقول ابن غازى سميت باسم ملكها جزم بهذا هنا وتفصي عن بعد ذلك في قوله ويذكر أن وليلى إلخ.
وقد رأينا مؤرخى الأوربيين اليوم ينكرون وجود ملك مسمى، بذلك ويقولون: إنه اسم بربري يراد به في لسان البربر النبات المسمى بالدفلا، هذا أصله عندهم، ثم أطلقوه على المدينة ولعله لكونه كان كثيرًا بواديها وانظره مع ما جزم به البكرى في المسالك، مِنْ أنّ وليلى هى طنجة بالبربرية، نعم إن كان وليلى في لسان البربر يطلق على الأمرين النبات المذكور وطنجة فلا إشكال.
(1) في المطبوع: "وقد تظافرت" وتضافرو عليه -بالضاد المعجمة- تعاونوا وضافر كل منهم الآخر.
وقول ابن غازى بأرض خيبر كذا سمى هو محل قصر فرعون فيما نقلناه عنه أولا، وقد سماه فيما نقلناه عنه ثانيا بتازجا، والاسمان معا غير معروفين في موضع قصر فرعون المعروف بهذا الاسم الآن ولا قبله فيما نعلم، والمعروف إطلاق خيبر عليه هو الجهة العليا الشرقية المقابلة الداخل من باب الحجر أحد أبواب زاوية زرهون التي بها ضريح البضعة النبوية الطرية الطيبة الإمام إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن مولانا علي بن أبى طالب، ومولاتنا فاطمة الزهراء بنت إمام المرسلين وحجة الله على العالمين نبينا محمد صلى الله عليه وآله وأصحابه الكرام الطاهرين.
كما أن المعروف بتازجا، هو الجهة العليا غربا التي تلى يمين الداخل من الباب المذكور للزاوية المذكورة، وما نزل عن الباب المذكور خارجا عنها يقال له تحت تازجا بهذا الاسم الإضافى يعرف حتى الآن، نعم يوجد في عرصة بعد وادى وليلى هناك أثر قوس كان قائما هناك على هيئة عمل قصر فرعون فيظهر من ذلك أن عمارة قصر فرعون كانت واصلة لهذا المحل وأن ابن غازى لذلك أشار بالاسم الثانى، وأن اسم المحل حدث فيه بعد ابن غازى تصرف بما ذكرناه وأما الاسم الأول فالله أعلم كيف وقع له فيه.
وقول ابن غازى في المنقول عنه أولا من ناحية جبل زرهون اهـ. مع قوله في المنقول عنه ثانيا وبأسفله يعنى جبل زرهون أسفل منه، وليست هى منه حقيقة، وأظن أن أبا القاسم الزيانى في رحلته به اقتدى في قوله أن مدينة وليلى قرب زرهون وليس الأمر كذلك فالصواب قول ابن أبى زرع في أنيسه، والجزنائى في جَنَازَهرْ الآس، والحلبى في دره، أن مدينة وليلى قاعدة جبل زرهون ومثله ما نقله في القرطاس عن البرنسى من أن وليلى التي دفن بها المولى إدريس هى من زرهون زاد غيره أنها بالطرف الغربى منه، اهـ.
قلت: والابتداء الطبيعى لجبل زرهون المتميز عن أرض بلاد مكناسة في طريق الذاهب منها للزاوية المذكورة هو أصل المحل المعروف هناك بعقبة العربى -بفتح العين والراء وياء ساكنة بعد الباء- فكل ما بعد ذلك فهو منه ومن جملته قصر فرعون المعروف بهذا الاسم الآن، وهو في شمال شرقى. مكناسة على ثمانية وعشرين كيلو مترا، وأما ابتداء جبل زرهون في طريق فاس فهو فيما قاله ليون الإفريقى في رحلته من أوطاسايس، زاد غيره على أربعة عشر كيلو مترا من فاس.
قال ليون يمتد جبل زرهون للمغرب على مسافة ثلاثين ميلا وعرضه عشرة أميال (1).
وقال غيره: يمتد للمغرب على أربعين كيلو مترا. قال ليون: وهو بين مدينتين كبيرتين إحداهما شرقية وهى فاس والأخرى غربية وهى مكناس (2).
قلت: وليون هذا كان حيا سنة ثلاثين وتسعمائة من الهجرة النبوية واسمه حسن بن محمد الوزان وهو في الأصل غرناطى، وقرأ بفاس بعد أن سكنها، كان ركب البحر فأسره الطاليان وذهبوا به لسلطانهم، وهو الذى أسس تعليم العربية برومة، وكان يحسن اللسانين الطاليانى والفنيولى، ويعرف عند الأوربيين بجان ليون ورحلته هذه باللسان العجمى في ثلاثة أجزاء ضخام طبعها المؤرخ شفير الفرنسى في باريز عام ألف وثمانمائة وخمسة وتسعين مسيحية، وعلق بهوامشها فوائد وتنبيهات من كلام مرمول في تاريخ إفريقية له وبكلام غيره.
ثم ما قدمناه عن ابن غازى في مدينة وليلى وقصر فرعون صريح في اتحادهما، ومثل ذلك له في تكميل التقييد، وقد سبقه إلى الجزم بذلك البكرى في
(1) وصف إفريقيا، ص 294.
(2)
وصف إفريقيا، ص 295.
كتاب الاعتبار والرشاطى -بضم الراء- في اقتباس الأنوار، ومثل ذلك للحلبى في الدر النفيس وابن زكرى في شرح همزيته وغيرهم.
وقد عين ابن غازى مسمى ذلك باعتبار الموقع بأنه أسفل جبل زرهون، وباعتبار المسافة بأنه على اثنى عشر ميلا وهى أربعة فراسخ من مكناس، كما عين ذلك أيضا بنزول مولاى إدريس به على شيخ أوربة حين ورد من الحجاز، ولا نعلم له مخالفا في كون نزول مولانا إدريس كان بمدينة وليلى، وإنما الخلاف في اتحاد مسماها ومسمى قصر فرعون، ففى رحلة ليون (1) الإفريقى أن وليلى مدينة بناها الرومان قديما على رأس الجبل حين تملكهم بغرناطة وأداروا بها سورًا مبنيا بحجارة كبيرة منحوتة (2)، وجعلوا لها أبوابا عالية واسعة، وطول سورها نحو ستة أميال، ثم خربت وأصلحها مولاى إدريس حين ملك بها وبعد موته دفن بها، ولم يبق بها إلا اثنان أو ثلاثة من الديار يسكنها المكلفون بخدمة ضريح مولاى إدريس (3).
قال: وبها عينان تسقى بهما غراستها، اهـ. (4) فعلق على كلام ليون هذا طابع رحلته المتقدم الذكر ناقلا عن تاريخ إفريقية لمرمول أن وليلى تسمى توليت يعنى بالبربرية، وأن بانيها الرومان على رأس الجبل، وأنها محاطة بسور من الحجر المنجور (5) طوله ثمانية كيلو مترا وأن المكناسيين كانوا خربوها وأن مولاى إدريس أصلحها وجعلها عاصمة، ثم خربها يوسف بن تاشفين من المرابطين وحينئذ تفرق
(1) وصف إفريقيا، ص 295 - 296.
(2)
في المطبوع: "سورًا وحجرًا كبيرًا منجورًا" والمثبت رواية ليون الذي ينقل عنه المصنف.
(3)
وصف إفريقيا، ص 296.
(4)
وصف إفريقيا، ص 296.
(5)
منجور -سبق هذا التعبير من قبل. والنجر في الأصل: نحت الخشب، والمراد هنا الحجارة المنحوتة.
أهلها في الجبل وبطلت عمارتها ولم يبق بها إلا نحو خمس عشرة دارا يسكنها الفقهاء القائمون بخدمة الضريح الإدريسى المقصود المزوار من نواحى المغرب وفيها عينان من الماء جاريتان.
زاد شفير أن مدينة وليلى تسمى في وقته زاوية مولاى إدريس، اهـ.
وهذا التصريح منه يطابق بعض ما وصفها به ليون ومرمول ككونها في رأس جبل فإنها أعنى الزاوية الإدريسية كذلك بالنسبة لما نزل عنها وباعتبار حومتى تازجا وخيبر منها لا مطلقا، وكالعينين الجاريتين إن قلنا إن المراد بهما منبعان وسقايتان وإن لم يكن أصلهما داخل البلد فيكون المراد بهما عين خيبر وعين فَكْرة -بفتح الفاء وسكون الكاف بعدها راء مفتوحة ثم هاء ساكنة- فإن ماءهما هو الجارى داخلها، وأن جريان الثانى قاصر على ناحية مخصوصة بخلاف الأول فإن معظم انتفاع السكان به وكونها لم تكن متمدنة وقتئذ ولا آهلة بالسكان وإنما كان يسكنها خَدَمة الضريح، وهذا والله أعلم هو وجه اشتهارها باسم الزاوية، إذ لم تكن تستحق في القديم عنوانا سواه، ولعل كثرة سكانها ووقوع تمدنها، إنما تنافس الناس فيهما بعد أن شيد سيدنا الجد المولى إسماعيل الضريح الإدريسى فيها وتنافس الملوك حفدته للتذييل عليه في ذلك حسبما سيمر بك مفصلا، حتى صار من أعظم القصور والمشاهد، وانضم لذلك احترام الملوك للسكان رعيا لحرمة الجار، إلى أن صارت إحدى مدن المغرب كما هى عليه الآن، ومن ثم والله أعلم لم يذكرها مؤرخو الأزمنة السالفة في مدن المغرب كابن الخطيب في مقامات البلدان وكتاب معيار الاختيار، في ذكر المعاهد والديار، وفى ريحانة الكتاب، ونجعة المنتاب، التي نقل ابن غازى منها آخر روضه والمقَّرى في نفح الطيب وكذا الزيانى في رحلته فإنه تعرض لمدن المغرب ولم يذكر الزاوية فيها بهذا العنوان وإنما ذكر مدينة وليلى هذا مع تأخر زمنه.
ويكون عمارتها نشأت تدريجا لأجل الاحترام المذكور صرح في الأزهار العاطرة وكذا صرح مويت الفرنسى الذى كان أسيرًا عند مولاى رشيد ومولاى إسماعيل في كتابه فتوحات مولاى رشيد ومولاى إسماعيل بأن زَرْهُون لم تكن فيه مدينة في ذلك الوقت ولم تكن به إلا المداشر، وكذا صرح بذلك ليون في رحلته، وكل ذلك يعضد أن ابن غازى لم يقصد بما قدمناه عنه الزاوية الإدريسية، وإنما قصد بمدينة ولِيلَى خصوص المعروف اليوم بقصر فرعون، وهو الذى شيدت فيه الدولة الحامية قصور السكان المكتشفين لآثاره القديمة كل يوم، وحينئذ يتحقق أن مسمى وليلى في كلام ابن غازى خاص بالمعروف اليوم بقصر فرعون، ولا يشمل الزاوية البتة، وإنما أهمل ذكرها مع ذكره لجبل زَرْهُون ولسوقه لكونها غير موجودة على الهيئة التي تستحق الذكر في تاريخه، ولأن كذلك مسمى ولِيلَى في كلام ليون ومرمول فإنه على ما ذيله به شفير، خاص بمسمى الزاوية الآن، ولا تعلق له بالمسمى بقصر فرعون البتة.
فإن قلت حيث كان الأمر هكذا فمن لازمه أن مخالفى ما جرت عليه طائفة ابن غازى يفرقون بين وَلِيلَى وقصر فرعون وحينئذ فما مسمى قصر فرعون عندهم هل هو المعروف بهذا العنوان الآن أو غيره؟ قلت قال ليون: قصر فرعون مدينة صغيرة قديمة بناها الرومان على رأس جبل قريب من ولِيلَى بنحو ثمانية أميال، قال وأهل جبل زَرْهُون يقولون باني قصر فرعون موسى ولم تظهر لى حجة ذلك ولم يوجد في التاريخ تقدم ملك لفرعون ولا للمصريين على المحل قال: وتوجد حروف لتينية منقوشة في بعض أحجاره تدل على أن الرومان هم الذين بنوه قال: ويوجد بالمدينة نهران متخالفان كل واحد يأتى من ناحية وأودية المدينة ورباها كلها مغطاة بأشجار الزيتون، وبقرب المدينة غابة يكثر فيها الأسد والنمر (1) هـ.
فعلق عليه شفير نقلا عن مرمول: يوجد من ناحية من رأس الجبل مدينة صغيرة على بعد اثنى عشر كيلو مترا من وليلى وأهلها ينسبونها لفرعون مصر، ولا يوجد في التاريخ أن فرعون والمصريين ملكوا إفريقية، ومشاهير المؤرخين إنما يسمونها قصر زَرْهُون وتقرأ إلى الآن كتابة قوطية في بعض سورها تدل على أنها
(1) وصف إفريقيا، ص 296 - 297.
بناها القوط وبقربها نهران صغيران خروجهما من رأس الجبل، والسهول والرُّبَى كلها مغطاة أى بالأشجار، وقد خربت هذه المدينة وقت تخريب تيوليت أى مدينة وليلى، ولم تعمر لكون الأهالى يحيون السكنى بالبادية دون المدن، وبقربها سوق على ربوة يعمر يوم الأربعاء يقصدها المكناسيون والفاسيون ومن بات بها احترس من كثرة الأسد هـ.
ثم نقل شفير عن جغرافية موريطانية الطنجوية لتيسو أن أثر قصر فرعون هو أثر بولبيس يعنى نواحى وليلى يدل على ذلك كتابتان في حجر قال: وهذا الأثر يوجد في ربوة مستديرة مستطيلة من جبل زرهون وهذه الربوة تمنعها شعبتان عميقتان نحو المشرق والمغرب، وبقربها وادى فرعون يمر نحو الجنوب ويستخرج من هذا الأثر أحجار للبناء منها ما بنيت به باب منصور العلج بمكناس الذى فيه سوارى من الرخام بصنعة عجيبة هـ.
فقول ليون قريب من وليلى إلخ مع قول مرمول على بعد اثنى عشر كيلو مترا من وليلى الخ كلاهما صريح في مغايرة قصر فرعون الذى قصدا بيانه لوليلى التي تقدم أنها هى الزاوية عندهما، وكذا قول شفير عن مرمول خربت هذه المدينة وقت تخريب تيوليت الخ صريح في ذلك أيضا ثم وصف ليون ومرمول لها بأنها على رأس جبل يجوز تنزيله على المعروف الآن بقصر فرعون باعتبار ما سفل عنه من الجبل، فإن من نظر لبسيط قصر فرعون صار في عينيه كأنه على رأس الجبل الذى انحط عنه، وكذا النهران المختلفان فإنهما قد لا ينافيان ذلك التنزيل ويحملان على وادى وليلى والوادى المعروف بوادى الميت، فإنهما بالنظر لقصر فرعون كل واحد يأتى من جهة له ومن رأس جبل في الظاهر، وإن كانا في الواقع متحدين فإن الثانى من أصول الأول وإليه صيرورته ودورانه، وكذا يتنزل على ذلك استخراج أحجار البناء منه فإنه لا زال مشاهدا، وكذا لا ينافى ذلك وصف الرُّبَى
والسهول بأنها كلها مغطاة بالزيتون فإن بعض ذلك بقربه لا زال كما وصف، والباقى لعله كان ثم سقط.
وإنما المنافى لذلك ما نقله شفير عن تيسوا من وصفه بأنه على ربوة مستديرة مستطيلة تمنعها شعبتان عميقتان، فمان هذه الصفات تقرب من المسمى بقصبة النصرانى الكائنة بناحية من الجبل المذكور المكتنفة بين مداشر الهروشى وآيت سيدى حساين وسيدى أقضات -بسكون القاف وفتح الضاد مشبعة وسكون التاء- بل هذه برأس الجبل أشبه حتى إن الحال بها يشرف على بسيط سانس ومدينة فاس من شدة علو موقعها، وكذا وصف قربه من الغابة فإنه بها أشبه، وكذا قربه من السوق المذكورة وهى المسماة بالسوق القديم الواقعة في سفح بل وأعلى باب الرميلة فإنه بالقرب من قصبة النصرانى أمَسّ وكذا تغطية الرُّبَى والسهول بالأشجار فإنه بها أمس وكذا الوصف بالصغر فإنه لائق بها إذ دور سورها المحيط بها يبلغ ستمائة متر واثنين وعشرين مترا تختص كل جهة من طولها بمائتى متر وعشرين مترا وكل جهة من عرضها بشطر باقى العدد المذكور واتساع جدرانها متر واحد وخمسون سنتيمترا.
ولا زال غالب جدرانها قائما إلى الآن بخلاف المعروف اليوم بقصر فرعون فإن دور سوره يقدر بخمس وعشرين مائة متر فهو يزيد على سور قصبة النصرانى بثلاثة أضعافه وشئ.
فائدة: مما أظهره الاكتشاف الحالى داخل محيط سور قصر فرعون هذا أثر سقاية منحوتة في الحجر وقد أثرت فيه كثرة الأوانى التي كان يسقى بها منها أثرا بين الوضوح، وهذا مما يدل على طول العمارة هناك وكثرة السكان، ويوجد هنالك أيضا قوس عظيم من الحجر المنحوت يسمى قوس النصر لا زال قائما إلى الآن والأمير الذى أقيم له هذا القوس هو كراكلة، وبانيه ماركيس أصله فينيقى، وكان على قوس النصر هذا عربة تجرها ستة من الخيل مصورة من النحاس بهيئة كبر
الخيل الطبيعى، ويستفاد من الكتابة المرموقة في الحجر هنالك أن ذلك القوس نصب لتذكير واقعة تاريخية.
وطول شارع قصر فرعون هذا أربعمائة وخمسة وأربعون مترا، ويقدر سكانه وقت عمارته باثنى عشر ألف نسمة، وبعد قصر فرعون من الزاوية الآن خمسة كيلو مترا تقريبا نبه على ذلك رئيس الآثار القديمة بالرباط شاتلان القائم على ذلك الاكتشاف في مقالته الاكتشافية التي أملاها لجماعة الجغرافيا بالدار البيضاء.
ولنرجع لما كنا فيه فنقول: وكذا القرب من وادى وليلى فإن ذلك يصح أيضا لأن القرب نسبى، وبخارج جدارها الغربى عينان صغيرتان يظهر أن أصلهما عين كانت داخلها وردمت بالهدم فتفرق بذلك ماؤها خارجا على منبعين، نعم قصبة النصرانى ليس سورها من الحجر المنجور بل هو كغالب البناءات المغربية المعهودة، ولا هى بالصفة التي يستخرج منها حجر البناء، بل وصولها لا يتأتى الآن للراكب، وإنما يتأتّى للراجل لوجود الشعبتين المانعتين.
فالحاصل أن الصفات التي وصف بها ليون ومن وافقه مسمى قصر فرعون منها ما لا يقبله إلا مسمى قصر فرعون المعهود الآن، ومنها ما لا يقبله إلا قصبة النصرانى المذكورة، ومنها ما هو محتمل، ثم إن كان مرادهم به قصبة النصرانى وحكمنا حينئذ بأن الصفات المنافية لها إنما هى توسع باعتبار ما في تلك الجهة أو غلط يتوجه البحث معهم حينئذ بأنهم جعلوا المقصود من مسمى قصر فرعون غير المعروف به عند الخاص والعام بهذا العنوان في زمنهم وقبله وبعده إلى الآن، وذلك غير لائق.
وإن كان مرادهم بقصر فرعون مسماه المعهود وحكمنا بأن ما لا يقبله من الصفات الواقعة في كلامهم جارية على ما قدمناه اتجه بحث آخر، وهو أن تفرقتهم بين وليلى وقصر فرعون وجعل مسمى الأول هو الزاوية لا دليل عليه.
لا باعتبار الآثار القديمة لفقدها بالكلية في الزاوية، وهو موافقون لغيرهم في أن وليلى مدينة أثرية قديمة فلم تجز مخالفتهم لغيرهم بعد إجماعهم معهم على هذا بغير دليل.
ولا باعتبار نصوص من تقدمهم من المؤرخين، ولا يقال إنهم تمسكوا في ذلك بكون الضريح الإدريسى بالزاوية وذلك دليل كونها هى وليلى من جهة أن تملكه وموته كانا بوليلى بلا خلاف، وما وقع للسهيلى من أنه مات بإفريقية يرجع لذلك عند التحقيق لأنا نقول إن من تقدمهم ومن تأخر عنهم من المتأخرين كالبرنسى، وابن أبى زرع والجزنائى، والحلبى، وابن القاضى وغيرهم قد نصوا على أنه وإن كانت وليلى عاصمة ملكه وبها توفى لم يدفن داخلها، وإنما دفن خارجها بصحراء رابطتها.
وبعضهم يقول رباطها وبعضهم يبدل الصحراء بالصحن فيقول بصحن رابطة باب وليلى.
وقد حكى في الأزهار العاطرة تبعا لغيره اتفاق المؤرخين على مضمون ما تقدم وبإضافة هذه الرابطة لوليلى يجاب عن قول ابن خلدون دفن إدريس بوليلى هـ.
فيكون معناه بمحل مضاف إليها والرابطة كما في تاج العروس عبارة عن العلقة والوصلة واسم لجماعة الخيل المرابطة على بلد.
والرباط كما في القاموس يطلق على معان منها واحد الرباطات المبنية، ومنها ملازمة ثغر العدو، ومنها المحافظة على أوقات الصلاة ومنها حديث فذلكم الرباط هـ.
الحاصل من هذا أنه دفن خارجها بصحراء أى بصحن المحل المتعلق بها إما لعبادة يقيمها أهلها به، وإما لملازمة الحراس من غارة العدو عليها.
فالرباط والرابطة إما حصن أهل العسة على وليلى، وهو الأظهر، وإما متعبد أهلها كصوامع الرهبان التي تكون دائما خارج مدنهم، وأيًّا ما كان فهى من أثارات وليلى، ومن جملة بناء أهلها الذى له تعلق خاص بها، فصحت إضافتها إليها.
وعليه فإن كان مراد من جعل الزاوية هى مدينة وليلى هذا المعنى الذى شرحناه فلا بحث معه إلا من جهة تخصيصه لوليلى بالمحل التبعى منها وإهماله للمحل الأولى الأصلى منها، واللائق العكس، ويمكن أن يجاب عن ذلك بجواب لطيف ظريف وهو أن الإهمال الذكرى تابع للإهمال الحسى، فحيث انعكس الحال وصار التبعى عامرًا والأصلى خرابًا استحق التبعى بعمارته واسترسالها حكم الأولية والأصالة، واستحق الأصلى بخرابه وانقطاع عمارته حكم التبعية والفرعية، والمنظور إليه غالبا هو المتبوع لا التابع، إلا أن قول ليون ولم يبق بها إلا اثنان أو ثلاثة من الديار الخ. وقول مرمول: ولم يبق بها إلا نحو خمس عشرة دارا إلخ لا يقبله لأن المقالين المذكورين مقتضيان لكون العمارة كانت بها كثيرة وتلك بقيتها للتخريب الذى شرحه مرمول، مع أن ذلك إنما كان في وَلِيلَى الأصلية، ولم يكن في رابطة صحرائها التي هى وليلى التبعية، وإلا لم تكن صحراء وقت الدفن الإدريسى بها مع أنها كانت صحراء، ولذلك عنون عنها بها ولم تحدث فيها العمارة تدريجا إلا بعد الدفن كما تقدم، نعم إن كان المحل المسمى رابطة أو رباطا عبارة عن حصن كما اخترناه سابقا وأن هذا الحصن كان مشتملا على دور عديدة وقد شملها التخريب السابق، وبقية دوره هى التي استثناها من تقدم ذكره صح الجواب المذكور ولم يكن في قول من ذكر ولم يبق إلخ ما ينافيه.
هذا والأقرب عندنا نظرا لما تقصيناه من شواهد الحال وقرائن الآثار، أن قصبة النصرانى، إنما كانت من توابع مدينة وليلى التي هى قصر فرعون المعروف، فمن أطلق عليها قصر فرعون أو وَلِيلَى بهذا الاعتبار صح إطلاقه وإلا فلا.
فتحرر من هذه المباحث المتعلقة بمدينة وليلى التي اعترف ابن غازى بأنها كانت قاعدة البلاد وحاضرتها، أنها من نفس جبل زرهون بل هى قاعدته، وأنها ليست هى مكناسة القديمة، كيف وهى رومانية! ومكناسة القديمة بربرية، وأنها هى التي تعرف الآن بقصر فرعون، وأن الزاوية الإدريسية ليست هى مدينة وليلى الأصلية، وإنما كان موقعها تابعا لها ومن إضافاتها ومتعلقاتها، فهى من وليلى تبعا لا أصالة، وأنها لم تكن عامرة كما هى عليه الآن، وإنما تتابعت عمارتها بعد أن شيد المولى إسماعيل الضريح الإدريسى بها، ولذلك لم يتعرض لها ابن الخطيب في كتبه ولا ابن غازى، ولا من وافقهما طبق ما أشرنا إليه سابقا، وأن اسم الزاوية هو الذى كانت تستحقه قبل العمارة فاستمر عليها بعدها، وأن قصبة النصرانى ليست هى قصر فرعون الأصلى، وإنما هى من إضافاته فيصح إطلاقه عليها تبعا لا استقلالا، ولو لم يكن من دلائل ذلك إلا تعين كل باسمه الخاص قديما وحديثا لكفى وأن ما خالف ذلك كله إما توسع أو غلط والله أعلم.
ملاحظات:
الأولى: من الغريب ما نقله في الأزهار العاطرة عن بعض الطلبة من أن مدينة وليلى هى عين القصر لا قصر فرعون قائلا: لأنه قد خلا قبل البعثة على ما قيل هـ. وعين القصر هذه هى الكائنة بالضفة اليسرى لوادى وليلى المار أسفل باب. الحجر أحد أبواب الزاوية سميت عين القصر لقربها من قصر على مثال بناء قصر فرعون كان قديما هناك ثم سقط وبقى منه قوس، وإليه تنسب عرصة هناك، فيقال عرصة القوس أيضا كما سبقت الإشارة لذلك ولم يوجد هناك أثر لغير هذا القصر وحينئذ فلا يصح أن يكون ذلك المحل هو مدينة وليلى إلا على سبيل الإضافة والتبعية نظير ما قدمناه، على أن ذلك الطالب بنى دعواه على التفرقة بين وليلى وقصر فرعون وقد سبق تحرير اتحادهما ورد ما خالفه، وأما تعلق ذلك الطالب
بالقيل الذى حكاه وهو أن وليلى خربت قبل البعثة فهو تعلق بما هو أو هن من بيت العنكبوت لما سبق أن وليلى خزبتها قبيلة مكناسة أولا ولما جاء مولاى إدريس نزل على شيخ أَوْرَبَة بها ثم لما بايعوه أصلحها وصيرها عاصمة ملكه، ثم لما بنيت مدينة فاس وصارت هى العاصمة تناقصت عمارة وليلى إلى أن خربها يوسف ابن تاشفين وحينئذ بطلت عمارتها وتفرق أهلها في الجبل، وقد سبق أن موت ابن تاشفين كانت فاتح القرن الخامس.
ولا يقال إن هذا التقدم لا حجة فيه لما تقدم مما يشير لاضطراب كلام قائله، لكونه جمع بين ما لا يصح تنزيله إلا على الزاوية وبين ما لا يصح تنزيله إلا على وليلى ولكونه جعلهما شيئا واحدا وهما شيآن متغايران في الواقع، لأنا نقول قد نبهنا فيما سبق على الجمع بين ذلك بأن موقع الزاوية هو من وليلى بحسب التبع والتعلق والإضافة، فلا اضطراب إِذَنْ، وإنما على العارف أن ينزل كل شئ في محله، ولكون نزول مولاى إدريس على أوربة بوليلى التي هى قصر فرعون هو كالمتفق عليه عند أهل المعرفة، وأما ما يذكر من أن عين القصر لم تكن قبل مولانا إدريس وإنما نبعت بركزه لحربته في محلها، فهو إن صح لا يعين أن محلها هو نفس مدينة وليلى الأصلية كما لا يخفى.
الثانية: زعم بعض المؤرخين المعاصرين ألا وهو صديقنا الناقد أبو عبد الله محمد بوجندار في كتابه المذكور آنفا أن الذى خرب مدينة وليلى هو عبد المؤمن الموحدى، وذلك لا يصح ففى الأصل أعنى "الروض الهتون" أن أمر الموحدين زمن عبد المؤمن لم يزل يتقوى وسكان الجبال ينزلون إليهم من صياصيها مذعنين، حتى إن من نظر مكناسة وضواحيها جبلا كبيرا مانعا حصينا يقال له زرهون، وفيه من الخلق أمة كثيرة لا تحصى عدة، أرسلوا بيعتهم مع جماعة منهم إلى عبد المؤمن ابن على وهو بين الصخرتين من أحوار تلمسان، وجَرَّأوا الموحدين على دخول
المغرب وأعانوهم على محاصرة مدينة مكناسة، فكانوا أبدا مبغضين لأهل تلك البلاد وكانوا بسبب سبقهم أحرارا من المغارم كتب لهم بذلك صكوكا كانت بأيديهم ولم يتعرض لأموالهم كما فعل بالأملاك التي أُخذت عنوة. هـ من خطه.
وهو صريح في أن أصل زرهون بايعوا عبد المؤمن قبل دخوله لمغربنا، وفى أنهم كانوا محترمين عنده، وفى أنه ما تعرض لأموالهم ولا لأملاكهم بعد دخوله، وكيف يجتمع مع هذا تخريبه لقاعدة بلادهم مدينة وليلى! وأى موجب بعد ما تقدم يدعوه لذلك!
الثالثة: حيث كان أهل وليلى تفرقوا في جبل زرهون بسبب تخريب يوسف ابن تاشفين لقاعدة بلادهم مدينة وليلى على ما سبق في نقل شفير عن مرمول، ومن الواضح أنه ما فعل ذلك بها إلا لتمنّعهم بها واستعصائهم عليه فيها، فهم حينئذ قد ذاقوا وبال مخالفة الملوك ونالتهم خسارتها العظيمة بالفعل، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، والعاقل من اعتبر بالحوادث التي مرت عليه، وأوصلها العلم اليقينى إليه. والسعيد من وعظ بغيره وحينئذ فبدارهم بالطاعة لمن ظهرت غلبته، وقويت شوكته، وبايعه أكثر الإيالة المغربية ولا سيما مع تظاهره بالعدالة وانتدابه لهد منكرات من قبله وتحصنهم بها من إعادة التشديد عليهم والهلاك والمجاعة هو من حسن تدبيرهم وسداد نظرهم، ولا ملام عليهم في ذلك، ولا سيما حيث كان ذلك وقت تقلص الدولة المرابطية واضمحلال قوتها وصيرورة الرعية في حكم الإهمال من جهتها، وفى أيدى الهلاك من جهة الدولة القائمة عليها ففى "شرح القصيد" للشيخ السنوسى من شروط الإمام. قدرته على تنفيذ الأحكام هـ.
وقد نقل ابن يونس وغيره أن مالكا سئل إذا بايع الناس رجلا ثم قام آخر فدعا الناس لبيعته فبايعه بعضهم، فقال: إن كانت بيعة الأول على الخوف فالبيعة للثانى إذا كان عدلا هـ.
وفى "شرح المقاصد" من صار إماما بالقهر والغلبة ينعزل بأن يقهره آخر ويغلبه هـ.
وفى البكى السبب المتفق عليه أى في خلع الإمام كل ما يختل معه مقصود الإمامة هـ.
قال رأس العارفين في حواشيه فدخل فيه العجز عن القيام بالمصالح وينبغى اعتباره من حيث كونه نسبة وإضافة بحيث يوجد أقدر منه فيولى هـ.
وفى "المواقف" وشرحها وللأمة خلع الإمام وعزله بسبب يوجبه مثل أن يوجد منه ما يوجب اختلال أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين كما كان لهم نصبه لانتظامها وإعلائها هـ.
وأما إعانتهم للموحدين في محاصرة مكناس فذلك من لازم الطاعة، ومن الواجب في حق من أبى أن يدخل فيما دخلت فيه الجماعة، وقد نقل ابن عرفة وغير واحد من متأخرى فقهاء المالكية فقها مسلما عن الصقلى وهو ابن يونس أن شيخه القاضى أبا الحسن صوب قول سحنون إن كان الإمام غير عدل وخرج عليه عدل وجب الخروج معه ليظهر دين الله هـ.
كما نقلوا أيضا عن عز الدين كذلك أنه إن كان فسق الإمام القائم أخف من فسق الإمام المقوم عليه ككون المقوم عليه فسقه بانتهاك حرمة الأبضاع، والقائم بأخذ المال بغير حق، فإنه يجوز القتال مع القائم لإقامة ولايته وإدامة نصرته دفعا لما بين مفسدتى الفسوقين ودرءا لما هو أشد من معصية القائم هـ.
قال ابن عرفة: ونحوه خروج فقهاء القيروان مع أبى يزيد الخارج على الثالث من بنى عبيد وهو إسماعيل لكفره وفسق أبى يزيد والكفر أشد هـ.
ونقل شيخ شيوخنا في اختصار الرهونى عن "شرح المقاصد" ما نصه ابن عبد السلام تجوز إعانة الأخف ظلما على الأثقل كالمنتهك للأموال أو الأبضاع على المنتهك للدماء هـ.
ووزانه جواز إعانة الأخف مفسدة متطرقة على الأشد، ثم قال: ويجوز الدفع عن الأخف ضررا ومفسدة والقتال معه لدفع ما هو أشد هـ.
وعليه فقول خليل فللعدل أى ولو بالإضافة هـ.
ولا خفاء أن حال عبد المؤمن مع المقوم عليه من بقية المرابطين لا يخرج عن الحال التي تكلم عليها سُحْنُون والحالة التي تكلم عليها عز الدين، وحينئذ فبُغْض المكناسين للزرهونيين لأجل مبادرتهم لبيعة عبد المؤمن وإعانتهم له في حصار مكناس خارج عن القوانين الشرعية والسياسية، وإنما هو أمرٌ قَادَتْهُمْ إليه طبيعة النفوس على عادتها في مخالف هواها إلا من عصمه الله وقليل ما هم.
ويكفى اللبيب هنا أن يتذكر أن المغرب كله إنما سعد بقيام مولانا إدريس على بنى العباس فيه، وأن أهل وليلى الذين تفرقوا في جبل زرهون هم أهل اليد البيضاء في تلك الساعة بِبِدَارِهم دون غيرهم لمبايعته، وبكون سعادة باقى قبائل المغرب مكناسة وغيرهم في ذلك إنما كانت على يدهم وبحسب التبعية لهم ومن نتائج نصرتهم له وإشهار سيوفهم على كل من انقبض عن طاعته، ولم يحتم بمعاهدته، فسبقهم إلى ميادين هذه الخيرات عتيق، وقديما آووا منه إلى الركن الوثيق، فالإنصاف مقابلتهم على ذلك بالشكران، ولله در أبى العباس الحلبى إذ قال شاكرًا لهم على ذلك ومترنما بمديحهم في دره النفيس:
إن مدحت الماجدين أوربه
…
وجد القلب بمدحى أَرَبَهْ
مدح من أيد إدريس الرضا
…
ابن طه المصطفى ما أطيبه
ورضا مولى الموالى استوجبوا
…
إذ أجابوه بما قد طلبه
وامتثال الأمر منهم فيهم
…
كل فرد منهم قد أوجبه
واحمدن عبد الحميد المرتضى
…
إذ دعاهم وإليهم حَبَّبَهْ
قاتلوا بين يديه جملة
…
طالبين بره أو قربه
ليس منهم من فتى عند الوغى
…
عن قتال خوف موت حجبه
بل لقد كان إذا مات الفتى
…
منهم ألفى بموت طربه
ليس منهم ماجد إلا غدا
…
لعدو بحسام ضربه
فاحمدن أنصار إدريس الرضا
…
حمدهم قول المحب استوجبه
فعل أنصار بطه فعلوا
…
مع إدريس الكرام أوربه
ربنا ارحمهم وأدخل جمعهم
…
جنة الفردوس ذات المرتبه
اهـ.
وليت شعرى أى فضيلة حصلها المكناسيون وقتئذ من هاتيك الحروب والتفرد بالخلاف سوى الدمار والهلاك للآلاف المستكثرة من النفوس وتخريب البلاد والديار وهتك الحريم وإضاعة الأموال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
الرابعة: سبق أن أهل مصر وهم القبط قوم فرعون لم يحفظ في التاريخ تقدم ملك منهم ولا سلطنة على هذه الديار المغربية، وأن الكتابة الموجودة في أحجار قصر فرعون الدالة على بانيه ومملكته قديما هى لاتينية وقوطية نسبة للقوط بالواو بعد القاف المضمومة، وهم قبيل قيل إنهم من الإفرنج كما في تاريخ ابن خلدون وغيره.
وعليه فما وقع في "الدر النفيس" و "شرح الهمزية" لابن زكرى والأزهار العاطرة من أن قصر فرعون يذكر أنه من بنيان القبط أى بالباء الموحدة الساكنة بعد القاف المكسورة لا تعويل عليه ولا حجة في اشتهار ذلك القصر بالإضافة إلى فرعون، لأن الظاهر حمل ذلك على التشبيه، البليغ أى أن ذلك البناء القائم من تلك الأحجار العظيمة المحكمة الترصيف المقتضى للخلود في العادة هو كبناء فرعون المدعى للربوبية المقتضية للخلود.
الخامسة: جزمنا أولا بأن بين مكناسة وقصر فرعون ثمانية وعشرين كيلو مترا، وبذلك جزم أيضا بعض من ألف في وصف مكناس من الأوربيين المعاصرين اعتمادًا على ما تحرر الآن بطريقة في المسافة المذكورة بعد تعيين نهجها وترصيفه، وعليه فما نقلناه بعد ذلئه عن ابن غازى من أن بينهما اثنى عشر ميلا يحمل على ما قدمناه في المسافة التي بين فاس ومكناس وفاس وتازا.
السادسة: قول ابن غازى السابق وكان ثم سوق غبار إلخ يعنى في المحل الذى به آثار البناء العتيق الضخم المذكور، وقد نسخ هذا السوق لا باعتبار الزمان ولا باعتبار المكان، وإنما يعمر السوق منذ أدركنا داخل الزاوية يوم السبت وعشية يوم الجمعة، نعم بعد انبساط الحماية كان بعض الحكام أشار بإبراز سوف البهائم لظاهر البلد فحول أولا بإشارته خارج باب عين الرجال منها، ثم نقل لوسعة عين خيبر خارج باب عين فكرة منها وعلى ذلك استمر الحال إلى الآن.
السابعة: بالسودان مدينة تسمى وليلى وأخرى تسمى أوليلى نبه عليهما الزيانى في رحلته، وقد قيل إن وليلى زرهون تسمى بطنجة أيضا حكاه ابن غازى في تكميل التقييد، وكذا كانت تسمى تيوليت وبوليبل، وقد يقال بوليبس كما تقدم، كما أن مكناسة كانت تسمى صلدا بالصاد وسلدا بالسين، وبحفظ المؤرخ لهذه الأسماء يفهم المراد من عبارات المؤرخين.
الثامنة: علم مما سبق أن قبيلة أوربة هم أهل وليلى في الزمن الإدريسى، وأن أهل وليلى هم الذين تفرقوا بجبل زرهون لما خربت قاعدة جبلهم وحاضرة البلاد وليلى، فيخرج من ذلك أن أهل زرهون هم قبيلة أوربة ولا زال الأوربيون به وخصوصا بالزاوية منه، وقد حفظت رسومهم القديمة العديدة هذه النسبة لهم، ومنهم أولاد ابن الخياط وأولاد بو يحيى وبيد بعضهم ظهائر ملوكية قديمة باحترامهم وتسويغ بعض الأملاك لهم رعيا لسابقتهم وهم متمسكون بها إلى الآن،
وعليه فما وقع في "الروض" هنا بعد ما قدمناه عنه من قوله ويذكر أن أصل أهله يعنى جبل زرهون روم هـ لا يلتفت إليه وكأنه لذلك أشار بحكايته له بلفظ يذكر الحاكم بعدم ثبوته.
وقول "الروض" كانت البلاد ديار كفر مجوس ونصارى إلخ، قلت: أما المجوس فهو في الأصل معرب منج كوش -بضم الكاف- ومعناه قصير الأذن عرف به رجل صغير الأذنين كان في قديم الزمان اخترع دين المجوسية ودعا إليه فتوبع عليه، ثم بعد زمن سيدنا إبراهيم عليه السلام نشأ رجل آخر اسمه زرادشت الفارسى فجرد هذا الدين المجوسى وأظهره وزاد فيه، وعلى يده دخلت الفرس فيه لثلاثين سنة خلت من ملك ملكهم يستاسب، فتمجسوا حينئذ عن آخرهم بعد أن كانوا في الطور الأول على دين سيدنا نوح عليه السلام، ثم صاروا في الطور الثانى لدين الصابئة واستمروا عليه نحو ألف سنة، ثم بعد ذلك صاروا في طورهم الثالث للمجوسية بدعوة زرادشت الذى يعتقدون فيه أنه نبى مرسل، وبإعانة ملكهم يستاسب كما بينا، ومدار دين المجوسية على تعظيم النار وسائر الأنوار والقول بتركيب العالم من النور والظلمة واعتقاد القدماء الخمسة، وهى عندهم: البارئ تعالى، وإبليس لعنه الله. والهيلولى، والزمان، والمكان وغير ذلك من تفاصيل المجوسية كما بينه صاعد الأندلسى في طبقات الأمم، وقد تولى بسط. تفاصيل هذا وبيان فرق أهله الإمام الشهر ستانى في "الملل والنحل" وغيره، فمن تعلق له غرض بها فلينظرها هناك، ومن نحل أهل المجوسية تفضيل الفرس على العرب وعلى سائر الأمم كذا في "صبح الأعشى" للقلقشندى المولود سنة ست وخمسين وسبعمائة المتوفى يوم السبت عاشر جمادى الأخيرة سنة إحدى وعشرين وثمانمائة.
قلت: وتفضيل المجوس للفرس على غيرهم هو تفضيل لأشراف أهل ملتهم على الغير اتباعا لحمية الجاهلية لا غير، ولعلهم بعد دخول الفرس في الإسلام لا
يقولون بتفضيلهم كفعل اليهود في تفضيلهم لعبد الله بن سلام قبل علمهم بإسلامه وتنقيصهم له بعده والقضية في الصحيح، وأما حديث لو كان الإيمان بالثريا لأدركه رجال من فارس يعنى الفرس كما يأتى عن زروق فهو خاص في خاص ثم هو بيان لفضلهم لا لتفضيلهم.
والنصارى جمع نصران كالندامى جمع ندمان، ونصران صفة مشبهة كعطشان وسكران إلا أنه غير مستعمل، والمستعمل هو نصرانى بزيادة الياء التي للمبالغة، هذا إذا عبر به المفرد الواحد، وإذا أريد التعبير عن الأفراد المتعددة يقال نصارى، سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح عليه السلام، أو لأنهم كانوا معه في قرية اسمها نصران أو ناصرة فسموا باسمها، أو من اسمها وعلى هذا فالياء ياء نسبة لا زائدة للمبالغة، ثم هى نسبة للملة والدين المسيحى فكل آخذ به فهو نصرانى من أى فريق كان وفى أى بلد كان.
وكذا النسبة في المجوسى فإنها دينية فكل آخذ بدين المجوس فهو مجوسى أيا كان، ولا كذلك الرومى والفرنجى وأشباههما، فإن النسبة في ذلك طينية وبلدية لا دينية.
وقرية ناصرة هى بطبرية على ثلاثة عشر ميلا منها، وفى معجم ياقوت وكان فيها مولد عيسى عليه السلام، ومنها اشتق اسم النصارى، وكان أهلها عيروا مريم فيزعمون أنه لا يولد بها بكر إلى هذه الغاية، وأن لهم شجرة أُتْرُج (1) على هيئة النساء وللأترجة ثديان وما يشبه اليدين والرجلين وموضع الفرج مفتوح، وأن أمر هذه القرية في النساء والأترج مستفيض عندهم لا يدفعه دافع وأهل بيت المقدس يأبون ذلك ويزعمون أن المسيح إنما وُلد في بيت لحم، وإنما انتقلت به أمه إلى هذه
(1) الأُترج: شجر يعلو، ناعم الأغصان والورق والثمر، وثمره كالليمون الكبار، وهو ذهبي اللون، زكي الرائحة، حامض الماء. وهو كثير بأرض العرب، وتبقى ثمرته عليه جميع السنة.
القرية، قال ياقوت: فأما نص الإنجيل فإن فيه أن عيسى ولد في بيت لحم، وخاف عليه يوسف من هاردوس ملك المجوس فأُرى في منامه أن احمله إلى مصر، فأقام بمصر إلى أن مات هاردوس فقدم به القدس، فأُرى في المنام أن انطلق به إلى الخليل، فأتاها فسكن مدينة تدعى ناصرة (1).
كذا في تاج العروس.
قلت: ما في نص الإنجيل من أن عيسى عليه السلام ولد ببيت لحم به جاءت رواية شداد بن أوس رضى الله عنه في حديث الإسراء والحديث خرجه الطبرانى والبزار، وابن أبى حاتم وابن مردويه، والبيهقى وصححه خلافا لإنكار ابن تيمية له وإن كان تابعا في إنكاره لابن حبان وابن الجوزى في موضوعاته، وقد وافق على ذلك الذهبى في الميزان.
لكن كلام هؤلاء إنما هو في إنكاره من رواية أبى هريرة ومع ذلك فقد قال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" إن الموضوع في تلك الرواية شئ خاص وهو قوله ثم أتى بى إلى الصخرة فقال يا محمد، من هاهنا عرج بِكَ إلى السماء وأما باقى الحديث فقد أتى من طرق أخرى منها الصلاة في بيت لحم وردت في حديث شداد بن أوس والله أعلم ثم هذا الذى نقله في تاج العروس عن ياقوت عن الإنجيل هو في إنجيل متى إلا أن الذى نقله عنه الشيخ عبد الله الأسلمى أحد أحبار النصارى الذين أسلموا وحسن إسلامهم، وساقه بواسطته الزيانى في رحلته هو أن الخائف على عيسى هى أمه مريم، وأنها هى التي أمرها ملك في المنام بالخروج به لمصر قال وهذا الذى وقع في إنجيل متى لم يقع في بقية الأناجيل الأربعة. انظر تمامه فقد استدل بذلك مع غيره على أن متى ساق ذلك في إنجيله تبعا لبعض الكذابين لا غير.
(1) الخبر بطوله لدى ياقوت - 5/ 251.
فصل: قال في الروض قيل: ولم تكن مكناسة في القديم ممدنة وكانت حوائر (1) كثيرة متفرقة (2) وهى تاورا وبنو عطوش، وبنو برنوس، وبنو شاوش، وبنو موسى، وهذه كلها على الضفة الغربية من وادى فلفل المذكور، إلا تاورا فإنها بضفتيه الغربية والشرقية، وغراساتها كلها منتظمة متصل بعضها ببعض لا فاصل بينها، قال: وفلفل يعرف الآن بأبى عمائر، وفيه يقول شيخ شيوخنا الأستاذ أبو عبد الله ابن جابر في نزهة الناظر:
فلن ترى في سائر العمائر
…
مثل محاسن أبى العمائر
يمر النهر المذكور من قبلة إلى الجوف قريبا من سورها أصله والله أعلم من جبل فازاز. هـ من خطه ملفقا (3).
قلت: تاورا بفتح الواو والراء حسبما ضبط ذلك ابن غازى بخطه، ويعنى بكونها أى مكناسة ليست بممدنة أنها لم تكن مجتمعة الديار ولا عامة المنافع ولا منضمة الشمل بسور حافظ كما قدمه.
وإلى وادى أبى العمائر المذكور ينسب باب أبى العمائر من أبواب هذه الميدنة، وإنما نسب إليه لقربه منه وعبور الداخل إليه والخارج منه من تلك الناحية عليه، والباب المذكور هو أحد أبواب المدينة وهو واقع في شمال غربى مستقبل حمرية من باب ضريح الشريف أبى الحسن على بن محمد بن على دعى بمنون أحد رجال العلوم والمعارف المرجوع إليه بالعاصمة قديما المتوفى سنة أربع وخمسين وثمانمائة.
ومركز الباب المذكور الطبيعى هو في مقابلة باب دار البارود المعدة لتصفية ملحه، وهى إحدى آثار فخامة العاصمة قديما وهناك دار بارود أخرى كانت معدة
(1) حوائر: جمع لحائر، وهو المكان المطمئن الوسط المرتفع الحروف، ومن ذلك سموا البستان بالحائر.
(2)
في المطبوع: "مفرقة" والمثبت من الروض الذى ينقل عنه المصنف.
(3)
الروض الهتون - ص 45، 53.
لصنعه وهى التي موقعها بالمحل بين الباب المحدث عنه وبين الباب الأخرى هناك للمدينة المسماة بباب المرس لوقوع المرس الإسماعيلى الهائل خارجها، وموقع هذا. الباب الثانى بالناحية الشرقية ومنه الآن يقع النزول لعيون أبى العمائر وكلتا الدارين من فخامة العاصمة، وقد صارت الدار الثانية التي ينزل من بابها للعيون المذكورة محلا الآن للأشغال العمومية الدولية كما أضيفت الأولى في العصر الحاضر للجنان العمومى المسمى موقعه في القديم بالحبول المعد فيما سلف مربضا لبقر الأهالى المتجرين في بيع اللبن الذى هو من أهم حاجيات تموين العاصمة.
ومن ضروريات مستشفياتها اختار الأقدمون من أهاليها مكان الحبول المذكور لاستقرار بقرهم لما فيه من الجمع بين منفعة القرب والتحصين بسور العاصمة وبابها ودفع مضرة عفوناتها باتصاله بالباب وانفصاله عن غالب المنازل، وحيث جعلت الدولة الحامية المربض المذكور بستانا عموميا وتفرقت جموع بقره بسبب ذلك داخل العاصمة، صارت الانتقادات الطبية تتوجه إلى أرباب ذلك البقر كل حين لاتصال مضرة عفوناته بالأهالى، وقد كان استقرار البقر بالحبول حاجزا عن ذلك الاتصال. وقاضيا على مضاره بالبعد والانفصال.
وباب أبى العمائر المذكور قد هدته الدولة الحامية عند حلولها بالعاصمة المكناسية ولم تبق له عينا ولا أثرًا، والقصد من ذلك إزالة الحاجز بين العاصمة القديمة والمدينة الجديدة الآتى ذكرها حتى لا تسد باب الأولى في وجه الثانية، ويتيسر سير العربات والسيارات بين المدينتين بدون أدنى حرج ولإمكان المواصلة بينهما في سائر الأوقات.
ومن هذا الباب يخرج قاصد غابة الزيتون المعروفة بحمرية المحدث بها تخطيط المدينة الجديدة وبخارجه على يمين الذاهب لفاس أو للمدينة الجديدة عيون متدفقة بالزلال العذب الفرات، كانت الدولة الحامية حصنتها بالبناء وصانتها عما
كان معششا بها من القذرات، وحجرتها على خاصة الأهالى وعامتهم، وانتقتها لشربها ومن حصلت له رغبة من وجهاء الأهالى في الورود من موردها المعين طلب الترخيص من لدن الحكومة الأجنبية، فتنافس رؤساء الأهالى وأعيانهم في التحصيل على الترخيص في السقى منها، وذلك بعد أن لم تكن لديهم تلك العيون شيئا مذكورا في ماضى العصور بل كانت تعافها النفوس وتشمئز من الشرب منها القلوب، لأنها كانت محل غسل أوساخ الصوف والثياب الخلقة وأبوال الدواب والمواشى وأرواثها، ولكن النفوس ميالة ومجبولة على حب الجديد. ومحاكاة الطالع السعيد. وحريصة على الاتصال بما منه منعت، كما أنها حريصة على الانفصال عما إليه ألجئت. هذا والمحنكون وذوو المعرفة من قدماء الأهالى كانوا يحققون أن ماء تلك العيون هو وإن كان حسنا فهو أحط رتبة عما رشح له بالنسبة لغيره، ثم لما طال استيطان الفرنسيين بمكناسة أنتج البحث المدقق من عرفائهم أن أحسن ماء يوجد بالبلد خفة وصفاء وعذوبة هو ماء عين تاكما -بالكاف المعقودة- الكائنة شرقى المدينة على مسافة تنيف على أربعمائة متر تقريبا.
فحينئذ صرفت حامية مكناسة وجهتها عن ماء عيون أبى العمائر، وأباحت ورده لمن يريده من وارد وصادر، فضعفت رغبة الأهالى في السقى من ذلك الماء بعد الحرص الشديد، ورجع لها بعض ما كان بها قبل من المستقذرات كغسل الأثواب الوسخة وأدخلت الدولة الحامية ماء عين تاكما للمدينة الجديدة وقصرته عليها واستغنت به عما سواه، ثم بعد كتبي هذا أدخل ماء عين تاجما للمدينة الأهلية أيضا لمكناسة واتخذت له سقايات عمومية بأزقتها وأبيح إدخاله للدور لمن تعلقت له به رغبة بالشراء من الإدارة البلدية، وقد كان ماء هذه العين في سالف الدهور مسوقا للمسجد الأعظم بالعاصمة في ساقية وسط حائط حذو الوادى في ناحية ضريح أبى زكرياء الصبان المعروف الآن بسيدى بوز كرى، إلى أن يجرى في
باب الحفاة وغيره من المسجد المذكور في الأخدود المعدلة إلى الآن هناك لتطهير أرجل الحفاة الداخلين للمسجد حفظا ونقاوة وإبعادًا لأسباب الدنس عن المسجد لما انبنى عليه الدين الحنيفى من النظافة في سائر وجهاته المقدسة المعضوض عليها بالنواجذ من رؤساء الملة الحنيفية قديما وخصوصا المؤسسين لمعابده، القائمين بتشييد محامده، ولكن لما كانت من سنة الله التي قد خلت في بلاده وعباده ولن تجد لسنة الله تبديلا إحالة الأحوال وصيرورة الكل إلى خبر كان، توفرت عوامل الإهمال، الموجبة للخراب والاضمحلال، حتى صار ذلك المجرى وما انبنى عليه نسيا منسيا، وأضيف ماء الساقية للوادى كما أضيف إليه ماء عيون أبى العمائر وغيرها مما هو بإزائه.
والوادى المذكور يسمى في ماضى الزمان بفلفل وأبى العمائر، وفى حاضره بأسامى متعددة بحسب الأمكنة المار فيها، منها بوفكران، ومنها عين معروف، ومنها در دورة.
وقد تحقق لدينا أن أصل منبعه من الكهف الكائن بقبة جبل بُوْزَ كُّو -بضم الباء وسكون الواو وبعدها وفتح الزاى وتشديد الكاف المعقودة مضمومة- الكائن هو أى الجبل بأقماشن من آيت بورزون فخذ من قبيلة بنى مطير، ويعرف الكهف المشار له بكهف الريح، سمى بذلك لشدة الرياح الصاعدة من جوفه، حتى إنه لا يكاد يمكن الإشراف على قعره ولا يكاد يمكن المشرف عليه أن يمسك نفسه معها عن السقوط في هوته كذا قيل.
وبسفح هذا الجبل بالمحل المعروف بَمزَّعتِوالْ -بفتح الميم وتشديد الزاى المفتوحة وسكون العين المهملة وكسر التاء وفتح الواو المشبعة بعدها لام ساكنة- عيون، أصل معظمها وأكثرها ماء من الكهف المذكور بدون أدنى ريب يلحق في ذلك سكان ذلك المحل، قالوا: لأنه مهما سقط بذلك الخرق شيء خرج في بعض
تلك العيون، وذلك أقوى دليل وأصدق برهان على أن أصلها منه، وهذا المحل لا يعرف اليوم ببنى فازاز ولا الجبل المذكور بالنسبة إليهم، أما في غابر الأزمان وقد كان يطلق فازاز على تلك الجبال كلها حتى جبل آزرو الشهير المعروف، والمحل الذى يعرف اليوم بفازاز عند تلك القبائل البربرية بينه وبين الجبل الذى يخرج منه الماء المذكور مهامه فيحه تنيف على سبعين كيلو مترا.
ومعنى مزعتوال بلسان البربر منفر البقر سمى بذلك لوجود ضريح به إذا مر البقر أمامه نفر وشرد على ما أخبرنى به غير واحد من الثقات سكان ذلك المحل، ومن أصول منبع بوفكران العظيمة عين معروف ويمتد خمسين كيلو مترا يبلغ منبعه في اليوم أربعين ألف متر مكعبا على ما حققه بعض الفرنسيين
فصل: قال في "الروض"(1): إلا تاورا، فإنها بضفتيه الشرقية والغربية وغراسلتها كلها منتظمة متصل بعضها ببعض لا فاصل بينها، وتاورا أقرب الحوائر من المدينة من جهة باب البراذعيين ومن حوائرها أيضا بنو زياد وتقع غربا من الحوائر المذكورة وليست على الوادى المذكور، لكن لها جدول من نوع ساقية طويلة المسافة صعبة المجرى.
قال: وببنى زياد أيضا عيون يسقون منها بعض أملاكهم، ويسقون بعضها بالساقية المخرجة من وادى فلفل المذكور، وبعضها بعل وكان العنب البعلى بها في غاية الطيب بموضع هنالك يقال له المتروئي إليه ينسب العنب المتروئي هنالك، قال الأستاذ أبو عبد الله بن جابر في "نزهة الناظر" بعد ما ذكر أصناف العنب التي بمكناسة:
لكننى أقول دون سوء
…
ما فاق الأعناب سوى المتروئي
وهو عنب أبيض شديد الحلاوة ولا سيما الأنثى منه، ويذكر أنه من قوته لا يستحيل خمرا إلا عند اعتدال الزمان، ومن غلوهم فيه أنهم يقولون إنه يستصبح
(1) الروض الهتون - ص 53 وما بعدها.
بخمره، وهنالك قرية كان يقال لها قرية الأندلس كانت (1) من عمل بنى زياد سكنها على قديم الزمان قوم أندلسيون وتناسلوا بها وأقاموا دهرًا لم تتغير ألسنتهم ولا أشكالهم إلا من كان منهم كثير الامتزاج بأهل البلد (2) فإنه تغير لسانه وكانت لهم بالقرية المذكورة كرمات بعل في أرض رملة حمراء كذا قيل، وهذه القرية والله تعالى أعلم هى المسماة في هذه الأعصر تلاجدوت، وبها جرى المثل السائر "دار الكرامة يا تلاجدوت" ومنها كان الشيخ أبو الحسن علي بن يوسف التلاجدوتى المدعو بسيدى علي بن يشو، وهو من شيوخ شيخنا الفقيه الحافظ سيدى أبى عبد الله محمد القورى، والخطيب البليغ المصقع سيدى أبى العباس أحمد بن سعيد الحباك الغفجميسى وكلامهم اليوم برطانة البربر المفرطة في العجمة من خطه.
قلت: أما الساقية الصعبة المجرى فلم يبق لها أثر لهذا العهد، وأما قرية الأندلس المسماة تلاجدوت فلم يبق لها أيضا أثر ولا خبر، وكون مسمى تلاجدوت هو قرية الأندلس يخالفه ما في كتاب الاستبصار، بعجائب الأمصار، المؤلف سنة سبع وثمانين وخمسمائة، فإن فيه أن من مدن مكناسة الأربعة تلاجدوت (3) وتفسيره المحلة، قال: وهو محدث البناء، وهو مشرف على بطاح وبقاع مملوءة بياضا (4) كثير الثمار، وأكثرها الزيتون فسميت به، وهذه المدينة عليها سور كبير وأبراج عظيمة، وهى مدينة حفيلة. هـ.
وهذا الذى وصفها به لا ينطبق إلا على تاكرارت المدينة الآن، فعليه لها اسمان كل منهما فسر بالمحلة فالله أعلم.
وأما الشيخ أبو الحسن التلاجدوتى والقورى والحباك فستأتى تراجمهم في محالها بحول الله فترقب.
(1) في المطبوع: "كأنها" والمثبت من الروض الذى ينقل عنه المصنف.
(2)
في المطبوع: "البلاد" والمثبت من الروض الذى ينقل عنه المصنف.
(3)
في الاستبصار الذي ينقل عنه المصنف "تاقرارات" وقد أشار المصنف فيما بعد إلى الاسم الوارد في الاستبصار. وقال: فعليه لها اسمان كل منهما فسّر بالمحلة.
(4)
في الاستبصار: "مملوءة بفيضات" وفي نسخة أخرى منه بالهامش "بيضات".
فصل: قال في "الروض" وكانت حارة تاورا التي هى أقرب الحوائر إلى المدينة الآن يشقها وادى فلفل ديارها على ضفتيه شرقا وغربا، والغراسات بها وبسائر الحوائر متصلة بالديار، وبتاورا أرحاء كثيرة كان أكثرها يحتوي على أربعة أحجار، وكان من جملتها بيت واحد للزغابشة يحتوي على خمسة أحجار، وكان فيها حمامان اثنان، أحدهما منسوب للزغابشة والثانى للمختص يعرف بحمام أبى الخيار بإزائه عين كبيرة تنسب كذلك لأبي الخيار، ماؤها عذب معين صاف تُسقى به طائفة كبيرة من أملاك تاورا، ومن أملاك من تحتها، وكانت حارة تاورا تنقسم أقساما: قسم يقال له: بنو عيسى ديارهم بالضفة الغربية من الوادي يذكر أنهم أصل بني زغبوش، لكن لا تعلم صحة ذلك، غير أنهم كانوا يجدون في بعض العقود القديمة نسبتهم إلى عيسى بلفظ فلان بن فلان العيسوي، ويستدلون بذلك على أن بني زغبوش من بني عيسى، والله تعالى أعلم (1).
وقسم بالضفة المذكورة قبله من بني عيسى يقال له بنو يونس ويسمى أيضا هذا القسم تاورا الفوقية، وبهذا القسم كان المسجد الجامع، وبين هذين القسمين موضع عال جدا يعرف بالجهنمية، وقسم بالضفة المذكورة يقال له: فاس الصغيرة، كأنها سميت بذلك لاختراق الماء خلالها كمدينة فاس، وبالضفة الشرقية من الوادي قسم يقال له الجنان الصغير، وقسم يسمى بني أبي نواس، وقسم يسمى حارة بنى زغبوش، وحارة الزغابشة، وثم كانت ديار بني محمد بن حماد وغيرهم، وكان ببني زياد حمام وببني مروان حمام يعمران، وكان ببني موسى حمام تعطل قبلهما والله تعالى أعلم. من خطه (2).
قلت: أما الحارة فكل محلة دنت منازلها كما في "القاموس"(3) وهو معنى قول "المصباح" الحارة المحلة تتصل منازلها، والجمع حارات.
وأما حوائر المعبر به في "الروض" فهو جمع لحائر وهو كما في شرح "القاموس" عن أبى حنيفة المكان الطمئن الوسط المرتفع الحروف، ومن ذلك سموا البستان (4) بالحائر. هـ.
(1) الروض الهتون - ص 57.
(2)
الروض الهتون - ص 58.
(3)
القاموس (ح ي ر).
(4)
القاموس (ح ي ر) وانظر لذلك أيضًا: المعجم الوسيط.
وهو منطبق تمام الانطباق على موقع تاورا الطبيعي، فإنها مطمئنة الوسط مرتفعة الجوانب من جهاتها الأربع كالحياض، يسبب لوسطها مسيل ماء الأمطار ضرورة كانت ذات بساتين متعددة تتصل كل دار ببستان كحالة دور سكان الأروى الإسماعيلي ونواحيه في عصرنا الحاضر.
وحارة تاورا المذكورة وما عطف عليها هي الكائنة شرقا عن يمين الذاهب لزرهون الخارج من باب البراذعيين والحوائر الأخرى عن يساره غربا.
وأما الخارج من باب تريمي الصغيرة أحد أبواب المدينة اليوم وقيدنا بالصغيرة احترازا عن تريمي الكبيرة القصبة الشهيرة الكثيرة السكان الكائنة داخل باب البراذعيين المحدث فيها اليوم الباب الذي أعد لدخول البقر عند إيابه من المسارح فتبقى الحوائر التاورية وما عطف عليها عن يساره.
وجميع تلك الحوائر لا يعرف اليوم إلا بتاورا، إلا حارة بني موسى فإنها لازالت معروفة باسمها القديم والطريق المارة لزرهون فاصلة بين حوائر تاورا وحوائر بني موسى، وغراسات تلك الحوائر والبساتين الزيتون والتفاح وأنواع الإجاص (1) والسفرجل (2) والرومان والخوخ وأنواع كثيرة من التين لا تكاد توجد في غيرها والمشمش والبرقوق والعنب والتوت الشهي، والليم (3).
وقد عفت تلك الحوائر ودرست الأطلال والرسوم، ولم يبق لهذا العهد بالمدينة لنسل سكان تلك الحوائر أثر غير بني حموش المعروفين في الزمن الحاضر بالحمامشة، فإنه لا زال البعض موجودا أعرف واحدا منهم يتعاطي خطة العدالة،
(1) الإجاص: شجر من الفصيلة الوردية، ثمره حلو لذيذ، يطلق في سورية وفلسطين وسيناء على الكمثرى وشجرها، وكان يطلق في مصر على البرقوق وشجره.
(2)
السفرجل: شجر مثمر من الفصيلة الوردية.
(3)
الليم: الليمون.
وغير زغبوش المدعوين اليوم بالزغابشة فإن بقية نسلهم موجود بالمدينة اليوم على قلة وما لغيرهما من باقي تلك الشعب والقبائل من بقية فالبقاء لله وحده وكل شيء هالك إلا وجهه، وسنأتي بعد إن شاء الله تعالى على بيان وقت تخريب هذه الحوائر ورجوع العمارة إليها ثم انقطاعها عنها بالكلية.
ومن الحوائر والبساتين الشهيرة في هذه الأعصر بضفتي تاورا: البستان المعروف بعرصة النصراني ولم أدر ما وجه هذه الإضافة وابن شملاك وابن العلام والقادرية وخواش والنجار والحارة وبوخيار ولا زال جل ما ذكر يسقى من وادي أبي العمائر، وبعضها يسقى من عين أبي الخيار المارة الذكر، ولا زال ماؤها العذب المعين يتدفق، وهي إحدى المواضع التي أعدت لغسل الصوف والثياب بعد منع ذلك وإزالته من عيون أبي العمائر السالفة الذكر، كما يسقى أيضا بعض الحوائر المشار لها بماء عيني الغولة وعرصة النصراني وأيس بالكثير ماؤهما ولا يوجد بتاورا اليوم من العيون غير ما ذكر.
ومن أشهر حوائر بني موسى في العصر الحاضر: جنان العريفة ومولاي زيان والظاهر، وبهذه البساتن عيون منهمرة بالعذب الزلال مبنية عليها الصهاريج المهمة تسقي منها غراساتها كما تسقي كغيرها من الساقية المرعوفة بقشمارة -بفتح القاف وسكون الشين المعجمة وفتح الميم المشبعة وتشديد الراء مفتوحة بعدها هاء وماء هذه الساقية يخرج من ماء أودية المدينة المضاف ويسقي أيضا بعض تلك الأجنة بماء عيون حربل -بفتح الحاء المهملة وسكون الراء- النابعة أسفل قصبة تولال خارج باب سيدي سعيد أحد أبواب المدينة كما سيمر بك بحول الله.
تنبيه: قد سبق ابن غازي إلى وصف هذه الحوائر الإدريسي في "نزهة المشتاق" فقال: مكناسة مدائن عدة وهي في طريق سلا ومدينة مكناسة هي المسماة
تاقررت (1) وهي الآن باقية على حالها لم يدركها كبير تغيير، وهي مدينة حسنة مرتفعة على الأرض يجري في (2) شرقيها نهر صغير له أرحاء وتتصل بها عمارات وجنات وزروع، وأرضها طيبة، ولها مكاسب وأموال طائلة، ومكناسة سميت باسم مكناس البربري لما نزلها مع بنيه عند حلولهم المغرب، وأقطع (3) لكل ابن من بنيه بقعة يعمرها مع ولده، وكل هذه المواضع التي أحلهم بها تتقارب وتتجاور أمكنتها، وبلاد مكناسة منها التي تعرف ببني زياد وهي مدينة عامرة لها أسواق عامرة وحمامات وديار حسنة والمياه تخترق أزقتها، ولم يكن في أيام الملثم بعد تاقررت أعمر قطرا من بني زياد، وبينهما نحو من ربع ميل، ومنها إلى بني تاورا وتاقررت نحو ذلك وكانت مدينة تاورا (4) متحضرة جامعة غامرة وأسواقها كثيرة والصناعات بها نافقة، والنعم والفواكه لا تقضى بها حاجة -أي لكثرتها ورخصتها- والماء يأتيها من جنوبها من نهر كبير فينقسم في أعلاها ويمر ما انقسم هناك من المياه فيخترق جميع أزقتها وشوارعها وأكثر دورها (5).
وبين تاورا وبني زياد مدينتان صغيرتان إحداهما القصر وهي مدينة صغيرة في الطريق من تاقررت إلى السوق القديمة على رميتي سهم، وهذه المدينة بناها أمير من أمراء الملثمين وجعل لها سورا حصينا وبني بها قصرا حصينا ولم تكن بها أسواق كثيرة، ولا طائل تجارات، وإنما كان ذلك الأمير يسكنها مع جلة بني عمه والمدينة الأخرى في شرقي هذه تعرف ببني عطوش، وهي ديار متصلة وعمارات في بساتين لهم هناك، ولهم أشجار وغلات وزيتون كثير وشجر تين وأعناب وفواكه جمة وكل ذلك بها رخيص (6).
(1) في المطبوع: "تاكرارت" والمثبت في نزهة المشتاق 1/ 244، التي ينقل عنها المصنف.
(2)
في المطبوع: "على" والمثبت رواية نزهة المشتاق.
(3)
في المطبوع: "اواقتطع" والمثبت رواية نزهة المشتاق.
(4)
في نزهة المشتاق: "تاورة".
(5)
نزهة المشتاق 1/ 244 - 245.
(6)
نزهة المشتاق 1/ 245.
وأسفل هذه المنازل على مجرى الماء الذي يأتي من بني عطوش قبيلة بني برنوس من مكناسة، وهي في منازل وديار ومزارع وكروم وعمارات وزيتون كثير وفواكه تباع بالثمن اليسير، وفي شمال قصر أبي موسى سوق يقصد إليها في كل يوم خميس يجتمع إليه جميع قبائل بني مكناس وتسمى السوق القديمة، ومن قبائل بني مكناس المجاورة لهذه البلاد بنو سعيد وبنو موسى ويسكنها من غير قبائل مكناسة، بنو يسيل، ومغيلة، وبنو مصمود، وبنو على، وورياغل، ودمرو، وأَوْرَبَة (1)، وسبغاوة (2).
فقوله مدائن عدة قد سمى منها بعد تاقررت وبني زياد وتاورا والقصر أي المعنون عنه سابقا بالحصن وبني عطوش، وقد بين تقارب بعضها من بعض بأن بين واحدة والأخرى نحو ربع ميل، وبعد أن وصف بني زياد وتاورا بذلك بين أن مدينتي الحصن وبني عطوش واقعتان بينهما، فيكون تباعد هذين المدينتين فيما بينهما وفيما بين ما هما واقعتان بينه أقل من ذلك بكثير، وأنت تراه قد وصف العامر والغامر من هذه المدن ولم يعد منها مدينة وَلِيلَي، مع كونها لو كانت من مكناسة عنده لكانت أولى بالتوصيف من جميع ما ذكر لما تقدم من قدمها، وأنها مدينة أزلية، وأنها حاضرة البلاد، فدل ذلك على أنه لا يراها منها ولا أن موقعها من بلاد مكناسة.
وقوله وهي في طريق سلا، يعني للقاصد لها من فاس وأحوازه، وقد صرح في كلامه الذي اختصرنا ذكره بأن بين فاس ومكناسة أربعين ميلا، وكل ذلك منه
(1) في نزهة المشتاق: "دمر وواربة". وأوربة: قبيلة شهيرة من البربر البرانس، كانت في القديم تشتمل على بطون وعمائر كثيرة، مثل: جاية، ونفاسة، وزهكوجة، ومزيانة، ورغيوة، ودقيوسة. وقد عظمت تلك البطون فيما بعد حتى صارت في عداد القبائل. كانت مواطن هذه القبيلة عند دخول الإسلام إلى المغرب بجبل زرهون وما جاوره، وكان أميرها يدعى سكرديد بن زوغى، ولى عليهم مدة 73 سنة، وأدرك الفتح الإسلامى، ولما مات سنة 71 بقيت زعامة البربر في هذه القبيلة حتى دخل إدريس الأول المغرب، فتنازل له إسحاق بن محمد الأوربى عن الإمارة وقام بنصرته، وبعد ذلك اندمجت وربة في عداد القبائل البربرية واندثر اسمها، ونسب أهلها إلى الجبل الذى يسكنون به (زرهونى - الزراهنة) ولم يبق يحمل اسمها إلا بطن تحول إلى ناحية تارة واندمج في قبيلة البرانس (وربة) ولكن بقى ما يذكر بها كأولاد الوربى، وحومة الوربية بفاس.
(2)
نزهة المشتاق 1/ 245.
تعيين لموقع مكناسة بالجهة والمسافة، حتى يعلم أن ما بعد عن طريق سلا وعن المسافة المذكورة ليس من مكناسة، وقد تضمن وصفه لبعد ما بين مدنها الإشارة لقدر مساحته أيضا حتى لا يقع في وهم أحد اشتباه شمول موقعها بموقع غيرها مما خرج عنها.
وقوله: ومدينة مكناسة يعني أعظم مدنها عمارة وحضارة كما يؤخذ من قوله ولم يكن في أيام الملثم بعد تاقررت
…
إلى آخره، أو مراده المدينة القائمة المرعوفة بذلك في وقته.
وقوله: الآن، يشير به لتاريخ تأليفه لكتابه المنقول منه، وذلك أواسط القرن السادس من الهجرة كما بينه ابن خلدون في مقدمته وغيره.
وقوله سميت باسم مكناس البربري لما نزلها مع بنيه (1)
…
إلخ، صريح في أن جد القبيلة نفسه نزل بها، فيستفاد من ذلك وجه كونها تسمى تارة مكناس، وتارة مكناسة، وهو أن الأول ملحوظ فيه اسم أكبر الحالين بها، وهو جد القبيلة، والثاني ملحوظ فيه اسم القبيلة.
وقوله ولم يكن في أيام الملثم (2)
…
إلخ، الذي ينصرف إليه هذا الوصف عند الإطلاق هو يوسف بن تاشفين فرد تلك الدولة الكامل أعظم أمراء المرابطين، وإنما قيل له الملثم لكونه كان يستعمل اللثام في وجهه على عادة قومه، وعلى ذلك جرى أمراء بنيه وقومه من بعده، وأيامه كانت في النصف الأخير من القرن الخامس كما علم من تاريخ وفاته الذى قدمناه، وحينئذ يكون هذا مقتضيا لكون تاقررت كانت موجودة زمن يوسف بن تاشفين، وذلك موافق لما قدمناه عن ياقوت الحموي من أن يوسف هو المختط لمكناس الحادثة أي تاقررت، ولكن قدمنا تصريح ابن غازي من أئمة مكناسة بأن تاقررت إنما اختطت بعد ظهور الموحدين، وذلك إنما كان بعد موت يوسف بسنين، وعليه فيحمل الملثم في عبارته على من اختطت تاقررت في أيامه من أمراء بنيه.
(1) نزهة المشتاق 1/ 244.
(2)
نزهة المشتاق 1/ 244.
وقوله: أعمر قطرا من بني زياد، قد قدم أن بني زياد مدينة محصورة، وذلك يدل على أن مراده بقطرها موقعها ومساحتها لا غير.
وقوله: في الطريق من تاقررت إلى السوق القديمة على رمتي سهم (1)
…
إلخ، يعني أن مدينة القصر التي هي حصن عامل مكناسة واقعة في طريق السوق القديم، وبينهما وبين تاقررت القدر المذكور وهو رميتا سهم بالتثنية.
وقد تحصل من كلامه هذا وما ذكره قبله أن موقع هذا الحصن يعتبر بين كل من تاورا وبني زياد ومن تاقررت والسوق القديم.
وقوله وفي شمال قصر أبي موسى إلى قوله السوق القديمة كذا هو في نسختين اثنتين من نزهة المشتاق قصر بالصاد المهملة وأبي موسى بلفظ الكنية ولا أتحقق الآن المراد بهما، وقد تقدم البحث عن موقع السوق القديمة فارجع إليه.
وقوله ومن قبائل بني مكناسة المجاورة لهذه البلاد (2) إلى قوله وأَوْرَبَة (3)
…
إلخ صريح في أن هؤلاء خارجون عق موقع مكناسة وإن جاورها، وفي أن من جملتهم أوربة الذين هم أهل زرهون كما تقدم، والله أعلم وأحكم.
فصل قال في الروض: وكانت هذه المواضع كلها في غاية من الخصب وكثرة المياه والأشجار، وكان أهلها آمنين مطمئنين في عيش رغد ونعمة تامة منذ ملك أمراء المسلمين بنو تاشفين بلاد المغرب وأخمد (4) الله تعالى بسيوفهم نار الفتنة البربرية فانقطعت مطامع رءوس النفاق من بربر المغرب (5). من خطه.
قلت: قال بعضهم يشير والله أعلم إلى فتنة جور مغرواة في دولتهم عند انشغالهم بنهب أموال الرعية والفسق وتمزيق الأعراض وما لا يحل سماعه.
(1) نزهة المشتاق 1/ 245.
(2)
نزهة المشتاق 1/ 245.
(3)
في نزهة المشتاق: "واربة".
(4)
في الروض الهتون: "وأغمد".
(5)
الروض الهتون - ص 58.
والبربر: اختلف فيهم اختلافا كثيرا فقيل إنهم من ولد فارق بن بيص بن حام، والبربر يزعمون أنهم من ولد إفريقش بن صيفى الحميري، وزناتة منهم تزعم أنهم من لخم، والأصح عند أهل التحقيق أنهم من ولد كنعان، وأنه لما قتل ملكهم جالوت الفلسطيني وتفرقت بنو كنعان قصدت منهم طائفة بلاد المغرب وسكنوا تلك البلاد وهم البربر.
وقبائل البربر كثيرة جدا، منهم كتامة وبلادهم بالجبال من المغرب الأوسط وكتامة هم الذين أقاموا دولة الفاطميين مع أبي عبد الله الشيعي، ومنهم صنهاجة ومن صنهاجة ملوك إفريقية بنو بلكين بن زيري، ومن قبائل البربر زناتة وكان منهم ملوك فاس وتلمسان وسجلماسة ولهم الفروسية والشجاعة المشهورة، ومن البربر المصامدة وسكناهم في جبال درن، وهم الذين قاموا بنصر المهدي بن تومرت وبهم ملك عبد المؤمن وبنوه بلاد المغرب وانفرد من المصامدة قبيلة هنتاته -بنون فتاء ثم تاء بعد الألف فهاء السكت- وملك منهم إفريقية والمغرب الأوسط أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص، ثم خطب لولده أبي عبد الله محمد بن يحيى بالخلافة واستمر الحال على ذلك إلى سنة اثنتين وخمسين وستمائة، ومن قبائل البربر المشهورة برغواطة ومنازلهم في تامسنا على البحر المحيط، وقيل إن برغواطة منسوبون إلى برغاطي وهو صالح بن طريف اليهودي نسب إلى الموضع الذي نشأ به وهو برغاطة موضع بفحص شريش من بلاد الأندلس، فعربت العرب هذا الاسم، وقالوا برغواط، وقد كانت هذه الفرقة على غير الإسلام وفيهم من تنبأ كذبا وزورا وقد قطع الله دابرهم فلم تبق لهم من باقية.
والبربر مثل العرب في سكنى الصحاري ولهم لسان غير العرب قال ابن سعيد: ولغاتهم ترجع إلى أصول متحدة وتختلف فروعها حتى لا تفهم إلا بترجمان كذا في تاريخ أبي الفداء مع زيادة من غيره.
ودرن بالتحريك جبل عظيم من جبال البربر بالمغرب فيه عدة قبائل وبلدان وقرى، وهو المعروف في كتب المسالك والجغرافيا بالأطلس، ويعرف في كل محل باسم فيعرف في بلاد المصامدة بالكلاوي وهو المطل على مراكش ويعرف بداخلية بلاد البربر بجبل العياشي.
قال ابن سعيد: وهو جبل شاهق مشهور لا يزال عليه الثلج أوله عند البحر المحيط الغربي في المغرب وآخره في جهة الشرق على ثلاثة مراحل من إسكندرية من الديار المصرية ويسمى طرفه الشرق المذكور رأس أوتان فكون امتداده نحو خمسين درجة.
قال ابن خلدون ويسكن هذا الجبل من البربر أمم لا يحصيهم إلا خالقهم ثم قال: إن جبل درن هذا من جهة غربيه مطل على بلاد المغرب الأقصى وهي في جوفه ففي الناحية الجنوبية منها بلاد مراكش وأغمات وتادلا، وعلى البحر المحيط منها بلاد آسفى ومدينة سلا، وفي الجوف عن بلاد مراكش بلاد فاس ومكناسة وتازا وقصر كتامة وهذه هي التي تسمى المغرب الأقصى في عرف أهلها، وعلى ساحل البحر المحيط بلدان أصيلا والعرائش، وقد سميت هذه البلاد شرقا بلاد المغرب الأوسط وقاعدتها تلمسان. وسيأتي عن ابن سعيد وغيره ما يخالف ما قاله ابن خلدون هنا في تفسير المغرب الأقصى، وفي القاموس وشرحه والبربر جيل من الناس لا تكاد قبائله تنحصر.
قال أبو عبد الله الحميري المتوفى سنة تسعمائة في الروض المعطار في أخبار الأقطار: إنهم والحبشة من ولد حام وقيل إنهم من بقية نسل يوشع بن نون من العماليق الحميرية وهم رهط السمياع وأنه سمع لفظهم فقال ما أكثر بربرتكم وقيل غير ذلك الجمع البرابرة زادوا الهاء فيه إما للعجمة وإما للنسب وهو الصحيح.
قال الجوهري: وإن شئت حذفتها، وهم أي أكثر قبائلهم بالمغرب في الجبال من سرس وغيرها متفرقة في أطرافها وهم زناتة وهوارة، وصنهاجة، ونفزة، وكتامة، ولواته، ومديونه، وشباته، وكانوا كلهم بفلسطين مع جالوت فلما قتل تفرقوا كذا في الدرر الكامنة للحافظ ابن حجر.
وقال البلاذري: حدثني بكر بن الهيثم، قال: سألت عبد الله بن صالح عن البربر فقال: هم يزعمون أنهم من ولد قيس بن عيلان وما جعل الله لقيس من ولد اسمه بر.
وقال أبو المنذر: هم من ولد فاران بن عمليق بن يلمع بن عابر بن شليخ بن لوذ بن سام بن نوح، والأكثر الأشهر أنهم من بقية قوم جالوت وكانت منازلهم فلسطين، فلما قتل جالوت تفرقوا إلى المغرب، أو هم بطنان من حمير صنهاجة وكتامة صاروا إلى البربر أيام فتح والدهم إفريقش الملك بن قيس بن صيفي بن سبأ الأصغر، كانوا معه لما قدم المغرب وبني إفريقية، فلما رجع إلى بلاده تخلفوا عنه عمالا له على تلك البلاد فتقووا إلى الآن وتناسلوا، انتهى.
وما أنكره عبد الله بن صالح في نسب البربر هو الذي اقتصر عليه ابن أبي زرع في أنيسة في خصوص زناتة ومنهم بنو مرين، وبين في رفع نسبهم لقيس أن جالوت من حملة أجدادهم، وعلى مثل ذلك اقتصر أيضا ابن الخطيب في الحلل الموشية لكن قال ابن خلدون: إدخال جالوت في نسب البربر خطأ والحق أن جالوت من بني فلسطين أحد شعوب حام وهم إخوة القبط والبربر والحبشة والنوبة كما ذكرنا في نسب أبناء حام، وقد دثرت أمة فلسطين وكنعان وشعوبهما لهذا العهد ولم يبق إلا البربر، واختص اسم فلسطين بالوطن الذي كان لهم.
والتحقيق الذي لا ينبغي التعويل على غيره أن البربر من ولد كنعان انظر أوائل الجزء السابع من تاريخه فقط بسط فيه رد ما يخالف ذلك معتمدا على ما
حرره إماما الفن حافظا الأندلس أبو محمد ابن حزم وأبو عمر ابن عبد البر قائلا فهم ولد كنعان بن حام بن نوح واسم أبيهم مازيغ، انتهى.
وقد جزم الحافظ ابن حجر في الفتح بأن بني مرين من البربر.
ومما يستملح إيراده هنا في مناسبة ذكر هذا الاسم أعنى اسم أبيهم ما ساقه في الاستقصا من كتاب الجمان إذ قال: لما كانت خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه واستفتحت مدينة مصر وكان عليها عمرو بن العاص، قدم عليه ستة نفر من البربر محلقين الرءوس واللحي، فقال لهم عمرو ما أنتم وما الذي جاء بكم؟ قالوا: رغبنا في الإسلام فجئنا له لأن جدودنا قد أوصونا بذلك، فوجههم عمرو إلى عمر رضي الله عنهما وكتب إليه بخبرهم، فلما قدموا عليه وهم لا يعرفون لسان العرب كلمهم الترجمان على لسان عمر، فقال لهم: من أنتم؟ قالوا: نحن بنو مازيغ، فقال عمر لجلسائه: هل سمعتم قط بهؤلاء؟ فقال شيخ من قريش: يا أمير المؤمنين هؤلاء البربر من ذرية بر بن قيس بن عيلان، خرج مغاضبا لأبيه وإخواته فقالوا بربر أي أخذ البرية، فقال لهم عمر رضي الله عنه: ما علامتكم في بلادكم؟ قالوا نكرم الخيل ونهِين النساء، فقال لهم عمر: ألكم مدائن؟ قالوا: لا، قال: ألكم أعلام تهتدون بها؟ قالوا: لا، قال عمر: والله لقد كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته فنظرت إلى قلة الجيش وبكيت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر لا تحزن فإن الله سيعز هذا الدين بقوم من المغرب ليس لهم مدائن ولا حصون ولا أسواق ولا علامات يهتدون بها في الطرق، ثم قال عمر: فالحمد لله الذي منّ عليّ برؤيتهم ثم أكرمهم ووصلهم وقدمهم على من سواهم من الجيوش القادمة عليه، وكتب إلى عمرو بن العاص أن يحملهم على مقدمة المسلمين وكانوا من أفخاذ شتى (1)، انتهى.
قلت: وهذه الحكاية غريبة جدا فهي في عهدة صاحب الجمان، في أخبار الزمان، وهو العلامة المؤرخ الأجل المشهور بالشُّطَيْبِى.
(1) الاستقصا 1/ 130.
وقد استفيد مما تقدم أن أكثر سكان المغرب من قبائل البربر، وعليه فلا ريب أنهم ممن ينسحب عليه ذيل القوم الذين وجدهم ذو القرنين عند مغرب الشمس الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى في محكم ذكره لكل ما يعاملون به من الخير وضده كما قال جلت قدرته:{فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)} [سورة الكهف آية 86، 85].
قال الشيخ زروق في القواعد: لكل بلاد ما يغلب عليها من الحق والباطل، فإذا أردت أن تعرف صالح بلد أي أن تقف على الحقيقة فيما ينسب إليه من الخير والدين فانظر لباطل أهلها، أي الذي غلب على أهلها من الأوصاف المذمومة شرعا هل هو بريء منه أو لا؟ فإن كان بريئا منه فهو ذاك، أى فهو صالح كما يقال عنه، وإلا بأن كان غير سالم من تلك الأوصاف الرذيلة القبيحة في عين الشرع فلا عبرة به، أي لأن مشاركته لهم في باطلهم هي عنوان مساواته لهم في ضلالهم، فلم يتميز حينئذ عنهم بصلاح حال ولا بزكي من الأفعال، فمن أين يكون صالحا فيهم، وبحسب هذا فاعتبر في أهل المغرب الأقصى من الأوصاف المحمودة شرعا السخاء وحسن الخلق، أي لأن الباطل الغالب على أهله هو الشح وسوء الخلق، فإن وجدته أي فيمن ينسب لصلاح منهم فاعلم أنه كما يقولون، وإلا فدع أي لكونه من جملة أهل ذلك الباطل الذين تطلب أنت ضدهم، وفي أهل الأندلس كذلك، وفي أهل المشرق الغيرة لله وسلامة الصدر، لأن الباطل الذي غلب عليهم هو الأضغان والأحقاد وعدم الغيرة الدينية إلى غير ذلك، وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الأصل أي ما غلب على أهل البلاد من خير أو شر فذكر أوصاف البلاد. وعوارضها كقوله في المشرق: الفتنة ها هنا. وكذا نجد، وفي الفرس: لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجال من فارس، وفي أهل اليمن: إنهم ذوو أفئدة. وفي أهل المدينة: إنهم خير الناس مع ما وصفهم الله به من قوله: يحبون من هاجر إليهم.
وقال عليه الصلاة والسلام: السكينة والوقار في أهل الغنم، والفخر والخيلاء في أهل الخيل، والغلظة والجفاء في الفدادين، تبع أذناب الإبل والبقر.
وقال عمر رضي الله عنه في إفريقية: بلاد مكر وخديعة.
وقال مولانا جلت قدرته لذي القرنين في أهل المغرب الأقصى {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} فدل على استحقاقهم لكل ما يعاملون به من خير أو شر وأنهم لذلك أهل والله أعلم، انتهى. من القواعد بزيادة شرح وإيضاح.
ولا ريب أن البربر من أهل الغنم والخيل، وأنهم من تباع أذناب الإبل والبقر كما هو مشاهد، وعليه فقد توفرت فيهم دواعي الخير والشر كما علم مما تقدم.
ثم إن أشار إليه الشيخ زورق من حمل الآية على التخبير عليه اقتصر أكثر المفسرين. ومنهم من حمل (إِمَّا) فيها على التنويع والتقسيم، ثم الذاهبون إلى الأول اختلفوا في تصويره -وفي طريق تحريره- ففي أبي السعود إما أن تعذب بالقتل من أول الأمر وإما أن تتخذ فيهم حسنا بالدعوة إلى الإسلام والإرشاد إلى الشرائع. ثم قال وخير بين القتل والأسر والجواب من باب أسلوب الحكيم، لأن الظاهر التخبير بينهما وهم كفار، ثم قال: ويجوز بأن تكون (إما)، (وإما) للتنويع دون التخيير أي وليكن شأنك إما التعذيب وإما الإحسان فالأول لمن بقي على حاله والثاني لمن تاب، انتهى.
وفي الخازن إما أن تعذب بقتل من لم يدخل في الإسلام، وإما أن تتخذ فيهم حسنا، يعني تعفو وتصفح، وقيل: تأسرهم فتعلمهم الهدى خيره الله بين الأمرين، انتهى.
وفي النسفي خير بين أن يعذبهم بالقتل إن أصروا على أمرهم، وإما أن تتخذ فيهم حسنا بإكرامهم وتعليم الشرائع إن آمنوا والتعذيب القتل، واتخاذ الحسنى الأسر، انتهى.
وفي النيسابوري: خيره الله بين أن يعذبهم بالقتل وأن يتخذ فيهم حسنا وهو تركهم أحياء فاختار الدعوة والاجتهاد، انتهى.
وفي روح البيان أنت مخير في أمرهم بالدعوة إلى الإسلام، إما تعذيبك بالقتل أن أبوا وإما إحسانك بالعفو والأسر، وسماهما إحسانا في مقابلة القتل ويجوز أن يكون إما وإما للتنويع إلى آخر ما سبق عن أبي السعود، انتهى.
وفي البيضاوي فخبره الله بين أن يعذبهم أو يدعوهم إلى الإيمان كما حكى بقوله قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب -أي بالقتل على كفرهم، وإما أن تتخذ فيهم حسنا- بالإرشاد وتعليم الشرائع.
وقيل خيره الله بين القتل والأسر وسماه إحسانا في مقابلة القتل ويؤيد الأول قوله: (أما من ظلم) إلى (نكرا) أي فاختار الدعوة وقال أما من دعوته فظلم نفسه بالأسرار. ثم قال: ويجوز أن تكون (إما)، (وإما) للتقسيم دون التخيير، انتهى.
وفى البحر، وقوله: إما أن تعذب بالقتل على الكفر، وإما أن تتخذ فيهم حسنا بالحمل على الإيمان والهدى إما أن يكفروا فتعذب وإما أن يؤمنوا فتحسن فعبر في التخيير بالمسبب عن السبب.
قال الطبري: إيجاد الحسنى هو أسرهم مع كفرهم، يعني أنه خيره مع كفرهم بين قتلهم وبين أسرهم وتفصيل ذي القرنين أما من ظلم
…
إلخ يدفع هذا القول، انتهى.
وفي ابن جرير يقول: إما أن تقتلهم إن لم يدخلوا في الإقرار بتوحيد الله ويذعنوا لذلك بما تدعوهم إليه من طاعة ربهم، وإما أن تتخذ فيهم حسنا، يقول: وإما أن تأسرهم فتعلمهم الهدى وتبصرهم الرشاد، انتهى.
وفي الفخر: خير الله ذا القرنين فيهم بين التعذيب لهم إن أقاموا على كفرهم، وبين المن والعفو عنهم، وهذا التخيير على معني الاجتهاد في أصلح الأمرين، كما خير عليه السلام بين المن على المشركين وبين قتلهم.
وقال الأكثرون هذا التعذيب هو القتل وأما اتخاذ الحسنى فيهم فهو تركهم أحياء.
قلت: والتخيير في الآية في أهل المغرب الأقصى على أحد القولين بين التعذيب والإحسان اللذين شرحتهما التفاسير سابقا هو بالنظر لحالهم الكفري وقتئذ أما من صار منهم بعد مسلما فليس إلا الإحسان في حقه باحترام نفسه وماله كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث الصحيح، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها الحديث.
وأما ما يتبادر من قول زورق سابقا، فدل على استحقاقهم لكل ما يعاملون به من خير أو شر وإنهم لكذلك، انتهى. من كونهم يستحقون ذلك حتى في زمنه الذي هم فيه على الإسلام فيتعين أن يكون محله ما يستحقونه بالذنوب التي يرتكبونها وقتئذ وإلا فالإسلام عاصم للدم والمال قطعا كما رأيت نص صاحب الشرع عليه فلا تغتر بالظواهر المقطوع بتعطيلها وعدم الوقوف معها، على أن الآية إنما هي خبر عما قيل لذي القرنين في قوم معينين فلا مساس لها بما فهمه الشيخ زورق.
وقد أشار في "صبح الأعشى" تبعا لابن سعيد إلى ما أومأ إليه الشيخ زروق من كون أهل المغرب الأقصى بعد كون الإسلام وصفهم فيهم أوصاف خيرية تقتضي الإحسان وأوصاف شرية تقتضي عدمه بقوله: قد تقدم أن معظم هذه المملكة في الإقليم الثالث أي في بعضه، قال ابن سعيد: الأقليم الثالث هو صاحب سفك الماء والحسد والقتل والغل وما يتبع ذلك قال وللمغرب الأقصى من ذلك الحظ الأوفر سيما في جهة السوس وجبال درن، فإن قتل الإنسان عندهم على كلمة وهم بالقتل يفاخرون، ثم قال: إن الغالب على أهل المغرب الأقصى كثرة التنافس المفرط والحماقة وقلة التغاضي والتهور والمفاتنة، أما البخل فإنما هو
في أراذلهم بخلاف الأغنياء، فإن في كثير منهم السماحة المفرطة والمفاخرة بإطعام الطعام والاعتناء، بالفاضل والمفضول (1).
قلت: وما وسم به أهل جبال درن هو الشائع عنهم لحد الآن، وخصوصًا عن جبابرة رؤسائهم، وأما التهور والمفاتنة فقد كان ذلك ديدنا شائعًا في نواحي المغرب الأقصى وخصوصًا عند أهالي البدو من بربره إلى أن أخمدت جل ذلك جيوش الحماية، وهذه السمات وأمثالها هي التي تأهلوا بها بعد الإسلام للدخول تحت قوله تعالى:{إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ} ، ولكنهم قد اتصفوا مع ذلك بسمات حسنة التي منها السماحة المتقدمة في كلام ابن سعيد وإن خالفه ما تقدم عن زروق، ويمكن الجمع بينهما بحمل كلام كل واحد منهما على جهة من المغرب الأقصى مخصوصة، وإن أطلق كل واحد منهما في العبارة، ولكن الجمع يتعين عند الإمكان ومنها غير ذلك من الفضائل والفواضل التي امتاز بها المغرب على غيره وحفظها التاريخ، وبمثل ذلك تأهلوا بعد إسلامهم أيضًا للدخول تحت قوله تعالى:{وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} ، فإن قلت مقتضي التخيير استواء الطرفين مع أن المسلم إذا أتى أحد الأمور الداخلة تحت قول الحديث السابق إلا بحقها من كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل معصوم، فقد ارتهن في موجب حد، وقد تقرر أن الحدود لا يسوغ شرعًا التساهل فيها، فأين التخيير حينئذ؟ قلت: التخيير الحقيقي الموافق لظاهر الآية هو فيما عدا ما يوجب حدًا من حقوق الإسلام، وأما التخيير فيما يوجب حدًا فهو بالنظر إلى قتل النفس حقيقي أيضًا، لأن الولي له العفو فهو مخير، وأما حد الكفر، فإنما يتعين إن لم يتب، وأما إن تاب وراجع الإسلام فلا، وهذا أيضًا تخيير بالنظر إلى مرتكب ذلك بين الرجوع عما صدر منه فيخلي سبيله وبين الاستمرار عليه فيقام عليه الحد فهو تخيير في الجملة.
(1) صبح الأعشى 5/ 178.
وكذا الزاني بعد إحصان، فإنه إن ثبت عليه ذلك بإقرار، له الرجوع عنه، فهو في التخيير على وتيرة الذي قبله يليه، وإن لم يكن تخييرًا بالنسبة للحاكم الذي هو مقتضى الآية، ثم إنك إذا أعطيت النظر فيما سبق حقه تجد سائر الأقطار الإسلامية أهلها بهذا الصدد فيهم الخير والشر والفاضل والمفضول، وإنما تمايزت الأقطار والجهات بكون الخير أو الشر الذي في جهة غير ما يكثر منها في جهة أخرى، وهذا هو الذي سبق مشروحًا في كلام زروق.
وبهذا البيان يلوح لك أن آية تخيير ذي القرنين في أهل المغرب حالة كفرهم هي من أعظم مناقب المغرب وأهله، بحيث كانوا بوصف قاض عليهم بالتعذيب لا غير، ومع ذلك نصت الآية على أن العدول عنه لاتخاذ الحسنى فيهم هو أمر لا تأباه قوالبهم، ولا تقصر عن استحقاقه عواملهم، فالشر الحالي وقتئذ وبعدئذ فيهم عارض، والخير هو العرق الأصلي النابض، وكذلك كان ويكون فإنهم لا يدلون دلالة ثقة عارف ماهر على خير إلا وقصدوه، ولا يحملون حمل مجد راسخ على صلاح حال إلا وتشبثوا به وألفوه.
ولهذا جاء في بعض روايات حديث الطائفة التي لا تزال ظاهرة على الحق أنها بالمغرب، وعضدت ذلك رواية لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة، واللفظ محمول على حقيقته حتى تدل قرينة على أن المراد خلافه أو يؤدي ظاهره إلى محال، فعند ذلك يتعين صرفه عن الظاهر، على أن الحديث شامل لأهل المغرب حتى على صرفه عن ظاهره في بعض تأويلاته.
هذا ولكون ياقوت الحموي شرقيًا ضدا للمغرب وأهله أساء في معجمه حيث تكلم على البربر الذين هم معظم سكانه فأورد آثارا في ذمهم لا توجد في الأصول المعول عليها، ولا تكاد تصح عند ذوي الأنظار السليمة لمضادتها للأصول المقطوع بها، ولم يكترث بما ورد في إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم وكثر سواد ذلك
بكلمات أضافها لابن حوقل التاجر تنبيء عن سفه القائل والناقل، من حيث إن لكل ساقطة لاقطة ونطق الأراذل العوراء
من يعن بالمجد لم ينطق بما سفه
…
ولم يحد عن سبيل المجد والكرم
والعيان مكذب لتلك التقولات، ومنزه للملموزين بها عن سفسافها، والنادر إن وجد لا حكم له، إذ لا يحسب الخلق السيئ على الأمة إلا إذا كان فاشيًا عند أفرادها مألوفًا عند جميعهم، يفعله فاعله منهم من غير أن يحاذر نكيرا أو يخشى لومة لائم، لا يخالفه أحد منهم إلا مستترا، ويخاف المذمة إن ظهر بالمخالفة أمام الجمهور.
فإن كان الخلق السيئ يتصف به فرد أو جماعة يستترون به أو يعلنونه مع اشمئزاز الجمهور منهم، كانت المذمة قاصرة على الفاعلين لا تعدوهم إلى الأمة بأسرها، وحينئذ يكون من الخطأ الفاحش ما ألصقه ياقوت بجنب الأمم البربرية ونبهنا على ذلك هنا لئلا يغتر به الجهول ومن في قلبه مرض ويقع في مهواة مرتعه الوخيم، وقديما حذر الناصحون من الاغترار بكل ما في بطون التواريخ حسبما مر بك فيما أسلفناه من التنبيه على ذلك في المقدمة فلا تغفل.
وقد وقع لصاعد الأندلسي وهو من أهل القرن الخامس في كتاب "طبقات الأمم"(1) أن البربر خصهم الله بالجهل والطغيان ومراده جهل العلم الفلسفي الذي هو موضوع مدحه وأن البربر لم يستنبطوا شيئًا منه بعقولهم قديمًا ولا عرفوا بالمهارة فيه.
وأقول: العلم الفلسفي لم ينفرد البربر بالخلو عنه بل قد شاركهم في الخلو عنه قديمًا أمم كثيرة، منهم العرب الذين هم أشرف الأمم حسبما تظاهرت على
(1) طبقات الأمم - ص 18.
ذلك الأدلة، وخلو العرب من العلم الفلسفي هو بشهادة صاعد نفسه، إذ قال (1): فهذا ما كان العرب من المعرفة، وأما علم الفلسفة فلم يمنحهم الله شيئًا منه، ولا هيأ طباعهم للعناية به
…
إلخ.
وحينئذ فالفلسفة إن كانت شرفًا فالمصيبة إذا عمت هانت وإن لم تكن كذلك وهو دليل خلو شرف الأمم عنها فقد طهرهم الله منها، ولذلك لما فتح الصحابة - رضوان الله عليهم - بلاد فارس زمن ثاني الخلفاء الراشدين الفاروق رضى الله عنه ووجدوا الكثير من كتب الفلسفة بها، وكتب إليه أمير الجيش سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه يستشيره فيما يفعل بها؟ أجابه بقوله: اطرحوها في ماء يمحوها فإن يكن فيها خير فقد أغنانا الله بأهدى منه، وإن يكن شرًا كفانا الله إياه، انتهى.
فامتثلوا ما أشار به من إعدامها بغرق أو حرق نقله ابن خلدون وغيره.
وأما تفرقة صاعد بين العرب والبربر بأن العرب كانت عارفة بفنون لغتها فهي مردودة بأن كل أمة ذات لغة كذلك، وشفوف لغة العرب تابع لشفوف أهلها وتأكد بورود الكتاب والسنة موافقين لها، فإِذَنْ إنما فزع صاعد لإظهار تلك التفرقة بين العرب وغيرها من الأمم الخالية عن الفلسفة قديمًا ليدفع الشناعة اللازمة بأن ما ذم به البربر واقع في العرب أيضًا، فكأنه يقول العرب وإن خلت عن ذلك فلها علم في الجملة وليس ذلك بدافع لها عنه، لأنه إنما يمدح بما شرف بنفسه عنده وهو الفلسفة لا بما شرف بغيره، ولأن البربر لما علموا من الشرع شفوف فنون لغة العرب سارع علماؤهم إليها حتى حصلوا على ما أدركته العرب منها، وقبل الشرع لم يتقرر شفوف لغة على أخرى، وكل الأمم كانت على علم من فنون لغتها، فلا وجه حينئذ لتلك التفرقة على أنه وإن تستر بتلك التفرقة أَوَّلاً فقد وقع في الشناعة التي فر منها ثانيًا بقوله فلم يمنحهم الله
…
إلخ، فصار ذا ما بذلك للفريقين وكفاه بذلك قبحًا.
(1) طبقات الأمم - ص 61.
وأيضًا شرف الفلسفة إنما هو في الدنيا لا غير، وقد ذم الله تعالى علما هذه صفته بقوله: يعلمون ظاهرا عن الحياة الدنيا وهم عن الآخرة
…
إلخ. وكل شرف لا نتيجة له في المآل. فهو في الحقيقة وبال. على أن ابن خلدون قد عقد في الفصل السادس من مقدمته ترجمتين اثنتين بين فيهما بطلان علمي الفلسفة والتنجيم كما أومأ إلى المفاسد التي دخلت على أهل الدين من الفلسفة، وحينئذ فالشفوف الحقيقي، إنما هو لمن شرفه علمه في الحال والمآل، ولعلماء البربر من ذلك الحظ الوافر والحمد لله.
وناهيك مهم في القرن الثالث وأوائل الرابع بأبي جعفر أحمد بن نصر بن زياد البربري أحد العلماء الراسخين، ومن بهم في حفظ المذهب المالكي يضرب المثل، وبابن القوطية من أئمة العربية وهو من أهل القرن الرابع، وبأبي الحسن الجزيري من أئمة علم الوثائق وهو من أهل القرن السادس، وبشهاب الدين القرافي من أئمة المعقول والمنقول وهو من أهل القرن السابع، وبأبي محمد عبد الله بن أبي بكر الصَّودي بفتح الصاد من أئمة الحساب والفرائض وهو أيضًا من أهل القرن السابع، وبأبي محمد صالح الفاسي، وأبي محمد التادلي وهما من أئمة الفقه المضروب بهما المثل في حفظه وإتقانه علما وعملا، وهما أيضًا من أهل القرن السابع، ومثلهما في ذلك وفي الفرائض الحافظ السطي الأوربي نسبة إلى أوْربة -بفتح الهمزة والراء المهملة والباء الموحدة- بطن من البرانس كذا في سبائك الذهب، وهو من أهل القرن الثامن، وبابني الإمام أبي زيد وأبي موسى التلمسانيين من أئمة المعقول والمنقول، وهما من أهل النصف الأول من القرن الثامن، وبالإمامين العارفين سيدي إبراهيم التازي، وسيدي إبراهيم المصمودي وهما ممن حار طرفا من القرن التاسع الى غير هؤلاء ممن حفظ التاريخ شرفهم العلمي.
وقد حقق كونهم من البربر أهل الخبرة بالأنساب، العارفون بالقواعد في هذا
الباب، وأما من تأخر منهم واشتهرت معارفه في الآفاق كأبي على اليوسي، وأبي سالم العياشي فهم كثيرون والحمد لله وقد عقد البكري في المسالك والممالك، ترجمة أتى فيها بنبذة من تدقيق البربر في السياسة وحسن التلطف في استخراج الحقوق ممن غمصها والوصول إلى تحصيل المصالح بعد درء المفاسد.
وبذلك كله يتبين لك أن القول الفصل في هذا البساط هو ما نبه عليه صاحب "الاستقصا" إذ قال: البربر من أعظم الأجيال وأعزها ولهم الفخر الذي لا يجهل، والذكر الذي لا يمهل. وقد تعددت فيهم الملوك العظام. وكان لهم القدم الراسخ في الإسلام. واليد البيضاء في إعلاء كلمة الله، ومنهم أئمة وعلماء وأولياء وشعراء وأهل المزايا والفضائل (1)، انتهى.
وبعد أن كتبت ما تقدم وجدت الباقعة أبا زيد ابن خلدون سبق إلى تحرير ذلك فقال: قد ذكرنا من أمر البربر وأخباره ما يشهد بأنه عزيز على الأيام، وأنهم قوم مرهوب جانبهم، كثير جمعهم، مظاهرون لأمم العالم وأجياله من العرب والفرس واليونان والروم، وأما تخلقهم بالفضائل الإنسانية وتنافسهم في الخلل الحميدة وما جبلوا عليه من الخلق الكريم ومرقاة الشرف والرفعة بين الأمم، ومراعاة المدح والثناء من الخلق من عز الجوار، وحماية النزيل، ورعي الوسائل، والوفاء بالقول والعهد، والصبر على المكاره، والثبات في الشدائد، وحسن الملكة والإغضاء عن العيوب، والتجافي عن الانتقام، ورحمة المسكين، وبر الكبير، وتوقير أهل العلم، وحمل الكل وكسب المعدوم، وقرى الضيف، والإعانة على النوائب، وعلو الهمة، وإباية الضيم ومشاقة الدول، ومقارعة الخطوب، وغلبة الملك، بيع النفوس من الله في نصر دينه فلهم في ذلك آثار نقلها الخلف عن السلف، وحسبك ما اكتسبوه من حميدها واتصفوا به من شريفها، أَنْ قَادَتْهُم إلى
(1) الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى 1/ 120.
مراقي العز وأريت (1) بهم على ثنايا الملك، حتى علت على الأيدي أيديهم ومضت في الخلق بالقبض والبسط أحكامهم، وأما إقامتهم لرسوم الشريعة، وأخذهم بأحكام الملة ونصرهم لدين الله، فقد نقل عنهم منه ما كان ملاكا لعزهم ومقادا إلى سلطانهم، وقد كان للمبرزين من ملوكهم كيوسف بن تاشفين، وعبد المؤمن ويعقوب المريني من الاهتمام بالعلم والجهاد وتشييد المدارس، واختطاط الزوايا وسد الثغور وبذل النفوس في ذات الله، وإنفاق الأموال في سبيل الخير، ومجالسة أهل العلم، وترفيع مكانهم، والوقوف عند حد إشاراتهم، والتعرض لشكوى المتظلمين، وإنصاف الرعايا من العامل والضرب على يد أهل الجور ما شهد لهم بها آثارها الباقية بعدهم، وأما وقوع الخوارق فيهم، وظهور الكاملين في النوع الإنساني من أشخاصهم، فقد كان فيهم من الأولياء المحدثين أهل النفوس القدسية، والعلوم الوهبية، ومن حملة العلم عن التابعين ومن بعدهم من الأئمة كسعيد بن واسول جد بني مدرار ملوك سجلماسة، أدرك التابعين وأخذ عن عكرمة، وكأبي زيد مخلد ابن كيداد (2) اليفرني الخارج على الشيعة سنة ثنتين وثلاثمائة، وكمنذر بن سعيد قاضي الجماعة بقرطبة المتوفي عام ثلاثة وثمانين وثلاثمائة، وكأبي محمد بن أبي زيد أحد أعلام المغرب، وككبير علماء أنساب البربر سابق بن سليمان وغيرهم من علماء الفنون (3) هذا ملخص الغرض من كلام ابن خلدون وناهيك به في هذا الباب.
تنبيه: ما سبق عن زروق عن سيدنا عمر في إفريقية لا يعارضه ما أورده غير واحد كالبكري في "المسالك والممالك" وابن الدباغ في "معالم الإيمان" من الأحاديث في فضل إفريقية، لأن تلك الأحاديث لم تصح.
(1) في تاريخ ابن خلدون الذي ينقل عنه المصنف "وأوفت".
(2)
في المطبوع: "كيداء" والمثبت عن ابن خلدون.
(3)
الخبر بطوله لدى ابن خلدون في تاريخه 6/ 103 - 106.
بل قال ابن ناجي في ذيل "معالم الإيمان" بعد ايرادها سمعت شيخنا أبا القاسم البْرزُلي يقول عن شيخه وشيخنا أبي عبد الله ابن عرفة يغلب على الظن أنها موضوعة.
فصل: وحيث أتينا بشرح ما يتعلق بمن بهم سميت بلدتنا هذه مكناسة فلنرجع لتتميم ذلك بذكر من انضاف إليهم في حلولها وقت تخطيطها فنقول:
قال في "الروض": وورْزِيِغَة يذكر أن أصل أهلها روم (1)، انتهى. قلت: ورزيغة -بفتح الواو وسكون الراء وكسر الزاي وسكون الياء وفتح الغين المعجمة بعدها هاء تأنيث.
والروم بالضم ويقال لهم بنو الأصفر جيل معروف يجمع فرقًا شَتَّى، واختلفوا في نسبتهم، فقيل: هم من ولد الروم بن عيصو بن إسحاق عليه السلام سموا باسم جدهم، وقيل: سموا روما، لأنهم كانوا سبعة رَامُوا فتح دمشق ففتحوها وقتلوا أهلها، وكان سكانها سَكَرة -بفتحات- للعازر بن نمروذ بن كبوش بن حام بن نوح عليه السلام والسكرة الفعلة ثم جعلوا يتقدمون حتى انتهوا إلى أَنْطَاكِيَة، ثم جاءت بنو العيص فأجلوهم عما افتتحوا وسكنوه حتى انتهوا إلى القسطَنطينية فسكنوها فسموا الروم بما رَامُوا من فتح هذه الكور، وقيل في وجه تسميتهم غير هذا.
وقد حكى المسعودي في "مروجه" أقاويل ترجع كلها إلى أنهم من ذرية عيصو، لكن قال ابن خلدون قد أنكر ذلك المحققون، والصحيح نسبهم إلى يافث.
وقد خطَّأ ابنُ حزم قول من نسبهم ليعصو قال: وإنما وقع هذا الغلط لأن موضع بني عيصو الذي يقال له يسعون يسمي أروم فظنوا أن الروم من ذلك الموضع وليس كذلك، لأن الروم إنما نسبوا إلى رُوملُس (2) باني رومة (3)، انتهى.
(1) الروض الهتون - ص 54.
(2)
في المطبوع: "روماش" والمثبت لدى ابن حزم الذي ينقل عنه المصنف.
(3)
جمهرة أنساب العرب - ص 511.
قال ابن خلدون: ثم المحققون ينسبون الروم جميعًا إلى يونان الإغريقيين منهم واللطينيين ويونان معدود في التوراة من ولد يافث لصلبه، انتهى. واقتصر في روح البيان على أن الروم الأولى من ولد يافث والأخيرة من ولد عيصو بن إسحاق
…
إلخ. قلت: وهذا الذي اقتصر عليه قد نسبه السهيلي قبله لغير واحد فقال في روضه: وليس كل الروم من ولد بني الأصفر فإن الروم الأولى فيما زعموا هم من ولد يونان بن يافث بن نوح والله أعلم بحقائق هذه الأشياء وصحتها، انتهى. فإن صح هذا القول المفصل أمكن الجمع به بين ما نقله ابن خلدون وما نقله غيره ولم يحتج إلى تخطئة ما نقله غير ابن خلدون على كثرتهم.
قال ابن خلدون وأما الإفرنج فنسبهم هروشيوش (1) مؤرخ الروم إلى غطرما ابن عومر بن يافث. وقال ابن سعيد فيما نقل عن البيهقي وغيره: أن يونان هو ابن علجان بن يافث ولذلك يقال لهم العلوج، ويشاركهم في هذا النسب سائر أهل الشمال من غير الترك، فالإغريقيون من ولد إغريقش بن يونان، والروم من ولد رومي بن يونان، واللطينيون من ولد لطين بن يونان، فالشعوب الثلاثة من ولد (2) يونان.
قال: وأعظم من أخذ بدين النصرانية الإفرنج، وقاعدة بلادهم فرنجة ويقولون فرنسة بالسين، وملكهم الفرنسيس وهؤلاء فرنسة أعظم ملوك الفرنجة ومن الفرنجة البنادقة والجلالقة، انتهى كلام ابن خلدون ملخصًا.
وحاصل ما نقله عن ابن سعيد أن اليونان يجمع الروم بفرقهم والإفرنج يفرقهم لأن الإفرنج من جملة أهل الشمال.
وقد حكى المسعودي في مروجه الاتفاق على أن الإفرنج من ولد يافث بن
(1) في المطبوع: "هيورش" والمثبت لدى ابن خلدون 2/ 184.
(2)
تاريخ ابن خلدون 2/ 184.
نوح إلا أنه لم يعين الواسطة التي يدلون بها إليه وقد سبق بيان واسطتهم في نقل ابن خلدون عن مؤرخ الروم وعن ابن سعيد، وذلك مصرح بأن الروم غير الإفرنج الذين من جملتهم الإفرنسيس.
لكن يشكل على ذلك ظاهر قول الحافظ ابن حجر في فتح الباري: أنبأني غير واحد عن القاضي نور الدين ابن الصائغ الدمشقي، قال حدثني سيف الدين فليح المنصوري، قال أرسلني الملك المنصور قلاوون إلى ملك المغرب بهدية فأرسلني ملك المغرب إلى ملك الإفرنج في شفاعة فقبلها وعرض على الإقامة عنده فامتنعت، وقال لي لأتحفنك بتحفة سنية، فأخرج لي صندوقًا مصفحًا بذهب فأخرج منه مقلمة ذهب فأخرج مها كتابا قد زالت أكثر حروفه وقد التصقت عليه خرقة حرير فقال: هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر ما زلنا نتوارثه
…
إلخ.
ونحوه في عمدة القاري للعيني من غير ذكر سنده فانظر قوله ملك الإفرنج مع قوله هذا كتاب نبيكم إلى جدي
…
إلخ، فإنه ظاهر في كون هذا الملك من جنس رعيته الفرنج وخصوصا الفرنسيس منهم لما تقدم عن ابن خلدون من أن فرنسة أعظم ملوك الإفرنجة، انتهى.
فتكون الأفرنجة وخصوصا فرنسا منهم من الروم، إذ لا خلاف أن قيصر الذي قال فيه ملك فرنجة في هذه القضية -إنه جده- من عظماء الروم.
وعلى هذا فما وقع في كتاب سيدنا الجد الأكبر المولى إسماعيل لسلطان فرنسا في حينه وهو لويز الرابع عشر من قوله: أنت من سلالة عظيم الروم الذي كتب له جدنا وسيدنا
…
إلخ. وكذا ما وقع له في كتابه لسلطان إنكلترا حيث غاضبه قومه وفر إلى سلطان الفرنسيس من قوله له فيه كما خاطب أي النبي صلى الله عليه وسلم قيصر ملك الروم جد هذا الملك الذي لجأت إليه، وأنت مقيم لديه
…
إلخ. كلاهما صحيح.
وفي ذلك كله حجة لما كلف قرره بعض محققي مشايخنا في درسه على البخاري من أن هرقل الذي كتب له صلى الله عليه وسلم هو جد للدولة الحامية، انتهى.
والحاصل أن الاعتماد على هذا أولى من الاعتماد على ما نقله ابن خلدون في نسب الإفرنج عن مؤرخ الروم، ويعضد ذلك ما جزم به الشيخ فريد وجدي في "دائرة معارفه" من أن فرنسا أصلها من اللاتينيين، انتهى. واللاتينيون هم اللاطينيون وقد سبق أنهم من الروم، ويعضده أيضًا قول ابن أبي زرع في أنيسه أن ملك الفرنسيس الرومي نزل على تونس ليلة خمس وعشرين من ذي الحجة سنة ثمان وستين وستمائة قال: وكانت الروم في أربعين ألف فارس ومائة ألف رام. ومائة ألف راجل، انتهى.
فأنت تراه جعل ملك الفرنسيس روميا وجعل جنده وقومه روما، وإن كان ابن خلدون أشار للجواب عن مثل هذا بقوله وما يسمع في كتب الفتح من ذكر الروم في فتح إفريقية فمن باب التغليب، لأن العرب يومئذ لم يكونوا يعرفون الفرنج وما قاتلوا في الشام إلا الروم فظنوا أنهم هم الغالبون على أمم النصرانية، فإن هرقل هو ملك النصرانية كلها فغلبوا اسم الروم على جميع النصرانية ونقلته الأخبار عن العرب كما هي، فجرجير المقتول عند الفتح من الفرنج وليس من الروم، وكذا الأمة الذين كانوا بإفريقية غالبين على البربر ونازلين بمدنها وحصونها إنما كانوا من الإفرنجة، انتهى.
ولا يتأتى جوابه هذا فيما ذكره ابن أبي زرع لأنه ليس نقلا عن العرب وقد قبل في الاستقصاء ما اعتمده ابن خلدون فالله أعلم.
قال في "الروض": وتقع ورزيغة شرقا من نهر فلفل وبينهما مسافة، وفى ولِوَرْزيغة حارتان قريبتان منها: بنو مروان وبنو غفجوم، وبنو مروان أقرب إليها، وماؤها من وادي ويسلن من أودية مكناسة وبها عيون (1)، انتهى. من خطه.
(1) الروض الهتون - ص 54.
قلت: أما غفجوم -فبفتح الغين المعجمة وسكون الفاء وضم الجيم بعدها واو ساكنة فميم- وأما وَيْسَلَنْ -فبفتح الواو وسكون الياء بعدها سين مهملة فلام مفتوحة فنون ساكنة- كما تقدم ولا يعرف في الوقت الحاضر محل بورزيغة يطلق عليه اسم من الأسماء المارة غير زنقة بني مروان بالمحل المعروف في زماننا بحَجَر الذئب -بفتح الحاء المهملة والجيم- وهو اسم للنهج المار بين البساتين لوادي ويسلن المذكور.
ومن حوائر ورزيغة الشهيرة في الوقت الحاضر السلاوي وبو عشرين ولا يوحد بها في هذا الزمان من العيون غير العين المعروفة بعين الكبير وجميع غراسات حوائرها تسقي من وادي ويسلن المار الذكر، وويسلن هذا هو على طريق المار من العاصمة المكانسية لفاس على سبعة كيلو مترات من العاصمة وماء هذا الوادي لا يدخل منه للمدينة شيء.
قال في "الروض" وكانت ورزيغة مخصوصة بالأمن يسكن أهلها الخيمات بالجنات فلا يلحق أحدهم خوف ولا يتوقعه إلا من جهة الأسد خاصة (1)، اهـ. من خطه.
قلت: ولم يبق لهذا العهد أثر للأسد بها ولو بنواحيها القريبة، نعم يوجد بقبيلة حروان المجاورة للمدينة بالمحل المعروف بأَشَمّاس -بفتح الهمزة والشين وتشديد الميم المشبعة وسكون السين المهملة- كما يوجد أيضًا بالمحل المسمى لديهم ببُوعْشوش -بضم الباء الموحدة وسكون الواو والعين المهملة وضم الشين المعجمة مشبعة وسكون الشين المعجمة أيضًا- في الغابة ثم على بضع آلاف من الأمتار من المدينة، وسيأتي نص بعض مؤرخي الأورباويين وبين على كثرة وجوده قرب قصر فرعون أيضًا، وحينئذ فلا التفات لمن يزعم منهم عدم وجوده، ويجزم بأنه لم يبق له اليوم ولا قبله بكثير أثر بهذه الديار المغربية ولا بنواحيها، ويعلل ذلك بضعف
(1) الروض الهتون - ص 55.
حرارة القطر في هذه الأعصر الأخيرة على ما كانت عليه في الأعصر الغابرة، وبأنه لو بقي له أثر لوجد جلده وتداول بين مجاوري ساحة استقراره وغير ذلك من العلل الواهية.
هذا والأسد ويقال له الليث والضرغام في أسام كثيرة هو من أعظم الحيوانات المفترسة يصطاد عادة بالليل وهو في إفريقيا أكثر وأكبر جسما منه في آسيا ولا يوجد في أمريكا ولا في الجهة التي تحل فيها الأسلحة النارية.
وكأن حدوث هذه الأسلحة بهذه النواحي هو الذي أبعده منها للمحل الذي ذكرنا.
قال في "حياة الحيوان": قالوا وللأسد من الصبر على الجوع وقلة الحاجة إلى الماء ما ليس لغيره من السباع، ومن شرف نفسه أنه لا يأكل من فريسة غيره فإذا شبع من فريسته تركها ولم يعد إليها وإذا جاع ساءت أخلاقه، وإذا امتلأ من الطعام ارتاض ولا يشرب من ماء ولغ فيه كلب، وقد أشار إلى ذلك الشاعر بقوله:
وأترك حبها من غير بغض
…
وذاك لكثرة الشركاء فيه
إذا وقع الذباب على طعام
…
رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء
…
إذا كان الكلاب ولغن فيه (1)
انتهى.
وقد تعقب الفاضل الشيخ محمد فريد وجدي كلام صاحب حياة الحيوان بما لفظه: نقول يستبعد العقل امتناع الأسد عن ماء ولغ فيه كلب، أوّلاً لأن الأسد والكلب لا يجتمعان على ماء واحد حتى يرى أحدهما الآخر، وليس للأسد من خصيصة تطلعه على الغيب فتدله على أن كلبًا ولغ في هذا الماء أو ذاك، ويظهر لنا أن السبب في هذا القول هو ذلك الشعر، فإن الشاعر لما ذكر ترفع نفسه شبه نفسه ومعشره بالأسود ونظراءهم بالكلاب، وقرر أن الأسود لا ترد ماء ورد فيه الكلاب،
(1) حياة الحيوان الكبرى للدميرى 1/ 3.
فجاء الباحث عن طباع الحيوانات فنقل ذلك نقلا وجعله من صفات الأسود الحقيقية وهو خيال، انتهى.
وأقول إن ذلك الانتقاد، الذي لا سند له عند ذلك الفاضل المنتقد سوى ما تخيله من الاستبعاد. لا مسلك له في سبيل السداد: أما أولا: فإن المنتقد لم يزد على الميل للنفي من غير جزم والناقل لذلك قد أثبته جازما به فله بذلك مزيد علم، فكان إثباته مقدما لا محالة على ميل المنتقد للنفي.
وأما ثانيًا فقوله: وليس للأسد من خصيصة
…
إلخ هو أيضًا نفي بمجرد التَّوهُّم والتخيل، فإن الأسد ذكر أهل هذا الفن له خصائص جمة، منها أنه لا يتعرض للمرأة الحائض مع أن الحيض هو أمر باطني في المرأة، وعدم تعرضه للمتصفة به لا يكون إلا بخصيصة توجب للأسد إدراك ذلك كتمييز المتصفة به برائحة أو نحوها، وإذا جورنا هذا بالنسبة للأسد في حق الحائض لزم أن نجوز ذلك في حقه أيضًا في غيرها كالماء الذي ولغه كلب، على أن مثل هذا موجود حتى في الكلب الذي هو الغاية في الخساسة، فقد جاء فيه أنه لا يلغ في دم مسلم كما في "الشفا"، ومن البديهي أن تفرقة الكلب بين دم المسلم وغيره لا بد لها من خصيصة تؤدي الكلب إليها، وإذا جاز اتصاف الكلب بمثل هذه الخصيصة فلأن يجور في أعظم السباع بالأحرى.
وأما ثالثًا: فإن من جملة ما وجه به أهل العلم عدم دخول ملائكة الرحمة لبيت فيه كلب قبح رائحته، انتهى.
ولا مانع من أن توجد بقية هذه الرائحة الشديدة القبح في الماء الذي ورده وولغ فيه، وكفى فيها دليلا للأسد الذي يعافه على كونه ورد ذلك الماء قبله حتى يتجنبه.
وأما رابعًا: فقد قال في "حياة الحيوان"(1) في الكلب من اقتفاء الأثر وشم الرائحة ما ليس لغيره من الحيوانات، انتهى.
أي ولذلك ترى كلب الصيد لا يزال يتشمم ويقتفي الأثر حتى يخرج الصيد دلالة عليه بأنفاس بدنه وبخار جوفه كما في "عجائب المخلوقات"(2).
ولا شك أن الأسد هو أعظم الكلاب كما دلت عليه قصة دعائه صلى الله عليه وسلم على عتبة بن أبي لهب بقوله: اللهم سلط عليه كلبا من كلابك، فكانت الإجابة بتسليط أسد على المدعو عليه فافترس رأسه.
وأما خامسًا: فقول المنتقد ويظهر لنا أن السبب في هذا القول هو ذلك الشعر
…
إلخ، يرده ما قدمناه عنهم في الحائض وعدم ولوغ الكلب في دم مسلم، فإنا ما رأيناهم ذكروا شعرا في ذلك يدعى استنادهم إليه، مع أن الخاصية المطلعة على ذلك الغيب ثابتة فيهما كما شرحناه، وإذا ثبت للأسد والكلب فيما ذكر فما المانع من ثبوت مثلهما لهما أو لأحدهما في غير ذلك، وبهذا كله يتبين لك أن استبعاد ذلك الفاضل المنتقد ممنوع، وأن دعوى أن مثبت ما استبعده، إنما استند لذلك الشعر مدفوعة، على أنا لو فرضنا أن المستند هو ذلك الشعر لا غير لم يجز تكذيب الشاعر فيه ولا صرف كلامه فيه عن ظاهره إلا ببرهان، لا بمجرد التخمين العاري عن الحجة والبيان، ولو ساغ ذلك لكان كلام الفاضل المنتقد بذلك أولى والله تعالى أعلم.
وتسمى البربر الأسد إزم -بكسر الهمزة وفتح الزاي وسكون الميم- ومن طبعه أنه لا يؤذي الإنسان في حال تمام ميزه وإدراكه غالبًا، والغالب على الإنسان فقد الشعور وتمام الذهول عند رؤية الأسد.
(1) حياة الحيوان للدميري 2/ 279.
(2)
عجائب المخلوقات - ص 336.
وكما يوجد السبع بالمحلين المذكورين بجروان، يوجد النمر والفهد بهما أيضا وكلاهما ضرب من السباع. الأول يشبه الأسد غير أنه أصغر منه وأخبث أخلاقا وأشجع قلبا منقط جلده بنقط سود يقال له بلسان البربر أَغَلْياس -بفتح الهمزة والغين المعجمة وتسكين اللام بعدها مثناة تحتية- وهو لا يعدو على الإنسان غالبا وإنما يفتك بالمواشي ولا يتخذ محلا لسكناه غير رءوس الشجر.
والثاني ضيق الخلق شديد الغضب طويل النوم يضرب بكثرة نومه المثل فيقال أنوم من فهد، ويسمى بالبربرية ووغل -بواوين أولاهما مفتوحة وثانيتهما ساكنة بعدها غين معجمة مفتوحة- ولا يؤذي من الإنسان إلا من هجم عليه بمحله، ويعدو بكثرة على ما سواه، ويوجد الكل بكثرة بقبيلتي زيان وبني مجيلد النازلتين وراء قبيلة جروان.
فصل: قال في "الروض" قيل: ولم يكن لهذه الحوائر قديما مدينة مسورة وكان واليها يسكن قصرًا أدركه القدماء خرابا يعرف بقصر ترزحين، ولعل جيمه معقودة، وهو على ربوة من الأرض شرقا من بني زياد، وغربًا من وادي فلفل وجوفا من المدينة الآن. فلما ظهر أمر الموحدين أحدث المرابطون على الوادي المذكور غربا منه حصنا سموه تاجرارت بالجيم المعقودة وكذلك بقي اسمه، وتفسير هذا اللفظ المحلة أو المجتمع بلسان البربر هكذا قيل (1)، انتهى. من خطه.
قلت: أما ترزجين -فبتاء مضمومة بلسان بعدها راء مضمومة فزاي ساكنة فجيم مكسورة فياء ساكنة فنون- وكأن هذا القصر هو الحصن الذي عناه صاحب معجم البلدان فيما قدمناه عنه من قوله بينهما حصن، انتهى. كما تقدم.
والبينة ظاهرة مما وصفه ابن غازي هنا كما فيما سبق أيضًا على أن ما حكاه ابن غازي هنا من أن مكناسة القديمة وهي التي عبر عنها بالحوائر لم تكن فيها مدينة مسورة، دليل على أن مدينة وَلِيلَي ليست داخلة عنده في مسمى مكناسة
(1) الروض الهتون - ص 59.
القديمة وقد مر بسط ذلك، وأما تاجرارت -فبتاء مفتوحة بعدها ألف فجيم فراء فألف فراء فتاء ساكنة- وما وصف به قصر ترزجين ينطبق تمام الانطباق على ناحية برج العريفة الشهير الكائن بحارة بني موسى قرب الجنان المنسوب للعريفة المشار لها أيضًا بالمحل.
فالظاهر أن القصر كان هنالك فخرب وأحدث بعده البرج المذكور زمن سيدنا الجد المولى إسماعيل قدس سره، وإن كان عدم تعيين ابن غازي لقصر ترزجين بكونه من ورزيغة أو بمجاورته لها وعدوله إلى التجوير بغيرها كما تراه يبعد ما قلناه كما يبعده أيضًا ما يأتي قريبًا في سوق الغبار من كونها إزاء قصر ترزجين
…
. إلخ، والله أعلم.
وتفسير تاجرارت بالمحلة في لسان البربر به جزم ابن خلدون في تاجرارت التي حور تلمسان فلعل ابن غازي إليه أشار بقليل، وكذلك جزم بذلك الزياني في رحلته وهو من علماء البربر، وإن كنت قد سألت غير واحد من البربر عن تفسير تاجرارت بالمحلة فنفاه وجزم بعدم وجوده في لسانهم، وأنهم وإنما يقولون المحلة وبعضهم يقول تمحلت بزيادة مثناة فوقية قبل الميم.
كما أني بحثت عن لفظ أسكل الآتي قريبًا وإطلاقه على مفرد الاهرية المتخذة من الدوم فجزم بعدم وجود هذا اللفظ عندهم.
ثم قال في "الروض": وهذا الحصن هو المدينة الموجودة لهذا العهد، فلما أخذوا في بنائها اجتهدوا فيه وأعجلهم الأمر حتى احتاجوا على ما يحكي إلى إقامة شقة من سوره بالأهرية المتخذة من الدوم لادخار الأطعمة، وسمى واحدها بلسان البربر أسكل، وملئوها ترابا، وقاتلوا دونها حتى أكملوا البناء بعد ذلك (1).
وفي القطر الغربي من أبراج سورها برج مبني بالحجر والجيار بناء محكمًا يسمى برج ليلة، سموه بذلك، لأنه بني من ليلته فيما زعموا، ونقل الوالي بدر بن
(1) الروض الهتون - ص 59 - 60.
ولجوط - بالجيم المعقودة إلى المدينة المذكورة وجوه الناس وأغنياءهم ولم يترك من الأقوات شيئا إلا نقله إليها، وترك جمهور الناس في مواضعهم.
فأول غارة شنها المُوَحّدون على تلك الأرض بسوق الغبار يوم الأحد، وذلك أنه لما وضعت هذه الموضوعات على الصفة المذكورة من التفرق كانت لهم سوق غبار بإزاء قصر ترزجين المتقدم الذكر، وهو الذي يسمى بالسور القديم -بالراء- أو بالسوق القديم -بالقاف- كما يجرى على ألسنة الناس اليوم.
ومسجد الحصن المذكور وصومعته لم يزالا قائمين لهذا العهد، وكان أهل القصر وأهل الحوائر يجتمعون إلى تلك السوق كل يوم أحد، فبينما هم يوم أحد قد اجتمعوا وكملوا بالسوق المذكورة وهي بأرض مرتفعة إذ أشرفوا على خيل مقبلة إليهم في زي المرابطين اللثم والغفائر القرمزية والمهاميز التاشفينية والسيوف المحلاة والعمائم ذوات الذؤابات فلما رأى القوم هذا الزي، قالوا: تقوية السلطان جاءتنا وسارعوا للقائهم فرحين بهم وهبطوا عن آخرهم، فلما خرجوا عن منع القصر والسوق حسر الفرسان اللثم، ونادوا أبابا يا المهدي! وكان ذلك شعارهم وأجالوا السيوف عليهم، ولم ينج منهم فيما ذكروا أحد وكانوا آلافا رحمهم الله (1).
وما زال الناس لهذا العهد يتحدثون أن المقابر التي عند باب مسجد السوق القديم هي مقابر شهداء، فلعلهم هم والله تعالى أعلم (2).
وكان الموحدون حينئذ يسمون الناس المجسمين ويقاتلونهم قتال كفر وكان الناس يسمونهم الخوارج (3)، ولم تزل الغارات تشن عليهم فيقتل الرجال وتسبى النساء والذرية وتستباح الأموال، والتضييق يتوالى والمكايد تدبر والحيل تدار حتى ضاق ذرع الناس بكثرة الوقائع عليهم (4).
ومن الأخبار التي كانت مشتهرة عند أهل الوطن أنه كان بأحواز تاورا شجرة
(1) الروض الهتون - ص 61.
(2)
الروض الهتون - ص 61.
(3)
الخوارج: أى المخالفين للمهدى.
(4)
الروض الهتون - ص 61.
كبيرة من النشم الأسود المسمى بالتغصاص بإشمام الصادين زايين، وربما يكتبه المتفاصحون، التقصاص -بقاف وصادين- فبينما الناس قد انبسطوا لتدبير أشغالهم ومعايشهم إذ فاجأتهم الخيل وأحاطت بهم فلجأوا إلى تلك النشمة وظنوا أن النجاة فيها، فتعلق بها منهم خلق كثير، وضم الموحدون الحطب لتلك الشجرة وأضرموا النيران حولها، فسقط كل من كان فيها واحترقوا عن آخرهم، واحترقت النشمة بقيت منها بقية مدة من الزمان، وكانت عند أهل الأوطان من جملة مواعظ تلك الفتنة (1)، انتهى. من خطه.
قلت: ومما يرجع للخبر الأخير ما رأيته في كتاب "أخبار المهدي ابن تومرت" لعصريه مؤرخ دولته أبي بكر الصنهاجي المدعو البيدق صحيفة 65: أنه لما خرج المعصوم من فاس نزل بمغيلة عند يوسف بن محمد وعبد الرحمن بن جعفر ثم منها نحو مكناسة، فلما أشرفوا على الكدية البيضاء نظر إلى الكدية فإذا بها مملوة رجالا ونساء تحت شجرة لوز، قال فدخل المعصوم فيهم ميمنة وميسرة وبددناهم يمينا وشمالا، ثم سار إلى السوق القديم ونزلنا به بمسجد أبي تميم عند الحسن بن عشرة، انتهى. فلينظر مع ما لابن غازي.
أما الموحدون فهم دولة بني عبد المؤمن من كومة القائمين بمملكة المغرب بعد دولة المرابطين، سماهم بذلك أول قائم بدعوتهم، وهو المهدي بن تومرت لزعمه أن كل من لا يجري على مقتضى العقيدة التي جمعها هو بلسان البربر المبنية على اعتماد طريق الخلف من تأويل المتشابه ومنافرة طريق السلف من إقرار نصوص المتشابه كما جاءت، فهو كافر مجسم، وأن التوحيد منحصر في أصحابه الذين تعلموا عقيدته، وبهذا السبب أباح لأصحابه قتل من عداهم قتال كفر، وسوغ لهم سباياهم وغنائمهم وسهل على نفسه وعلى أصحابه بذلك سفك دم المسلمين من غير توقف، وارتكب بذلك داهية عمياء.
(1) الروض الهتون - ص 61 - 62.
وقد كان المرابطون الذين اغتصب هو وأتباعه ملكهم على طريق السلف في اعتقادهم، وكانوا من متانة الدين بالمكان المكين، ومن دوام العدل ما أكسبهم مزيد التمكين، إلا أنهم كانوا على سذاجة بداوة لم تفارقهم.
ومن رشحاتها أن الإمام أبا حامد الغزالي لما صنف في أيامهم كتابه "إحياء علوم الدين" ووصلت نسخة إلى الأندلس وإلى المغرب الأقصى فرآها علماؤه على طرز جديد لم يعهد، أنتجته مهارة أبي حامد في العلوم التي من جملتها علوم الفلسفة، أنكروها وبثوا إنكارها في قلوب أمرائهم المرابطين حتى اتفقوا معهم على التقاط نسخة وجمعها وإحراقها، ونفذ الأمر بذلك بقرطبة من الأندلس، فوصل خبر ذلك إلى الإمام أبي حامد وكان ابن تومرت وقتئذ يتعلم عنده في مدرسته ببغداد فحينئذ رفع أبو حامد يده إلى السماء ودعا بتمزيق ملك المرابطين كما مزقوه، فعلم ابن تومرت أن دعوة أبي حامد في ذلك دعوة مظلوم لا ترد فقال له: يا إمام، ادع الله أن يجعل ذلك على يدي، سأل ذلك منه مرتين فأجابه الغزالي في الثانية بقوله: اخرج يا شيطان فسيجعل الله ذلك على يدك فخرج قاصدا لذلك في زي ناسك متقشف ينشر العلم ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلى أن تم له بذلك الناموس الأمر مع ما سبق في علم الله الأزلي من قضاء ابن تومرت أول أمراء الموحدين على دولة المرابطين، مع ما وصفنا من متانة دينهم ومزيد عدلهم وكون أيامهم كانت أيام خصب وفتح بقطع شافة ملكهم، ومن توغل الموحدين في سفك دماء المسلمين بدون توقف هذه الوقعة التي حكاها ابن غازي التي أوقعوها على غدر وغفلة بعمار السوق القديم من أهل مكناسة الزيتون، فإن قال قائل إن ما جزمتم به من حضور ابن تومرت حين دعاء الغزالي على المرابطين بتمزيق الملك يخالفه توقف صاحب الاستقصا في ذلك حيث عبر بقوله يقال إنه كان حاضرًا
…
إلخ، قلنا: إن صاحب الاستقصا حيث عدم في الجزم المناط. تحرى
في النقل واحتاط، وذلك شأن الفضلاء أهل الصدق والأمانة في هذا البساط، لاسيما وهو إنما كتب ما حنشه ابن خلدون بقوله: ولقي أبا حامد فيما زعموا
…
إلخ، وأما الانتقاد على الجازم بالمتوقف كما فعل السائل فهو محض غلط إذ المهيع المعروف والمنهج المتبع المألوف، هو أن من حفظ حجة على من لم يحفظ لا العكس.
والذي جزمنا به هو الذي جزم به الحفاظ قبلنا وقبل صاحب الاستقصاء بأزمنة طوال، ودُهُورٍ خَوالٍ، ففي الصحيفة الثالثة والثلاثين والمائة من الجزء الأخير من النسخة المطبوعة من "معيار" الحافظ أبي العباس الونشريسي عن ابن القطان في كتابه "نظم الجمان". فيما سلف من أخبار الزمان. عن عبد الله بن عبد الرحمن العراقي شيخ مسن من سكان فاس، قال: كنت ببغداد بمدرسة أبي حامد الغزالي فجاء رجل كث اللحية على رأسه كرزى صوف فدخل المدرسة وحياها بركعتين ثم أقبل على الشيخ أبي حامد فسلم عليه فقال: ممن الرجل؟ فقال: من أهل المغرب الأقصى، قال: دخلت قرطبة، قال: نعم، قال: فما فعل فقهاؤها؟ قال: بخير، قال: هل بلغهم الإحياء؟ قال: نعم، قال: فماذا فعلوا فيه؟ فلزم الرجل الصمت حياء منه، فعزم عليه ليقولن ما طرأ فأخبره بإحراقه وبالقصة كما جرت.
قال: فتغير وجه الشيخ أبي حامد ومد يده إلى الدعاء والطلبة يؤمنون، فقال: اللهم مزق ملكهم كما مزقوه، وأذهب دولتهم كما حرقوه، فقام محمد بن تومرت السوسي الملقب بعد بالمهدي عند قيامه على المرابطين فقال له: أيها الإمام ادع الله أن يجعل ذلك على يدي فتغافل عنه أبو حامد فلما كان بعد جمعة إذا شيخ آخر مثل شكل الأول فسأله أبو حامد فأخبره بمثل الخبر المتقدم فتغير وجهه ودعا بمثل دعائه الأول فقال المهدي على يدي فقال: اخرج يا شيطان سيجعل الله ذلك على يدك فقبل دعاءه وخرج ابن تومرت من هناك إلى المغرب برسم تحريك. الفتن، وقد علم أن دعوة ذلك الشيخ لا ترد فكان من أمره ما كان، انتهى.
وفي كتاب "المعجب في تلخيص أخبار المغرب". ما مضمنه: وحكي أنه ذكر للغزالي ما فعل بكتبه، وابن تومرت حاضر ذلك المجلس فقال الغزالي حين بلغه ذلك: ليذهبنَّ عن قليل ملكه -يعني فاعل ذلك بكتبه- وليُقتلنَّ ولده وما أحسب المتولي لذلك إلا حاضرا مجلسنا! وكان ابن تومرت يحدث نفسه إذ ذاك بالقيام فقوي طمعه، وكَرَّ راجعا من بغداد إلى ما قدر له (1)، انتهى.
وكان تاريخ هذا الإحراق سنة سبع وخمسمائة هـ.
وعلي هذه الصورة جلبه عنه الشيخ الرهوني في الشهادات من حواشي الزرقاني له مسلما، وإن كانت النسخة المنقول عنها من المعيار وقع فيها إسقاط بعض ما هو ثابت في نقل الرهوني الذي اعتمدناه، وكذا نقل هذه القصة على الوجه المذكور ابن الخطيب في "الحلل الموشية" إلا أنه أسقط منها قول الغزالي: اخرج يا شيطان
…
إلخ.
وقد كانت بيعة المهدي بخصوص جبل درن منتصف رمضان عام خمسة عشر وخمسمائة، ومن ذلك الحين ظهر أمره وصارت زحوف أتباعه تهاجم كل من انقبض عن بيعته، ومنهم أهل مكناسة كما نبه عليه ابن غازي فيما تقدم، نعم بناء حصن تاجرارت محل المدينة الآن كان سنة خمس وأربعين وخمسمائة كما جزم به. ابن أبى زرع، وفيه كان تخريب مكناسة القديمة، وفيه فتح الموحدون مكناسة بعد حصارهم إياها سبع سنين فأزيد، كذا عند أبي زرع لكن الذي صحح ابن غازي أن المدة أربع سنين وأشهر، وذلك في إمارة عبد المؤمن بن علي.
قلت: هذا كلامهم في هذا المحل ولي فيه إشكال، وهو أن حصار سبع سنين أو أربع إن كان على مكناسة القديمة التي أفصح ابن غازي بأنها كانت حوائر غير ممدنة ولا مسورة، فحصار ما كان بهذه الصفة من عدم التحصين لا يستدعي
(1) المعجب في تلخيص أخبار المغرب - ص 245 - 246.
تطويل المنازلة إلى هذه السنين، لا سيما والحوائر في محل ليس بمنيع، إذ لا تحول دون منازله عقبة كئود ولا جبل عال شديد، كيف وقد قتل منازلوهم منهم في أول غارة شنوها عليهم آلافا متعددة في ساعة واحدة كما سبق عن ابن غازي، زد على ذلك ما ذكره واصفو هذا الحصار من أن الموحدين خندقوا على مكناسة في حصارهم إياها خنادق متعددة، ولا خفاء أن عيش أهل مكناسة على كثرتهم طول تلك المدة مع هذا الحصار الموصوف بعيد لأن ذلك الطول يهلك الزرع، والظهر، والضرع، وسائر ضروريات العيش.
ومن المعلوم أن الثروة التي تحمي صاحبها من الهلاك مع الطول إنما توجد في كل زمان عند بعض الأفراد لا عند عموم الناس ولا عند جمهورهم، ثم لو فرضنا أن أولئك الأفراد شركوا العموم في منافع ثروتهم، فإن ذلك مع انقطاع المادة يئول عن قريب بالجميع إلى الإفلاس، فأني يتأتي والحالة هذه الخلاص لمقاومة ذلك الطول: وإن كان الحصار على المدينة الجديدة المحصنة وهي تاجرارت كما يصرح بذلك كلام ابن غازي الآتي، فقد سبق عن ابن أبي زرع أنها فتحت في العام الذي بنيت فيه، فأين كانت حينئذ مدة حصار سنة كاملة فضلا عما راد عليها؟ ثم كلام ابن غازي في هذا المحل خال عن الترتيب. بعيد عن التحرير والتهذيب، فإنه ذكر أولا بناء تاجرارت وأن القتال وقع قبل إكمال سورها، وهذا يقتضي أنها بنيت كلا أو بعضا وقت الحصار، ثم ذكر قضية السوق القديم بعدها وهي دالة على أن أهل مكناسة وقتئذ لم يكونوا على أهبة قتال ولا استعداد لحرب، وهذا لا يتأتي إلا قبل الحصار، وهو خلاف ما دل عليه ما سبق من كلامه وكذا هذا التنافر واقع بين ما ذكره في قضية النشمة وما قدمه في بناء تاجرارت ولو قدم حكاية السوق القديمة والنشمة على حكاية تاجرارت لمسلم من هذا التدافع كلامه فتأمل ذلك كله.
وأما برج ليلة الذي ذكره ابن غازي فقد اندثر ولم يبق له الآن رسم ولا طل، وقد قيد بعضهم على كلام ابن غازي هنا ما صورته هدم هذا البرج سنة خمس وتسعين أو أربع وتسعين وزيد موضعه في المدينة حين هدم جميع سورها وزيد ما وراءه غربا في المدينة، وبقي موضع هذا البرج إلى سنة إحدي وعشرين، وبني في موضعه الوزير أبو زكريا يحيى المعروف بالمريني سقاية نفيسة ومسجدا فوق صاباط على ممر بين الباب الجديد وباب البراذعين وصومعة، وأوقف عليه أحباسا كثيرة كما هي عادته تقبل الله منه.
وسميت هذه الزيادة التي وراء السور جناح الأمان، وكان يعرف هذا السور عند من أدركناه ببرج الانفاض، انتهى.
قلت: أفادني بعض أجلاء فضلاء العصر ممن له معرفة بخطوط الأئمة أن خط ذلك التقييد والنسخة المقيد على هوامشها هو خط الفقيه الصالح الرحال أبي على الحسن صديق الشيخ السيد صالح الشرقاوي العمري وناسخه، وعليه فلا ريب أن هدم البرج المذكور كان في دولة سيدنا الجد المولي إسماعيل لأنه هو الذي هدم سور المدينة، وزاد ما وراءه غربا في المدينة فيكون المراد بسنة خمس في عبارة التقييد المذكور سنة خمس وتسعين بعد الألف.
والمسجد الذي بناه زكريا لا زال إلى الآن قائم العين والاسم فوق الساباط المذكور ويعرف بمسجد سيدي يحيى، وقد كان فيما سلف أشرف على الاندثار، وفي هذه الأزمنة الحاضرة جدد كما جددت سقايته بعد ما تناولتها أيدي الاندثار أزمنة طوالا، بعد أن كان تعذر وصول الماء إليها، إلا أنها ليست الآن على ما وصفت به من النفاسة، ومن هذا الساباط إلى ناحية الباب الجديد يسمى الآن سويقة زعبول -بفتح الزاي المعجمة وسكون العين المهملة بعدها باء موحدة فواو ساكنة فلام- وسويقة مصغر: سوق، ومن هذا المحل إلى مسجد باب البراذعيين
كله يسمى بجناح الأمان وجناح الأمان هو الذي على يسار المار من باب الجديد إلى مسجد البراذعيين.
وأما ما على اليمين فإنما اكتسب تلك التسمية بالمجاورة، وأما الصومعة التي ذكر فلم يبق لها لهذا العهد رسم ولا وسم، وأما يدّر -بتشديد الدال وسكون الراء- فهو لفظ بربري، معناه بالعربية: يعيش، وولجوط لفظ بربري أيضا معناه بالعربية الشجاع، والمعنى يعيش ابن الشجاع.
وأما سوق الغبار الذي وصفه فلا يعرف له اليوم اسم ولا رسم، نعم ما وصفه ابن غازي به يكاد ينطبق على المحل المعروف بذراع اللوز الكائن خارج باب البراذعيين أحد أبواب العاصمة المكناسية الآن شمال المحل المعروف هناك ببرج العريفة يمتد عنه للغروب، وهو مشرف على حارة تاورا شمالا وعلى حارة بني موسى غربا، وبطرفه أعلى المحل المعروف بباب جَمّال -بفتح الجيم وتشديد الميم- أشجار من اللوز والزيتون، وقرب برج العريفة المذكور أثر بناء قديم يعرف الآن بالفنيدق.
وأما قبور الشهداء المشار إليها فهي التي على يمين المار من الباب المذكور لضريح الولي الشهير مولانا عبد الله بن حمد، وعلى يسار المتوجه منها لباب تزيمي أحد أبواب العاصمة أيضا الذاهب في الطريق المعروفة بقصبة الأعواد تصغير قصبة، والمقابر المذكورة تحيط بها أطلال سور قديم وليس ثم أثر صومعة، أما المسجد فلا زال أثره قائم الأطلال ممتلئ بالأزبال والقذرات، موقعه على يمين الخارج من باب البراذعيين بمقربة من قبور الشهداء، وكان به أثر سقاية وقنوات، وربما لا زالت تحت الأزبال إلى الآن، ويطلق الآن اسم السوق القديم على محل بزرهون موقعه بالموضع المعروف باب الرميلة بين الزاوية الإدريسية ومداشر موساوة وحمراوة، والأمغاصيين، إلا أن ما وصف به ابن غازي السوق القديم لا ينطبق على هذا المحل.
فصل: قال في "الروض": وكانت في المدينة بداوة ثم تمدنت واكتسبت حضارة، وزيد بعد [عام] الستمائة في جامعها الأكبر زيادة ظاهرة، وجلب إليها الماء على ستة أميال من عين طيبة الماء، عجيبة القدر بموضع يقال له تاجما، وأجري الماء إلى الباب [الشرقى] الجوفي من أبواب الجامع وسمي باب الحفاة، وكان متصلا بالباب الذي يسمي لهذا العهد باب الزرائعيين، وبنيت قريبا من هذا الجامع دار للوضوء حفيلة على مثال دار الوضوء بفاس، وهذا كله في أيام الموحّدين (1).
وقال إن الإمام أبا زكريا الوطاسي لما دخلها في القرن التاسع جدد بعض رسومها الدارسة وأنشأ بجامعها المجلس المسمي بالأسبوع لكون القراء يختمون فيه القرآن العزيز في كل أسبوع، وأمر بتحويل باب الحفاة إلى قرب دار الوضوء الكبرى التي تقدم ذكرها، ورأي أن ذلك أنسب من الباب الجوفي الذي كان قبل ذلك للحفاة كما تقدم، فلما حفر الصناع في الباب الموالي لدار الوضوء المذكورة ليبنوا به مجرى للماء وجدوا ذلك هنالك مبنيا بناء متقنا، ولم يكن عند أحد به علم، ولا بقي من مسني المدينة من عنده من ذلك خبر، فقضي الناس العجب من فطنة الأمير المذكور رحمه الله تعالى (2).
قال: ويقال بلغت عمارتها إلى أن كان بها أربعمائة مسجد قال الأستاذ ابن جابر: وحول كل مسجد سقاية فالله أعلم من خطه.
قلت: أما أبو زكريا الوطاسي فإن تعبير ابن غازي عنه بالإمام مشعر بأنه كان سلطانا ولم يحفظ التاريخ ذلك فيما علمناه، وأبو زكريا يحيي بن زيان الوَطَّاسِي المريني الفاسي كان في القرن التاسع كما قال، ولكنه إنما كان وزيرًا لعبد الحق المريني وكان عادلا، توفي قتيلا غدرا سنة اثنين وخمسين وثمانمائة، أورد ذكره تقي الدين ابن فهد في لحظ الألحاظ بذيل طبقة الحفاظ (3).
(1) الروض الهتون - ص 74 وما بين حاصرتين منه.
(2)
الروض الهتون - ص 95.
(3)
لحظ الألحاظ - ص 343.
وكذلك ولي الوزارة لمن ذكر ولده أبو زكريا يحيي بن يحيي المذكور، ولكن هذا لم يكن له من أفعال الخير ما يذكر، بل كانت وزارته شرا على الأمة وعلى عائلته بالخصوص حتى إن وزارته لم تدم إلا سبعين يوما وأعقبها ذبحه وذبح جمهور عائلته، وذلك سنة ثلاث وستين وثمانمائة.
وهناك أبو زكريا وطاسي ثالث، وهو أبو زكريا يحيي بن أبي عبد الله الوطاسي المدعو البرتقالي، وهو أخو السلطان أحمد الوطاسي إلا أنه إنما كان أميرا من قبل أخيه على القصر، توفي فيه أسر السعديين سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة فهو متأخر عن التاريخ الذي ذكره ابن غازي.
وفي كلامه السابق تنبيه على ما كان للمتقدمين من الاعتناء بالمشروعات، فانظر إلى الحد الذي بلغه اعتناء أهل الدين بمحال تعبدهم وكل ما ينضاف إليها مما يتوقف عليه المتعبد، وناهيك بما قد بلغ من الاعتناء بماء عين تاجما المتقدمة الذكر من وقوع التحبيس على إصلاح مجاريه حتى لا يقع مانع من وصوله للمسجد الأعظم فمن ذلك دار بحَوْمَة القرسطون، إحدى حومات العاصمة، حبستها على ذلك امرأة مكناسية بتاريخ أوائل جمادى الأولى عام خمسة وعشرين ومائة وألف، وذلك في دولة السلطان مولانا إسماعيل، أما نفس العين فقد رأيت التصريح بأن إجراء مائها للمسجد المذكور كان في دولة الموحدين.
وكلام صاحب الروض في باب الحفاة أولا وثانيا صريح في أنه هو الذي أجري إليه الماء أيام الموحدين بعد الستمائة، وهو الواقع جوفي المسجد، ولا شك أن هذا الباب الجوفي هو المعروف بذلك الاسم الآن، وهو المقابل لعنزة المحراب المقابلة لمحرابه على ما في ذلك المحراب من تمام الانحراف عن القبلة.
وعليه فالتحويل الذي فعله الوَطَّاسي لم يستمر، بل رجع بعد ذلك اسم باب الحفاة إلى مسماه أيام الموحدين، واستمر على ذلك إلى الآن وإن خلا عن
المناسبة المعهودة في مثله من أبواب حفاة المساجد، وهي إعطاء ذلك الاسم للباب القريب من باب ديار وضوئها.
وكأن موجب ذلك سهولة وصول الماء من صحن المسجد إلى الباب الجوفي لقربه منه واتصال الصحن به، بخلاف الباب القديم فإن وصول الماء منه إليه ملزوم بطرف من محصر المسجد والمرور المذكور ملزوم لتعاهده بالإصلاح عند. موجبه، والتعاهد المذكور من لازمه تعذر التعبد في ذلك الطرف من المسجد في أزمنته المتكررة عادة، وإن شئت قلت دائما نظرا لإدمان وجود بلل أقدام الحفاة فيما حاذي الباب المذكور للمسجد الموجب لتعفين حصر المحل بذلك واتقاء المتعبدين لها، وقد تقرر أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وبه اتجه لك وجه تكرر النسخ في القديم واستمرار العمل على نسخه، مع وجود مناسبة وجه التسمية فيه دون الناسخ، على أن هذه المناسبة وإن فقدت في الناسخ فقد خلفتها فيه مناسبة أخري وهي موافقته للمعهود في غالب أبواب حفاة المساجد الكبار من كونها جوفية، كبابي الحفاة في القرويين والأندلس بفاس، فإنها نافذة في الصحن وبهذا كله اتضح الحال، وانزاحت كل شبهة عن المجال.
وقول ابن غازي وكان متصلا
…
إلخ، اسم كان فيه لا يرجع لهذا الباب الذي أجري إليه الماء أيام الموحدين، وإنما يرجع للمسمي باب الحفاة قبل ذلك، وهو القديم الذي وجدت آثار كونه باب الحفاة حين أمر الوطَّاسي بالتحويل إليه كما بينه بعد، أي وكان باب الحفاة قبل ذلك متصلا
…
إلخ. فاهتدي إليه الوطاسي بوجود وجه التسمية فيه بعد ذهاب العلم بكونه كان هناك عن جميع أهل البلد من طول العهد بالتحول.
وهذا تسجيل من ابن غازي على أهل بلدته بأن إهمال التاريخ بلية قديمة فيهم وفيه إيماء إلى إقامة العذر لنفسه حيث اقتصروا على ذلك النزر في رَوْضِهِ هذا
وهو البحر علما، فيكون تقصير غيره معفوا بالأحري كما أومأنا لشئ من ذلك في ديباجة هذا الكتاب.
وبما تقدم بأن لك التئام كلام ابن غازي ومناسبة أوائله لأواخره ومطابقته للواقع الخارجي في كون باب الزرائعيين المعروفة بذلك في عهده وكذلك في عهدنا هذا، كان متصلا بباب الحفاة القديم الذي اهتدي إليه الوطَّاسي.
وزبدة الخبر أن باب حفاة هذا المسجد الجامع كان أولا هو المقابل لباب دار الوضوء وهو المتصل بباب الزرائعيين، ثم صار في أيام الموحدين هو الباب الجوفي الذي يدعي بذلك الآن، ثم رده الوطاسي إلى مسماه القديم، ثم رجع بعده في زمن غير معروف لدينا إلى الباب الجوفي، واستمر العمل على ذلك إلى الآن.
والماء الجاري لهذا الباب هو من الصهريج الصغير الواقع في صحن المسجد بمقربة من الخصة هنالك، ويعرف هذا الصهريج اليوم عند العامة بالكسيكيس بالتصغير، وماء هذا الصهريج يمر وسط المسجد في ساقية مزلجة غير مقبوة إلى أن يصل لباب الحفاة، والنهج الذي به هذا الباب يعرف في ماضي الأعصر بالشماعين، وفي حاضرها بقبة العطارين.
وأما مسمى باب الزرائعيين فهو البويب الصغير المتصل بباب الحفاة القديم الشرقي المعد هو أي البويب المذكور لدخول المؤذنين ليلا للمسجد ولا أذكر الآن وجه إضافته للزرائعيين.
وباب الكنيف المشار له قد حول منذ أعصر خوال وصار في محله، وكان للبيع والابتياع وأحدث لها باب بمنعطف الأصلي القديم، ولا زال قوس ذلك الباب ظاهرا للعيان في أعلى الدكان المذكور محدثا، كما أنه لا زال أثر قنوات باب الحفاة القديم ومحل انصباب فيض مائة للوادي المضاف الكبير المار بالشارع
العمومي إلى الآن، وقد كان باب الزرائعيين الماء الجاري كماجوره المتصل به، وبقربه عن يمين داخله أمام درب الفَرَسْطون -بفتح القاف والراء وسكون السين المهملة وضم الطاء بعدها واو ساكنة فنون- تنور كبير أي مجل يمتلئ من الماء الجاري في البابين المذكورين، وفي أعلى التنور ثقب نافذ لرحاب مستودع المسجد الأعظم يتناول منه الماء القيم بوظيف التوقيت والمؤذنون بحبل ودلو صونا لحرمة المسجد وأخذا بالأحوط فيما عسي أن يحدث لهم من الحدث الذي لا يبيح دخول المسجد، ولا زالت تلك الآثار المقدسة إلى حد الآن.
ومن ذخائر هذا المستودع الموجودة به إلى الحين الحالي الأسطرلاب (1) البديع الشكل المتقن الصنع مرقوم فيه بخط كوفي ما صورته: الحمد لله حبس هذا الأسطرلاب الباشا محمد بن الأشقر على منار الجامع الأعظم من محروسه مكناسة، انتهى.
وفيه بالقلم المشرقي: هذا حبس خديم المقام العالي المولى الإسماعيلي الباشا محمد الأشقر على منار الجامع الأعظم من محروسة مكناسة بتاريخ شقيح، انتهى.
وفي دائرته صنعه محمد بن أحمد البطوطي لطف الله به في سنة شقيح، انتهى.
قلت: والتاريخ المشار له بحروف لفظة شقيح (بشين معجمة فقاف فياء ومثناة تحت فحاء مهملة) هو عام ثمانية عشر ومائة وألف.
وجملة أبواب المسجد المذكور الآن أحد عشر بابا الثلاثة السالفات الذكر وباب الحجر سميت بذلك لأحجار ثلاث مسبوكات كانت مغروسة بين بابي المسجد والمدرسة المعروفة الآن بالفيلالية وفيما سلف بمدرسة القاضي ومدرسة الشهود، يمر على تلك الأحجار المتوضئ بالمدرسة المذكورة إذا رام الدخول
(1) الأَسْطُرلاب: جهاز استعمله المتقدمون في تعيين ارتفاعات الأجرام السماوية. ومعرفة الوقت والجهات الأصلية.
للمسجد وكان لهذه الأحجار قيّم على تنظيفها كل حين، وله على ذلك جراية شهرية من الحبس المعين لذلك.
ولم تزل تلك الأحجار قائمة والقَيّمَ على تنظيفها بالمرصاد طبق ما وصف إلى أن رصفت الدولة الحامية ذلك النهج كله بالحجر المنجور في الحين الحالي فأزيلت تلك الأحجار وانقطعت الجراية وأبطل العمل.
وباب الخضر وهو لا يفتح إلا يوم الجمعة ولا أدري ما وجه هذه التسمية ولا العلة في كونه لا يفتح إلا في يوم المذكور.
وباب تربيعة الذهب سمي بذلك لكونه في مقابلة تربيعة القيسارية المعدة الأزمنة الماضية لبيع الحلي والجواهر الثمينة النفيسة، وكانت محكمة القاضي متصلة بهذا الباب في تلك الأعصر، وهي الآن دكان تباع بها أنواع المتاجر، وهذه الأبواب الخمسة كلها في شرقي المسجد بالنهج المسمى في الماضي بسماط الشهود وفي الحاضر بزقاق ساباط السبْع -بسكون الباء.
وباب الخضارين وبجانبه متصلا به بويب صغير يدخل منه النساء لصلاة الجمعة والمؤذنون ليلا مثل باب الزرائعيين، وهذان البابان هما المقابلان لباب مدرسة الخضارين، وكان بين باب الخضارين هذا وباب المدرسة قبالته حجارات بالأرض على نحو ما كان في باب مدرسة الشهود وباب المسجد قبالتها، وباب سماط الشهود الآن، ويقابل هذا الباب المكتب الذي كان محكمة القضاة فيما سلف، ولم يزل معدًّا لذلك إلى زمان تولية شيخ بعض شيوخنا العلامة المتضلع النقاد حامل لواء المعقول والمنقول في زمانه سيدي أحمد بن سودة المري خطه القضاء بالعاصمة، وهذا المكتب لا زال إلى الآن قائم العين وسط سماط العدول المذكور، وقد كان هذا السماط فيما سلف وغَبَر، مُعَدًّا لبيع الخضر، ثم رجع سماطا لباعة الحرير يعرف بالحرارين، ثم رجع سماطا للعدول ولا زال كذلك إلى الحين الحالي.
وباب الكتب وإنما اكتسب هذه الإضافة لقربة من المكتبة العلمية، وهو الذي جعل بداخله شيخ الشيوخ القاضي ابن سَوْدَة المذكور المحكمة الشرعية بعد أن أهمل المكتب المعد لذلك لدي من تقدمه، ثم اقتفي أثره في اتخاذها لذلك نوابه ومن تولي بعده.
ولم تزل معدة لذلك إلى أن عينت الدولة الحامية المحكمة الشرعية أولا بدار اللب الشهيرة المعقبة على مؤذني الليل بالمسجد دون مؤذني النهار وقفت على رسم تحبيسها ولفظه: الحمد لله حضر لدي شهيديه التاجر الأوجه الخير الدين الأرضي الأبر السيد الحاج مسعود ابن المرحوم بفضل الله تعالى السيد الحاج محمد اللب الأندلسي، وأشهدهما على نفسه أنه متي حدث به حادث الموت الذي لا بد منه ولا محيد لكل مخلوق حي عنه، فجميع داره الكائنة بقبلة المسجد الأعظم من الحضرة العلية بالله مكناسة المفتوح بابها للمر الكبير الطالع للحمام الجديد المجاورة له ولزنقة المزطاري ولدار حرزوز التي هي الآن على ملك ولد عمه الأرضي الماجد المرتضى الخير الدين السيد الحاج محمد بن إبراهيم اللب النسب تكون حبسا على جميع بنات صلبه، مع زوجه معتقته الحاجة عافية، من تأيمت منهن واحتاجت للسكنى تسكن برأسها فقط من غير زوج ولا أولاد، فإن انقرضن عن آخرهن رجعت الدار المذكورة حبسا على أولاد السيد الحاج محمد بن إبراهيم اللب المذكور ذكورا وإناثا، للأنثى شطر ما للذكر في منفعة السكني وتسكن برأسها من غير أولاد ولا زوج، ثم أولاد الذكور منهم ذكورا منهم وإناثا، ثم عقب الذكور على نحو ما ذكر ووصف طبقة بعد طبقة ما تناسلوا وامتدت فروعهم، ولا يسكن الأبناء مع الآباء ولا من هو أحط رتبة من الأعلى إلا من استحق السكني لحاجة وفاقة، فيسكن مع من قبله إن حملتهم الدار، وإلا بأن كثروا فيخرج الغني للفقير ولو كان سابقا عنه، ولا يسكن من الإناث إلا من تأيمت واحتاجت للسكنى تسكن برأسها فقط كما ذكر، وجميع من ذكر من المحبس عليهم أولا وآخرا يسكن الدار
بنفسه، ولا يكري لأحد وإن اتسعت واحتاج لمن يسكن معه فيسكن من احتاج للسكني من الطبقة التي بعدها أو التي بعدها، ولا يكري أحد لأحد فإن انقرضوا عن آخرهم والبقاء لله وحده رجعت الدار حبسا على مؤذني الليل بمنار المسجد المذكور يشتركون في ذلك على حد السواء، ولا يدخل معهم مؤذنو العشاءين في ذلك حبسا مؤبدا ووقفا مخلدا، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، ومن بدل أو غير فالله حسيبه وسائله وولي الانتقام منه، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، إشهادا صحيحا طوعيا قصد به وجه الله العظيم والدار الآخرة، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا ولا يخيب لراجيه وقاصده أملا، شهد عليه بذلك عارفا قدره وهو بحال كماله وعرفه وفي أوائل جمادي الثانية عام خمسة وثلاثين ومائة وألف، انتهى.
عينت المحكمة الشرعية الدولة الحامية ثانيا من دور الحبس كان يسكنها في غابر الأعصر مزاور المؤذنين المكلف بالتوقيت وآلاته بالمسجد الأعظم، وآخر من سكنها من أولئك المكلفين السيد الجيلاني الرحالي وإن لم يعط وسم مزوار وبها توفي، كما سكنها قبله قاضي مكناس أبو محمد العباس بن كيران مدة، وكان بابها داخل باب الجنائز الخارجي أحد أبواب المسجد المذكور المقابل -هو أي الباب- لمسجد الحجّاج عَلَى يسار الداخل منه للمسجد، تنفتح دفة الباب على بابها رحم الله آباءنا المتقين، ما أشد اعتنائم واحتياطهم لأمور الدين، اختاروا لسكني الموقت الذي عليه المدار في معرفة أوقات الصلوات التي هي من الدين بمنزلة الرأس من الجسد هذه الدار التي كادت أن تكون من نفس المسجد تيسيرا عليه ورفقا به وجمعا له بين مصلحتي المحافظة على القيام بحق الرب المعبود وحق الأهل.
ولما عينت هذه الدار محكمة أغلق بابها الأصلي المشار وأحدث لها باب بالشارع العمومي المار وسط سماط العدول بين باب الكتب المذكور في جملة أبواب المسجد وباب الجنائز.
وهذه الأبواب الخمسة كلها في الجهة الغربية من المسجد الجامع وفي هذا المسجد العظيم المقدار ثريات ثلاثة من الصفر (1) مكتوب بالدائرة الأولى من كبراها: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا
…
إلخ السورة، وفي دائرتها الثانية بعد الاستعاذة والبسملة والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا
…
إلخ السورة، وفي دائرتها السفلي صنعت هذه الثرية بمدينة فاس حرسها الله لجامع مكناسة شرفه الله بذكره، وكان الفراغ من عملها في العشرين من شهر ذي القعدة عام أربعة وستمائة.
وفيه مائة وثلاثة وأربعون قوسا، ومن الأساطين مائة أسطوانة (2) وأربعة وثلاثة أسطوانة وهذا العدد غير شامل للأساطين الملصقات بالجدارات.
فائدة: أول من أحدث الأساطين للظلال وهي مجانب مسقفة تظل الناس وتكنهم من الشمس والمطر عبد الملك بن مروان وذلك عام ثمانين، انتهى.
وفي المسجد من الصفوف المصطفة المتباعدة الأكناف، البالغة في محاسن الأوصاف، تسعة الصف الأول منها عديم النظير في اتساع العرض، إذ عرضه ستة أمتار وأربعة وثمانون سنتيما (3)، وهذا القدر لم أر ما يحاكيه في عرض صفوف غيره من المساجد، نعم عرض الصف الأول من جامع المنصور بمراكش يزيد عليه بواحد وأربعين سنتيما إذ عرضه سبعة أمتار وخمسة وعشرون سنتيما، وطوله خمسة وسبعون متر، أما عرض صفوف جامع بني أمية بدمشق الشام فيفوق الجميع إذ عرض كل بلاط من البلاطات الثلاث نحو التسعة أمتار.
وطول مسجدنا المكناسي من جدار المحراب إلى العنزة تسعة وثلاثون مترا وعشرون سنتيما، وعرضه من الجدار الشرقي إلى الجدار الغربي أربعون مترا
(1) الصفر: النحاس الأصفر.
(2)
الأسطوانة: العمود والسارية.
(3)
أى سنتيمتر.
وخمسة وتسعون سنتيما، وطول صحنه واحد وعشرون مترا وأربعة عشر سنتيما، وعرضه سبعة عشر مترا وواحدا وأربعون سنتما، وعرض الجناح الأيمن خمسة عشر مترا واثنان وعشرون سنتيما، وعرض الجناح الأيسر أحد عشر مترا وأربعة عشر سنتيما، وعرض كل ربع من أرباع مناره خمسة أمتار وخمسون سنتيما، وسعة كل جدار منها متر واحد وسبعون سنتيما، وعدد درجها مائة درجة، وثلاث عشرة درجة علو كل درجة عشرون سنتيما.
قال في الروض: وكانت الصاعقة نزلت أيامهم يعني -بني مرين- على صومعة جامعها أي مكناسة الأعظم والناس في صلاة العصر فقتلت نحو سبعة رجال وهدت بعض أركان الصومعة ودخلت في تخوم الأرض بباب بإزاء الصومعة يعرف اليوم بباب الزرائعيين، فانتدب لبنائها شيخ الإسلام الفقيه أبو عمران موسى بن معلى المعروف بالعبدروسى، واستنجد أهل اليسار منهم فجمعوا من المال ما أصلحوا به ما انثلم من الصومعة المذكورة فيما حدثني به والدي والشيخ المعمر أبو زيد عبد الرحمن النيار موقت الجامع المذكور ومزوار (1) مؤذنيها، انتهى. من خطه (2).
قلت: الصاعقة نار تسقط من السماء لها رعد شديد. قال في روح البيان: ولا دخان لها وتتوالد في السحاب، وهي أقوي نيران هذا العالم فقد تغوص في البحر، وتحرق الحيتان داخله، وعن ابن عباس رفعه: إن الملك الذي يسوق السحاب إذ اشتد غضبه طارت من فيه نار وهي الصاعقة. وعند الحكماء أنها أثر اصطكاك كهربائتين إحداهما صاعدة والأخرى نازلة.
وعند النيسابوري في تفسير قوله تعالى (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا
…
إلخ، إن القوى الفلكية إذا وقعت على العناصر بإذن الله فحركتها وخالطتها حصل من اختلاطها موجودات شتى من سحاب ومطر وطل وثلج وبرد
(1) مزوار: هذه التسمية انفردت بها بلاد المغرب، وصاحبها بمثابة صاحب الحسبة في قبيلته.
(2)
الروض الهتون - ص 93.
وريح ورعد وصواعق، وبعد أن بين كيفية تولد ذلك قال: فهذا القدر من الحقائق في هذا المقام لا ضير في معرفتها، بعد أن يعتقد انتهاء أسبابها إلى مدبر الكل سبحانه، انتهى. ونبه بهذا على رد ما شرحه الحكماء الفلاسفة في هذه الحقائق إلى الأصل الأصيل الديني من أنه لا فاعل إلا الله سبحانه، وأن ذلك لا ينافي إجراء الموجودات على ما تقتضيه الحكمة من قرن الأمور بأسبابها العادية.
وقد أشار لمثل ذلك الرازي أيضا عند قوله تعالى: هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا
…
إلخ، وإن أنكر ذلك عليه أبو حيان قائلا: هذا الرجل غرضه جريان ما تنتحله الفلاسفة على مناهج الشريعة وذلك لا يكون أبدا، انتهى.
وبحثه هذا مع الرازي غير وجيه، لأنه لم يقصد تنزيل كلام الحكماء من حيث كونه رأيا لهم على مناهج الشرع، وهم لا يرون ذلك، ولا يقولون بالفاعل المختار وينسبون الأفعال للطبيعة، بل قصده ربط المسببات بأسبابها، وأما ما قدمناه عن النيسابوري فهو بيان لكيفية ربط هذه المسببات بأسبابها العادية التي اقتضتها. الحكمة الإلهية وأتقنت كل شئ صنعا من غير تعريج على نسبة ذلك لرأي الحكماء، بل مع التصريح بمنافيه وهو كونه فعلا ومن آثار قدرته وبديع حكمته.
وحينئذ فبحث أبي حيان مع الرازي لا يرد على النيسابوري وعلى ذلك والله أعلم حمل الشيخ زكريا والحافظ السيوطي صنيع البيضاوي في تخريجه آي التنزيل في هذه الحقائق على مثل الكيفية التي شرحها النيسابوري، ولذلك أرى كلامه في حواشيهما على تفسيره، وبه يجاب عن تعقب الإبريز بقوله: على ناصر الدين البيضاوي درك في تفسير قوله تعالى: وينزل من السماء من جبال فيها برد بطريقة الفلاسفة، والعجيب من سكوت الحافظ السيوطي في الحاشية على ذلك وكذا شيخ الإسلام زكريا في حاشيته عليه، انتهى. فليتأمل.
قيل والصاعقة تسقط عادة على أرفع شيء وخصوصا البارز كالجبال دون الأرض السهلة والحارة، وقد يؤيد ذلك نزولها هنا على خصوص الصومعة. المرتفعة
لكن قال في الإبريز: القول بأن الصاعقة لا تنزل في الأرض السهلة المستوية الحارة غير صحيح، فإنا شاهدناها تنزل في سلجماسة وهي أرض مستوية سهلة حارة صحراء، ولا أحصي كم شاهدناها تنزل فيها.
وقد ذكر السيد في شرح المواقف أن صبيا كان في صحراء فأصاب رجليه صاعقة فسقط ساقاه ولم يخرج منه دم، وقد ذكر المفسرون نزولها في الصحراء عند قوله تعالى: ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء، انتهى. وترجمة أبي عمران العبدوسي تأتي بعد.
وطول محراب مسجد هذه الصومعة متران اثنان وثمانون سنتيما وعرضه متر واحد وسبعون سنتيما.
وفي الجهة الغربية منه المكتبة العلمية الجامعة لمحاسن الكتب القديمة لولا اختلاس جُلّ نفائسها ومد اليد العادية في ذخائرها الثمينة وإضاعة باقيها من ولاة الأحباس بعدم التعاهد والإصلاح أولا وتعطيل منفعتها بغلق أبوابها عن القراء ثانيا، حتى آل الأمر بسبب ذلك إلى أن صار الكثير مما بقي من كتبها التي يعز أن توجد في غيرها إلى حد لا ينتفع به أصلا لتمزقه وتلاشيه ووضعه في محل الكناسة والأزبال، وذلك من المفاسد التي لا تباح.
ومن العظائم التي أوقعت في الجناح، مع كون جانب الحبس غنيا، وبتجديد ذلك ورده إلى حال شبابه مليا، وهلا أيقظ ولاة الأحباس فعل الدولة الحامية فيما شيدته من المكتبة العلمية العديمة المثال بالمدرسة العليا بعاصمة الرباط وجلبت إليها نفائس الكتب المغربية وغيرها، ونصبت بها القيمين المهرة الحازمين المتلقين للقراء في كل حين بأوجه ضاحكة، مع تسهيل مناولة مقصد القارئ منها وإعانته على نيل بغيته، مع أنك إذا نظرت في مصارف الأحباس تجد الكثير منها يخرج في مقابلة لا شئ، إنما هي أسماء لا حقيقة لمسمياتها، كما تجد العدد الوافر منها
يخرج فيما لا أهمية له في نظر المحبس ولا في نظر الشرع، زد على ذلك وقوع التعذير في كل حين في غير المرموق بعيون أولي الأمر من المساجد ورباعها، فإذا تهدم جانب أو منفعة من منافعه أو ربع ينتفع به فيه مما هو بعيد عن التفات من ذكر ترك نسيا منسيا، حتى تعمل في مجموعه عوامل الخراب ولا يبقي له رسم ولا طل والأمر لله من قبل ومن بعد، اللهم يا مولانا وفق ولاة أمرنا لما فيه حياة شعبنا، وصلاح ديننا وسددهم وأعنهم على ذلك.
وأما مجلس الأسبوع الذي ذكر ابن غازي أن الوطاسي أحدثه، فهو الذي في أعلى ساباط الأسبوع المحمول على الجهة العليا من الجدار الشرقي للمسجد الجامع المذكور، وعلى الجدار المقابل لذلك من جدارات مدرسة القاضي المشار لها، وباب هذا المجلس هو في الصف الأول من المسجد، وقد بين ابن غازي وجه تسميته بذلك فيما مر عنه، لكن ذلك الوجه لم يستمر بل خلفه وجه آخر وهو قراءة سبع القرآن به في المصحف الذي حبسه جدنا من قبل الأم فخر الدولة العلوية بعد جده مولانا إسماعيل سيدي محمد بن عبد الله، فمن مناقبه -قدس الله روحه- تحبيسه لمصحف عتيق بخط بارع، تراجمه وسوره وأجزاؤه بالقلم الكوفي الذي لا يوجد له مثيل، سفره من ألواح الساج البديع المرصع بالصفائح المموهة بالذهب اللطيفة الشكل، قرأت عقد تحبيسه بأول ورقة من ذلك المصحف بتاريخ الثامن عشر من رجب عام سبعة وسبعين ومائة وألف، على خزانة الجامع المذكور.
وفي هذا المصحف كانت تكون قراءة السبع الواحد من القرآن بالمجلس المذكور كل يوم، وافتتاح أولها يوم السبت، وختم آخرها عند جلوس الخطيب على المنبر يوم الجمعة، وتقسيم هذه السباع على النهج المبين في قول القائل:
فإن تشأ فقف على ما قد وقف
…
عليه خير مرسل مع السلف
وذاك في العقود لا النساء
…
ويونس وسورة الإسراء
والشعرا وسورة اليقطين
…
وقافها والختم بالتبيين
ومعنى هذه الأبيات إن أردت أيها القارئ المتعبد بالتلاوة موافقة السنة وعمل سلف الأمة في تعبدك وتلاوتك، فقف وقفا ليس بالواجب عليك في يوم افتتاحك على سورة العقود، وفي ثانيه على سورة يونس، وفي ثالثه على سورة الإسراء وفي رابعه على سورة الشعراء، وفي خامسه على سورة اليقطين، وفي سادسه على سورة قاف، وفي سابعه يكون الختم ويدل لهذا ما في النوع الخامس والثلاثين من الإتقان من أن قراءة القرآن في سبع هي أوسط الأمور وأحسنها، وهو فعل الأكثرين من الصحابة وغيرهم، وما أخرجه الشيخان عن عبد الله بن عمرو، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ القرآن في شهر، قلت: إني أجد قوة، قال: اقرأه في عشر، قلت: إني أجد قوة قال: "اقرأه في سبع ولا تزد على ذلك".
وما أخرجه أبو عبيد وغيره بن طريق واسع بن حَبَّان (1)، عن قيس بن أبي صعصعة وليس له غيره أنه قال: يا رسول الله في كم أقرأ القرآن؟ قال: "في خمسة عشر قلت: إني أجد أقوي من ذلك، قال: اقرأه في جمعة".
وقول ابن أبي زيد في الرسالة ومن قرأ القرآن في صبع فذلك حسن، انتهى.
قال الشيخ زروق: يعني أن الختم في كل أسبوع حسن، وعلى ذلك كان السلف فمنهم من يجعلها بين الليل والنهار، ومنهم من يجعل ختمة بالليل وختمة بالنهار فيختمون الليلة ليلة الجمعة، والنهارية يوم الاثنين، ويكون ذلك أول الليل وأول النهار يستغفر له الملائكة في بقية يومه، وقد اختلفت طرقهم في التجزئة وأحسنها في اليوم الأول ثلاث سور، وفي الثاني خمس، وفي الثالث سبع، وفي الرابع تسع، وفي الخامس إحدي عشرة، وفي السادس ثلاث عشرة، وفي السابع يختم بقيته إلى أن قال: ومنهم من يجزئ بالأحزاب والآي ونحو ذلك، وكلٌّ واسع وفعل السلف أحسن.
وقال الإمام أبو حامد الغزالي في الإحياء: "قيل إن أحزاب القرآن سبعة،
(1) بفتح المهملة ثم موحدة ثقيلة، قيده ابن حجر في التقريب - ص 509.
الحزب الأول ثلاث سور، والحزب الثاني خمس سور، والحزب الثالث سبع سور، والحزب الرابع تسع سور، والخامس إحدى عشرة سورة، والسادس ثلاث عشرة سورة، والسابع المفصل من قاف هكذا حزبه الصحابة، وكانوا يقرءونه كذلك".
قال العراقي في حديث تحزيب القرآن سبعة أحزاب رواه أبو داود وابن ماجه من حديث أوس بن حذيفة في حديث فيه قال أوس فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تحزبون القرآن؟ فقالوا ثلاثا وخمسا وسبعا وتسعا وإحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل.
وفي رواية للطبراني فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزب القرآن؟ فقالوا كان يحزبه ثلاثا فذكره مرفوعا وإسناده حسن، انتهى.
وقال أبو حامد أيضا ينبغي أن يكون الختم ما بين الشهر إلى الجمعة فيكون إذا أبطأ ختم القرآن في الشهر مرة، وإذا عجل لم ينقص من الجمعة.
ولم يزل العمل مستمرا على قراءة ذلك المصحف بالمجلس المذكور ويختم في كل أسبوع كما تقدم إلى زمن نظارة ابن عمرو على الأحباس بمكناسة، وقد كان ناظرا عليها في دولة الأمير المطاع الأمر مولانا الحسن قدس الله روحه في فراديس الجنان، وابن عَمْرو هذا، هو الحاج محمد بن عمرو الصنهاجي أصلا، المكناسي نشأة ودارا ووفاة، كان من رؤساء مكناسة وذوي الوجاهة بها والصيت الذائع والثروة ذات البال بالنسبة لأهل جلدته، تقلب في عدة وظائف مخزنية منها ولاية رياسة الأمانة على الأملاك المخزنية، ومنها الولاية على البناءات السلطانية الحسنية، ومنها الولاية على غير الرشداء من أولاد أفراد أعيان العائلة الملوكية لما كان له عند الجلالة السلطانية من المكانة، والحمل على الصدق والأمانة، ومنها ولاية النظر على عموم الأوقاف المكناسية والزرهونية مما عدا الزاوية الإدريسية فقد
كان لها ناظر مستقل، اتفق في نظارته أن مات القيم بالأسبوع المذكور في المجلس المشار وحين رام من له النظر في الأمور الشرعية بمكناس وقتئذ إقامة خلف للقيم المذكور وأمر الناظر أن يجرى له من الأحباس مثل ما كان لمن قبله زعم أن القيم السابق لم يكن له راتب معين في الحبس، وإنما كان متطوعا، فكان في جوابه هذا وامتناعه من دفع الإعانة إبطال ذلك المشروع الحسن، في ذلك المجلس المستحسن نعم ذلك المجلس هو وإن هجر عن المشروع المتقدم فقد تلافته بقايا السعادة بأن جعل الآن مكتبة علمية على ما سبق فيها، ونسيت المدرسة المتقدمة الذكر للقاضى لكون القاضى أبى على الحسن بن عطية (1) الونشريسى كان يدرس بها، وأضيفت للشهود لأنها كانت بأعلى سماطهم وهو محل باعة الخضر الآن ويعرف بنهج الخضارين كما تقدمت الإشارة لذلك.
ومؤسس هذه المدرسة هو أبو يوسف المرينى (2) كما سيمر بك قريبا، وأضيف الساباط للأسبوع لارتفاع المجلس الأسبوعى السالف الذكر عليه.
وبالمدينة اليوم من المساجد ما بين صين وساقط ومتداع للسقوط نحو ثمانية وسبعين والباقى من العدد السابق عن ابن غازى، منه ما صار دورا، وبساتين وقصورا، ومنه ما اندثر ولم يبق له خبر ولا أثر.
والمعد للخطبة منها اليوم اثنا عشر مسجدا ودونك عدّها: 1 المسجد الأعظم المعروف بالجامع الكبير، و 2 المسجد العتيق وهو المعروف بجامع النجارين، و 3 جامع الزيتونة، و 4 جامع باب البراذعيين، و 5 مسجد سيدى عبد القادر العلمى، و 6 مسجد سيدى سعيد، و 7 مسجد القصبة السلطانية، و 8 مسجد قصبة هدراش ويعرف بجامع لال خضراء، و 9 مسجد الأزهر الموسوم بجامع الأروى، و 10 مسجد قصبة بريمة، و 11 مسجد السيد الحاج القدوة الولى الشهير، و 12 مسجد بقصبة تولال.
(1) في المطبوع: "أبى الحسن بن عطية" وصوابه لدى الونشريسى في وفياته في موسوعة أعلام المغرب 2/ 692. وانظر لذلك أيضًا: الروض الهتون - ص 88.
(2)
الروض الهتون - ص 88.
وبها من الصوامع التي ينادى بها للصلاة ثمانية وعشرون: 1 صومعة العتق وهو جامع النجارين، و 2 صومعة المسجد الأعظم، و 3 صومعة جامع الزيتونة، و 4 صومعة جامع باب البراذعيين، وه صومعة سيدى أحمد بن خضراء، و 6 صومعة سيدى عبد القادر العلمى، و 7 صومعة جامع الصباغين، و 8 صومعة جامع التوتة، و 9 صومعة جامع براكة، و 10 صومعة جامع ابن عزو، و 11 صومعة جامع الزرقاء، و 12 صومعة جامع الساباط، و 13 صومعة سيدى اليابورى، و 14 صومعة جامع القصبة المعروف بلال عودة، و 15 صومعة الضريح الإسماعيلى، و 16 صومعة باب مراح، و 17 و 18 صومعتان اثنتان بدار المخزن السعيدة، و 19 صومعة جامع قصبة هدراش المعروف بلال خضراء، و 20 صومعة. جامع الأروى، و 21 صومعة سيدى سعيد، و 22 صومعة جامع الدار البيضاء بآجدال، و 23 صومعة سيدى الحاج القدوة، و 24 صومعة بريمة، و 25 صومعة جامع سعدون، و 26 صومعة سيدى الورزيغى، و 27 منار جامع تولال، و 28 منار جامعه جراوة بالجبابرة.
وبها من السقايات نحو السبعين والباقى أمسى في خبر كان والبقاء لله وحده.
فصل: قال في "الروض": وكان بهذه المدينة في أيام الموحدين ثلاث حمامات البالى والجديد والصغير، وهى باقية لهذا العهد، وكان أحدث فيها أبو زكريا يحيى بن غُنْصَالْبَهْ المهاجر المعروف بابن أخت ألفنش في العشرة الثانية من القرن السابع حماما كبيرا حفيلا محكما فجاء في غاية الإتقان، وكان أبو زكريا هذا فنشيًّا، هاجر إلى سلطان الموحدين واستوطن مكناسة مظهرًا لدين الإسلام، وكان يسكن بها في دار كبيرة بشرقى الجامع الأعظم مقابلة لأحد أبوابه تنسب لعلى بن أبى بكر أحد حفاظ الموحدين، [كان] قد ولى العمل بها، وكان أبو زكريا
هذا قائد فرسان يتصرف في ردع شرار البربر الرحالين، وكان في زى الموحدين فاعلا للخير محبا في أهله، وله في إِحداث هذا الحمام مناقب اشتهرت عنه من إرضائه أصحاب الديار التي اشتراها لذلك في أثمانها وغير ذلك، وعمر هذا الحمام ما شاء الله ثم خرب منذ زمان، وآثاره باقية لهذا العهد عند سوق الغزل منها، وفيه يقول الأستاذ أبو عبد الله بن جابر في رجزه المسمى بنزهة الناظر:
وإنما الحمام كان الفنش
…
ذاك الذى إذ كان كان العيش
إلى أن قال وقد كان الشيخ أحمد اللحيانى الورتاجنى أيام قيامه بمكناسة أحدث بها حماما حول داره ودثر بعده، ثم عمر لهذا العهد ينسب إليه فيقال له حمام المرينى، وهو الآن رابع حماماتها، انتهى. من خطه (1).
قلت: قوله غُنْصَالبه هى -بضم الغين المعجمة وسكون النون وفتح الصاد مشبعة بعدها لام ساكنة فباء مفتوحة فهاء سكت- هكذا ضبطه بخطه.
وسلطان الموحدين الذى كان في العشرة الثانية من القرن السابع هو المنتصر بالله بن الناصر بن يعقوب المنصور، وأما الحمام البالى فإنه لا زال قائم العين إلى الحين الحالى، إلا أنه لا يعرف اليوم بهذا الوصف، وهو المعروف بحمام مولاى عبد الله بن أحمد، ويدل لذلك تصريح بعض المقيدات الحبسية الموثوق بصحة خبرها بذلك ودونك نصها: ومنها أى من العقارات الحبسية الكوشة المتصلة بالحمام البالى المعروف بحمام مولاى عبد الله بن أحمد، انتهى.
وأما الحمام الجديد فإنه لا زال قائم العين معروف الاسم إلى الآن.
وأما الحمام الصغير فإنى لم أقف على تعيين مسماه الآن، إلا أن الغالب على الظن أنه حمام التوتة، إذ هو أصغر حمام يوجد في البلد مع ظهور قدمه.
وأما حمام أبى زكرياء الفنشى فقد قال بعض من تأخر زمانه في طرة قيدها
(1) الروض الهتون - ص 75 وما بين حاصرتين منه.
على كلام "الروض" هنا ما لفظه: أدركنا هذا الحمام وقد اتخذ معصرة للزيتون، وبقى كذلك سنين متطاولة والآن جعل محلا لعمل البارود بسويقة باب البراذعيين في قبلة ضريحى الوليين سيدى عبد الله الدراوى وسيدى أحمد بن خضراء نفع الله المسلمين ببركاتهما، وما زال الحمام على قبتين محكمتى البناء على أعمدة من الحجر المنحوت، انتهى.
قلت: هذه الأوصاف تنطبق تمام الانطباق على المعصرة القائمة العين الآن المجاورة للفرن الكائن بالسويقة المذكورة المعروفة اليوم بسويقة جبالة، ولا زالت إحدى القبتين شاخصة إلى الآن بالمعصرة المذكورة ولم يبق أثر لتلك الأعمدة الحجرية، نعم يوجد ثَمَّ بناء بالحجر المنحوت لا يبعد أن يكون هو حجر تلك الأعمدة، كما أن الذى تعطيه القرائن أن ذلك الفرن المتصل بها هو عين القبة الثانية هدمت وبنى الفرن في محلها والله أعلم.
وأمام حمام المرينى فهو الحمام المعروف اليوم بحمام السويقة ويستفاد ما يدل لذلك من بعض التقاييد الحبسية الموثوق بخبرها أيضا، إذ فيها تجوير درب الست هنو بحمام المرينى والحمام المجاور لذلك الدرب هو حمام السويقة.
وأما سوق الغزل بالمحل الذى أشار له ابن غازى فلا يعرف الآن، والذى أدركناه موضعه بمقبرة سيدى أحمد الدراوى التي كان يخرج إليها من الباب الذى كان بوسط العشابين خارج باب بريمة، وقد حول حين حلت الفتن وكثر الهرج أواخر الدولة العزيزية إلى زاوية من روايا بطحاء الهديم وأُغلقت باب المقبرة المذكورة خوف هجوم الرعاع على العاصمة منها، وكان غلق هذا الباب فاتح واحد وعشرين وثلاثمائة وألف، -ولا زال سوق الغزل يعمر بالهديم إلى الآن كل صباح.
هذا وعدد حمامات المدينة اليوم أحد عشر ودونك أسماءها: 1 حمام سيدى
ملوك، 2 حمام التوتة، 3 حمام تربيعين، 4 حمام السويقة، 5 حمام مولاى عبد الله بن أحمد، 6 حمام باب البراذعيين، 7 حمام مولاى إسماعيل، 8 حمام لال خضراء، 9 حمام جامع الزيتونة، 10 حمام الجديد، 11 حمام الحرة ويعرف بحمام سيدى عمرو بو عوادة، ويمكن أن تكون الحرة التي أُضيف إليها هذا الحمام هى أم أيمن بنت على البطوئى (1) أم السلطان يعقوب بن عبد الحق المرينى لأنه كثيرا ما تذكر في الكتب التاريخية بالحرة والله أعلم.
والذى يعين أنه هو المضاف اليوم لبوعوادة الولى المتبرك به هو ما في "ممتع الأسماع" ولفظه: أبو حفص عمرو بن عوادة دفين حومة حمام الحرة من مكناسة، وأما الدار التي كان يسكنها الفنشى فوصف ابن غازى لها يقضى بأنها في موقع مدرسة الشهود المتقدمة الذكر، أو سوق البز المعروفة بالقيسارية.
وعدد دور المدينة الآن ثمانية آلاف دار وخمسمائة وخمس عشرة دارا.
وعدد دكاكينها أربعة آلاف تقريبا.
وعدد حوماتها تسعة وعشرون وهى حومة حمام الجديد، وزقاق القلمونة، وأروى مزيل، وجامع الزيتونة، وقعر وردة، وفرن النوالة، وسيدى أحمد بن خضراء، وعقبة الزرقاء، والتوتة، وتزيمى الكبرى، وتزيمى الصغرى، وجناح الأمان، وزنيقة الأنوار، وجامع النجارين، وظهر السجن، والصباغين، وبريمة، وقصبة هدراش، وباب مراح، وسيدى عمرو الحصينى، وسيدى النجار، والدريبة، والستينية، والدار الكبرى، والأروى، والجبابرة، وبنى محمد، والدار البيضاء، والملاح.
وأما بالنظر إلى التقسيم فمكناس كغيره من مدن الإِيالة ينقسم كما في البستان، في تخطيط البلدان، ثلاثة أقسام: القصبة المولوية، والمدينة الأصلية، والملاح، والسور محيط بالجميع.
(1) بضم الطاء مشددة، فواو وهمزة قبل ياء النسب، قيده صاحب نشر المثانى في موسوعة أعلام المغرب 3/ 1285.
وعدد أرجاء الماء بها اليوم اثنتان وأربعون، وعدد الأفران اثنان وثلاثون، وعدد الطرازات المعدة لنسج الصوف ثمان وعشرون، وعدد الإصطبلات تسع وأربعون، وعدد معامل الزليج والأوانى الخزفية وما شاكلها تسعة عشر.
وعدد سكانها من الأهالى ثمانية وعشرين ألف نسمة ومائتان وسبع على ما أنتجه الإحصاء الأخير، والذى يظهر من تساهل المكلفين بهذا الإحصاء وعدم ضبطهم أن عدد السكان يزيد على ذلك بما ينيف على العشر، وأما عدد سكانها من الإسرائليين فخمسة آلاف وسبعمائة وثلاثة وستون، وأما سكانها من الفرنسيين المدنيين فألف وتسعمائة، وأما سكانها من الأجانب غير الفرنسيين فسبعمائة وتسعة وخمسون، فجميع السكان على هذا ست وثلاثون ألفا وستمائة وتسع وعشرون، وقد أشرنا إلى أنه لا معول لمن رام التحقيق على هذا الإحصاء فقد أغفل أهله عائلات كثيرة من الأهالى والأجانب.
فصل: قال ابن غازى: وذكر ابن خلدون أن السلطان أبا يوسف المرينى لما فرغ من بناء البلد الجديد المسمى بفاس الجديد، أمر ببناء قصبة مكناسة، انتهى من خطه (1). زاد غيره وجامعها، انتهى. أى أمر ببناء جامع القصبة معها، وزاد ابن خلدون فشرع في بنائها من سنته، انتهى. يعنى سنة أربع وسبعين وستمائة كما بينه هو وابن أبى زرع وغيرهما.
والشروع في بناء فاس الجديد اتفقت كلمتهم على أنه كان في شوال من السنة المذكورة زاد في "روضة النسرين" وغيرها أن ركوب ابن يوسف من القصبة القديمة بفاس وخروجه لتأسيس فاس الجديد وحفر، أساسه كان ضحى يوم الأحد ثالث شوال عامه، وزاد ابن أبى زرع أن أمره ببناء قصبة مكناسة كان في شوال المذكور.
قلت: فعلى هذا كان الشروع في فاس الجديد والفراغ منه في ظرف نحو العشرين يوما لا غير، وهو في غاية البعد، والذى عند ابن خلدون أن كمال
(1) الروض الهتون - ص 87 - 88.
بناء المدينة المذكورة وسكنى الأمير المذكور بها كان سنة أربع وسبعين وستمائة، انتهى.
فلم يصرح باليوم والشهر اللذين كان فيهما ذلك، فجاز أن يوافق ما صرح به ابن أبى زرع، وجار أن يخالفه وهو الظاهر، ويعضد ذلك ما في الحلل الموشية لابن الخطيب، وهذا لفظ ما في النسخة المطبوعة الآن منها، وفيها أى في سنة أربع وسبعين وستمائة ابتدئ بناء البلد الجديد بخارج مدينة فاس وهو المدينة البيضاء وتم في ذى الحجة سنة سبع وسبعين وستمائة، انتهى.
والظاهر صحة ما قاله ابن الخطيب، فإن العادة في البناء الكثير وخصوصا مدينة أن لا يتم إلا في أعوام، وسيمر بك أن مدة بناء سيدنا الجد المولى إسماعيل للقصر الكبير بمدينتنا مكناسة ثمانى سنين مع ما كان عليه من ضخامة الملك وشدة الحرص على البناء، مما لا يساويه فيه بل ولا يدانيه بانى فاس الجديد، وسيمر بك في كلام الزيانى وغيره شاهد ذلك، وفى كلامه زيادة على ما لابن خلدون بتعيين الشهر الذى وقع الفراغ من بناء فاس الجديد فيه وهو ذو الحجة، وفيه مخالفة أيضا لابن أبى زرع في وقت الشروع في قضبة مكناسة، فصريح كلام ابن أبى زرع أنه كان في شوال، ومقتضى ما لابن الخطيب أنه في ذى الحجة وهو الظاهر والله أعلم.
ثم هذه القصبة قصبة مكناسة المحدث عنها لم يتنازل أحد من المؤرخين فيما رأينا للتصريح بما يحقق تحديدها وتفاصيلها، غير أن الشواهد والقرائن التي تعطيها نصوصهم ترشد إلى أن موقعها كان فيما بين منتهى جامع القصبة المعروف بهذا الاسم قديما وحديثا وبجامع لآل عودة أيضا، وبين السور الواقع بإزائه الذى هو آخر القصبة الإسماعيلية المحيطة بالقصور الملوكية المعدة لسكنى العائلة الآن.
وأما تحقيق حدود القصبة المرينية في هذه المساحة التي أرشدت إليها قرائن
نصوصهم وكذلك الجزم ببقاء شئ من عينها بعد الإضافات الكثيرة والتجديدات الهائلة التي أنشأتها الهمة الإسماعيلية هناك، فهو مما لا سبيل إليه في هذه الأزمنة الحاضرة، وحسب الواقف هنا قبول هذا الخبر التاريخى من غير تطلب لمطابق له خارجا، وسنأتى بحول الله من تفاصيل تأسيسات الجد مولانا إسماعيل وهائل تخطيطاته في قصبته ما يزيح عنك البين، ويدفع عنك فيما سطرناه المين.
نعم جامع القصبة المذكور سيأتى لنا ترشيح أنه هو جامعها المرينى المأمور ببنائه معها، وإن كنا لا نجزم بأن البناء الموجود فيه الآن هو الأصلى وسننبه على ما عينه النص فيه أنه من الأعمال الإسماعيلية أو غيرها والله أعلم.
وأبو يوسف بانى القصبة المذكور، هو أمير المسلمين يعقوب بن الأمير أبى محمد عبد الحق الزناتى المرينى وهو سادس سلاطين الدولة المرينية لقبه القائم بأمر الله والمنصور بالله، مولده سنة تسع وستمائة، وبويع سنة ست وخمسين، وتوفى سنة خمس وثمانين وستمائة، فعمره خمس وسبعون سنة، ومدة ملكه تسعة وعشرون سنة وستة أشهر واثنان وعشرون يوما، كذا في "روضة النسرين".
وما ذكره في هذه ملكه يقتضى أن مبايعته كانت قبل فاتح عام ستة وخمسين بستة أشهر، وهو مخالف لما تقدم عنه من أنها سنة ست وخمسين فاعرفه.
صفته: أبيض اللون، تام القد، معتدل الجسم، حسن الوجه والصورة، واسع المنكبين، أشيب كأن لحيته قطعة ثلج من بياضها ونورها وإشراقها، وكان شجاعا حازما، من فضائله أنه لم تهزم له راية ولم يقصد عدوا قط إلا قهره، ولا جيشا إلا هزمه، ولا بلدًا إلا فتحها.
استرجع سَلَا من يد الإصبان في ظرف أربعة عشر يوما من احتلالهم بها وذلك سنة ستمائة وثمان وخمسين، وانتصر عليهم الانتصارات الباهظة وغنم غنائم طائلة، وقد نقل بعد وفاته فدفن في روضة شالة من رباط الفتح.
تنبيه: قال ابن أبى زرع: ومن تابعه ومن سعادتها يعنى فاسا الجديد وسعادة طالعها أنها لا يموت فيها خليفة ولم يخرج منها لواء إلا نصر، ولا جيش إلا ظفر، انتهى.
وأقول كم لواء خرج منها فكسر. وجيش فهزم ودمر. والعيان أكبر شاهد وحسبك ما وقع أواخر الدولة العزيزية في فتنة أبى خمارة التي قضت على ما كان من بقية الرمق بالمغرب، وسيمر بك بحول الله وقوته تفصيل ذلك، نعم إن قصرت تلك المقالة على ما سلف كما هو مقتضى ظاهر لفظها فلا بحث إلا من جهة أن المقالة تقتضى أن عدم وقوع ذلك في سالفه لأجل خصوصية هناك، مع أن ذلك إنما كان اتفاقيا وإلا لدام، والله أعلم.
ثم قال في الروض: وبنى السلطان أبو يوسف أيضا بمكناسة مدرسة الشهود التي بأعلى سماطهم هنالك، ويقال لها مدرسة القاضى، لأنها كان يدرس بها القاضى أبو على الحسن بن عطية الونشريسى وسيأتى ذكره إن شاء الله تعالى، ثم نوه بها أبو الحسن المرينى المسمى بأبى الحسنات الكثير الآثار بالمغرب الأقصى والأوسط والأندلس، فبنى فيها مرافق كثيرة كزاوية القورجّة، وزاوية باب المشاوريين وغير ذلك من السقايات والقناطر في طرقاتها ونحوها، ومن أجلِّ ذلك المدرسة الجديدة، وكان قدم للنظر على بنائها قاضيه على المدينة المذكورة أبا محمد عبد الله بن أبى الغمر (1).
فحدثنى والدى (2) رحمه الله أنه كان يسمع ممن أدرك من الشيوخ أن السلطان أبا الحسن رحمه الله تعالى لما أخبر بتمام بنائها جاء إليها ليراها، فقعد على كرسى من كراسى الوضوء حول صهريجها، وجئ بالرسوم المتضمنة للتنفيذات اللازمة فيها، فغرقها في الصهريج قبل أن يطالع بما فيها وأنشد:
لا بأس بالغالى إذا قيل حسن
…
ليس لما قرت به العين ثمن
(1) الروض الهتون - ص 88.
(2)
الروض الهتون - ص 90.
ولما ولى بعده ولده أبو عنان نوه بها أيضا وتفقد أحوالها، وكان من جملة ذلك أن أمر بالاقتصار على عشرة من الشهود بها وعزل الباقين على كثرتهم، انتهى من خطه (1).
قلت: أما مدرسة القاضى فقد قدمنا بعض ما يتعلق بها وهى المعروفة اليوم بالمدرسة الفيلالية، وكأنها تنسب لمن كان يسكنها من طالبى العلم أهل تافيلالت، وقد نبهنا فيما سبق على أن سماط العدول حول عنها للدكاكين المسندة للجهة التي عن يمين المصلى بالمسجد الأعظم.
وأما أبو الحسن المرينى فهو السلطان أبو الحسن على بن السلطان عثمان بن يعقوب بن عبد الحق المرينى لقبه المنصور بالله، مولده في صفر سنة سبع وتسعين وستمائة، وبويع يوم الجمعة الخامس والعشرين من ذى القعدة سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة، وتوفى بجبل هنتانة ليلة الثلاثاء السابع والعشرين من ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة، ودفن بمقبرة السعديين الشهيرة بمراكش يوم الأربعاء التالى ليوم وفاته المذكور، ونقل إلى تربة أسلافه بشالة في اليوم السادس عشر من جمادى الأولى من العام المذكور حسبما هو منقوش في رخامة على القبر الذى نقل منه بالروضة المذكورة قد وقفت على ذلك بنفسى، ورأيته بعين رأسى.
قال في "روضة النسرين": فمدة ملكه عشرون سنة وثلاثة أشهر ويومان اثنان وعمره ستون سنة، انتهى.
ومما ذكره في مدة عمره مخالف لما ذكره في تاريخ ولادته ووفاته، فإن مقتضاها أن عمره خمس وخمسون سنة ونحو شهرين اثنين لا غير.
صفته: طويل القامة، عظيم الهيكل، معتدل اللحية، حسن الوجه، سالكا سبيل العدل والتقوى، محبا للصالحين، حبب إليه الطيب.
(1) الروض الهتون - ص 91.
تنبيه: قال في "روضة النسرين" وجميع ما ولد له ما بين ذكور وإناث وسقط وغيره ألف وثمانمائة واثنان وستون، أخبرنى بذلك ثقته الشيخ المعمر علال بن آمصمود الهسكورى اهـ.
وأبو الحسن هذا هو فخر الدولة المرينية وواسطة عقدها، ومشيد منار مجدها يعرف عند العامة بالسلطان الأكحل لسمرة لونه، عهد له بالملك والده.
قال ابن خلدون: ولما هلك السلطان أبو سعيد اجتمع الخاصة من المشيخة ورجال الدولة لولى عهده الأمير أبى الحسن وعقدوا له على أنفسهم وآتوه طاعتهم وبيعتهم. قال: وتولى أخذ البيعة له يومئذ على الناس المزوار عبو بن قاسم رئيس الورعة والمتصرفين، انتهى.
وأبو الحسن هذا هو صاحب وقعة غرق الأساطيل بمرسى بجاية الشهيرة، وكان عدد تلك الأساطيل التي تراكمت عليها الأمواج من كل مكان نحو الستمائة أسطول، قال، في نفح الطيب (1): إن أساطيل السلطان أبى الحسن كانت نحو الستمائة فهلكت كلها ونجا هو على لوح وهلك كل من كان معه من أعلام المغرب وهم نحو أربعمائة عالم، منهم: أبو عبد الله محمد بن سليمان السطى شارح. الحوفى، ومنهم: أبو عبد الله محمد بن الصباغ المكناسى، وتأتى ترجمته في رجال مكناسة، ومنهم الأستاذ الزواوى أبو العباس وغير واحد.
وكان غرق الأسطول على ساحل الأندلس، وهو الذى استرد جبل الفتح من يد الإصبان وهو جبل طارق بعد أن أنفق عليه الأموال وصرف إليه الجنود والحشود ونازلته جيوشه مع ولده وخواصه وضيقوا به إلى أن استرجعوه ليد المسلمين، وذلك سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، وبعد استرجاعه اهتم ببنائه وتحصينه وأنفق عليه أحمال مال في بنائه وحصنه وسوره وأبراجه وجامعه ودوره ومحاريبه، وكان
(1) نفح الطيب 6/ 214 - 215.
بقاء هذا الجبل بيد العدو أربعا وعشرين سنة، إذا كان استيلاؤهم عليه سنة تسع وسبعمائة، وكانت مدة حصار أبى الحسن له ستة أشهر، وكم خلد في المغربيين من مفاخر تستلفت الأنظار، وتبرهن عما كان له من ضخامة الملك والاقتدار، ولم يزل أمره بين نمو وظهور إلى وقعة غرق أساطيله المذكورة ثم صارت ضخامة ملكه بعدها تتراجع ودولته تتناقض إلى أن لبى داعى مولاه.
وأما زاوية القورجّة -بتشديد الجيم كما رأيته في خط ابن غازى- فقد عفى منذ أزمنة طوال اسمها، وإن بقى إلى الحين الحالى رسمها في الجملة وموقع مسماها بالمحل المعروف اليوم بعقبة الزيادين، ويقال لها عقبة الزيادى، كان فيما سلف تطاول على جانب منها بعض أولى الأمر وصيره من جملة روض له وذلك الروض هو المعد الآن محكمة للمراقبة المدنية على الحكام الأهليين والشئون البلدية والكوميسارية، وصار طرف آخر من تلك المدرسة معدا لربط الدواب، والفاضل عن ذلك جعل معملا لطبخ الحبص، وعهدى بمحرابها فيما مر قائم العين، أما الآن فلا أدرى. وهذه الأمكنة كلها بيد الأجانب اليوم.
ولا عجب في صدور هذا وما ضارعه من قوم لا يهمهم تعظيم حرمات الله ولا يرعوون عن السعى في تخريبها وانمحاء ما أثله حماة الدين من الأعمال الشريفة المبرهنة على شممهم. وعلى هممهم. أولئك الذين عاشوا وشغلهم الشاغل إقامة معالم الدين، والمحافظة على كيان عزه المتين.
ومن خرب قلبه من التقوى، ونشأ في عماية وتغذى بلبان الجهل العريق والاستبداد التام واتخذ إلهه هواه فترك بيوت المجد بلاقع. وأدار من بلاياه كئوس السم الناقع، وظن الخيانة أمانة، وسفاهة الرأى عبادة وديانة، أنى يستغرب منه صدور ما ذكر من إهانة حرمات الله والتطاول عليها! هذا وسلاطيننا الجلة الأماجد لم تأخذهم سنة في زمن من الأزمنة عن تنبيه رعاياهم وولاة أمرهم، وإعطائهم
الأوامر كل آونة بالتحفظ على الشعائر الإسلامية والأخذ بالحزم في صيانتها، وكف كل يد عادية رامت التوصل إليها لأغراضها الشخصية.
فمن ذلك ما أصدره أمير المؤمنين السلطان سيدى محمد بن عبد الرحمن بن هشام لبعض ولاة أمره. ودونك نص ما كتبه لعامله الطالب محمد بركاش:
الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، ولفظ ما بداخل الطابع الشريف محمد بن عبد الله وليه خديمنا الأرضى الطالب محمد بركاش، أعانك الله وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد: فقد تساهل الناس خصوصا الأغنياء وأهل الوجاهة في أمر الأحباس حتى صاروا يتوصلون لما أرادوه منها بأى وجه أمكنهم ويجعلون ذلك في صورة المعاوضة، وصار النظار والقضاة يعتبرونهم فلا يردون إليهم حاجة، حتى انتقل بذلك كثير من الأحباس فبلغ لمولانا الوالد المقدس بالله ذلك فأمر الولاة خصوصا القضاة الذين لهم دخل في هذا الأمر بعدم معاوضتها رأسا، وتقرر هذا الأمر بمراكشة وفاس فلا يوجد أحد يعاوض شيئا منها، وحتى إن تعينت المصلحة فيها فلا بد من رفع أمرها لسيادته ينظر فيها بما اقتضاه نظره ولما ولانا الله سبحانه هذا الأمر اقتفينا أثره في ذلك وسددنا الأبواب في وجوه طلابها، على أن هذه المعاوضة إنما قال من قال بها من العلماء على شروط وأين هى تلك الشروط وما تقرر في هذه المدن أردناه أن يتقرر في ذلك الثغر السعيد، وها نحن أمرنا القاضى هناك وأكدنا عليه في عدم الموافقة على المعاوضة رأسا، كما أمرنا وصيفنا القائد محمد بن عبد الكريم الجبورى بأن لا يساعد أحدا عليها بوجه وأعلمناك لتكون على بصيرة وقد توعدنا القاضى والعامل على ذلك والسلام، في الربع من صفر عام تسعة وسبعين ومائتين وألف هـ.
وأما راوية باب المشاورين فهى التي بدرب سيدى غريب بمقربة من ضريح سيدى سلامة على يسار الداخل للدرب المذكور من نهج الحمامصيين، غير أن هذا
الاسم لا يعطى لها الآن ولا يعرفها به أحد، وهي اليوم على حالة يرثى لها عششت بها الأوساخ والأزبال والقذرات وباضت وفرخت، إذ كانت مدت لها فيما سلف اليد العادية كسابقتها القورجية فصيرتها إصطبلا لربط الدواب آونة ومربضا للبقر أخرى من غير رادع ولا زاجر. ولا استحياء من الملك القاهر، مبيد الأكاسرة وكل جبار عنيد.
وأما المدرسة الجديدة فهي المعروفة اليوم بالبوعنانية نسبة لأبي عنان، ولا أعرف وجهًا لهذه النسبة والحال أنها إنما أنشأها والده أبو الحسن وهي مراد ابن غازى هنا لوجوه:
أحدها: قوله ومن أجل ذلك
…
إلخ فإنه مشعر بفخامة بنائها وعلو شأنَّه، وهذه الصفة لا توجد على الكمال في غيرها من مدارس مكناس، لا سيما مع ما سبق عنه من أن بانى مدرسة القاضى هو أبو يوسف، فلم يبق الاحتمال حينئذ إلا في مدرسة الخضارين، وهذا الاحتمال يدفعه كونها على غير الصفة المنوه بها.
ثانيها: تصريحه بأنه بناها على يد قاضيه ابن أبي الغمر وقد وافق ذلك التنصيص عليه في سادس أبيات القطعة الشعرية المنحوتة في جبص محرابها كما يأتى.
ثالثها: أن التاريخ المعين لبنائها في البيت السابع من القطعة الآتية الذي كان ملكا فيه هو أبو الحسن المذكور فهو الأمر بتأسيسها والحاضر عند كمالها وتمام تخطيطها والعيان في ذلك كله يغنى عن البيان، فإنه يوجد إلى الحين الحالي منقوشا على يمين وشمال محراب قبتها ما صورته.
نزه جفونا منك في مدرسة
…
أربت على كل سنى ونزهة
لقد تبدت في فنون وشيها
…
كروضة غب انسكاب ديمة
أكملها البانى على إتقانها
…
فكمل الحسن بها وتمت
بأمر مولانا المطاع أمره
…
على العالى الندى الخليفة
من شرف العلم وأعلى قدره
…
وأظهر الحق بكل وِجهة
على يدي قاضيه في مكناسة
…
ابن أبي الغمر الحميد السيرة
عام ثلاثين وستة خلت
…
من بعد سبعمائة للهجرة
فنصر الرحمن من زان بها
…
مكناسة الغرب أتم نصرة
ونفع الذي أقام حسنها
…
بفضل جد وكريم نية
ما رفعت بيوته في أرضه
…
وتلى الأذن لها برفعة
وكان مجيء السلطان أبي الحسن لرؤية هذه المدرسة عند انتهاء بنائها من فاس، وقد بقى على ابن غازى التنصيص على ثالثة المدارس بمكناس الموجودة فيه إلى الآن، وهي مدرسة الخضارين المعروفة بمدرسة مولاى عبد الله بن حمد، وهى المقابلة لسماط العدول الآن مع ظهور قدومها، وسنذكر ما تجدد فيها من المدارس بعد.
ولنذيل ما تقدم بما شيدته الدولة الحالية العلوية شيد الله منارها في هذه البلدة فنقول: قد بني بمكناسة الملك المطاع، الذي ملأت جلالته القلوب مهابة ورعبا في سائر الأصقاع، تاج مفرق الدولة العلوية العلية ومؤسس فخرها ومؤثل مجدها، سيدنا الجد الأكبر المولى إسماعيل برد الله ثراه وفسح له في عدنه مساجد ومدارس ومعالم دينية، ووسع كنافها ومهدها ومدنها وأتقنها، وأحكم صنعها، وحصنها بالأسوار الشاهقة والمعاقل الضخمة الشامخة، والصقائل والأبراج العديدة ذات البال وأدارها بقصبات عديدة، منها ما هو متصل بسور البلد، ومنها ما هو منفصل عنه كما سيمر بك مفصلا بحول الله.
فمن تأسيساته بها قصوره الفاخرة الجميلة المتنافسة المزرية بدائعها بالبديع وضخامة آثارها بما بناه الأولون على اختلاف عناصرهم، وتباين أديانهم وتباعد
أزمنتهم المضروب بهياكلها المدهشة الأمثال بين عظماء الدول سلفا وخلفا الخالدة الذكر في بطون تواريخ الأمم السالفة.
فمن تلك القصور التي ما زالت ولا تزال صفحات التاريخ المغربى موشاة بذكر جمالها وكمالها قصر المحنشة والمدرسة اللذان بهما اليوم القصور السلطانية. وفيهما سكنى حرم العائلة الملوكية الكريمة في العصر الحاضر وقبله بكثير.
ومنها داره الكبرى ذات القصور العديدة والمصانع المنيعة المريعة، والحصون المدهشة الحصينة، والأوضاع العجيبة المتناسقة، والأسوار الضخمة الشامخة الرائقة في أعين عشاق الآثار المتجولين من سواح أقطار المعمور، المستعذبة في أذواق أولى الألباب الرحّالين المعتنين المتأملين، تفيد ذوى الأبصار عبرة وذكرى تقصر النعوت دون وصفها، وتنحت البيوت في جوفها.
قال أبو عبد الله أكنسوس في "جيشه العَرَمْرَم (1) ": لو شاهد المنصور الذهبي سورًا واحدًا من أسوار السلطان مولانا إسماعيل لعلم أن ما أفنى فيه عمره من ذلك المنزل المسمى بالبديع، إنما هو في التمثيل كدار إبليس التي تباع في عاشوراء يلعب بها البنات. ولا تحتاج المشاهدة إلى إقامة البينات، انتهى.
تبلغ سعة جل جدرانها مترا ونصفا، ويبلغ ارتفاع سمك غالبها خمسة عشر مترا.
فمن القصور المربعة في هذه الدار، الجامعة أصناف المحاسن والفخار، (قصر الستينية) الفسيح الفائق ذو المنظر البهج الذي تجسم فيه الانشراح، ورفرفت على طالعه الميمون أعلام الأفراح، وجر ذيول العجب على الزوراء، وازدرى بالزاهرة والزهراء، وأخجل قباب الشام، والخورنق والأهرام، ينيف طوله على مائة متر وعرضه على خمسين، كان له أيام شبابه مباح فسيح محيط بجوانبه الأربعة
(1) العرمرم: الجيش الكثير.
محمول السقف على أعمدة الرخام الناصع البياض، على رأس كل عمود كرسى من المرمر البديع المزخرف بالنقش العالى المبرهن على كمال براعة الصانع واقتداره على إبراز كل غريب فتان، تستوقف لطافته الأنظار، ويحير عجيب إتقانه النظار، اصطفت تحت ظل ذلك المباح الظليل أبواب قبب متقابلة بسائر جوانبه الأربعة، تتخللها دور وقصورها فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، تجسمت فيها الأبهة والبهاء، وحير وضعها الهندسى أهل النهي، ورصع فسيح تلك الأرض، طوله والعرض، بالزليج المختلف الألوان، وصهاريج صافى الرخام وجوابيه الباهض جمالها وترتيب نظامها القاذفة عن أنابيبها الماء المعين، الذي يغار من صفائه الزئبق واللجين، وألبست جدرانه حلل الجبص الموشاة بأبرع وَشْي وأغلاه وأعلاه، وتمنطقت بمنطقة من الزليج ذى الألوان المختلفة المذهل بمتقن تطريزه المرضعة عن الرضيع، حوت من كل أصفر فاقع وأحمر قانى وأبيض ناصع وأسود حالك وأخضر وأزرق ما تنشرح بمرآه الصدور، وتنطفى به لواعج المصدور، لا يقصر ارتفاع تلك المنطقة عن قامة، في غاية الاستقامة.
بشمال هذا القصر منار يسر الناظرين متجل في حلة سندسية خضراء، متوج بتاج مموّه بخالص الإبريز (1) تلوح على نواحى القصر منه لوائح السراء.
ووجه تسمية هذا القصر بالستينية وجود قبب بها لها مزيد أبهة وبهاء، ومن جملته كونها مسقفة بالعمل المعروف عند أهل حرفة النجارة بالستينى فأعطيت التسمية للقصر كله من باب تسمية الكل باسم الجزء الأعظم، وما عدا ذلك وهو جل القبب الإسماعيلية في سائر قصوره مقبو بالجيار والآجر مزخرف بالجبص البديع النقش.
وفي هذا القصر صار محل سكنى مؤلف هذا الكتاب وفي روضه فيه قال صديقه الحميم الفقيه المؤرخ أبو عبد الله سيدي محمَّد بو جندار مساجلا للأديب
(1) الإبريز: الذهب الخالص.
الشهير نابغة لبنان الشيخ رشيد مصوبع وقت اتفاق اجتماعهما بذلك الروض وذلك ثانى عشر جمادى الأولى عام ستة وثلاثين وثلاثمائة وألف.
أبو جندار:
قم بي إلى اللذات قبل فواتها
…
هذى الرياض الزاهرات فواتها
مصوبع:
نشتاقها بعد الفراق لأنها
…
أحيت لنا الأرواح بعد مماتها
أبو جندار:
طاب الغبوق بها على شمس الأصيـ
…
ـل وطيرها الشادى على دوحاتها
مصوبع:
قد زينت مكناسة بجمالها
…
كالخال زين للدمى وجناتها
أبو جندار:
فكأنما هي جنة الفردوس فيـ
…
ـها ما يروق العين من لذاتها
مصوبع:
إن قام يعبس قلب مكروب اسى
…
أهدت لعابس قلبه بسماتها
أبو جندار:
وإذا تنسم طيبها ميت الهوى
…
أحياه ما حياه من نسماتها
مصوبع:
حسناتها ليست تعد وحسبنا
…
أن السرور يكون من حسناتها
أبو جندار:
والحسن والإحسان بعض صفاتها
…
والأنس والإيناس بعض هباتها
مصويع:
نرنو لها فنخال طلعة ربها
…
في البشر والإشراق من زهراتها
أبو جندار:
ونجار هل حاكت جميل صفاته
…
أو أنه الحاكى جميل صفاتها
مصوبع:
نشرت لنا كفاه من طيب النهي
…
ما كان أطيب من شذا نفحاتها
أبو جندار:
وطوت عواطف قلبه ودًّا لنا
…
مثل المدام الصرف في كاساتها
مصوبع:
لا زال بدر علاه في سمواته
…
يسمو على الجوزاء في سمواتها
وقال أيضًا أبو عبد الله بوجندار مساجلا لصفى ودنا حليف الفضل والأدب الفقيه سيدي محمَّد بن اليمنى الناصرى حين اجتماعهما الذي فيه أيضًا قال مفتتحا:
ب: لله من مجلس رقت حواشيه
…
وشاه بالحسن والإحسان واشيه
صرى: تغشى قلوب الأولى حلو أبساحته
…
من السرور على المدى غواشيه
ب: وكيف لا وأريج الروض أرجه
…
بما به تنتشى عقول ناشيه
صرى: أما ترى الروح في أرجائه رقصت
…
زهوا وعجبا ببادى الفضل فاشيه
ب: ذاك العلى الذي العلياء تخدمه
…
والسعد يقدمه لدى مماشيه
صرى: بحر العلوم أبو زيد ابن زيدان من
…
بدر العلا في علاه لا يماشيه
ب: لا زال يرقى من العلياء ذروتها
…
ولا أنيل مناه فيه واشيه
صرى: ما سرى الهم عمن أم ساحته
…
وطاب في مجلس رقت حواشيه
ومنها أعنى القصور الإسماعيلية (قصر النصر) الذي كان أسسه زمن خلافته في دولة أخيه السلطان الأفخم مولاى الرشيد، ذلك القصر المتسع الأكناف المعروف اليوم بدار لال بانى المحدث الباب بحومة الدريبة، بمقربة من مسجد القصبة الملوكية الذي تقام به الصلاة يوم الجمعة، وبه يكون احتفال الجلالة المولوية لصلاتها عند حلول ركابها الشريف بالعاصمة المكناسية حتى الآن.
ومنها قصر مولاى زيدان، ومنها قصر الشعشاع ولا يقصر قصر من هذه القصور عما فصلناه في القصر السابق قصر الستينية في الأبهة والزخرفة، وإن اختلفت أوضاعها في الاستطالة والتربيع، ولا يخلو واحد منها عن صروح شامخات يشرف منها على ضواحى مناظر مكناس الطبيعية المختلفة الشكل ما بين منخفض ومرتفع وأرجائه الأريجة، كما أنه لا يخلو واحد منها من مسجد للتعبد أو مساجد.
فمنها المسجد الأنيق الحافل ذو الصفوف التسعة، والأساطين الرخامية والقبة ذات الخصة العظيمة التي لا زالت قائمة إلى الزمان الحاضر، ومنها يدخل اليوم للضريح الإسماعيلى، طول هذه القبة كعرضها يبلغ طول هذا المسجد سبعا وثمانين مترا وعرضه تسعة أمتار وعشرون سنتيما، ويعرف هذا المسجد في العقود الحبسية بمسجد الرخام، والظاهر أنه إنما كان معدا للصلوات الخمس، فإن ثبت أنه كان للجمعة احتمل حينئذ أن يكون هو المراد بمسجد القصبة في قول أبي القاسم الزيانى: ولما ضاق مسجد القصبة أسس الجامع الأخضر أكبر منه، انتهى.
[صورة]
الرخامة الشمسية الموجودة الآن بجامع القصبة
[صورة]
صحن مسجد القصبة الإسماعيلية
ويكون الجامع الأخضر هو جامع لال عودة، فيكون كل منهما من تأسيساته ولكن الأظهر كما سنبينه بعد خلاف ذلك، ومع الأسف فقد خرب هذا المسجد وخرب سقوفه ومزقت أثواب بهجته كل ممزق، وفرقت أعمدته الرخامية أيدى سبأ ولم يبق منها غير خمسة منها أربعة لا زالت قائمة بمحالها ممثلة لما كان عليه ذلك المسجد من الضخامة، ومنها واحدة ملقاة على الأرض، والمسجد صار بعضه ممرا يدخل منه للضريح المذكور وللضريح المجذوبي في طريق الخراجة التي كان يخرج منها المولى إسماعيل قيد حياته لأداء الخمس في المسجد المذكور والبعض الآخر مقبرة ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وجامع لال عودة ينتظم من صفوف خمسة، وجناحين وصحن فسيح ينيف طوله عن خمس وعشرين مترا وعرضه عن ستة عشر، به قبتان إحداهما في الجهة الشمالية طولها أحد عشر مترا وعرضها ستة أمتار وسنتيمات، والأخرى في الجهة الجنوبية طولها سبعة أمتار وسنتيمات وعرضها ينيف على ستة أمتار، وبوسطه خصة من المرمر واسعة الأكناف يتفجر منها العذب الفرات ومدرسة بأسطوانة على يمين الداخل ذات بيوت تسعة، وغرفة يصعد إليها بدرج ستة عشر، وبإزاء هذه المدرسة المنار المتقدم الذكر في قصر الستينية يصعد إليه بمائة وإحدى عشرة درجة، وبهذا المنار مستودع معد لآلات التوقيت ولاستقرار القيم بالعمل بها في غاية اللطف تكتنفه منافع ومرافق.
ومن جملة آلات التوقيت العديمة المثال التي لا يوجد لها نظير رخامة شمسية في غاية الإتقان وقد كانت هذه الرخامة الشمسية آية في تحقيق الوقت، فيحكى أن ذلك استمر فيها إلى أن وقعت بين القيم بها وبين القيم بمثل ذلك بمستودع المسجد الأعظم داخل المدينة وهو الميقاتى الشهير السيد الجيلانى الرحالى منافسة في ذلك، حملت الثاني على أن أغرى من عوج شاخص الرخامة المحدث عنها فوقع الخلل
فيها بذلك وهذا الخلل الأعوجاجى وإن تلافاه القيم بالنظر في ذلك حينه، وهو الفقيه سيدي الحسن المنونى لكنه مات بعد ذلك فأدرك الرحالى بعد ذلك منيته في تعطيلها ولا زالت معطلة إلى الآن ملقاة في زوايا الإهمال غير مكترث بها، وقد كانت هذه الرخامة من صنع من كان في قبضة الأسر من النصارى العالمين بذلك الفن، ويدل لذلك تاريخها المسيحى المرقوم فيها بالقلم الرومانى وهو عام ثمانية وتسعين وستمائة وألف.
وقد جور بعض الفرنسيين أن تكون هذه الرخامة مهداة لمولانا الجد من سلطان فرنسا المعاصر له لويز الرابع عشر، وعضد ذلك بما كان بين السلطانين من المواصلة، وبما كان لسلطان فرنسا المذكور من الاعتناء بالآلات الشمسية على اختلاف أنواعها حتى كان يدعى بالسلطان الشمسى، فأجبته بأن هذا الاحتمال يبعده خلوها من نقش اسمى المهدي والمهدى له مع أهمية ذلك في الموضوع لما فيه من تخليد الفخر للجانبين، وبأنها لو كان الأمر فيها كذلك لكانت على جانب من الزخرفة عظيم، وما ظنك بهدية من أمير عظيم في قومه لأمير طائر الصيت في المشارق والمغارب فاستحسن ذلك مني.
ووراء المدرسة المشار لها غربا صحن فسيح طوله أمتار ثلاثون وعشرة سنتيمات وعرضه سبع وعشرون ونيف، وفي غربه مباح ذو أقواس خمس وأساطين أربع بناؤها باللبن والجيار، خر سقفه في هذه الأزمنة الأخيرة طول هذا المباح ثمانية عشر مترا ونيف وفي الجانب الشرقى منه سقاية ماء.
ولهذا المسجد بابان باب القصر الستينية المار الذكر -وليس هو الباب الذي تدخل منه الجلالة السلطانية اليوم للمسجد، بل سد ذلك الباب وأدخل في بيت من بيوت إحدى الدور ولا زال إلى الآن ظاهر الأثر، وإن تنوسي المرور منه وانقطع السبيل الموصل إليه واندثر- وباب نافذ إلى المدينة يدخل منه عامة المصلين من جيش وحشم وأتباع.
[صورة]
باب مقصورة مسجد القصبة
قلت: كذا وصف الباب الثاني من هذا المسجد غير واحد، وقولهم: وباب إلى المدينة إما أن يعني به بعد الانفصال من باب القصبة الموالي لجهته وهو باب منصور العلج، لأن الجامع المذكور داخله، وإما أن يبقى على ظاهره ويحمل ذلك على أن السور الذي به باب منصور لم يكن وقتئذ، وإما أن يقال إن مراد الزيانى ومن تبعه بالمسجد الأخضر المنتقل إليه من مسجد القصبة المعروف بهذا الاسم اليوم الذي كلامنا فيه، هو جامع الأنوار الكائن عن يسار الخارج من القصة على باب منصور العلج، والاحتمال الأول بعيد لخروجه عن الظاهر، والثانى أبعد منه لكون الواصفين لباب المسجد الذي الكلام فيه كلهم تأخرت أزمنتهم عن تلك البناءات كلها، مع تصريحهم بأن المولى إسماعيل أفرد قصبته عن المدينة وجعل براح الهديم بينهما والثالث موافق لحقيقة وصف البابين، لأن أحدهما وهو الكبير العمومى مفض للمدينة، والثانى وهو باب دويرية الكتب المقابلة الآن لدار أولاد عم الجلالة السلطانية العلامة المرحوم مولانا العباس مفضية للقصبة بلا شبهة، فلم يبق حينئذ إلا كون جامع الأنوار لا يعرف بالأخضر الذي عبر به الزيانى ومن تبعه، وهذا أمر قريب لأن أسماء الأماكن وما تعرف به تتبدل وتنتقل مع طول الزمان بما يعرض لها كما مر بك كثير من ذلك في هذا التقييد.
وأما كون جامع الأنوار من الإنشاءات الإسماعيلية فسيتبين لك أمره بعد وهناك تأتى بقية هذا المبحث إن شاء الله.
وقد قرأت في نقش زليج أعلى باب مسجد القصبة القائم الآن ما صورته: الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد نبيه وعبده، أمر بعمل هذا الباب المبارك مولانا إسماعيل أمير المؤمنين أيده الله ونصره، وكان الفراغ من إنشائه أوائل جمادى الثاني سنة تسعين وألف، وفي المسجد الأخضر قال بعض شعراء عصره من قطعة ما لفظه:
وإن ذكرت مصر بجامع أزهر
…
ففي القبة الخضرا بدور كوامل
وقرأت أعلى باب المقصورة الملوكية في نقش الخشب بالخط الكوفي الرائق من جامع القصبة المذكور ما لفظه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)} [الحج: 77] صدق الله العظيم.
صنع هذا عام ثمانية وثمانين وألف بالقلم الغباري، وقد كان أصلح هذا الخشب فسقط الصفر الموالي للألف إما لجهل مباشر الإصلاح أو غلطه، فأوقع الكثير من الناس في الوهم وأن ذلك اللوح صنع عام مائة وثمانية وثمانين، وذلك لا يصح بحال، قال بعضهم: وكل هذا لا يدل على أن أصل جامع لال عودة من الإنشاءات الإسماعيلية، أما المكتوب على الباب فلكونه لا ذكر لبقية الجامع فيه، وأما المكتوب على المقصورة فكذلك إما لكونه كان أنشأها به قبل ضيقه به فأقرت هناك بعد التحول عنه، وإما لكونها نقلت إليه بعد تخريب جامع الأنوار.
وفي هذا المسجد تقام حفلة صلاة الجمعة لدى الملوك أحفاد مولانا إسماعيل إلى الزمان الحاضر والغاية داخلة كما تقدم، وقد لعبت أيدي التلاشي والتخريب أدوارًا كثيرة بهذا المسجد رغما على ملازمة ملوكنا الجلة لصلاة الجمعة فيه وقت ما حل ركابهم الشريف بالعاصمة المكناسية، ولولا أن الله تعالى تداركه بذلك حتى رمم أكثره لأصبح كغيره في خبر كان.
ومن قصور الدار الكبرى أيضًا قصر الكشاشين، وهو عبارة عن فسيح مستطيل ذي أساطين مصطفة مبنية بالجيار واللبن والحجر عليها أقواس مرتفعة فاقع لونها تسر الناظرين، بعضها قبالة الداخل، وبعضها عن اليمين والشمال كلها مقبوة السقف، كان هذا القصر معدا للطبخ وشئونه وخزن لوازمه وسكنى القيّمات بمباشرة ذلك من وخش الرقيق وحشم الحاشية الملوكية تتخلل هذه القصور وتكتنفها مناهج مستطيلة مقبوة السقف ذات أُبهة ومهابة، في سقوفها كوات ينفذ منها
[صورة]
منبر جامع القصبة الإسماعيلية
الضوء لتلك الشوارع التي ساد السكون فيها، من تلك الشوارع ما خر سقفه، ومنها ما هو قائم السقف حتى الآن رغما عن التخريب الذي استأصل شأفة تلك المحاسن، وغير ماء بهجتها الذي كان غير آسن، فمع الأسف خلعت تلك المباني حلل الزينة وتوحشت بعد الأنس تلك الربوع، وأخنى الدهر بجديدها، وتولى متسلط النحس على سعيدها، فانتثر عقد نظامها وتفرقت أنقاضها في أقطار المغرب وبنيت منها المساجد والمدارس والرباطات والدور حسبما أفصح بذلك أبو القاسم الزياني في روضته وحفظته لنا تقاييد أسلافنا الكرام، وتلقيناه عمن تلقاه منهم وكشطت حلل تلك الجدرات التي طالما جرت على المتطاول ذيول الإعجاب وبدت عيون كواتها العديدة التي جفت جفونها المنام، لما دهاها حال اطمئنانها من الاغتيال وحق لمن بقي به رمق بعد أن أخذ على حين غفلة أن يتنبه، وبأعين النجوم في السهر يتشبه، وقد حفر هطال دموع تلك العيون في خدود تلك الجدرات أخدودا أسفر عن كونه كان وعاء لقنوات مجارى ماء الأمطار المنسدلة من أعلى السطوح إلى أسفل الوادي الساري في تخوم الأرض.
وقد أحاط هذه الدار العظيمة المقدار التي هي في الحقيقة مدينة بالأسوار الضخمة الشاهقة والأبراج والسقائل حتى صارت كأنها مركز حربي هائل. وَلَا فَنَدَ (1) إذا قلت: كانت مركزا حربيا من أعظم مراكز العالم الحربية، وقد أدركنا بقية أعمدة الرخام وكراسيه التي كانت محمولة عليها مباحات القصور الملوكية متراكما بعضها فوق بعض، منها ما هو ظاهر، ومنها ما غطاه الثرى يعثر عليه بالحفر، وقد كان الكثير من ذلك ملقى بباب قصر المحنشة، ولم يزل كذلك إلى أن دخلت الدولة الحامية فنقلت بعضه لدور كبراء موظفيها، والبعض الآخر للجنان العمومي الذي أحدثته بالمحل المعروف بالحبول -بفتح الحاء- وقد تلقينا من آبائنا
(1) فَنَدَ فَنَدًا: ضعف رأسه من الهَرَم، وكَذَبَ، وأتى بالباطل.
أنهم تلقوا من آبائهم أن جميع تلك الأعمدة مع كراسيها كان ملقى بقصر الستينية وغيرها من القصور المذكورة، ومنها نقله السلطان المولى الحسن لباب قصر المحنشة المشار له أوائل دولته، وكم اتخذت من ذلك الرخام من جوابي وصهاريج وزليج وألواح لعتبات الأبواب وغيرها ورتج وغير ذلك، وفرقت في بقاع المغرب وكثيرا ما كان يقع العثور على الأعمدة والكراسي الرخامية تحت الثرى عند حفر أساس أو غيره في ردم تلك المباحات التي لا زالت الآثار الدالة عليها شاخصة إلى الآن، كما أنه لا زال يعثر على زليج الأرض وقنوات مجاري المياه للصهاريج والجوابي سائر فروع القصور السلطانية عند ما تدعو الحاجة لنقل تراب أو حفر أساس ونحوه.
وكانت مدة الاشتغال في بناء قصور هذه الدار أعني دار الخلافة الموسومة باسم الدار الكبرى حتى الآن ثمانية أعوام، إذ كان الشروع في ابتداء تأسيسها على ما قاله الزياني وغيره بعد وفاة السلطان المولى الرشيد وجلوس السلطان المولى إسماعيل على منصة الملك، قال اليفرني في "النزهة" وكانت مبايعته رحمه الله في الساعة الثانية من يوم الأربعاء سادس عشر من ذي الحجة متم عام اثنين وثمانين وألف، ووافق ذلك ثالث عشر إبريل، انتهى وقريب منه في "روضة التعريف".
قلت: والذي في "الدر المنتخب" أن مبايعته بفاس كانت في الثانية من زوال يوم الأربعاء الخامس عشر من الشهر المذكور وأن ذلك وافق ثالث إبريل، انتهى.
وكون البيعة كانت في الخامس عشر من الشهر المذكور هو الذي في "نشر المثاني"(1) أيضا.
واقتصر في "السلوة" على حكايته الخلاف المذكور في ذلك وأما الزيانى في "البستان" وأبو محمَّد عبد السلام بن الخياط القادري في جزئه فقالا: إن وصول
(1) نشر المثاني - موسوعة أعلام المغرب 5/ 1999.
[صورة]
خبر موت المولى لرشيد بفاس كان في الخامس عشر من الشهر المذكور وفيه كانت البيعة، انتهى. وفيه تسامح.
وقال صاحب السر الظاهر: إن وفاة الرشيد كانت ثاني عيد الأضحى وأن بيعة المولى إسماعيل كانت في اليوم الخامس من وفاته، انتهى.
وهو محتمل لدخول يوم الوفاة في الأيام الخمسة المذكورة، فيكون قائلا إن البيعة في الخامس عشر ولزيادة الخمسة عليه، فيكون مارا على أنها في السادس عشر ولعل التحقيق ما جرى عليه صاحب النشر ومن وافقه، وكان انتهاء العمل فيها سنة تسعين وألف ويشهد لذلك ما هو متوج به بابها من الكتابة المتضمنة لتاريخ تمام العمل فيها ودونك نصه:
دار الخلافة لاح نور قبابها
…
تختال بين رياضها وهضابها
فكأنما الأنهار في جناتها
…
يمنى المليك الفخر يوم عبابها
مولاي إسماعيل من جُرْثُومَةٍ (1)
…
نقل الأئمة جده أوصى بها
يا راصدا لطوالع من سعدها
…
فنظام شملك في عضادة بابها
ومن تأسيساته السرداب الهائل الكائن تحت أرض فسيح قبة الخياطين ذو الأساطين المحكمة البناء والأقواس الضخمة الشاهقة، تمر فوقه الركبان، وتجر الدواب عليه الصخور العظيمة، وتسير السيارات البخارية المشحونة بالأثقال ذات البال آناء الليل وأطراف النهار، بل جعلت فوقه جنات ذات أشجار وبقول وصارت تسقى بالماء كل آونة فلم يؤثر عليه شيء مما ذكر، يعرف هذا البناء اليوم بحبس قارة، ويقال: إنه كان من جملة السجون المعدة للأسارى وغيرهم من أصحاب الجرائم العظيمة يبيتون به ليلا ويخرجون نهارًا للخدمة.
(1) جُرْثُومة الشئ: أصله.
قال أبو القاسم الزياتي: وكان في سجونه من أسارى الكفار خمسة وعشرون ألف أسير ونيف، وكانوا يخدمون في قصوره منهم: الرخامون، والنقاشون، الحجارون، والحدادون، والبناءون، والنجارون، والزواقون، والمهندسون، والمنجمون، والأطباء ولم تسمح نفسه بفداء أسير بمال قط -أي وإنما كان يفدي ببعضهم من أسر من المسلمين- وكان في سجونه من أهل الجرائم العظيمة كالسارق والقاطع والقاتل نحو الثلاثين ألفا كلها تقيل بالخدمة مع أسارى الكفار ويبيتون بالسجون والدهاليز تحت الأرض.
قال: وأمر الشيخ الحسن اليوسي مع المعتصم ابنه عام حجمها وهو عام واحد ومائة وألف بأن يبعث النصارى أسرى العرائش لحضرته فبعثوهم وكانوا ألفا وثمانمائة فكان يخدمهم في بناء قصوره -أي الخارجة عن قصور الدار الكبرى لانتهائها قبل التاريخ المذكور كما تقدم- من جملة غيرهم من الأسارى والمساجين ومن الليل يبيتون بالدهليز، انتهى.
قلت: استعمال المساجين بالخدمة نهارا وجعلهم بالسجن ليلا هو السنن الذي تفعله الدولة الحامية مع المساجين من الأهالي وكأنها أخذت ذلك من فعل المولى إسماعيل ولا يعرف اليوم الباب الذي كان يدخل منه لهذا السرداب والدخول إليه في الوقت الحاضر، إنما يقع من ثقب في سطحه حذو الجدار المحيط ببراح قبة الخياطين المذكورة من الجهة الغربية.
ومنها الصرح الشاهق المبني فوق ساباط الباب المعروف الآن بباب الرايس ذو الأقواس العشرة، خمسة عن يمين المار فيه، ومثلها عن شماله المحمولة على الأعمدة الحجرية العظيمة التي لا زالت موجودة قائمة لهذا العهد، أربعة عن اليمين ومثلها عن الشمال.
ومنها الصرح الهائل الذي كان فوق القصر المعروف اليوم بأروى الجزارة الواقع بعقبة الضريح الإسماعيلى أمام مكتب الاستعلامات الآن، والهري العظيم الموجود إلى الوقت الحاضر داخل عرصة البحراوي الشهيرة، كان هذا الهري في زمن السلطان المولى الحسن مُعَدًّا لخزن الحطب والصرحان معا أصبحا في خبر كان، وإنما سمي القصر بأروى الجزارة لأنه كان معدا لنزول الجزارين الملازمين للحضرة السلطانية في الظعن والإقامة وربط دوابهم به بعد تخريبه فيما خرب وزوال زينته وقد جدد بعضه الموالي للعقبة المذكورة بعد حلول الدولة الحامية بين أظهرنا.
ومنها القصر المعروف اليوم ببين القبب الكائن بباب ابن القاري الداخلي المجاور لجنان البحراوية والأترجية من الجنة السلطانية.
ومنها القصر المعروف بدار لال صفية الذي به اليوم سكنى أبناء عم الجلالة السلطانية العلامة النقاد مولانا العباس بن عبد الرحمن بن هشام المقابل بابه الحالي لباب منصور العلج.
ومنها الهريان العظيمان الموجودان بإزاء صهريج السواني أحدهما يحتوي على ثلاثمائة وخمس وأربعين أسطوانة طوله مائة ونيف وثمانون مترا وعرضه لا يقل عن تسع وستين مترا، كان هذا الهري على جانب من الضخامة عظيم يشخص للعيان بسطة ملك منشئه ومقدرته على الإتيان بكل عجيب، كان سطحه بمثابة برج عظيم يوضع عليه من الآلات الحربية كل مدهش غريب الشكل، متناه في العظم بالنسبة لزمانه الغابر.
وقد لعبت أيدي البلى بجديده، وخرت سقوفه التي كانت تضاهي شوامخ الجبال، ومع الأسف فلا زالت عوامل الخراب عاملة فيه إلى الوقت الحاضر وهو اليوم وكر للبوم والهوام وأنواع الحشرات، وهذا الهري هو الذي قال فيه
أبو القاسم الزياني: وجعل بها هريا لخزن الزرع مقبو القنانيط يسع زرع أهل المغرب كله اهـ.
وقد كان جعل لسطحه طريقا تستوي مع الأرض في بعض الجهات يقال إنها كانت مصعدا للجمال الحاملة للقمح فتذهب بأحمالها فوق السطح حتى يوضع حول الكوة المفتوحة فيه لصب القمح لذلك الهري منها فيستغني بذلك عن فتح باب الهري اللاصق بالأرض إلا عند حصول موجبه، ولو لم يكن من آثار عظم ثروة ملكه قدس الله روحه إلا هذا الهري وما أعد له وما ذكر من صفات الخزن فيه لكفى، فكيف وسائر تصرفاته الهائلة إنما هي بعض آثار ثروته البعيدة عن الوصف.
والهري الآخر بإزاء سابقه متصل به لا زال سنين السقف حتى اليوم رغما عما نبت عليه من الأشجار حتى صار كأنه غابة من عدم المباشر ومن يهتم بتعاهد إصلاحه، بهذا الهري عدة آبار في غاية العمق ذات مياه عذبة طافية وجعل لكل بئر دولابا عظيما ينقل منه الماء ويصبه في المجاري المعدة له إلى أن يصب بالصهريج صهريج السواني المذكور، يبلغ طول هذا الهري سبعا وسبعين مترا وكسرا، وهو الذي قال فيه أبو القاسم الزياني: وجعل بجواره يعني جوار الهري المتقدم الذكر سوانى (1) للماء في غاية العمق مقبو عليها، وفي أعلاها سقالة مستديرة لوضع المدافع والمهاريز ترمي لكل ناحية، اهـ.
قلت: وقد تهدمت تلك السقالة ولم يبق لها في الوقت الحاضر أثر، وجعل بمقربة من هذين الهريين صهريجا كالبحيرة يجتمع فيه الماء الجاري في تلك المجاري تسقى من فيضه رياض وبساتين ينيف طول هذا الصهريج على ثلاثمائة متر، وعرضه على مائة وأربعين، ولم يكن مقصده المحمود في حفر تلك الآبار واختراع
(1) السَّانِيَةُ: استقت أو أخرجت الماءَ من البئر ونحوها. والسّانيةُ الأرضَ: سَقَتْهَا.
ذلك الصهريج يرمي لتلك الغاية فقط، بل لغرض أشرف وأسمى وأهم لا يعقله إلا المهرة السياسيون العالمون.
وتلك الغاية هي بقاء سكان المدينة في اطمئنان وأمان في حالتي المسلم والحرب مع عتاة البربر، إذ المياه الداخلة للمدينة إنما تأتى من بحبوحة القبائل. البربرية، وقد حفظ التاريخ ما كان لهم من التمرد وإباية الامتثال للأوامر المخزنية وعدم تلقيها بالسمع والطاعة والنظر لمن عداهم، وبالأخص سكان الحواضر بعين الصغار والاحتقار، وأقل ما يتوصلون به لأذاهم صرف مواد المياه عنهم والماء ضروري في حياة عموم الإنسان بل كل شيء حي، ولذلك يرى كل كيس متأمل لا تعزب عن علمه مقاصد العقلاء ذوي الآراء السديدة والأفكار المصيبة، أن مطمح نظر هذا السلطان العظيم الشأن فيما يوطد الأمن ويجلب الراحة لرعيته عموما ولمن بعاصمة ملكه من السكان خصوصا، ولذلك تراه بالغ في تحصين هذه القلعة فأحاطها بأسوار عديدة لا يخلو سور منها عن سقائل وأبراج مشحونة بالعدة والعدد، وادخر بها من الأقوات والذخائر والقوة الحربية ما تؤمن معه كل غائلة وتكسر به شوكة كل عاد باغ ومارق عن الطاعة ولزوم الجماعة، ولم يزل يبالغ في التحصين حتى صير عاصمة ملكه حاضرة في بادية وبادية في حاضرة بحيث يمكن لأهلها الاستغناء عن كل ما يجلب إليها من الخارج من زرع وضرع، فلهم من المزارع بداخل سورها ما هو فوق الكفاية لأنواع الحراثة ورعي الماشية والجدران الحصينة وراء الكل ومحيطة بالجميع، والأبواب ذات الأبراج والسقائل المدهشة الحصينة مغلقة في وجوه البغاة ذوي الشقاق.
ولم يكن ذلك لخوف منه ولا لجبن فيه كما توهمه الجهلة الحاسدون ومن في قلبه مرض من الملحدين والقاصرين، إذ قد نص التاريخ لنا ما كان مجبولا عليه من الشجاعة والإقدام وقوة الجأش، فقد قال مؤرخ الدولة العلوية أبو القاسم الزياني: وبالشجاعة أدرك السلطان إسماعيل ما أدرك وبلغ ما بلغ رحمه الله،
وكيف يتوهم جبنه وخوفه ذو بصيرة والبربر الذين احتاجت العاصمة إلى كل هذا التحصين من أجلهم، لم يستقر لمحصنها أبي النصر مولانا إسماعيل قرار حتى نهض إليهم وأوقع بهم الإيقاعات التي تحدث التاريخ بها حتى استأصل قوتهم وسلبهم السلاح والكراع وصيرهم عملة لبيت المال ولأهل العاصمة يعيشون في مهنة ذلك لا غير، حتى كانت المرأة تخرج والذمي من وجدة إلى وادي نون ولا يوجد من يسألهما من أين وإلى أين، ولم يبق بالمغرب سارق ولا قاطع ومن ظهر عليه شيء وهرب يؤخذ في كل قبيلة مر بها وفي كل قرية، وكلما بات مجهول الحال بحلة أو قرية يثقف بها إلى تبيين براءته، وإن تركوه فإنهم يؤاخذون به ويدون ما سرقه واقترفه من الجرام كالقتل وغيره كما قاله الزياني وغيره، أم كيف يرمي إلى ذلك فكر ذي لب وهو يرى ويسمع ما حفظه التاريخ من أحوال عواصم الدول الكبار من المبالغة في التحصين، حتى إن الآستانة عاصمة تركيا قد أحاط بها بنوها الأولون من الروم قبل حلول تركيا بها جدران ثلاثة عظيمة متوالية في كل جهاتها الثلاثة.
وأما الرابعة فالبحر متصل بها وحتى إن عاصمة مدينة دهلي أعظم مدن الهند بل مدن الإِسلام كلها بالمشرق، سورها المحيط بها لا يوجد له نظير.
قال ابن بطوطة وغيره: عرضه أحد عشر ذراعا ويمشى في داخل السور الفرسان والرجل من أول المدينة إلى آخرها قال: وأسفله مبني بالحجارة وأعلاه بالآجر وأبراجه كثيرة متقاربة، قال وهي من بناء الكفار وحتى إن تَدْمُر -بفتح التاء وسكون الدال وضم الميم- إحدى مدن الشام الشهيرة التي بلغت من التوثيق وشدة التحصين ما نسبت به إلى البناء السليماني بمباشرة الجن والشياطين.
وفي توصيف بنائها قال في "معجم البلدان": هي من عجائب الأبنية، موضوعة على العمد الرخام، زعم قوم أنها مما بنته الجن لسيدنا سليمان عليه السلام، ونعم الشاهد على ذلك قول النابغة الذبياني:
إلا سليمان إذ قال الإله له
…
قم في البرية فاحدُدْها عن الفَنَد
وخّيِّس (1) الجِنَّ (2) إني قد أمرتهم
…
يبنون تَدْمُرَ بالصُّفَّاحَ والعَمَد (3)
وأهل تدمر يزعمون أن ذلك البناء قبل سليمان بن داوود عليهما السلام بأكثر مما بيننا وبين سليمان ولكن الناس إذا رأوا بناء عجيبا جهلوا بانيه أضافوه إلى سليمان وإلى الجن (4) اهـ. وأصله للجاحظ.
وفي كتاب مذاهب الأعراب وفلاسفة الإِسلام ما نصه، قالوا: ولكنكم إذا رأيتم بنيانا عجيبا وجهلتم موضع الحيلة فيه أضفتموه إلى الجن ولم تعانوه بالفكر. وقال العرجي:
سدت مسامعها لقرع مراحل
…
من نسج حسن مثله لا ينسج
اهـ.
وهكذا السور المحيط بأنطاكية فقد تحدث التاريخ بعظمه عرضا وعمقا (5).
ولنقصر السير في متسع هذه المهامه، وفيما ذكرناه تنبيه للمصنف من سنة أوهامه.
على أن مباهاة العظماء من ملوك الجاهلية والإِسلام بالبناءات الهائلة أمر معروف، ومهيع مسلوك غير مخوف، ففي "نفح الطيب": ولا خفاء أنه أي البناء يدل على عظم قدر بانيه، ولذلك قال أمير المؤمنين ناصر الدين المرواني باني الزهراء رحمه الله تعالى حسبما نسبهما له بعض العلماء:
(1) تحرف في المطبوع إلى: "وجيش" وصوابه لدى ياقوت.
(2)
تحرف في المطبوع إلى: "الجنى" وهو غير صحيح عروضيا، وصوابه لدى ياقوت، والبيتان من بحر البسيط.
(3)
معجم البلدان 2/ 17.
(4)
معجم البلدان 2/ 17.
(5)
انظر في ذلك ياقوت، مادة (أنطاكية).
هِمَمْ الملوك إذا أرادوا ذكرها
…
من بعدهم فبَألْسُن البُنْيان
إن البناء إذا تعاظم قَدْرُهُ
…
أضحى يدلّ على عظيم الشان (1)
ومن إنشاءات مولانا إسماعيل في قلعته القصر المسمى لهذا العهد بدار البقر وهو المعنون على بابه بباب مسعود بن العربي، وهو متصل بقصر المحنشة والمدرسة، ومجاور لباب مراح مقر المماليك الملوكية وموقع هذا القصر شرقي صهريج السواني، ومن جهة الجنوب النهج العمومي هناك أضيف القصر للبقر لأن السلطان الأكمل المقدس مولانا الحسن كان جعله مقرا للبقر الحلوب الذي يقام من حليبه في سائر الظروف السنوية تموين الحليب لداره العلية، وكذا جعله مقرا للقيمين بحليبها تحت إشراف أمين حتى يصل لمحله بالدار المولوية ليد المكلف بتقسيطه على أفراد العائلة الملوكية ثمة، والزائد على التقسيط من الزبد المستخرج منه على ما اقتضته أنظاره السمية وأوامره العلية، يجمع ويحمل لجنابه العلى كل سنة حيثما كان من إيالته السعيدة.
والعادة في كل بقرة انقطع حلبها نقلها للعزائب السلطانية ويؤتى بالحلوب بدلها، وبذلك كان الحليب لا ينقطع من الدار السعيدة في سائر فصول السنة، وعلى ذلك استمر العمل إلى آخر الدولة العزيزية، ثم انقطع وفني السكان القيمون وخرب القصر وصار براحا تزرع فيه البقول والخضروات، والعادة المحكمة إلى الوقت الحاضر هي دخول سلطان الوقت عند الإياب من حفلة صلاة الأعياد من باب مسعود المذكور للدار العلية تيمنا بالسعادة التي في اسم من نسب إليه وقد كان صلى الله عليه وسلم يغير الأسماء القبيحة ويحب الفأل الحسن.
ومن فاخر تأسيساته في قلعته الإصطبل بل القصر الذي أعده لربط خيله ذلك القصر الباهي الباهر، الذي لم يزل أثر بنائه التاريخي دينا للأوائل على
(1) نفح الطيب 1/ 521.
.
الأواخر، ذلك القصر هو المعروف اليوم باسم الأروى ذلك القصر هو الذي أشار إليه أبو القاسم الزياني بقوله: وجعل لها إصطبلا لربط خيله وبغاله، طوله فرسخ مسقف بدائرة البرشلة على سواري وأقواس هائلة كل فرس مربوط اثنى عشر ألف فرس وبين الفرس والفرس عشرون شبرا، يقال إنه كان مربط اثنى عشر ألف فرس مع كل فرس سائس ونصراني من الأسارى لخدمته، وفي هذا الإصطبل ساقية للماء مقبوة الظاهر، وأمام كل فرس محل مفتوح كالمعدة لشربه، وفي وسط هذا الإصطبل قبب متعددة لوضع سروج الخيل على أشكال مختلفة اهـ.
وفي هذا الإصطبل هري عظيم على طول الأروى لخزن الشعير المعد للعلف يسع شعير المغربين، وهذا الهري لا زال قائما حتى الآن، إلا أنه قد خرَّ بعض سقفه، وهذا السقف بعضه الآن مساو لأرض الأروى والبعض الآخر بارز عنها وبه أبوابه، ومن الغريب أن الزياني ومن تبعه لم يتعرضوا لذكره مع كونه من هائل المباني الإسماعيلية التي لا زالت قائمة العين كما ذكرنا. قال أبو القاسم الزياني: وبجوار هذا الإصطبل بستان على قدر طوله فيه من شجر الزيتون وأنواع الفواكه كل غريب عجيب طوله فرسخ وعرضه ميلان اهـ.
قلت: صار هذا البستان قبل اليوم دورا للجيوش السلطانية، وغالب دوره لا تخلو عن غراسات ويعرف اليوم باسم الزيتون، صار هذا الاسم علما له بالغلبة.
ومن المباني الهائلة بهذا الإصطبل أيضا هيكل الهري المائل الآن فيه وهو هيكل عظيم هائل اشتمل على أهرية منها هري سبع قبب. وقد دخلنا هري سبع قبب هذا فوجدناه انتصب من بناء مهول مدهش يمثل عظمة بانيه وكمال اقتداره، وبه ست قبب محيطة بالقبة الوسطى العظيمة التي هي سابعة القبب، يقال: إن هذا الهري كان معدا لوضع السلاح الحربي فيه حتى يحتاج إليه، وقد كان السلطان العظيم الشأن المولى حسن عين هذا الهري لخزن البارود ثم بعد مدة طرأ عليه ما
أوجب نقل البارود منه، وذلك الطارئ هو حدوث بلل بأرضه لم يعهد فيه قبل فنقل منه ووضع بهري آخر حذوه، ولم يزل مصونا به إلى أن حلت الدولة الحامية وألقته في صهريج السواني التقمته أفواه قنوات مجاري مياهه أيام امتلائه.
وبطرف هذا الهيكل باب يصعد منه في مطلع بدون درج على هيئة مطلع منار حسان برباط الفتح وجامع الكتبيين بمراكش إلى الصرج العظيم المحمول على هذا الهيكل الفاخر المساوي له طولا وعرضا وارتفاعا، وهذا الصرح هو المعروف اليوم باسم المنصور، اشتمل على عشرين قبة في كل جهة قبب خمس، الخامسة في كل ربع هي الوسطى وهي أكبر قبب ذلك الربع مع كونها مربعة ومساوية لمقابلتها، وبكل قبة شباك يشرف الناظر منه إما على العاصمة تماما وبسيطها، وإما على ما حواليها ينيف طول ذلك الصرح والهيكل المحمول هو عليه على مائة متر، وعرضهما سبعون وفي هذا الصرح يقول الكاتب أبو حفص الحراق:
أنا قصر العتاق من الجياد
…
بناني الله في نحر الأعادي
على يد عبده المنصور حقا
…
وصلت على القصور بكل نادي
وكيف لا أصول على المبانى
…
وإسماعيل قد أسمى عمادي
وشيدنى بتوفيق ويمن
…
وعمرني بآلات الجهاد
وروع بي الصليب وعابديه
…
فنال العز من رب العباد
أدام الله ملكه في هناء
…
وأعقابه إلى يوم التنادي
قلت: قوله بناني -هو بالباء في أوله من البناء ضد الهدم ولا يصح أن يكون بالفاء من الفناء بمعنى العدم، لأنه إنما يتعدى بالهمز وهو في البيت متعد بنفسه ولأن الإتيان به في طالعة مديح بناء ذلك القصر مما يتشاءم منه لأنه دعاء
بإعدامه، وهو كالمنافي للمقصود. هذا وليس يقصر ارتفاع هذه الهياكل وصرحها عن أربعين مترا وذلك أيام بهجته وشبابه.
ومن المفاخر الإسماعيلية المعصرة الفاخرة البناء الواقعة في الجانب الشرقي من أروى مزيل التي صارت اليوم معملا للصناعة الحديدية، يقال إن زيتون حمرية كان يطحن بهذه المعصرة.
وقد وصف هذه القصبة الإسماعيلية بعض من كان مستخدما في بنائها من أساري الأورباويين وهو مويت الفرنسي في كتابيه اللذين وضعهما في وصف المملكتين الرشيدية والإسماعيلية وفتوحاتهما وقضية أسره فيهما فقال: إنها في الجنوب الشرقي للمدينة، وأن ابتداء بنائها عام أربعة وسبعين وستمائة وألف مسيحي، وطولها أكثر من عرضها، كما أن عرضها من الجانب الجنوبي الغربي أقل من عرضها من الجانب الجنوبي الشرقي.
ولها ثلاثة أبواب أعظمها الذي بالجانب الجنوبي الشرقي ويسمي باب الخلاء أي المفضي لخارج المدينة، على جانبيه برجان عظيمان عاليان مربعان على كل واحد منهما ثلاث شرافات على هيئة نور السوسان بنتهما الأسارى عام سبعة وسبعين وستمائة وألف مسيحي. وهذا الباب يقابل المقبرة.
والباب الثاني يسمى باب الحجر لبنائه بالحجر المنحوت وهو المقابل لروى مزين.
والثالث يسمى باب المدينة وهو المقابل لها ثم هذه القصبة لها ثلاثة أسوار من جهة الشمال الشرقى عرض أولها ستة أشبار، وعلى طرفيه برجان مربعان ذوا شرافات، وعرض السور الثاني ثلاثون شبرا، وبين هذين السورين فسيح مربع يسمى روى مزين والثلاثون شبرا التي في عرض الحائط الثاني لم تستمر في عرض
الحائط كله، بل أسقط البناءون منها حتى صار البارز منه عشرة أشبار بني على طرفيه جداران صغيران عرضهما ثلاثة أشبار وعلوهما قامة وبينهما داخل الجدار المذكور يطوف على القصبة العبيد الساكنون بالأبراج من غير أن ينظر إليهم أحد لا من داخل القصبة ولا من خارجها.
وأما السور الثالث وهو سور قصر الحريم وهو أعلى من الأولين وبه كوات وفرج وعليه يطوف عبيد الدار المخصيون وليس على القصبة من الجهة الأخرى إلا سور واحد عرضه عشرة أشبار، وله أبراج متينة شاهقة مربعة من جملتها معقلان: أحدهما في جانب القصبة الشرقي، والآخر في جانبها الغربي.
وفي الجانب الجنوبي من هذه القصبة قصبة صغيرة بنيت سنة ثمانين وستمائة وألف مسيحية تسمى الأوَدايَة، عرض أسوارها ستة أشبار، ولها أبراج مربعة بشرافاتها تفضل بين القصبتين مقبرة، قال: وللقصبة الإسماعيلية منظر رائق من بعيد. قال: وتتصل بها مدينة مكناس من الجهة الشمالية الغربية. قال: وفي عام واحد وثمانين وستمائة وألف اشترى مولاى إسماعيل الجنات المجاورة للجنان الذي أنشأه على هيئة أكدال بمراكش، وكان قصده أن يجعل دائرته ثلاثة كيلو مترات، وقد كمل عمله في شهر واحد استخدم فيه في أبان المطر الغزير الأسارى والعبيد والقواد والأشراف وغيرهم كما خدم فيه بنفسه وكذا خدم بنفسه في بناء قصوره اهـ.
قلت: أما باب الخلاء المذكور فهو المعروف اليوم بباب الرايس، وإنما كان يسمى باب الخلاء زمن خدمة هذا الأسير بالبناءات الإسماعيلية، وإلا فقد صار باب العمارة، وفي وسط القصبة ومن هنا يفهم أنه لم يصف القصة بتمامها لأنها زادت بعده كثيرا، والباب المفضى للخلاء من تلك الجهة هو باب الناعورة البراني والمقبرة التي أشار لمقابلة باب الرايس لها هي مقبرة سيدى عمرو الحصيني، ومقابلتها له ليست حقيقية، بل هي مقابلة في الجملة لأن الخارج من باب الرايس
تكون المقبرة عن يساره، وقد حال الجدار المار فيه ماء شرب المدينة المقابل لباب القصر الملوكي المسمى بالمدرسة بين المقبرة والباب المذكور.
وأما باب الحجر فإنه لا زال يعرف بهذه الإضافة إلى الآن، وهو الذي يدخل عليه لحومة سيدي النجار ويمر فوقه لحومة الدريبة وكلام هذا الأسير فيه يدل على أن باب أبي العمائر الواقع خارج هذا الباب لم يكن في رمنه وكذا باب المرس وإنما حدثا بعده، وهو قد كان المولى إسماعيل مَنَّ عليه بالفكاك من الأسر في جملة سبعين أسيرًا عام واحد وثمانين وستمائة وألف مسيحى.
وأما باب المدينة الذي ذكره فهو المعروف بباب منصور العلج، وكلام هذا الأسير نص في كون أصل هذا الباب للمولى إسماعيل فولده مولاي عبد الله إنما نمقه كما يأتي ذلك بحول الله.
وأما القصبة الصغيرة التي قال الأسير إنها في الجانب الجنوبي الشرقي فهي قصبة هدراش، ونسبته إياها للأوداية لعل ذلك كان لسكنى الأوداية بها أول الأمر، والمقبرة الفاصلة بين القصبتين هي مقبرة الحصيني المتقدمة، وأما قوله: روى مزير، فهو عنده آخره راء، الشائع في ألسنة العامة آخره نون، والذي يكتبه الموثقون والمتفاصحون آخره لام، ويذكر أن مزيل المضاف إليه كان قيما على أروى خصوصية هناك، وهو من أرقاء السدة الملوكية، وبالأسف فقد أصبحت مشيدات هاتيك القصور بلاقع، ولم تلف لتلافي أشلائها من راقع، استعمرتها أنواع العصافير والحشرات ودرست معالم تلك الزينة الثمينة، وخربت تلك القبب بل انمحت آثارها وجعل عاليها سافلها وإلى الله عاقبة الأمور.
ولما وقفت على تلك الرسوم الدارسة، المستوحشة بعد أن كانت مؤنسة، وطال تدبري في مبداها والمآل، تذكرت ما أنشاه ابن عربي الحاتمي في كتاب "المسامرات" لما دخل الزاهرة فوجدها بلاقع إذ قال:
ديار بأكناف الملاعب ترتع
…
وما إن لها من ساكن وهي بلقع
ينوح عليها الطير من كل جانب
…
فتصمت أحيانا وحينا ترجع
فخاطبت منها طائرا متفردا
…
له شجن في القلب وهو مروع
فقلت على ماذا تنوح وتشتكي
…
فقال على دهر مضى ليس يرجع
وخيل لي أنها تنشدني قول من قال:
الله أخر مدتي فتأخرت
…
حتى رأيت من الزمان عجائبا
وليس ببعيد من طريق الاعتبار أن تكون الحكمة في سرعة تخريب تلك القصور وغيرها مما يأتي من البناءات الإسماعيلية على عظمها وثخانة بنائها القاضيتين بالنظر للعادة بتأبيدها في الجملة جعل ذلك في مقابلة هدم قصر البديع الذي كان أسسه بمراكشة السلطان أبو العباس أحمد المنصور السعدى الملقب الذهبي، لفيضان الذهب في زمانه حتى قيل كانت ببابه أربع عشرة مائة مطرقة تضرب الدينار دون ما هو معد لغير ذلك من صوغ الأقراط والحلي وشبه ذلك -المبتدأ تأسيسه في شوال عام ستة وثمانين وتسعمائة، واتصل العمل فيه إلى عام اثنين وألف ولم يتخلل ذلك فترة، وفي عام تسعة عشر ومائة وألف أمر مولانا إسماعيل بهدمه فهدمت معالمه، وبددت مراسمه، وغيرت محاسنه وفرق جمع حسنه وعاد حصيدا كأن لم يغن بالأمس.
قال في "نزهة الحادي" تأملت لفظ البديع فوجدت عدد نقط حروفه بحساب الجمل مائة وسبعة عشر، وهذا القدر هو الذي بقي فيه البديع قائما عامرًا فإنه فرغ منه عام اثنين وألف، وشرع في هدمه عام تسعة عشر ومائة وألف، فمدة بقائه بعد تمام بنائه مائة وسبعة عشر سنة على عدد اسمه وذلك من غريب الاتفاق اهـ، وكون الجزاء من جنس العمل أمر معهود في التصاريف الإلهية في كثير من
الجزئيات، وليس هذا بمزاحم لما أشار البعض إليه في حكمة هدم البديع من كون أنقاضه صارت بعد هدمه كالراجعة لأصولها، إذ ما من نقطة مغربية إلا وصار إليها في الأغلب بعض أنقاضه، كما أن القوة المخزنية كانت ألزمت وقت بناء البديع سائر النقط المغربية حمل ما قدرت عليه مما لديها من مقومات بناء قصر البديع المذكور وإيصاله إلى محل بنائه.
قال في "النزهة" حتى إنه وجدت بطاقة فيها إن فلانا دفع صاعا من جيار حمله من تنبكتو وظف عليه في غمار الناس اهـ. فكان تفريق أجزائه بعد الهدم وفق ما جمعت عليه حين البناء وذلك أيضا جزاء من جنس العمل جزاء وفاقا والحكم والنكت لا تتزاحم على أن ما ذكروه هو حكمة لهدم البديع، وهذا الذي أشرنا إليه هو حكمة لهدم ما شيده سيدنا الجد هادم البديع برد الله ثراه.
وفي كل شيء له آية
…
تدل على أنه الواحد
فليعتبر بذلك البصير، وليراقب فيما يأتيه وما يذره الآخذ بالنواصي الوارث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين، وليعلم أنه كما يدين يدان.
ومن تأسيساته الفائقة العجيبة التي لم ينسج على منوالها ناسج مدينة الرياض العنبري، جوار قصبته السعيدة لا زال موقعها إلى الآن بدخول الغاية يعرف لدى الجمهور بالرياض، خارج باب زين العابدين، أخذ أبواب المدينة اليوم كان عينها لأخواله الأوداية عام ألف وثمان وثمانين كما في "الروضة السلمانية" وأمرهم ببناء دورهم بها.
وفيها كانت دور العمال والكتاب وذوى الحيثيات من أعيان الدولة، قال أبو القاسم الزياني: وكانت مدينة الرياض زينة مكناسة وبهجتها، وبها آثار أهل دولة مولانا إسماعيل كل من كان له وظيف بخدمته بني داره بها وتنافس العمال والقواد
في بناء القصور والدور، فقد كان بدار على بن يش أربعة وعشرون حلقة يجمعها باب واحد، وكانت دار عبد الله الروسي وأولاده أعظم منها كانت حومة وأمثالها من القواد، وبنى كل عامل مسجدًا في حومته وبوسطها المسجد الأعظم الإسماعيلي ومدرسته وحمامه وفنادقه وأسواقه الموقوفة عليه وكانت تنفق فيها البضائع التي لا تنفق بغيرها. اهـ.
هذا وقد طارت الركبان وقص التاريخ لنا ما كان لسيدنا الجد الأكبر السلطان المولى إسماعيل من الاهتبال بأمر هذه المدينة مدينة الرياض المذكورة، وما كان لذويها لديه من شفوف المكانة، وناهيك أنها كانت كرسي الوزارة في دولته، بل كانت محيي رحال أولي الأمر من رعيته في عصمته، شيد فيها المسجد الأعظم الحافل الذي فاخرت به الأواخر الأوائل، وشيد بها الدور والقصور والأسواق، والحمامات، وغير ذلك من الرباع والعقار، ووقف الجميع على ذلك المسجد الفاخر.
ولقد وقفت في بعض التقاييد التي يكاد القطع يحصل بصحتها والعقود القديمة التي لا مطعن فيها على ما صورته: الحمد لله الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا، ولا يخيب لمن أخلص له النية أملا، والصلاة والسلام على سيدنا محمدا آخرا وأولا، وبعد فإن مولانا أمير المؤمنين، الموفق بتوفيق المعين المتوكل في جميع أموره على رب العالمين، المنتخب من عترة النبي الطاهر لصلاح الدنيا والدين. عز الإِسلام والمسلمين. تاج الملوك المجاهدين، الملك الهمام الذي اعتز الإِسلام تحت لوائه، ورتع الأنام في ظل هديه الصالح واهتدائه، وأسس قواعد الملك الذي أناف على ثواقب الكواكب شامخ بنائه، ذو المجد الأثيل، والفخر الأصيل. أبو الوليد مولانا إسماعيل، شكر الله أنظاره، وخلد مآثره وآثاره، وعمر بالنصر العزيز منازله ودياره، ابن مولانا الشريف، العلى القدر المنيف، لما وصل
الله لخلافته العلية ما عود، ومتع مما خول وأعان على ما خلد، أعلى الله منار عدلها، وشكر مكارم قولها وفعلها، جاهد في الله حق جهاده، حتى استخلص من أيدي الكفار رقاب عباد الله وحصون بلاده، وجدد ما اندثر من العمائر، وشيد ما تركه الأوائل للأنام من المآثر، إلى غير ذلك من المآثر الحسان، الدالة على معاليه في كل زمان، اللهم كما نصرت به الدين، وأيدته على أعدائك الكافرين، وجعلته رحمة للعباد، وعصمة للبلاد، ونقمة لأهل الفساد، فأكرم اللهم خلافته العزيزة بطول البقاء، وألزم أوامره وصوارمه أقوم الاضاء.
وحين بوأه الله المراتب العلية، والأفعال الزكية المرضية. صرف همته لتشييد المساجد، وتشهير المعاهد، وخصوصا مسجد المدينة العليا الجديدة العنبرية الذي جعل له من الأوقاف داخل المدينة وخارجها ما هو مرسوم بالورقات الثلاث قبل هذه المواليات لها وقف شهيداه الواضعان لاسميهما عقب تاريخه مع ناظر المسجد في حينه، وهو المكرم عبد الوهاب ابن الناظر المكرم عبد العزيز حجاج على عين جميع أوقاف المسجد المذكور عمره الله بدوام ذكره داخل المدينة المذكورة وخارجها، كل وقف منها على انفراده، وحازه معاينة، وجدد الحوز، ولما تحقق عند العلامة القاضي بحضرة مولانا العلية، وخطيب منبرها العالي المخصوص لديه بترفيع المزية. المصروف إليه خطاب القضاة بإيالته الحسنية، قاضي الجماعة، ومصرف الأحكام المطاعة، سيدي محمَّد أبو مدين بن حسين السوسي ما عليه الناظر المذكور من الحزم، والسعي في المصالح والعزم، أوصاه أن يعمل على ما يقربه عند الله من مرضاته، ويظفر بجزيل مثوباته، وفي أواسط رجب الفرد عام ثمانية ومائة وألف الحمد لله شهد واضع اسمه عقب تاريخه بمعرفة المواضع المقيدة بالقوائم الست بمحوله مع ما في القائمتين أعلاه معرفة تامة كافية ويشهد مع ذلك بأنها محبسة على المسجد الأعظم، من المدينة العليا المختطة عن الإذن العلى بالله
من قبل مولانا المنصور بالله الإمام العدل المعظم المتواضع لذكر الله ورسله، فرع الدولة الحسنية وأمكن ركنها، حامي حمى خلافة الإِسلام، مولانا إسماعيل بن مولانا المقدس مولانا الشريف الحسني أمده الله بعزيز تأييده وبمعونة نصره ورشده آمين.
وهي المسماة بالرياض العنبري عمره الله بدوام ذكره وحرسها حبسا يجري مجراها ولا يحيد عن طريقها وسبيلها مؤبدا ووقفا مخلدا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، ومن بدل أو غير فالله حسيبه وسائله وولي الانتقام منه، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فمن عرف ذلك كما ذكر قيد به شهادته في أواخر جمادى الثانية عام ثمانية ومائة وألف، الحمد لله الذي جعل الخلافة شمسا من عنصر النبوءة فأضاءت على أديم البسيطة أنوارها، وارتفع إلى السها والفراقد منارها، وتألق بالإصباح نهارها، ولاحت في سماء المجد بدورها وأقمارها، وهزت عطف الزمان انتشاء مناقبها الشريفة وأخبارها، وفاض لبركتها على أكناف المعمور خضمها الزاخر وتيارها، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد الذي ظهرت نبوءته قبل ولادته، وبشرف الأحبار والرهبان بعموم رسالته، وخرقت له حجب الآفاق، وفرجت له السبع الطباق، فحاز على كافة الأنبياء والمرسلين خصال السباق، صلى الله عليه وعلى آله والرضى عن أصحابه صلاة كاملة ورضى تاما وسلم كثيرًا أثيرًا، أما بعد: فإن الله تعالى قد اختار لصلاح هذه المغارب، من سعد به البادي والحاضر والشاهد والغائب، الإِمام المنتخب من عترة النبي الذين علوا مناقب ومناصب، ورقوا إلى أشرف المنازل والمراتب، الملك الهمام، حافظ بيضة الإِسلام وكافل أمة النبي عليه السلام، صاحب الفتوحات المنسقة النظام، جمال الأنام، تاج الإمارة عز الإِسلام، الذي أسفر عن صبح النصر العزيز نصله، واشتمل على خواص الشرف الأصيل جنسه وفصله، وطابت فروعه
لما استمد من ريحانتي الجنة أصله، ذا العزم الأمضى، والسعي الأَرْضَى، الملك المنصور أبا المآثر الحسان والمفاخر السلطان المجاهد في سبيل ربه وابتغاء مرضاته، مولانا إسماعيل بلغه الله من رضاه أقصى مسئوله، وأعانه على جهاد عدو الله وعدو رسوله، ابن مولانا الشريف بن مولانا على جدد الله عليهما ملابس الرحمة. وجزاهما أفضل ما جزى الصالحين من ملوك هذه الأمة، لما ولاه الله أمر عباده، وبسط يده في أرضه وبلاده، ونصره على أعدائه، وأيده في أرضه بملائكة سمائه، واستقر ملكه الشامخ البناء بمدينة العز مكناسة الغراء، دار ملك الجهاد، وكرسى دار الإمارة المظفرة العساكر والأجناد، عصمها الله ووقاها، وحفظ بها كلمة الإِسلام وأبقاها، فلما استقر بها ملكه الأشرف وانعقدت بالنصر العزيز راية الفتوحات على قناة العدل الذي عليه مدار الأمور، وعشا إلى نور سراجه الوهاج الخاصة والجمهور، ضاقت المدينة المولوية بجيشه المنصور، أمر أيد الله أمره، وأبد فخره، وأدام تأييده ونصره، ببناء المدينة الجديدة العنبرية المختصة بأمره السلطاني، المؤيد بالتأييد الرباني، لا زال نافذا بعون الله ميسر المآرب، ومطاعا له في جميع أقطار المغارب، فبنيت صانها الله من طوارق الحدثان وحاطها من سوء ما يجري به الملوان، وأسس بها مسجدا للخطبة عتيق، وبنى عن أمره العالي البناء الحسن الوثيق، وصل الله عوائد صنعه الجميل لديها، وعمره بدوام الذكر والعبادة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولما كمل بناؤه وأعانه من له القوة والعون سبحانه على ذلك حمد الله تعالى، وأثنى عليه الذي وفقه وأعانه عليه، ورجا كمل الله رجاءه أن يدخل تحت عموم حديث الصادق المصدوق، صلوات الله عليه وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"من بنى لله مسجدًا بنى الله له قصرًا في الجنة"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"من بنى لله مسجدًا يبتغي به وجه الله العظيم بنى الله له مثله في الجنة" وقوله صلى الله عليه وسلم: "من بنى لله مسجدا بنى
الله له في الجنة أوسع منه" إلى غير ذلك من الأحاديث النبوية. وصحاح الأخبار المصطفية.
وأمر أيد الله أمره عام ستة ومائة بعد ألف بجلب الماء له من عين البيضاء في قادوس مختص به ويكون الموضع الذي يجري فيه القادوس حبسا عليه من العين المذكورة إلى المسجد الجامع المذكور في جميع الأملاك السلطانية، وألزم ناظر المسجد المذكور في حينه وهو المكرم عبد الوهاب بن الناظر المسن المكرم محمَّد بن عبد العزيز حجاج مع من له النظر العام والأمانة الكاملة في أمر البناءات كلها السلطانية على اختلاف أنواعها وأجناسها بداره العلية حرس الله رفيع أعتابها، وصان من طوارق الحدثان على أبوابها، ناصح خدمته السلطانية، في السريرة والعلانية، وهو الطالب محمَّد بن الثقة الخير خديم أهل كتاب الله المحب لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله محمَّد الكاتب شُهِر الأندلسي نَجِارًا، الفاسي دارًا، ومنشأً وقرارًا، بالوقوف التام على خدمة ذلك الماء على أن يصل إلى المسجد الجامع المذكور فوقفا عليه، وصرفا كليتهما إليه، حتى بلغ على مقتضى غرضه السلطاني فجعل نصره الله ثلاثة أرباعه للمسجد الجامع المذكور، والربع الواحد الباقي منه للسقاية التي هنالك بإزاء المسجد.
تقبل الله عمله، وبلغه في نصر الإِسلام وصلاح الأنام أمله، ولما علم من قوله صلى الله عليه وسلم ما علم من أنه عليه السلام قال:"من بنى لله مسجدا بنى الله له في الجنة أوسع منه" أراد حصول تلك الفضيلة فأمر أيده الله بزيادة صفين اثنين ليوسع بهما، فزيدا على نظر الإمام المقرون بالبركة قبلي المسجد الجامع المذكور وصل الله سعده، وأناله من الثواب الجزيل قصده، والحمد لله ولي التوفيق والتسديد، المتكفل لمن شكره بالمزيد، ولمن توكل عليه بالإعانة والتأييد.
وصلى الله عليه سيدنا محمَّد نبيه الذي اصطفاه من العبيد، وجعله السبب الأوصل في نجاة الناجي وسعادة السعيد، وعلى آله وصحبه صلاة لا تنقطع أبد الأبد ولا تبيد.
فحبس عليه من الأوقاف بداخل المدينة وخارجها ما يذكر، ويعين ويفسر بعد إن شاء الله، فالذي بداخلها أمنها الله وسماها جميع الدار المتصلة بغربي المسجد المذكور، وجميع الدر ذات البيوت المتصلة بشرقي المسجد المذكور، وجميع الطراز المسند للسقاية الكبرى المنشأة هناك قرب المسجد المذكور وهو الذي صار الآن دارا، وجميع الحمام الجديد المقابل لقبلى المسجد المذكور بفرنه ومنافعه، وجميع الفرن الذي بأعلى الحمام قبلي المسجد المذكور، وجميع النصف الواحد على الشياع في كافة فندق ابن عزور صاحب إفراك في شركيته بالنصف الآخر على مقربة من باب الرياض، المواجه لسيدي سعيد بن أبي بكر نفعنا الله به، وجميع الحوانيت الثلاثة التي بأسفل باب المِيضَأَة (1) مع البيوت المسندة إليه، وجميع الحانوتين المتصلتين بالقنت المواجه لداخل الرياض من بابه الأكبر باب ثلاثة فحول أسفل دار الباشا منصور الرامي، وجميع التسع حوانيت المتصلات بداخل الرياض أمام بابه النافذ لقرب الولى سيدي سعيد، مبدؤهن من الحانوت. الثانية لحانوت القنت المواجه للباب المذكور بصف واحد، وجميع الحانوت الصغرى التي برحبة التبن عن يسار الصاعد غربا بعد دخوله من الباب المذكور، والذي بخارجها جميع الأربعين حانوتا عن يمين الصاعد لباب المشاوريين، أحد أبواب مكناسة، وجميع موضع الثاني عشر حانوتا المتصلة بها من جهة روضة سيدي عبد الرحمن القرشي، وجميع التسع حوانيت المتصلة بها من أعلى التي بناها حجاج، وكل الحوانيت صف واحد في اعتمار صنعة الذميين، عددها إحدى وستون حانوتا بجميع ما لذلك من المنافع والحرم وكافة الحقوق الداخلة والخارجة، ليصرف من فوائد الحبس ما يفضل عما يحتاج إليه أصله من الوجوه الضروريات مما يبقى أصل الحبس معه محوطا فيما يحتاج إليه المسجد الجديد المذكور من إصلاح مبانيه ومياهه وحصره وزيت الاستصباح به وراتب القائمين بأموره وغير ذلك مما يحتاج إليه.
(1) المِيضَأة: الإدواة فيها ماء يُتوضَّأ به، والموضع يتوَضَّأ فيه.
ومن إنشاءاته المحبسة جميع المكتب المسند إلى المسجد المذكور لتعليم أولاد المسلمين قراءة القرآن، وجميع السقاية التي هناك، صير في بنائها مائة مثقال دون الخشب، وجميع المنجرة المتصلة بالمسجد المذكور لخدمة الخشب لإصلاح المسجد وأوقافه، وصير في جلب الماء من العين البيضاء إلى المسجد المذكور ما يذكر مفصلا، من ذلك ثمانية وعشرون قنطارا من الزيت من معصرة مولانا المظفر المنصور، وثمانية وعشرون ألفا من القادوس الثلثي مدفوع في جملته بيد الفخار ألفا أوقية اثنان دراهم وأربع كوشات من الجير مدفوع فيها مائة مثقال، وأجرة المعلم القوادسي عن مدة خدمته عشرة أشهر ثلاثمائة أوقية دراهم، وأن المال المدفوع على يد الناظر المذكور في الصفين اللذين أمر مولانا بزيادتهما قبلي المسجد المذكور صرة من التبر بيعت بمائة وثلاثين مثقالا دراهم، وكل المال المصير في بنائهما وفي جلب الماء للمسجد المذكور وفي بناء السقاية والمكتب هو من مال مولانا الخاص به.
وحبس نصر الله أعلامه ماء آخر يطوى له قادوسه وحده من الوادي إلى أن يصل للمَسجد المذكور. اهـ.
ومع هذا الاهتمام العظيم بتحصين هذا السعي المشكور المكين من هذا الإمام العظيم منشئ مدينة الرياض، حتى تدوم قائمة بنفسها في سائر الشئون والأغراض، لم ينفع حذر من قدر فلم تعش المدينة بكل بناءاتها الدينية والدنيوية إلا خمسا وخمسين سنة قضتها كلها في ازدهاء وازدهار، لا تحوم نحو ساحتها الأكدار، وطالع السعد على أرجائها مشرق، وخميس اليمين والأمانى بأكنافها محدق.
وفي هذه المدينة يقول الفقيه الكاتب أبو حفص عمر الحراق من قصيدة يخاطب بها كتاب الحضرة الإمامية.
أكتاب الإِمام لقد سعدتم
…
بآثار لسيدنا سديدة
دنوتم من قصور أبي المعالى
…
وقد كانت منازلكم بعيدة
وما دار تقرب منه إلا
…
مباركة بلا ريب سعيدة
قال في "الدر المنتخب المسْتحسن" وقد أجازه السلطان على هذه القصيدة بأربعمائة مثقال نفذها له عند عامله الباشا على بن عبد الله الريفى فقبضها منه في الحال. اهـ.
قلت: هذا وأبيك الكرم ونخوة الملك، فالأربعمائة مثقال في ذلك الزمان من الأمر ذى البال تقوم بما لا تقوم به اليوم أربعمائة ألف فرنك، ثم لما قضى الله بخرابها ونثر نظام عقد محاسنها، قيض لنقض محكم بنائها السلطان المولى عبد الله نجدٍ مؤسس قواعدها على تقوى من الله ورضوان، فأمر النصارى وغيرهم بهدمه لأمر عرض له في الحال اعتراه بسببه شبه اختلال، وذلك الأمر هو ما ذكره صاحب "الدر المنتخب" من إنه كان إذا جن الليل اجتمع من سكانها القواد والأعيان وتذاكروا الأمور الواقعة في الآفاق والبلدان، وتذاكروا فيما بينهم وإن أرادوا أمرا عليه صمموا ويدبرون الأمر حتى يكون ما عليه عولوا، فنصر مولاى أحمد الذهبي أولا كان في مدينة الرياض المذكورة، وفيها اتفقوا على عزله ونصر مولاى عبد المالك في الرواية المشهورة، وفيها عزلوا مولاى عبد المالك وردوا مولاى أحمد، وفيها اجتمع رأيهم على نصر مولاى عبد الله وكان مولاى عبد الله إذا فعل فعلا اجتمعوا وتحدثوا، فكان مولاى عبد الله لأجل ذلك لا يبلغ مناه، وإن أراد مولاى عبد الله أن يبرم أمرا اجتمعوا وقالوا هذا أمر لا نفعله بوجه ولا بحال، فبلغ الخبر لمولاى عبد الله فأعرض عن ذلك الأمر الذي أراد كأنه لم يبق له ببال، وأرسل إلى العبيد الذين بمشرع الرملة ومن كان غائبا من جنوده وكساهم وفرق عليهم الأموال، وزادهم في الراتب وقدمه لهم على الكمال.
ففي فجر يوم السابع والعشرين من شوال عام ثلاثة وأربعين ومائة وألف حشد تلك الجنود وأعد آلة الهدم وركب فرسه ووقف على تل مشرف عليها وأمر بالهدم من كل ناحية والناس نيام فمن أسرع وحمل رزقه وقشه نجا، ومن لا معين له بقى قشه تحت الردم وارتحل الوداية لفاس الجديد مع إخوانهم وتفرق غيرهم بالمدينة، فما مضت عليها عشرة أيام إلا وصارت كدية من تراب يعشش فيها اليوم، ولم يبق بها إلا الأسوار والجدرات قائمة كما قاله أبو القاسم الزيانى وغيره، والبقاء لله وحده، وله سبحانه وتعالى الأمر من قبل ومن بعد.
وقد صارت موقعها من مزارع العاصمة المكناسية ومراعى مواشيها، ولا زالت إلى الوقت الحاضر بعض الأطلال قائمة بها، وقد كانت تلك المزارع فيما سلف معدة لنزول الجيوش السلطانية عند ما يحل ركابها الشريف بالعاصمة المذكورة، وأحدث بها الآن محالا لسكنى اليهود لضيق حارتهم عنهم.
ومن تأسيساته حارة اليهود التي بها سكناهم الآن، أسسها عام ثلاثة وتسعين وألف كما بتأليف الضعيف وغيره، وأمر بإخراج أهل الذمة من المدينة وإسكانهم بالمحل المؤسس لأجلهم فسكنوه، وأخليت دورهم التي كانت وسط دور المسلمين بالمدينة، ثم سكنها أهل تافيلالت الذين بفاس بأمر من السلطان.
ومن تأسيسات مولانا إسماعيل قصبة بريمة التي لا زالت قائمة العين والاسم إلى الحين الحالي الواقعة غربا من قصبة قصور الملك السعيدة، وقد وقفت في بعض العقود الموثوق بها على بعض ما يتعلق بذلك ونص الغرض منها: كان الجناب العالى بالله مولانا أبو النصر تملك جميع أرض بريمة خارج الحضرة الهاشمية محروسة مكناسة، وأعطى مولانا المنصور ثمنها وأمر ببناء حوانيت خارج باب المشاوريين بالثمن المذكور، لكون الأرض المذكورة من أوقاف جامع الخضراء، وفضل من الثمن المذكور من بناء الحوانيت مائة مثقال، وكان المتولى لذلك عن أمر
مولانا المنصور بالله تعالى القائد الأرضى. الأجل الأحظى، خديم المقام العالى بالله أبا العباس أحمد بن الأجل الفقيه الأكمل المرحوم بكرم الله سيدي أبي يعزى العرايشى، أشهد الآن أنه صير لجانب الحبس في المائة مثقال كذا في سنة اثنتى عشرة ومائة وألف، اهـ.
ومن تأسيساته قصبة جناح الأمان الشهيرة إلى الآن.
ومنها قصبة قعر وردة التي لا زالت قائمة العين والاسم إلى الحين الحالي، وكان تأسيسه إياها عام واحد ومائة وألف.
ومنها قنطرة دردورة الشهيرة المعروفة قبل بقنطرة ابن يشو، أسسها عام واحد ومائة وألف على ما في بعض التقاييد، وأنشأ بهذه القنطرة سقاية اهتم بشأنها اهتماما زائدا حتى حبس عليها عدة أوقاف من رباع وعقار، كانت تعرف هذه السقاية بسقاية الذهب، ودونك بعض النصوص الشاهدة لما لمنشئها من الاهتمام والاعتناء بأمرها: الحمد لله ضهد لدى شهيديه أمين الدار العالية بالله، وناظر سائر الإيالة الشريفة المعلم محمَّد بن محمَّد الكاتب الأندلسى أن مولانا المنصور بالله تعالى مولانا أمير المؤمنين، المجاهد في سبيل رب العالمين، مولانا إسماعيل أبد الله أوامره، وخلد مفاخره الكريمة ومآثره، آمين، حبس جميع الحوش المستدير بالحيطان -غير ربع واحد منه بلا حائط- الكائن بقصبة تزيمي المجّاور من أسفل الحوش حبس مسجد صواغة الذي بيد الوقاد على وجه الجزاء على إصلاح الماء المجلوب لسقاية الذهب التي أحدث بناءها مولانا المذكور بقنطرة دردورة خارج مدينة مكناسة، وهذا العقد بتاريخ جمادى الأولى عام سبعة عشر ومائة وألف، ولما رأى أنجاله ورؤساء أعيان دولته العظيمة ما لمتبوعهم الأمير الطائر الصيت من الاهتبال والاهتمام بهذه السقاية، تسارعوا لاقتفاء أثره في التحبيس عليها، فحبس عليها نجله المظفر أبو الحسن مولانا على كوشة وحانوتين حسبما بعقد تحبيس ما
ذكر المؤرخ بعام ثمانية وأربعين ومائة وألف، وحبس عليها خديم مقامه العالى القائد على بن يشو اليازغى عقارا حسبما بعقد وقفت عليه بتاريخ أواسط جمادى الثانية عام سبعة وعشرين ومائة وألف، ومع الأسف فقد اندثرت هذه السقاية وعفت منها الآثار، ولم تنتج لها أحباسها العديدة أدنى وقاية من يد الاضمحلال والاندثار.
ومنها مسجد باب البراذعيين الشهير، وكان تأسيسه له تحت نظر وزيره على ابن يشو، وذلك عام واحد وعشرين ومائة وألف، وهذا التاريخ هو الذي رسم بخشب باب مقصورة المنبر بالجامع المذكور في أبيات لعمل منبره، ونصُّ ذلك:
أنا منبر للذكر والوعظ أنصب
…
دوائى لأمراض القلوب مجرب
ومولاى إسماعيل عز عن امره
…
تأنق في صنعى الوزير المهذب
على بن يشو راجيا فضل ربه
…
وإن رمت تاريخى بحقّ سيحسب (1)
ومنها جامع الأنوار المعروف بهذا الاسم إلى الزمان الحاضر الذي بابه الأكبر عن يمين الداخل للقصبة الإسماعلية من باب منصور العلج، ففي "زهر البستان". في نسب أخوال سيدنا زيدان بن مولانا إسماعيل، أن مما شيده مولانا إسماعيل مسجد الأنوار الذي هو لأشتات المحاسن جامع، فمن سوارى رخامية يقارب عددها المائتين، ومن صحن بديع الشكل بهى المنظر رجب المتسع عدم النظير بالعدوتين، بوسطه قبة ارتفعت عن أن تقاس بمثال، قائمة على أعمدة من الرخام مختلفة الأشكال، بزواياها الأربع شبابيك مصنوعة من الخشب أمسكت بصفائح مذهبة أركانها، أرضها مفروشة بالرخام، وسماؤها وشيت من خشب ملون
(1) في المطبوع: "وإن رمت تاريخي (شاقك) يحسب" وهو غير صحيح عروضيا. ولعل المناسب ما أثبتناه. والأبيات من الطويل.
منقوش بأبهى من طرق الحمام، يدخل إليها من جهاتها الأربع وبداخلها خصة رخام لم ير الراءون مثلها في ضخامة الشكل وسعة الدائرة وإحكام صنعة ترصيف ما أحدق بها من الرخام، وبإزاء القبة بئر أحدق به أربع خصص صغار وإلى جنب كل خصة حوض يمتلئ منها، وبإزاء الصحن المذكور بالركن الذي التقى فيه الربع الشرقى بالربع القبلى منار يرقى فيه بغير مدارج، بل بترصيف مستوى المعارج، مطبق الأعلى فلا يصيب فيه المؤذن حر شمس ولا مطر، ولا ينال بصره من محارم المسلمين قطاف وطر.
ومن محاسن هذا الجامع أن أسند إليه بربعه القبلى من حيث اتصاله بالربع الشرقى خزانة الكتب مشملة على قبتين قائمة حلقتها على أربعة قوائم من الرخام، وبها من الكتب العلمية ألوف عديدة
…
إلخ ما وصفه به مما لا ينطبق إلا على جامع الأنوار المعروف بهذا الاسم الآن وذلك الانطباق وقت شبابه، وقبل انقلابه وإيابه، أما بعد ذلك فلم يبق من دلائل ذلك الانطباق إلا شهرته قديما وحديثا بجامع الأنوار مع ما أدركناه من بقايا دار الوضوء الموصوفة في الجهة الشرقية إلى أن استأصلتها الدولة الحامية، ومع بقايا خزانة الكتب الموصوفة في كلام زهر البستان، فإن بابها بالمحل المعين في كلام زهر البستان مع ما سمعته من والدى عن والده رحمهما الله أن تلك الباب هي باب خزانة الكتب الإسماعييلية التي فرق السلطان سيدي محمَّد بن عبد الله كتبها على مساجد المملكة، وإنما قلت لم يبق من دلائل الانطباق إلا ذلك، لأن جامع الأنوار قد مسخ، وتقلب في أطوار النحس والمسخ، حتى إنا ما أدركنا شيئًا مما وصف من بهجته، ولا بعض ما يمثل حسن صورته، سوى الجدرات المحيطة به وأطلال بعض ما عداها، أما ما عدا ذلك فلم ندرك منه رسما ولا طللا وليت هو أنه انتهى عند هذا الحد، ولكنه زاد على. ذلك بأن أُعِدَّ تارة لربط الدواب وأخرى لاستقرار من هم شر من الدوابِ، وهم
أخلاط أوباش العساكر الذين كانوا يأتون فيه كل الفواحش بكل معنى الكلمة، وآونة يكون سجنا للمتمردين، وطورًا يجعل خزينًا للشعير، إلى أن حازته الدولة الحامية وصيرته مدرسة لقراءة لغتها وغيرها، ولا ينافى كونه من الإنشاءات الإسماعيلية ما هو منقوش في زليج بأعلى بابه ولفظه: ما للخورنق والبديع كمال
…
إلخ ما سيمر بك قريبا بحول الله لأنه إنما أسند في هذه الأبيات لمولاى عبد الله إنشاء حلة تلك الباب لا غير وتلك الحلة وذلك الكمال يحملان على إنشائه بها خاصة تنميقا وتزويقا، أما أصل ذلك فهو لوالده المولى إسماعيل لما قدمناه عن زهر البستان من أن المولى إسماعيل هو المنشئ لذلك المسجد بكماله، وقد وصفه بذلك قيد حياة منشئه كما ينبنى عنه ما ترجم المولى إسماعيل به في الكتاب المذكور.
وقد قدمنا أن هذا المسجد هو الذي يقوى في نظرنا أنه المسجد الذي أسسه لما ضاق به مسجد القصبة الذي لا زال يعرف بهذا العنوان إلى الآن، وكذا قدمنا أن دليل ذلك قول واصفى المسجد الذي أسسه بعد ضيق الأول وجعل له بابين بابا إلى المدينة
…
إلخ، فإن الباب الذي للمدينة بدون حاجز لم يوجد إلا في هذا، ويزاد على ذلك أن ما وصف به "زهر البستان" جامع الأنوار مع قبته أظهر في وصف الأخضر الذي أطلقه على المؤسس بعد الضيق واصفوه من وصف مسجد القصبة به، وكذلك ما في بيت ذلك الشاعر السابق وهو قوله ففي القبة الخضرا، البيت، القبة الموصوفة في جامع الأنوار أحق به وأليق، ويتأكد ذلك يكون الزيانى ومن تبعه لم يفصحوا في البناءات الإسماعيلية بجامع الأنوار بهذا العنوان، مع أنه أحق بالذكر من كل مسجد بناه، لأن ما وصف به زهر البستان بناءه لم يوصف به شيء من المساجد التي شيدها، فدل ذلك على أنه هو مرادهم بقولهم أسس المسجد الأخضر إلى قولهم وجعل له لابين بابا المدينة
…
إلخ.
ويحمل المسجد الذي وصفنا تهدمه داخل الباب الأول للضريح الإسماعيلى
على أنه كان معدا عند المولى إسماعيل للصلوات الخمس، ومسجد القصة المعروف بهذا الاسم لصلاة الجمعة، وقد يصلى فيه الخمس أيضا عند ما يجده الوقت في قصر الستينية المتصل به، أو لمقتض آخر، مقتضيات عظم المملكة وشامخ أبهنها.
والظاهر أن ذلك الاحتفال الهائل الذي خص به المولى إسماعيل جامع الأنوار، حتى إنه جعل أعمدته على كثرتها كلها رخاما مع تلك الخصة التي لم ير الراءون مثلها عظما وحسنا وغير ذلك، ولا سيما مع حصول الاستغناء عنه بعد العظمة الإسماعيلية لا بالنظر للمدينة ولا بالنظر للقصبة، فتكون خطبة مسجدها مع تخريب هذا رجعت إلى محلها الأصلى والله أعلم. وكان تأسيسه لهذا المسجد العظيم المقدار عام عشرة ومائة وألف كما في "الدر المنتخب".
ومن إنشاءاته أيضا مسجد الأنوار المعروف في العصر الحاضر بمسجد سوق السباط، ويدل لذلك ما هو منقوش في لوح خشب ببعض جدراته ولفظه:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وصلى الله على سيدنا محمَّد وآله وصحبه وسلم تسليما، الحمد لله الذي جعل أهل العلم أنجما يقتدى بهم في كل وقت وزمان وزين بالاهتداء بهم كل مكان، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمَّد سيد ولد عدنان، وعلى آله وأصحابه ما تتابع الملوان، هذا وإن مولانا المؤيد بالله الهمام محيى الملة والدين، وسالك سبيل الأئمة المهتدين، المجاهدين في سبيل رب العالمين، أمير المؤمنين، مولانا إسماعيل بن الشريف الحسنى أيده الله ونصره، لما أنهى إليه أمر المسجد الذين أنشأه الناظر الأسعد، الموفق الأرشد، أبو عبد الله سيدي محمَّد بن محمَّد الكاتب القيسى الأندلسى أصلا ونجارًا، الفاسى نشأة ودارًا، المسمى بمسجد الأنوار أمر نصره الله بإحضار علماء التوقيت العارفين بدلائل القبلة وهم السيد محمَّد بن عبد الرحمن المرابط والسيد العربي بن عبد السلام الفاسي والسيد حسيت الكامل، والسيد محمَّد بن سليمان العونى وحضروا بالمسجد المذكور واستعملوا البحث والنظر بطرق علماء الفن والأسطرلابات والدائرة ومقاييس الشمس، فأداهم اجتهادهم إلى أن
المحراب هو سمت مكة شرفها الله تعالى على المشهور، وأن طول مكة سبعة وسبعون درجة، وعرضها اثنان وعشرون درجة، وطول مكناسة خمسة وعشرون درجة، وعرضها أربع وثلاثون درجة بتقاطع خطي الطولين والعرضين بالدائرة الهندسية، قيدوا به شهادتهم لسائلها وفي أوائل جمادى الثانية عام اثنين وعشرين ومائة وألف الحمد لله لما ثبت بشهادة أهل العلم المذكورين الواجب تقليدهم للخاص والعام فيما ذكر وجب المصير إليه واتباعه "إذا قالت حذام فصدقوها" وهذا سبيل الحق وطريقه ففي الخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال كل صنعة يرجع فيها إلى صانعها أو كما قال (1) عليه الصلاة والسلام وكتب سعيد العميرى الحمد لله أعلم بأعماله عبد الله تعالى عبد الوهاب العرائشى هـ.
وأسس باب الخميس القائم العين إلى الآن، وهو أحد أبواب مدينة الرياض السالفة الخبر، وذلك عام ثمان وتسعين وألف، ويدل لذلك ما هو منقوش في الزليج المتوج به أعلى الباب المذكور ودونك لفظه:
(1) في هامش المطبوع: قال الحافظ ابن النجار في تاريخه: "قرأت على أبي القاسم سعيد بن محمَّد الهمدانى عن محمَّد بن عبد الباقي الأنصاري، قال: كتب إلى أبو عبد الله محمَّد ابن سلامة القضاعى، حدثنا أبو الحسن على بن نصر الصباح، حدثني أبو النضر المفضل ابن على كاتب الراضى، أنه حضر مجلس أبي الحسن بن الفرات وعنده القاضى أبو عمر محمَّد بن يوسف فسأل عن شيء، فقال القاضى أبو عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استعينوا على كل صنعة بأهلها" وفيه يرد قول أبي الخير السخاوى في المقاصد الحسنة، إنه لم يرد بهذا اللفظ في الحديث، وإن تبعه الشيبانى في تمييز الطيب، والبيروتى في أسنى المطالب، ويقويه شاهدا له ما أخرجه أحمد عن طلق بن على، قال بنيت المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يقول: قربوا اليمامىَّ من الطين فإنه من أحسنكم له مَسًّا. وفي رواية ابن حبان فقلت: يا رسول الله، أنقل كما ينقلون؟ قال: لا، ولكن اخلط لهم الطين فأنت أعلم به. وما أخرجه أبو داود عن سعد قال: مرضت مرضا فأتانى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودنى، فوضع يده بين ثدي حتى وجدت بردها على فؤادى، وقال في: إنك رجل مفئود، فأت الحارث بن كلدة من ثقيف فإنه يتطبب. وهو يدل على جواز الاستعانة بأهل الذمة في الطب كما في الإصابة. وعلى كل حال:
فكل أمر له قوم به عرفوا
…
فاندب لكل مهم أهل بلواه
انتهى مصحح.
وفي حواشى كنز العمال 3/ 108 أن طلق بن على بن المنذر، هو أبو على اليمامى، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وعمل معه في بناء المسجد، وروى عنه.
أنا الباب السعيد سموت فخرا
…
سمو البدر في الفلك السعيد
سنا مولاى إسماعيل يبدو
…
على ذاتى المنوطة بالسعود
ففي وقت سعيد قد بنانى
…
وورخ نشأتى (جود المشيد)
وأسس باب الجديد على ما في بعض التقاييد الموثوق بصحتها عام خمس ومائة وألف.
وجدد المسجد الأعظم عام سبعة ومائة وألف، وكان انتهاء العمل فيه عام تسعة ومائة وألف، ويشهد لذلك ما هو منقوش في لوح خشب بباب المقصورة التي يخرج منها الخطيب بالمسجد المذكور ولفظه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} ، صدق الله العظيم، وبلغ رسوله المصطفى الكريم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا، أمر بتجديد هذا المسجد الأعظم مولانا إسماعيل بن الشريف أيده الله عام سبعة ومائة وألف، وكان الفراغ منه عام تسعة ومائة وألف:
يا أيها المنظر الجديد
…
زينك الطالع السعيد
وقر منك الأمير عينا
…
ومات من غيظك العنيد
وما هو منقوش بأعلى السقاية من المسجد المذكور ولفظه: الحمد لله وحده وصلى الله على من لَا نَبِىَّ بعده.
تأمل بعد حمد الله حسنى
…
وصل على محمد الشفيع
فما أبصرت في الدنيا كشكلى
…
أذكر زهر أيام الربيع
وللوراد أسقى سلسبيلا
…
فلى فخر بذاك على الجميع
بجامعنا الكبير سموت فخرا
…
علا شرفى بجانبها المنيع
بأمر إمامنا المنصور شادورا
…
بنائي الرائق الأبهى الرفيع
وتاريخى أمعطاش هنيئا
…
وقاك الله من ظما وجوع
وما هو منقوش بخشب عنزته البديعة الإتقان العجيبة الصنع اللطيفة المنظر ودونك لفظ ما هو منقوش في الجهة الموالية للصحن:
ذى عروس من المحاسن تجلى
…
باليواقيت وشحت واللآلي
وسراج الملوك بالغرب اسما
…
عيل من دأبه اكتساب المعالي
كان عن أمره المطاع وجودى
…
كن له حافظا أيا خير والي
وما هو منقوش بها أيضا ولفظه:
بحمد الله يفتتح الكلام
…
كذاك صلاة ربى والسلام
على المختار مع آل وصحب
…
كعرف المسك ما انسكب الغمام
آدم يا رب عز الدين وانصر
…
إِماما لا يعادله إمام
وما هو منقوش بدائرة هذه العنزة من الجهة المذكورة أيضا ولفظه:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وصلى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله، {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبَّة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} ، وبوسط هذه الدائرة ما لفظه:
لك الحمد يا ألله والأمر كله
…
فصل على سر الوجود محمد
إمام الورى طرا وقبلة آدم
…
نبى أتى بالخمس في كل مسجد
ومعجزة القرآن أكبر آية
…
فطوبى لمن يتلوه عند تهجد
على العنزات الفضل لي لتقرري
…
بمكناسة دار الإِمام المؤيد
وجامعة أكرم ببيت إلهنا
…
فكم حله من عالم متعبد
وتاريخ إنشائى وإظهار بهجتى
…
وحسنى فشا مسجد تراه بمشهد
وصل إله العرش في كل لحظة
…
على أحمد الهادى وأشرف سيد
ومنقوش بدائرة هذه العنزة أيضا من الجهة المقابلة لمحراب المسجد الداخلى ما لفظة:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، صلى الله على سيدنا محمد {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)[آل عمران]، إلى غير هذا مما هو منقوش بالقلم الكوفى وغيره في هذه العنزة المباركة.
وجدد مدرسة الشهود المتقدمة الذكر عام ثلاثين ومائة وألف، ودليل ذلك ما هو منقوش بها على جدارها الشرقى قبالة الداخل وذلك في زليج أخضر على صورة محراب ونصه:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
بحمد إلهى أبتدى وصلاته
…
على أحمد المختار طول المدى تترا
تأمل جمالى كى ترى الآية الكبرى
…
أحاكى لزهر في السنا والعلا زهرا
تأنق في البنيان والوشى صانعى
…
أنا منزل القراء حزت بذا فخرا
عن أمر أمير المؤمنين الذى سما
…
بنسبته للمصطفى وعلا قدرا
أبى النصر إسماعيل كمل بهجتى
…
بناظره السهلى قد سهل الأمرا
سليل العلا مزاج عبد الرحيم من
…
بإتقانه الأوقاف يلتمس الأجرا
وكملت عام الألف مع مائة وزد
…
ثلاثين شهر المولد أحبب به شهرا
فقوله كمل بهجتى
…
إلخ، معناه بتجديد إصلاحها وتنميقها.
وقد غلط في فهمه بعض المتأخرين واغتر به صاحب "الدر المنتخب المستحسن" فقال: قال بعض المتأخرين: وأما المدرسة التي عن يسار المقابل لمحراب المسجد الكبير المقابلة بابها لباب المسجد فقد رأيت تاريخها في رخامة مقابلة
للخصة، وأن أمير المؤمنين مولانا إسماعيل هو الذى بناها نصه نظما: بحمد إلهى
…
إلخ، الأبيات المارة ولا شك في خطأ هذا النقل، إذ تقدم بناء هذه المدرسة وهى المعروفة بمدرسة القاضى وبمدرسة الشهود وذكرها في "رَوْض" ابن غازى أشهر من نار على علم، كما أنه أخطأ في نسبة التاريخ للرخامة، فإن الأبيات التي بها التاريخ إنما هى منقوشة هناك في زليج أخضر كما قدمنا، وكفى بالعيان برهانا، وأشنع من هذا أن صاحب "الدر المنتخب" المذكور ما ذكر هذا الذى قدمناه عنه حتى قدم متصلا به أن مدرسة القاضى والشهود بانيها هو أبو يوسف المرينى، ومعلوم خارجا أنها هى التي عن يسار المقابل للمحراب المذكور، ثم أثره ذكر أن بانى التي على اليسار المذكور هو المولى إسماعيل، وهذا أقوى دليل على أنه لا يتصور أن المدرسة المذكورة هى التي على اليسار المذكور، فلم يميز بين مدرسة الشهود والقاضى وبين المدرسة الجديدة في كلام ابن غازى، وظن أن التي على اليسار هى غير مسمى مدرسة الشهود فخلط، وما حرر ولا ضبط.
(رجع) والمولى إسماعيل هو الذى نصب المنبر المرونق بالمسجد الأعظم الموجود لهذا العهد يوم الجمعة ثانى عيد الأضحى عام اثنى عشر ومائة وألف على ما في بعض التقاييد التاريخية.
وجدد مسجد سهب الملح وهو المعروف اليوم باسم مسجد ابن عزو على يد المسن المكرم السيد عبد الرحمن بن أحمد بن عزو، كما وقفت على ذلك في بعض التقاييد، وكان تجديده له عام واحد وثمانين وألف.
(فائدة) قال القلقشندي: أول من عمل المنبر في الإسلام سيدنا تميم الدارى عمله للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد رأى منابر الكنائس بالشام. (1) اهـ.
قلت: ويدل له ما في أبي داود عن الحسن بن على عن إبراهيم بن أبي داود عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بدن قال له تميم الدارى: ألا أتخذ لك منبرا تجمع أو تحمل عليه عظامك؟ قال: "بلى"، فاتخذ له منبرًا مرقاتين. اهـ.
وما في طبقات ابن سعد من حديث أبى هريرة وغيره، قال كان النبي صلى الله عليه وسلم
(1) صبح الأعشى 1/ 421.
يخطب يوم الجمعة إلى جذع، فقال: إن القيام يشقّ علىّ، فقال تميم الدارى: ألا أعمل لك منبرا كما رأيته بالشام؟ فشاور النبى صلى الله عليه وسلم المسلمين في ذلك، فرأوا أن يتخذه، فقال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلاما يقال له كلابٌ أعمل الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مره أن يعمله، فعمله درجتين ومقعدا، ثم جاء به فوضعه في موضعه. (1) اهـ.
وتميم هذا هو أيضا أول من أسرج السراج في المسجد كما في "الإصابة"(2) من رواية الطبراني.
(رجع) ومن تأسيسات الأمير المذكور بناء قنطرة السيد على بن منصور الشهير، الآتي الذكر بحول الله، وكان تأسيسه إياها عام أربعة ومائة وألف.
ومنها القبة التي أمام المدرسة الجديدة الشهيرة اليوم بالبوعنانية عام تسعة ومائة وألف.
وجدد ضريح الولي المتبرك به سيدي يوسف الشريف أحد الصلحاء الذين ضمتهم داره الكبرى المتقدمة الوصف، وكان تجديده له عام ألف ومائة واثنين وعشرين ويدل له ما هو منقوش في رخامة بضريح الولي المذكور نقشا بديعا ودونك لفظه:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما، كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، هذا ضريح الولي الصالح أبو المحاسن سيدى يوسف الشريف الشهير بأبي قنادل نفعنا الله ببركاته آمين، أمر بتجديد هذا الضريح المبارك الملك الإمام الجليل أبو النصر مولانا إسماعيل أيده الله ونصره أوائل المحرم فاتح سنة 1122 هـ.
هكذا بالقلم الفاسي، ويوجد هذا الضريح وراء دفة الباب للدار المذكورة دار الخلافة على يسار الداخل.
(1) كتاب الطبقات الكبير لابن سعد 1/ 215.
(2)
الإصابة 1/ 368.
ومنها ضريح الولي الصالح المولى أحمد الشبلي رضي الله عنه وأرضاه، ويدل لذلك ما هو منقوش بأعلى القوس الواقع يسار الذاهب من نهج القبابين لضريح سيدي عبد الواحد الأشقر المجاور هو أي القوس للسقاية يسار الذاهب منه لضريح الشبلي المذكور ولفظه:
يا ناظرا حرم الولي أحمد الـ
…
شبلي وحسن جماله المتوقد
مولاي إسماعيل أسسه وهو
…
تاج الملوك ونجل آل محمد
ومثله أيضا باللفظ ما بأعلى القوس الذي يذهب منه للضريح المذكور الأتي من ساباط الزمراني.
وضريح سيدي عبد الله القصري الولي الشهير.
وأسس جامع الزيتونة عام تسعة وتسعين وألف كما صرح بذلك صاحب الدر المنتخب المستحسن، ونصب منبرها في التاريخ المذكور وشاهده ما هو منقوش عليه الآن ولفظه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وصلى الله على سيدنا ونبينا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب]، صنع هذا المنبر المبارك عام تسع وتسعين وألف، وقد كان سرادق ملكه في هذا التاريخ على الأنام ممدودا وأنت ترى سائر الآثار الدينية وخصوصا في عاصمته التي قصرنا الكلام فيها إنما كانت تبرر عن أوامره وهذا منها.
ومن تأسيسات مبانيه القصبات العديدة المحيطة بعاصمته المتصل منها بسور البلد والمنفصل عنه.
فمن المتصل القصبات الثلاث المتقدمة وهي: بريمة، وجناح الأمان، وقعر وردة ومنها القصبة المعروفة بقصبة هدراش وقد سبق بيان موقعها وتاريخ بنائها، ولا زالت قائمة آهلة إلى الآن.
ومنها القصبة المعروفة اليوم بقصبة سيدى سعيد، خارج باب وجه العروس المعروف اليوم بباب الملاح، أحد أبواب المدينة، ولا زالت قائمة آهلة أيضا إلى الآن.
ومنها القصبة المعروفة بتزيمي الكبرى خارج باب البراذعيين القديمة التي موقعها الآن عن يسار الداخل لباب البراذعيين الجديد، وهو الذي يعنون عنه بهذا الاسم الآن، فالجدار الذاهب عن اليسار المذكور من الباب الجديد المذكور إلى الباب القديم أمامه هو لقصبة تزيمي الكبرى المذكورة، والباب الذي عن يسار الداخل للباب القديم المذكور هو لها وبين البابين البراح الذي يباع فيه الخشب الآن كل يوم جمعة بعد الصلاة، ولا زالت هذه القصبة قائمة آهلة أيضا إلى الآن ولفظ تزيمي -بكسر أوله وثانيه المعجم بعده ياء ساكنة وميم مكسورة بعدها ياء ساكنة- هو اسم لقبيلة من عمل سجلماسة نقلت لسكنى القصبة المذكورة.
ومن القصبات المنفصلة التي أسسها سيدنا الجد المولى إسماعيل حوالي مكناسة وعلى مقربة منها قصبة الكدارة بكاف معقودة وقصبة حَرْطَان -بفتح الحاء المهملة وسكون الراء وفتح الطاء المشبعة ثم نون- وقصبة المولى المستضئ.
وقصبة بوفكران.
وقصبة المنزه.
أما قصبة الكدارة فنسبتها لفرقة من فرق الجيوش المولوية أنزله بها مؤسسها على ضريحه صيب الرحمات وموقع هذه القصبة في الجهة الجنوبية من المدينة وهي الآن خراب بيد المكلف بالأملاك المخزنية يكتريها منه من شاء لكون عمارتها الأصلية بطلت.
وأما قصبة حرطان فموقعها غربا من المدينة يسكنها فريق من قبيلة الخلط، وأصل الخلط من العرب لا من البربر كان نقلهم السلطان سيدي محمد زمن خلافته عن والده السلطان المولى عبد الرحمن بن هشام في شهر قعدة الحرام عام سبعين ومائتين وألف على القول الصحيح من بلاد سفيان وبني مالك وأحواز
العرائش وعددهم إذ ذاك مائتان وثمانية عشر نفرا وأنزلهم بأرض مَكَّس -بفتح الميم والكاف المشددة بعدها سين مهملة- وزكُّوطة -بفتح الزاى المعجمة وضم الكاف المعقودة مشددة بعدها واو ساكنة ثم طاء فهاء ساكنة- وأضافهم إلى الجيش البخاري، ثم صار يلحق بهم إخوانهم من القبيلة المذكورة إلى أن صار عددهم ألفا وخمسمائة، ثم نقلهم إلى وادي الشجرة مع القصبة المذكورة ونقل من القصبة والوادي المذكورين من كان بهما من أهل تادلا وأنزلهم بأرض مكس، ولا زال بها نسلهم إلى الزمان الحاضر.
وأما قصبة مولاي المستضيء فموقعها غرب المدينة قرب قصبة حرطان، وليس بها اليوم إلا البوم وأنواع الحشرات، ولذلك تعرف بالخالية، قالوا: ووجه إضافتها للمولى المستضيء أن السلطان المولى إسماعيل كان مخيما في بعض أسفاره بالمحل الذي موقعها به، فجاء الطلق لبعض حظاياه ثَمَّ فولدت المولى المستضيء، وأقام السلطان هنالك مدة نفاسها، وفي ذلك الوقت أمر ببناء القصبة، كذا تلقيته من غير واحد من ذوي السن العالية.
وأما قصية بوفكران، فإضافتها للوادى الشهير الداخل للمدينة يسكنها اليوم فريق من الأشراف العلويين، تقع في جهة الشمال من المدينة على مسافة ثمانية عشر كيلو مترا، وبمقربة منها قصبة المنزه يسكنها مثل سابقتها فريق من العلويين.
ومنها أنه لَمَّا تملك أرض حمرية التي كانت تسمى قبل بأبي حفص بالمعاوضة الشرعية مع مالكها حسبما وقفت عليه في نسخة مسجلة ثابتة نص ظهير تقديم النائب في عقدها بعد الافتتاح:
من عبد الله تعالى أمير المؤمنين، المتوكل على رب العالمين، المجاهد في سبيله ناصر الدين مولانا إسماعيل بن مولانا الشريف الحسني، ونص الطابع: اليمن والإقبال اليمن والإقبال اليمن والإقبال إسماعيل بن الشريف الحسنى رعاه الله، أيد الله تعالى بعزيز نصره أوامره، وظفر عساكره، وخلد في الصالحات
مآثره، وأسعد بمنه موارده ومصادره، آمين آمين، قدمنا بحول الله وقوته خديم جانبنا العالى، والنجد الذى أحرز من اشتراط النباهة والنجابة المقدم والتالى، القائد الأوجه، الأثير الأنبه، الأحفل الأرضى، الحازم الأحظى، القائد على بن يعقوب اليوسفى المكناسى دارا، وصل الله أنجاده وأحرس على المسالك الحميدة والمساعى الجميلة إصداره وإيراده، لحيازة الأراضى التي لنا بحوز حضرتنا العالية بالله مكناسة وبيان حدودها وتعيينها وإخراجها من يد من كانت وعلى عقد المعاوضة فيما يظهر له منها بغيرها التي هى على ملك أناس المتصلة بأراضينا المجاورة لحضرتنا المذكورة، وعلى الصلاح في ذلك والسداد تقديما أمضاه بعلائه وكساه رائق هلاله، لعلمنا بأنه أهل لما إليه قدمناه، وأحق بما أسديناه إليه وأوليناه، والله يصل توفيقه، ويجعل السداد والنجح رفيقه، بمنه والسلام وفى يوم الأحد رابع وعشرين المحرم الحرام فاتح سنة ثلاث وتسعين وألف عرفنا الله خيره وبركاته. اهـ.
ونص المعاوضة: الحمد لله انعقدت المعاوضة ببركة الله تعالى بين الشريف الأوجه الخير الأنزه الأحظى الأنقى السيد محمد دعي بسيدي حمّ بن إدريس بن وحود الحسنى المنونى، وبين القائد الحاج على بن يعقوب المذكور أعلاه النائب عمن ذكر أعلاه بحكم ما ذكر أعلاه في جميع الأرض المعروفة بأبى حفص المشتملة على سقى وبعل، التي على ملك الشريف المذكور الكائنة خارج باب القورجة، أحد أبواب مدينة مكناس، يحدها سهب الطبال والطريق الممرور عليها لفاس، وتتصل بساقية خنفر وبطريق عين الشلوقى، وفى جميع الأرض التي للجانب العلى البعل الكائنة ببراكة خارج باب البراذعيين من المدينة المذكورة، يحدها الأرض المعروفة ليوسف النحال قبلة ومقطع الريح غربا، ويحدها أرض سيدى على بن قاسم الشريف المنونى من الجهتين، والطريق الآتية من قبور الطوال وتتصل بأرض عزور التي على ملك الشريف المذكور أولا، وذلك بأن أخرج
الشريف المذكور نفس ملكيته عن أرض أبى حفص التي كانت له عوضا عن أرض براكة التي صارت له بسبب المعاوضة المذكورة، كما أخرج القائد المذكور نفس ملكية المنوب عنه عن أرض براكة، التي صارت للشريف عوضا عن الأرض التي صارت للجانب العالى المعروفة بأبى حفص المشتملة على سقي وبعل، معاوضة صحيحة تامة بتلة بتة على سنة المسلمين في معاوضتهم، ومرجع دركهم، وتملك كل واحد ما صار له عوضا عما صار عنه تملكا تاما على السنة في ذلك، والمرجع بالدرك بعد النظر والتقليب والرضا صحيحا كما يجب من ناب عن نفسه فعن نفسه ومن ناب عن غيره فعنه عرفا قدره، شهد به عليهما بحال كمال الإشهاد وعرفهما أواخر القعدة من عام ستة وتسعين وألف الحق فيه والطريق الآتية من قبور الطوال صح به شهد عليهما بما ذكر أواخر صفر اثنين ومائة، ألف، أحمد بن محمد لطف الله به وعبد السلام بن محمد. اهـ.
غرسها (1) كلها بأشجار الزيتون حتى تمت فيها مائة ألف شجرة من الزيتون ثم حبسها على الحرمين الشريفين، ثم لما توالى على مكناس ما توالى بعده رحمه الله من الهرج والمرج، وشبت نيران الفتن بين أولاده، وتمكن عيث العبيد على البلاد والعباد ومد الفساد والخراب في الأرض أطنابه، كان مما امتدت إليه اليد بالحرق والقطع هذه الغاية، حتى تلفت من شجرها كمية ذات بال، ولما تمهدت البلاد، وانقادت العباد لسيدى محمد بن عبد الله واستتب الأمن وخضعت له الرقاب وانكسرت راية أهل الزيغ والفساد، قام على ساق من رتق ما أنتجته تلك الفتن من الفتق، فكان من جملة ما تلافاه بهمته الفعالة إحياء ما اندثر من تلك الأشجار، بإعادة غرس ما قلع وحرق منها حتى رجعت لشبابها، ثم بعد ذلك فصل التحبيس، فجعل النصف حبسا على الحرمين الشريفين تختص المدينة المنورة على منورها أفضل الصلاة وأزكى التسليم بالثلثين، ومكة المشرفة بالثلث،
(1) جواب قوله: لما تملك
…
إلخ، المتقدم.
والنصف الأخر للمسجد الأعظم بمكناس يخرج منه كل سنة نحو الخمسمائة فرنك، يوجه منها خمسة وثلاثون فرنكا ونصف الفرنك تقريبا لجد العائلة المالكة مولانا على الشريف دفين سجلماسة، تصرف في مهمات الروضة والطلبة الذين يقرءون الحزب ودلائل الخيرات، والمؤذنين وقيم الروضة وطعام ليلة المولد النبوى، ومنها ثلاثة عشر فرنكا تقريبا تورع على الطلبة الموظفين لقراءة الحزب والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم على قبر والدة المحبس الثانى وأعمامه بروضة أبي زكرياء الصبان نفع الله به، وقد كان لهذا القدر التافه الآن إذ ذاك شأن وبال، كما يخرج من النصف المذكور كل يوم رطل زيتا لضريح سيدى أبى يعزى ورطل لضريح مولانا إدريس الأزهر بانى فاس رضى الله عنهم جميعا وعنا بهم آمين.
ومنها أى الآثار الإسماعيلية جر الماء من بوفكران لزيتون حمرية في ساقية وسط جدار ضخم لازالت بقاياه جهة باب القرمود وسيدى الشريف الوافى لهذا العهد.
ومنها بناؤه الجدار المحيط بغاية حمرية، ولا زال بعضه قائما إلى الآن.
ومنها جر ساقية لجنان العريفة طوطو ببنى موسى في جدار عميق إلى أن يمر ماؤها فوق أقواس باب ثلاثة فحول التي هد منها قوس في هذا التاريخ، والعريفة طوطو هذه هى: بنت بوشتى السفيانى، كانت عريفة للمولى إسماعيل وخلفت أولادًا منهم: القائد قاسم المجاهد، والحاج سليمان، وهنية المدعوة بالنسيم والتومية، وقد كان المولى زين العابدين بن المولى إسماعيل تزوج بالنسيم المذكورة فولدت له الشاد بالله، ومليكة وخلفت العريفة المذكورة أموالًا طائلة من العقار وغيره بمكناسة وغيرها.
ومن تأسيسات المولى إسماعيل ومآثره الخالدة التالدة الضريح الإدريسي الأفخر، والمشهد العلوى الأنور، الواقع بزاوية جبل زرهون التي قال غير واحد من أئمة الدين، حملة شريعة سيد الأولين والآخرين، بتفضيلها على سائر الأقطار
المغربية، لضمها جسد هذه البضعة الطرية، وكان تأسيسه لذلك المشهد الفاخر، الزهي الزاهر، سنة عشر ومائة وألف.
ويدل لذلك ما هو منقوش في الرخامة الأولى المثبتة في الجدار المواجه للداخل من باب قبة الضريح الإدريسي زاده الله بهاء ونورا ودونك لفظه:
هذه روضة بها خير هاد
…
بضعة المصطفى وعين الرشاد
ملك طهر الإله به الغر
…
ب من الشرك والشقا والعناد
واستقامت له الحشود وقد كا
…
نت زمانا بالغى في كل واد
فإذا ما نسبته فرسول اللـ
…
ـه في القرب رابع الأجداد
وتأدب فأنت ما بين صوم
…
وصلاة وسنة وجهاد
وتلطف فأنت ضيف إمام
…
في حماه علاج كل فؤاد
خصه خالق الخلائق بالفضـ
…
ـل وأحيا به أقاصى البلاد
فسل الله ما تشاء من الفض
…
ـل فليس لفضله من نفاد
وتوسل بالمولى إدريس واقصد
…
في علاه بلوغ كل مراد
وابتهل للإله في نصر مولى
…
شأنه السعى في صلاح العباد
شاد هذا المقام والفعل منه
…
خالص لكريمه الجواد
عام ألف ومية بعد عشر
…
من سنين السرور والإسعاد
وهذا تاريخ بناء نفس الضريح، وأما باب حفاته المقابل للباب المعروف هناك بباب المعراض، فكان تمامه في السنة التي بعد التاريخ المذكور اتصالا كما يدل له المنقوش في الزليج أعلى باب الحفاة المذكور ولفظه:
هذا مقام الحسنى الذى
…
وصل أهل الله من بابه
أنشأه السلطان محتسبا
…
لله في موصول أسبابه
على يد الكاتب في (ايقش)
…
ناظر الأحباش في آلائه
بشبرى لمن قد جاءه زائرا
…
ومرغ الخد في أعتابه (1)
اهـ.
على ما في البيت الثالث مما لا يجور في الصناعة الشعرية وعلى ما في البيت الرابع من المبالغة الشعرية التي لا ينبغى الاغترار بها، إذ لا يجوز في الشريعة الإسلامية تمريغ الخدود بالأعتاب كيفما كانت، وقد عده ابن حجر الهيثمى بل وما هو أدنى منه من الكبائر، هذا إن لم يقصد به العبادة وإلا فهو كفر كما في غير ما ديوان.
وقد ذكر السيخ زروق في "قواعده" أن الزيادة لا تجور إذا كان هناك منكر من تقبيل جدرات القبر وغيرها، فكيف بالتمريغ، والتاريخ المذكور هو المشار إليه بلفظ أيقش، اهـ.
قلت: انظر هذا مع ما وقع لصاحب البستان وغيره من أن البناء كان سنة اثنين وثلاثين ومائة وألف، وتيقن أن الحق ما نقلناه، وبالدليل القاطع أيدناه.
وما هو منقوش في خشب بباب المدرسة المعدة لسكنى الطلبة المهاجرين لقراءة العلم والقرآن الكريم المقابلة لباب الحفاة المذكور، ولفظه: النصر والتمكين، والفتح المبين، لمولانا إسماعيل أمير المؤمنين، لكن هذه الخشبة يجور أن تكون من أنقاض الدار الإسماعيلية الكبرى التي جلبها سيدى محمد بن عبد الله مثل رخامتى خدى باب القبة كما يأتى.
وما هو منقوش في خشب مظل باب المسجد الإدريسى المتصل هو أى الباب
(1) بعض الأبيات غير سليم ونبه المصنف على ذلك عقب ذكرها.
[صورة]
رخامة ضريح أبي القناديل سيدي يوسف الشريف
بالجدار الشرقى من المدرسة المذكورة ولفظه: النصر والتمكين، والفتح المبين، لمولانا إسماعيل أمير المؤمنين، فإن قلت المسجد المذكور قديم ليس لمولانا إسماعيل فيه غير يد التجديد والتنميق. قال الحلبى في الدر النفيس: أما المسجد الجامع الذى حذاء الروضة فقديم والله أعلم؛ أنه من عهد مولانا إدريس فيما يظهر ولم أقف على خبر أمره، ولكن فهمت ذلك بالعرف المألوف أن المسجد بنى بقرب قبره المبارك كما يفعل بقبور الصالحين وقيل إنه محدث. اهـ.
قلت: يمكن أن البناء الحالى هو بناء للمولى إسماعيل أحدثه بعد زمن تأليف الحلبى وعليه فلا مخالفة وقوله وقيل: إنه محدث يعنى أحدثه غير المولى إسماعيل لأن الحلبى كان في رمانه وألف تأليفه المذكور قبل بناء المولى إسماعيل لهذا الضريح، وكان فراغه من تأليف الدر النفيس يوم الأربعاء العشرين من ربيع الثانى سنة ثمان وتسعين وألف.
ثم بعد كتبى هذا وقفت في الدر المنتخب على ما لفظه: ثم بنى جامع الخطبة الكبير المتصل بمولانا إدريس بزرهون وهذا لا شك فيه ولا ترديد، ورتب رواتبها، وجعل لها ما هو معلوم للمساجد العظام، واشترى بذلك فضلا يبقى على التأبيد، يعم الأهل والآباء والوليد، إذ ذاك من الأعمال التي لا تنقطع بالمنية، وتبلغ فاعلها في الدارين غاية الأمنية، ثم بنى المنار وشيده ورتب فيه المؤذنين ووقت لهم الأوقات، وعلم القائم بذلك ما يحتاج إليه في سائر الحالات، ونصب لهم ما يحتاجون إليه من الآلات، ثم بنى المدرسة المتصلة بما ذكر على الشكل الذى هو الآن معروف، ورتب فيها طلبة للقراءة على الأمر المألوف، ثم بنى دار الوضوء وجلب إليها الماء وأحسن في ذلك وأتقنها، وبنى دوراً ومكاتب ومواضع عديدة لنزول الزوار والضعفاء والأضياف وأعلنها، ثم بنى المساجد والمكاتب لتعليم الصبيان، ووقف على ذلك أوقافا عالية الأثمان، وبين لمن يقوم بكل وظيف ما له
من الأوقاف المختصة به وما يشترك فيه اثنان، ثم بنى الحوانيت والفندق والحمام والسقايات، وأجرى الماء في سائر النواحى والجهات، وبنى قبة سيدى راشد المتقدم ذكره، وبنى حول ذلك بناءات ثم أدار البناء على الجميع ليطمئن الزائر والساكن ولا يخشى العاهات، وبنى قنطرة الوادى وقنطرة أخرى بناحية قصر فرعون وسهل الطرقات، وأمر ببناء الدور في المواضع المرتفعات، وذلك كله على يد خادمه الباشا ابن الأشقر، وبعض كتابه ومن له الأمر.
وعند ذلك رغب الناس في سكنى زَرْهُون، وصار منازل الأشراف وأهل الفضل والدين، وان كان قديما هو مأوى الصالحين، ومحل إجابة السائلين وملجأ الراغبين، لكن كان غير مقصود للسكنى، وبوجود مولانا إسماعيل صار يغبط السكنى فيه الناس، وتقصده القبائل والرؤساء من سائر القبائل والأجناس.
وحين تم بناؤه على الوجه الذى أراده السلطان، وزاره ورأى ذلك بالعيان، ورأى عمارته واغتباط الناس في البنيان، سجد لله شكرا، وحمد الله على عادته سرا وجهرا. اهـ.
وإنما تعرضنا هنا لذكر هذا الضريح الأعظم في جملة تأسيسات مولانا الجد مولانا إسماعيل بعاصمته المكناسة لأن متبوعنا الإمام ابن غازى تعرض لذكر صاحبه ولذكر عاصمة ملكه التي كانت حاضرة البلاد مدينة وليلى ولكون المحل من جملة الأحواز المكناسية، وهذا هو ملحظ ما نأتى به بعد إن شاء الله مما يتعلق بزرهون وأهله.
وأما باقى بناءاته في غير مكناسة فقد أتينا على جملة صالحة منها في كتابنا المنزع اللطيف مفصلة وما أشرنا إليه من التأسيسات المتقدمة من هذا الإمام في العاصمة المكناسية، فإنما هو قُلٌّ من كُثْر، إذ لا نسبة لما انهد منها واندثر أثره مع ما بقى منها مما مر بك.
قال أبو القاسم الزيانى: ومن يوم مات المولى إسماعيل والملوك من بنيه وحفدته يخربون تلك القصور على قدر جهدهم وما أكملوا نصفها مدة من نحو مائة سنة. اهـ.
قلت: ولا زالت يد التخريب عاملة إلى الحين الحالى في تلك الحصون والأسوار الهائلة.
ولضخامة الآثار الإسماعيلية وانتشارها في سائر الأقطار المغربية، توهم بعض الجاهلين أن ذلك فوق مقدور البشر وأنه من عمل الجان، وليس الأمر كما توهم أولئك الأغبياء، وإنما بناءات مولانا إسماعيل الهائلة أثر من آثار على همته، ووافر ثروته، وعظم دولته، ونفوذ كلمته، وكمال اقتداره، وحزمه وصرامته، في سائر أطواره، ولذلك أزرت مبانيه بما بناه الفراعنة والأكاسرة حتى قال بعض حذاق الشعراء:
لقد بنت الملوك بناء فخر
…
به ذكرت على مر الدهور
وأبنية الإمام أبى الفداء
…
سليل المصطفى الليث الهصور
أتم ضخامة وأجل قدرا
…
وأجمل منظراً أبهى قصور
وفى كل البلاد له حصون
…
لتأمين المسافر في المرور
ولو قيست مبانيه بما قد
…
بناه من تقدم في عصور
لكان لها اعتزاز وافتخار
…
ببهجة حسنها وبنا الأمير
فدونك فاستمع قولى مصيخا
…
فإن مقالتى ليست بزور
وفى مكناسة الغرا دليل
…
كمثل الشمس في صفة الظهور
فرحمة ربنا عدد الرمال
…
على ملك تسامى عن نظير
وقال الوزير ابن إدريس:
قال للذين استعظموا من جهلهم
…
إيوان كسرى أو بنا الأهرام
لم يبن ملك قد تقدم ما بنى
…
مولاى إسماعيل في الإسلام
وقال صديقنا المؤرخ النقاد أبو عبد الله محمد بوجندار الرباطى مساجلا صديقنا الفقيه الأديب الكامل أبا عبد الله محمد بن اليمنى الناصرى وكان ابتداؤها
من الأول إذ قال:
مآثر إسماعيل أسمى المآثر
…
ففاخر بما شاهدت منها وكاثر
ونزه جفونا في محاسن صنعها
…
تجد مفخرا يسمو جميع المفاخر
مفاخر إلا أنهن بدائع
…
بدائع إلا أنها صنع ماهر
مصانع إلا أنهن نواصع
…
نواصع إلا أنها كالزواهر
فعج بى رعاك الله نحو ضريح من
…
غدت عن مزايا ملكه خير سافر
مزايا غدت علوية علوية
…
علت بمليك كامل الفضل وافر
وقول الوزير ابن إدريس لم يبن ملك
…
إلخ، إشارة إلى تعضيد قول مؤرخ الدولة العلوية أبى القاسم الزيانى إن مبانى المولى إسماعيل بقلعة مكناسة وقصوره ومساجده ومدارسه وبساتينه شيء تذهل عند مشاهدته العقول، وتعجز عنه قدر الدول القديمة والحادثة، قال: ولا تلحق ضخامة مبانيه ما بنى كسرى في المدائن، ولا الفراعنة في مصر، ولا الروم برومة والقسطنطينية، ولا اليونان بأنطاكية والإسكندرية، ولا العماليق بالشام، ولا ما بناه بنو أمية ولا بنو العباس ولا العبيديون ولا المرابطون ولا الموحدون، ولا بنو مرين، ولا السعديون، قال: ولقد شاهدت الكثير من آثار الدول المذكورة فما رأيت أثرا أعظم من آثاره وأضخم من
بنائه، وأكثر من قصوره لأن من بنى من هذه الدول إنما يعتنى بتشييد قصر وتنميقه، والمولى إسماعيل لم يقتصر على قصر ولا على عشرة ولا على عشرين، بل جعل مبانى الدول كلها في بطن قلعته بمكناسة كما يقال: كل الصيد في جوف الفرا. اهـ.
وقد تابع الزيانى على مقاله هذا من نسج على منواله كصاحبى "الجيش العرمرم" و"الاستقصاء" وعليه جرى الوزير ابن إدريس كما رأيته.
وأما تعقب بعض فضلاء العصر وهو الشيخ محمد فريد وجدى ما في الاستقصاء بقوله نقول في هذا الكلام غلو عظيم لا يصحّ أن يصدر من مؤرخ على أنه يَدُلُّ في الجملة على ما كان لهذا السطان من المبانى العظيمة. اهـ. فغير سديد لأن الغلو مدفوع بما بينه الزيانى من اقتصار كل دولة على تشييد بناء عظيم خاص، والولى إسماعيل شيد في بناءاته الضخمة الهائلة ما يوارى بناء كل دولة، وجمع ذلك في قلعته فصارت قلعته جامعة لا يماثل ما شيدته الدول كلها، وهذا شيء انفرد به دونهم فاستحق بذلك تفضيل جملة مشيداته على ما شيده كل فرد منهم، إذ لم يتفق لفرد من تلك الدول من كثير المبانى الضخمة الممثلة لسائر مبانى من عداه من الدول ما اتفق للمولى إسماعيل، فأين الغلو في ذلك حينئذ! وأين ادعاء أن ذلك لا يصدر من مؤرخ! كيف وقد صدر عن مؤرخين كما رأيت وأولهم الزيانى، ما أعلن بذلك حتى أخبر بمشاهدته لمبانى الفريقين فريق الدولة الإسماعيلية وفريق من عداها من الدول المتقدمة عليها في أقطار المعمور، وجناب الشيخ الفاضل المعترض ليس معه إلا تحكيم الاستبعاد، الخالى عما يدعمه من وجوه الاستناد، وذلك هو منشأ الفساد، على أنه سيوافيك في ترجمة المولى إسماعيل من مشيداته في الأقطار المغربية الخارجة عن مكناسة ما يزيح عنك كل تشكيك وشبهة.
هذا والذى حدانا لشرح نقض ذلك الانتقاد، زيادة المنتقد قوله لا يصدر عن مؤرخ المعنونة بأن الغلو المنتقد به غير مقبول، لخروجه عن مناهج المعقول، أما لو طوى بساط تلك الزيادة المفسدة واقتصر على مجرد التنبيه على الغلو لقبلناه، وحملناه على الفرد المقبول عند سماسرة الفن ولم يعبأوا بمن خالفهم فأباه، وقلنا حينئذ بمجالات المديح التي لا غنى للمؤرخ عنها هى معدن ذلك ومأواه.
(تنبيه) علم مما سبق اهتمام المولى إسماعيل وغيره ممن تقدمه من ملوك المغرب بتشييد المساجد العظيمة والمدارس البهية والمشاهد العلية وتجديدهم لما وهى من ذلك تجديدًا أرفع مما كان، لكن مع التجافى في الجملة عن الإسراف وعدم التجاور عن حدود الإمكان.
وعليه فما وقع في رحلة الزيانى بعد بيان فخامة مسجد السلطان حسن بمصر من قوله: فرحم الله أفاضل الملوك الذين درجوا، والذين من خلفهم على مناهجهم نهجوا، لقد خلدوا من المآثر الدينية ما أوجب خلود الثناء عليهم ووصول الدعاء ممن بعدهم إليهم، ولم يزل أهل المشرق إلى الآن لهم فضل اعتناء ببناء المساجد والخانات، ويبالغون في تعظيمها ويتنافسون في ذلك ويبادرون إلى إصلاح ما وهى منها.
وأما مغربنا فلا تكاد ترى في مدنه مسجدًا عظيمًا قد أحدث بل مهدوما قد جدد، أو واهيًا قد أصلح، بل إن سقط شيء من أكبر مساجدهم فأحسن أحوالهم فيه إن كان مبنيا برخام أن يعاد بجص وآجر، وإن كان مجصصا أن يعاد بطين، بحيث تجد المسجد كأنه مرقعة فقير من كل لون رقعة، وما أرى سبب ما لمغربنا من الوهن إلا أمثال هذا من عدم تعظيم الله ولو في الأمور الظاهرة، فضلا عن الباطنة، ولم يعتن بإقامة معالم الدين إلا أمير المؤمنين سيدنا محمد بن عبد الله فقد شيد بمدنه مساجد ومدارس ورباطات، واقتفى آثاره في ذلك سلطاننا مولانا سليمان في تشييد معالم الدين بكل مدينة. اهـ.
قلت: هذا مخالف للحقيقة، وبعيد عن سوى الطريقة، أما تأنق أهل المشرق في بناء المساجد في ينكر، وأما مبالغتهم في تعظيمها فإن عنى بتأنق البناء فهو ما تقدم وإن عنى تعظيم الحرمات الشرعية فيها الذى نسب ضده لأهل المغرب فهو من مجازفاته المعهودة منه رحمه الله، فإن المقرر والمعهود عند الثقات وأفاضل الرحالين عكسه، وقد قدمنا في الكلام على البربر وأهل المغرب كلام الشيخ زروق في قواعده "الناص" على أن الغيرة الدينية عزيزة في المشرق ولا توجد إلا في أهل الخصوصية من أهله.
وقد نبه أبو سالم العياشى في "رحلته" على ما يعضد ذلك من تهاون المشرقيين بحرمات المساجد، وإذا لم تكن حرمات المساجد قائمة وبأنواع التعبدات التي بنيت لها آهلة، فأى ثمرة للمبالغة في تزويقها وتنميقها! هذا لو كان ذلك التزويق مأذونا فيه شرعا، فكيف وقد أباه الكثير من السلف، وكراهته هى مشهور مذهب أهل المغرب وهو مذهب مالك.
وفى صحيح البخارى أن سيدنا عمر بن الخطاب أمر ببناء المسجد وقال: أُكِنُّ الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس. وقال أنس: يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلا، وقال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى كنائسهم.
قال القسطلانى: فيه كراهة زخرفة المساجد لاشتغال قلب المصلى بذلك أو لصرف المال في غير وجهه. اهـ.
وقال الخطيب ابن مرزوق في "شرح العمدة": وقعت المسألة بمجلس أمير المؤمنين أبى الحسن المرينى في المسجد الجامع الذى أنشأه بظاهر تلمسان بضريح سيدى أبى مدين، إذ زوقت قبلته وذهبت، فأفتى أبو زيد وأبو موسى ابنا الإمام ومن حضر من أئمة المغرب بزواله وأبيت لهم ذلك، قال: والحق منعه ابتداء وأما
بعد عمله فلا أرى أن يزال، وقد أمر أمير المؤمنين بإزالة ما قرب من المصلى من ذلك، قال: وهذه المسألة مما عمت به البلوى، لا سيما في بلاد المشرق، انظر المعيار فانظر قوله: مما عمت به البلوى لا سيما في بلاد المشرق، فهو ضد ما جازف به الزيانى من مدح أهل المشرق به، ثم استثناؤه خصوص سيدى محمد بن عبد الله ومولاى سليمان يدل على أنه قصد المولى إسماعيل في الدخول في الذم الذى ذكره، وربما كان هو المقصود عنده به، وأنت ترى مما تقدم كثرة ما شيده من المعاهد الدينية في خصوص مكناس وفى ترجمته المنزع اللطيف بعض ما شيده في غيره والله المرشد بفضله.
هذا وقول ابن مرزوق وأما بعد عمله فلا أرى أن يزال لا وجه له حيث إنه ممنوع ابتداء، والعلة هى شغل المصلى كما هو في كلام عمر، فالواجب هو زوال ذلك الشاغل والإقلاع عن ذلك المنهى عنه فالحق مع ابنى الإمام لا يقال في زواله إضاعة المال بلا فائدة، لأنا نقول وفى بقائه ضياع المال مع مفسدة شغل المصلى ودوام ارتكاب المنهى عنه.
وإذ قد أتينا على ما بلغه علمنا وما شاهدناه مما أسسه المولى إسماعيل من عظيم المبانى والغروس بعاصمته مكناسة الزيتون فلنعطف للتنبيه على ما أسسه فيها أيضا الملوك من بنيه وحفدته وعائلتهم الكريمة فنقول:
من تأسيسات السلطان الأصيل العريق المجد والفخار مولانا أحمد الملقب الذهبى بمكناسة ضريح والده الإمام الجليل، أمير المؤمنين مولانا إسماعيل، ذلك الضريح الذى أصبح في باب الإتقان آية، البالغ في التنميق والتنسيق الغاية، ذلك الضريح المحكم الصنع، العجيب الوضع، المنتظم من قبة لا نظير لها في الأقطار المغربية بل ولا الشرقية فيما أعلم، يقال إنه اخترع بناءها على الشكل والهيئة التي كان عليها إفراج والده صاحب الضريح المذكور الذى كان معدا لديه في حركاته
[صورة]
باب قبة ضريح السلطان مولاي إسماعيل
[صورة]
دويرية الشريح الإسماعيلي ومحرابها
لدى أسفاره وتجولاته في إيالته لتوطيد الأمن، وكسر صولة المتمردين، وبخدى باب هذه القبة الزكية البهية لوحتان رخاما بديعتان منقوشتان أبدع نقش وأعلاه، طول كل واحدة مترا وسبع وستون سنتيما وعرضها خمس وتسعون سننتيما منقوش في أعلى التي عن يمين الداخل ما لفظه:
باب ضريح إمام الغرب ذا فبه
…
بدر الهناء ونجم الدين قد غابا
وبأعلى التي على اليسار ما لفظه:
فافسح له يا عظيم المن منزلة
…
في الخلد وافتح إلى الغفران أبوابا
وبراح أمام هذه القبة طوله عشرة أمتار وعرضه كذلك محيط بمباحات أربع محمولة على اثنى عشر أسطوانة من بديع المرمر، وبوسطه خصة مرمرية لطيفة الشكل، وبهذا البراح أيضا قبة في الجهة الجنوبية تقابل قبة الضريح تعرف باسم الخراجة لكون الأمام أبى النصر مولانا إسماعيل كان يخرج منها من داره العلية إلى المسجد الذى وصفنا تهدمه الكائن الآن داخل الباب الأول للضريح الإسماعيلى، وهو الذى كان يؤدى فيه الصلوات الخمس كما أشرنا لترشيحه سابقًا، وحذو هذه الخراجة قوس صغير بمثابة بيت القنادل بالجانب الغربى منها، وبإزائه بهو يقابله في الجانب الشرقى محراب الصلاة وتحيط بجدرات الضريح والبراح المربع أمامها منطقة من الزليج المرصع أبدع ترصيع وأتقنه، ينيف ارتفاع تلك المنطقة على متر وبأعلى منطقة زليج قبة الضريح قصيدة رائقة منقوشة في زليج أسود بخط بديع رائق محيط بدائرة القبة، شاهدة بأن مولانا أحمد المذكور هو البانى والمؤسس لذلك المشهد الحفيل الفائق، بيد أنه ضاع أول تلك القصيدة وآخرها، ووقع اختلال في أواسطها ودونك لفظ ما هو موجود منها الآن مع إصلاح يسير فعلى يمين الداخل:
فتح المدائن والحصون بجنده
…
وجهاده وحسامه البتار
نشر العطا غفر الخطا ستر الغطا
…
أغضى الحيا من حلمه الستار
مد الأمان على الأنام بظله
…
وشقى الحيا من كفه المدرار
قل للمفاخر لا تفاخر واعترف
…
لكماله بالعجز والإقصار
ماذا تقول لفضل آل محمد
…
وهم الغياث لكل خطب طارى
وهم الكرام إذا حللت بجاههم
…
وهم الأمان لأرضهم والجار
وهم هم من أمهم وأبوهم
…
متوسلين بجاههم للبارى
من ذا يعد على فضلا في الورى
…
وأنا طويت المجد تحت جدار
فلى الفخار على المبانى كلها
…
آثاره تنبيك عن أخبار
قد شادنى البانى ولله ما بنى
…
وأطال في سمك السماء منار
وأنالنى شرفا وفخرا باذخا
…
وبالانتساب له علا مقدار
خير الملوك من البرية كلها
…
الذهبى أحمد نخبة الأخيار
غيث البلاد إذا البلاد قد أمحلت
…
غوث الأنام لكل هول عار
جبر الإله به الأنام وصدعها
…
وكَسَابِهِ في الفضل من هو عار
ورث الخلافة عن أبيه وإنه
…
أهل لها من سائر الأنظار
عقلا ودينا سؤددا وشجاعة
…
حزما وعزما دائم الأمطار
يغنى إذا أعطى وإن هو قد سطا
…
فتخاف فتكته أسود الضارى
ما مات والده المخلف مثله
…
فكأنه ما غاب، عن أبصار
حسب على حسب تكامل مجده
…
وكذا ذوو الأحساب والأقدار
أبقاك مولانا لنصرة دينه
…
ظلا ظليلا في سما الأمصار
تغشاك ألطاف الإله ونصره
…
يتلو عليك معالى الإظهار
وسواك مفضول وقدرك فاضل
…
وعلاك فوق الكل في الأسطار
ما رام شأوك في العَلا مسابق
…
إلا وكنت أبا السنا المضمار
فعلى ضريح أبيك رضوان الإلـ
…
ـه وألف ألف سلامه المعطار
وسقاه مولانا شآبيب الرضا
…
تغشاه بالآصال والأبكار
في عام (لباشوق) داع إلهه
…
قد صار في كرم مع الأبرار
وقول البيت الثانى: ستر الغطا معناه إما ستر السوء من قولهم فعل به ما غطاه أى ساءه كمال في المحكم، وإما ستر الكثير من قولهم ماء غاط أى كثير كما في تاج العروس، أو ضمن ستر الغطا انسداله إن لم يكن الأصل سدل فتصحف على الكاتب وهذا الاحتمال أظهر وقع تصحيف أو لم يقع، وقول السابع وهم هم من أمهم وأبوهم يقرأ من يكسر الميم في قوله من أمهم ويكون قوله وأبوهم مبتدأ خبره محذوف أى كذلك، وعلى يسار الداخل منها ما لفظه:
تاج الملوك إمامهم وضياؤهم
…
سبط الرسول ونبعة المختار
مولاى إسماعيل خير بيوتها
…
نجل الشريف وطلعة الأسرار
بيت المكارم والسيادة والندى
…
قطب الجلالة معدن الإكبار
ورث المجادة كابرا عن كابر
…
والمجد مجدهم بلا إنكار
قد طالما عبد الإله بليله
…
ونهاره وسطا على الفجار
جبر الكسير وكم أسير قد فدى
…
بنفائس الأموال والأحجار
وبنى المساجد والمدارس طائعا
…
متواضعا لمليكه الجبار
كم عفر الوجه الكريم على الثرى
…
بسجوده شكرا بلا استكبار
انتهى.
تبرج أعلى سطح هذه القبة بزينة حلة قرموده المزدرى بالزبرجد في الاخضرار، تعلو تلك الحلة السندسية طاسات خمس من صفر مموهة بخالص الإبريز منتظمة في قضيب من حديد سفلاها هى أكبرها والتى تليها دونها في الكبر وهكذا، وعلى رأس ذلك القضيب لوح حديد لطيف مغشى بورقة من خالص الذهب يعرف ذلك اللوح باسم الخلالة منقوش في إحدى جهتيها ما لفظه:
هذه رتب الكمال تبدت
…
ولواء النبى خير البرية
وفى الجهة الأخرى ما لفظه:
فالتمس من شذاه أطيب نشر
…
واغتنم طيبه بحسن الطوية
كان يعتقد كثير من الناس أن ذلك اللوح كله من خالص الذهب ويزعمون أنه كان لبعض حظايا الجناب المملوكى الإسماعيلى لما لبى مولاي إسماعيل داعى مولاه وبنى ضريحه على الوصف المذكور أمرت بجعله ثَمَّ، ولم يزل ذلك الاعتقاد ساريا في الناس حتى اعوج ذلك القضيب الحديدى الذى ركبت نيه تلك الطاسات الصفر وذلك اللوح المغشى بسبب هبوب عواصف الرياح توالت ثلاثة أيام أقلعت الأشجار، وكان ذلك في ثانى عشر جمادى الأولى عام خمسة وثلاثين وثلاثمائة وألف، فعند ذلك. أنزل ذلك القضيب بقصد إصلاحه فكشف الغيب أن اللوح إنما هو من حديد مغشى بالذهب وقد أعيد تمويه ما يحتاج للتمويه من تلك الطاسات لكن جاء التمويه الجديد بالنسبة للقديم بمثابة تشويه، إذ الأول قد مرت عليه قرون والثلوج تتراكم عليه وغزير الأمطار وعواصف الرياح تحمل إليه من الغبار، ما يغطى بهجته ويستر بريقه ولمعانه عن الأبصار، ومع ذلك فلم يؤثر ذلك أدنى تأثير، ويجد بباب الدويرية المذكورة باسم البراح السالفة الوصف زليج مكتوب في نفس تزديجه ما لفظه:
لساكنها السلامة والسعادة
…
بطول الدهر ما غنت حمامه
وعز لا يدانيه هوان
…
وإقبال إلى يوم القيامة
وما لفظه أيضا:
ألا إن دخلت القصر فانظر محاسنى
…
وهل أبصرت عيناك مثل هذا الخد
تبارك الله ما أرق شمائلى
…
على من الرحمن عز بلا حد
انتهى.
وقد اختلست في هذه الأيام الأخيرة زليجتان بهما البيت الأول وهو لسكانها. . إلخ، ويوجد خارج هذه الدويرة صحن فسيح طوله أمتار ثلاثون ونيف وعرضه أربعة عشر مترا به مباحان: أحدهما في الجهة الشرفية والآخر قبالته بالجانب الغربى، ومزارة يصعد إليها بدرج خمس يشرف منها على قبة الضريح الأقدس على تلك المزارة شباك من حديد مموه بالذهب، وذلك في الجانب الشرقى، وفى الجانب الشمالى من هذا الصحن قبة بها قبور بعض حرم السلطان المولى إسماعيل وبعض أنجاله وأحفاده تعرف هذه القبة بقبة الحاجبات، وفى قبالتها من الجهة الجنوبية ضريح العارف الكامل السيد عبد الرحمن المعروف بالمجذوب، وبوسط الصحن المشار أمام الضريح المجذوبى بئر حفرته امرأة بمال من صداقها بقرب عام ستة وخمسين وألف كما في "ابتهاج القلوب" ويأتى في ترجمة المجذوب بعض ما يتعلق بروضته المذكورة، وبعد الصحن المحدث عنه يوجد صحن آخر طوله يقرب من العشرة أمتار، وعرضه كذلك، بجانبه الشرقى صفة يقال إن بها مدفن الفرس الذى كان يركبه الشيخ المجذوب وحملت عليه جثته لمحل إقباره المشار، ومن هذا الصحن يخرج لمسجد صلاة الخمس المحدث عنه آنفا الذى بابه الأصلى القديم هو المعروف اليوم باسم باب مولاى إسماعيل، فإذا أراد الإنسان زيارة ذلك الضريح الأنور كلما وصل لصحن من الصحون المارة الوصف يصعد في درج، وهكذا إلى أن يصل قبة الضريح.
[صورة]
صحن البير بالضريح الإسماعيلي
ولأجل هذا العلو وارتفاع بقعة الموقع تتراءى تلك القبة المتبرجة بحلتها الزبرجدية وتاجها المغشى بالذهب من مسافة ليست بالقريبة من سائر نواحى جهات البلد، لا يرى الرائى أعلى منها ولا أروق في النظر، يغشاها نور نبوى تقر به أعين المحبين، ويكون قذى في جفون المارقين والملحدين.
ومن تأسيسات السلطان مولانا عبد الله بن مولانا إسماعيل بهذه العاصمة الفاخرة تنميق باب جامع الأنوار الشهير الواسع الأكناف الواقع بين باب زين العابدين أحد أبواب المدينة الآن، وباب منصور العلج، وكان تأسيسه لذلك عام ستة وأربعين ومائة وألف، ويدل لذلك ما هو منقوش في زليج بخط بارع على الباب المذكور ولفظه:
ما للخورنق والبديع كمال
…
شرفي بمنشئ حلتي وكمالي
مولاي عبد الله من دانت له
…
شم الأنوف أجلة الأقيال
حسبي من الفخر المخلد أنني
…
أثر له والسعد في الإقبال
وقتي (مشوق 1146) كل نفس ودها
…
تحظي به موصوله الآمال
وقد قدمنا أن أصل الجامع المذكور بكماله من أعظم منشآت والده المولى إسماعيل وشرحنا القول في ذلك بما له وما عليه فارجع إليه.
ومن تأسيساته أيضا تجديد باب القصبة الإسماعيلية المعروف باسم. باب منصور العلج على الطرز الذي هو عليه الآن على إصلاح للدولة الحامية فيما كان تصدع منه إصلاحا لم يغير ما كانت عليه، وهذا الباب أبت الأقطار المغربية أن تعزره بثان فهو وحيد الحسن بين أترابه، أنشأ تجديده عام أربعة وأربعين ومائة وألف وشاهد ذلك ما هو منقوش في زليج أسود بخط مشرقي بارع في أعلى ذلك الباب ولفظه: الحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد الذي لا نبي بعده:
[صورة]
منظر باب منصورالعلج أحد أبواب القصبة الإسماعيلية
طلعت مطالع سعدها أبراجى
…
وأضاء في فلك الجمال سراجي
وحللت من أوج المعالي صهوة
…
تسمو على الصهوات والآراج
بوجود من أحيا الوجود وجوده
…
وأناره بسراجه الوهاج
من شاد بالنصر العزيز قواعدي
…
وأدار بالفتح المبين رتاجي
بيت النبوءة والجلالة والعلا
…
كهف الضعيف وغنية المحتاج
مولاي عبد الله متى أضحى به الـ
…
إسلام معقود اللوا والتاج
ملك يطاع محبة ومهابة
…
فتجيء في زمر وفي أفواج
في كل صالحة آثار تو
…
فيق تنادي باسمه وتناجي
فانظر وقس ما غاب عنك بما ترى
…
هذا قياس صادق الإنتاج
هل ورخت مثلي (دمشـ 1144 ـق) أو وشت
…
صنعى يد صنعاء في ديباجي
أم خصت الإسكندرية بالذي
…
يصفون من عمد ومن أزاج
أم في الملوك نظير مولانا الذي
…
هو للعباد كفاية الأماج
فالله يبقيه لرحمة خلقه
…
ولغيثها بالصيب الثجاج
والله يبقى دينه بوجوده
…
بادي المعالم واضح المنهاج
ونوافل الخيرات تجبى نحوه
…
من مغنم وهدية وخراج
وتحية المولى السلام تحفه
…
مسكية النفحات والآراج
أشار بحروف لفظة دمشق للتاريخ المشار له. والآماج -بالفتح- جمع أمج بالفتح أيضا وهو الحر والعطش كما في القاموس (1).
(1) انظر القاموس (أم ج).
ومن تأسيسات السلطان الأعظم، والملاذ الأفخم، سيدي محمد بن عبد الله بقلعة مِكناسَة عاصمة ملك جده المولى إسماعيل المسجد الأزهر، الرافل في حلل الأبهة والفخار، ذلك المسجد الحافل الفاخر المعروف اليوم باسم جامع الأروى، وكان تأسيسه له عام تسعة وثمانين ومائة وألف، وشاهد ذلك ما هو منقوش في الجبص على يمين المحراب وشماله ودونك لفظه:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا محراب مبارك سعيد قد بناه بمسجدنا سيدنا ومولانا المنصور بالله المحروس بعين رعاية الله المجاهد في سبيل رب العالمين، المتوكل على الله القوي المتين، محمد بن عبد الله ابن إسماعيل في عام تسع وثمانين ومائة وألف. اهـ.
ينتظم هذا المسجد من صفوف أربعة ذات أقواس محمولة على أربعة وأربعين سارية مبنية بالجيار واللبن، وصحن فسيح لا يوجد له نظير في القطر المغربي فيما أعلم، طول هذا المسجد ثمان وثمانون مترا ونيف، وعرضه ستون مترا، بوسط صحنه الرحب جابية من أصفى المرمر، وأعلاه من أكبر وأوسع ما أنت راء جوانبها الأربع أعني ما اتصل بها من الصحن مفروشة بزليج الرخام البديع، وباقي الصحن مفروش بالزليج الملون الفاتن الباهي.
ولهذا المسجد ثلاثة أبواب لعموم المصلين أحدها في الجهة الغربية، وثانيها في الجانب الشمالي، وثالثها في الجانب الجنوبي وبويب صغير بالجانب الشمالي من الصفِ الأول يختص السلطان بالدخول منه لكيلا يقع في ورطة تخطي رقاب المصلين، ومع الأسف فقد أهمل هذا المسجد إهمالا ليس عليه من مزيد حتى عشش فيه عرمرم الخراب والتلاشي والدمار وباض وفرخ، رغما عن كونه تقام فيه الجمعة والجماعة، وكونه من المعاهد الإسلامية السامية ذات البال، اندثر زليج أرضه ونبت الكلأ في صحنه، وتكاثف، ونبت الكرم في خشب سقفه الذي كان على جانب من الزينة والزخرفة عظيم، هذا فيما بطن منه، فما ظنك بما ظهر من سطحه إلى غير هذا مما لا أذكره.
وبخارج الباب الشمالي من هذا المسجد توجد مدرسة تحتوي على بيوت ستة وثلاثين عن اليمين والشمال بوسطها خصة لطيفة وبئر، وبآخرها قبة بديعة الشكل كانت على جانب من الزخرفة والنقش عظيم، وبهذه المدرسة منار المسجد المحدث عنه، كما يوجد خارج الباب الجنوبي مرحاض حافل محتو على خمس وعشرين مِيضَأَة، بوسط صحنه صهريج للماء مستطيل كان في غاية اللطف، وخارج هذا المرحاض في جداره الشرقي صهريج مستطيل طوله نحو المترين منحوت في حجرة واحدة، ومع الأسف فقد أصبحت بهجة ذلك كله في خبر كان، ومدت الأيدي العادية لاختلاس مَائِهِ.
وقد كان السلطان المولى الحسن في عزمه إحياء هذا المعهد الإسلامي الذي هو من آثار أسلافه الكرام وأياديهم البيضاء ورده إلى شبابه وشرع في ذلك بالفعل ولكلن حالت المنية بينه وبين بلوغ مراده، ولولا تلافيه بجبر بعض ذلك الصدع لخرت سقوفه ولأصبح أحدوثة في خبر كان.
ومن تأسيسات الأمير سيدي محمد هذا قصره البهيج الموسوم باسم الدار البيضاء محل المدرسة الحربية الآن المعدة لتعليم ضباط المغاربة، أسس بهذا القصر الشامخ مسجدا منتظما من صفوف أربعة وصحن، وجعل له منارًا ومستودعا لوضع آلات التوقيت، وأسس بجانبه الشرقي مدرسة لطيفة وأحاط السور بالفسيح الطويل العريض المعروف باسم أجدال، وأسس بصدر هذا الفسيح قبة مرونقة بديعة على جانب من الإتقان والتزويق مكين، وجعل بإزائها حماما له باب ينفذ إليها وكنيفا، وكل ما يحتاج إليه من منافع ومرافق بحيث لا يحتاج القاطن فيها إلى الخروج منها لما تدعو إليه الحاجة اللازمة للإنسان أعد هذه القبة لفسحته، والجلوس لسماع مظالم رعيته، وأعد البسيط المذكور أمامها لرعي إناث الخيل العتاق أطلقها تغدو في مروجه وتروح إذ كان له ولوع تام بانتقاء الصافنات الجياد، وجلبها من كل صوب، وتربيتها والإنتاج منها.
وأسس بجوار هذا القصر جناني أسوفيط الكبير والصغير، وجنان باب القزدير، وجنان ابن حليمة وعرصة السنطرجية، والعرصة الجديدة حذوها المعروفة بالبحراوية وحبس جنان ابن حليمة المذكور مع العرصتين المشار لهما على المسجد الأعظم، ودونك نص عقد التحبيس:
الحمد لله حبس مولانا الإمام، السلطان المؤيد الهمام، ناصر الدين، المجاهد في سبيل رب العالمين، صدر الأفاضل المقدام، علم الأعلام، وابن سيد الأنام، العلامة الشهير، الداركة النحرير، صاحب الفتوحات الإلهية، والمواهب الربانية، الذي أشرق الوجود بكريم محياه، أمير المؤمنين سيدي محمد ابن أمير المؤمنين مولانا عبد الله ابن السلطان الجليل، الماجد الأثيل، مولانا إسماعيل، أدام الله عزه ونصره، وخلد في الصالحات ذكره، جميع جنان ابن حليمة وجميع عرصة السنطرجية وجميع العرصة الجديدة المجاورة لها والجميع داخل القصبة السعيدة على المسجد الأعظم من مكناسة تحبيسا مؤبدا، ووفقا مخلدا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين، ومن بدل أو غير فالله حسيبه وولي الانتقام منه، تقبل الله من مولانا عمله، وبلغه سؤله وأمله، وبسط للناظر الأحظى السيد الحاج الطيب ابن السيد أبي القاسم المسطاسي يد الحوز على ذلك يتصرف فيه للحبس المذكور من بيع غلته وعلاجه مهل رمضان عام اثنين ومائتين وألف.
وقد أفردت الكلام على ماضي هذا القصر الملوكي وحاضره وعلى الأجنة المحتفة به بما يهم القارئ في رسالة مستقلة.
وأسس مسجد قصبة هدراش السالفة الذكر، ويعرف هذا المسجد اليوم بجامع لال خضرا، وقد تقدم لنا أنه من المساجد التي تقام بها الجمعة، وينتظم هذا المسجد من بلاطين وجناحين وأسس به كنفا وحماما بمقربة منه.
قلت: هكذا ذكر تأسيسه لهذا المسجد الزياني ومن تابعه، وانظره مع ما
قدمناه عن ذلك العقد القديم الموثوق به، من أن أرض بريمة كانت من أوقاف جامع الخضرا، ثم انتقلت للمولى إسماعيل
…
إلخ، وليس يعرف بمكناس جامع الخضرا غير هذا، فالظاهر أن سيدى محمد بن عبد الله جدد بناءه لا أنه أنشأ تأسيسه والله أعلم.
وأسس ضريح الشيخ محمد بن عيسى الشهير بالشيخ الكامل المتبرك به حيا وميتا، دفين خارج الباب المعروف باسم باب السيبة، أحد أبواب العاصمة المكناسية يقال إنه بناه من أنقاض ما هده من الدار الكبرى دار الخلافة الإسماعيلية المارة الذكر، وكان تأسيسه له عام ألف ومائة وتسعين، يدل لذلك ما هو منقوش داخل مزارة الضريح المذكور ولفظه:
أشاد أمير المؤمنين محمد
…
علاه فلا زال العلي يؤيده
وجاء على أيدي ابن وعزيز طالعا
…
يؤيده (نصر وفتح واسعده)
أشار للتاريخ المشار بحروف نصر وفتح واسعده، وما يوجد أيضا في نقش الجبص فوق المنطقة الزليجية المحيطة بجدار قبة الضريح ولفظه:
نزه جفونك في المشيد العالي
…
لترى بدائع نشأي وكمالي
ما زهر أيام الربيع ووشي صنـ
…
ـعاء يشابه حسن جيدي الحالي
حزت البهاء بجمع كل محاسن
…
من ذا يزاحم رفعتي وجمالي
أو ما ابن عيسى القطب هذا من له
…
سر شهير فاق كل جلال
بحر تلاطم موجه بعناية
…
ومهابة وسعادة ونوال
قصاده خصوا بنيل مرامهم
…
في عاجل أوْ آجل ومآل
لا يعرفن الضيم عبد يحتمي
…
في حادث الدنيا له بظلال
قد سالمت كل السموم جميع من
…
يعزى له في سهلها وجبال
غياث من في الأرض يهتف باسمه
…
ومفرج الأزمات والأوحال
أنزل به كل المنى تجد الذي
…
أملت من وجود ومن إفضال
من يستقم لا ينكرن ما قد يرى
…
فحذار كل تعرض وجدال
أمؤمل المعروف هذا منهل
…
من جاءه يسقي بعذب زلال
لكن كأس شرابه التسليم والـ
…
ـظن الجميل وصادق الإقبال
كم كربة ومضايق قد فرجت
…
بركاته بتضرع وسؤال
وغريب أوطان توطأ حبه
…
فاقتاد ما يبغيه من آمال
ووضيع قدر قد رفعت حضيضه
…
فوق النجوم فنال حسن منال
وبذا الإمام فزر تراه تبركا
…
مولاي عبد المالك المفضال
إن الإمام محمد بن محمد الـ
…
ـهادى الرسول به استقامة حالي
كم من مزايا نالها ظهرت كما
…
أمن الورى بجلال ذي الإجلال
من ذاك أن أمر الخديم محمدا
…
ولد العزيز بمبرر الأشكال
واشتد في أمر الأمير محمد
…
ببنا ضريح مكثر الأفعال
قد حاز من حسن القوام لطافة
…
أقسم بأنه فاقد الأمثال
واستنجز الأنصاف من كل غاية
…
إن الصواب موضح الأقوال
وقل لمن رام ارتقاء كماله
…
قصر فلا تدن بغير وصال
ولقد أتيت بما بدا أعلا الرضا
…
فلعله من صالح الأعمال
ثم الصلاة على الشفيع محمد
…
عين الوجود نهاية الإكمال
ولا يخفى ما في هذه القصيدة من التغالي الذي لا يكاد يخلو منه مديح في الغالب.
وبني قبة ضريح سيدي سعيد أبي عثمان.
وأسس مدرسة الشاوية وهي الواقعة أمام الداخل من المدينة لباب منصور العلج شرقا أحد أبواب القصبة الشهير، وهي المجاورة للباب المحدث لقصر الستينية المار الوصف، وبهذه المدرسة قرأت القرآن العظيم، وبها قرأه آباؤنا وأسلافنا الكرام برد الله ثراهم، ولقد تخرج بها من حملته منهم ما يناهز الألف، ومنا منهم إلا من له الخط الرائق الفائق، ولا زالت هذه المدرسة إلى حد الآن مكتبا لتعليم الصبيان ومسجدا لعبادة الرحمن، وقد كان الدهر أخنى عليها وبقيت في زوايا الإهمال دهرا طويلا إلى أن خرت سقوف صفوفها، واغتصب محرابها، ولعبت بجدراتها أيدي البلى، ونبتت بأرضها الكروم، وعششت بها البوم، وتكاثرت أنواع الطيور، وأخيرم صارت مقبرة معدة للدفن، وفي هذه الأزمنة الحاضرة أصلح ما يواجه الداخل منها.
وقد كان أول من انتدب لإصلاحه والدي قدس الله ثراه، فابتدأ مباشرة ذلك من ماله الخالص له ثم بعده أتم جانب الحبس ما كان ابتدأه من الإصلاح وبقي ما وراء ذلك وهو معظم المدرسة على ما وصفناه من الخراب والإهمال، مع توفر مادة الأحباس، إذ للمسجد الأعظم وما أضيف إليه من المساجد التي من جملتها المدرسة التي كلامنا فيها بالعاصمة المكناسية من الرباع ما بين دور ودكاكين وإصطبلات ومعاصر وديار الصابون وطرازات وحمامات ما قوم ثمن رقبته في أوائل رجب الفرد الحرام عام ألف وثلاثمائة وواحد وثلاثين بمائة ألف ريال وتسعة وأربعين ألف ريال ومائتى ريال وأربعين ريالا ونصف ريال.
وفي منفعته ثلاثة عشر ألف بليون ومائة وثمانية وخمسون بليونا، وفي مدخوله الشهري ثلاث وثلاثون مائة مثقال وستون مثقالا، وثلاث أواق ونصف
الأوقية حسبما وقفت عليه في صك الإشهاد بذلك بتاريخ أوائل رجب عام ألف وثلاثمائة وواحد وثلاثين.
وله من الأوقاف خارج المدينة بين بلادات وزيتون وجنات ما قومت رقبته بخمسائة ألف ريال وخمسة وثمانين ألف ريال وسبعمائة ريال واثنين وسبعين ريالا حسبما وقفت على ذلك أيضا في صك تقويم العراف المرجوع إليهم في ذلك بالتاريخ المتقدم.
ولمساجد السور من الأوقاف بداخل المدينة من حواديت وديار وفنادق ومعاصر وغير ذلك ما قومت رقبته بثمانية وتسعين ألف ريال 9 مائة ريال بالإفراد وتسعة وخمسين ريالا، وفي المنفعة عشرة آلاف بليون وخمسائة بليون وسبعة وخمسين ريالا، وفي المنفعة عشرة آلاف بليون وخمسمائة بليون وسبعة وستون بليونا وفي المدخول خمس وثلاثون مائة مثقال وأربعة وثلاثين مثقالا وثمن المثقال حسبما وقفت عليه في عقد الإشهاد بذلك بالتاريخ المتقدم، وهذا خارج عن الأحباس الصغرى وما انضم إليها وعن أحباس مولاى عبد الله بن حمد، بل وعن المعاوضات التي وقعت في أرض حمرية ومدخولاتها.
وكذلك أسس السلطان سيدى محمد بن عبد الله أيضا بالقصبة مسجد باب مراح ومناره، وباب مراح هذا هو المعد إلى اليوم لسكنى مماليك الجناب السلطانى، وموقعه ما بين قصر المحنشة السعيدة وصهريج السواني المحدث عنه سابقا، وجوار جنان ابن حليمة الشهير، وجدد ما افتقر للتجديد من المسجد الأعظم، وجدد بناء مناره وذلك عام سبعين ومائة وألف، ويدل له ما هو مكتوب في نقش زليج بجدار المنار المذكور في الجهة الموالية للصحن ودونك لفظه: الحمد لله وحده، وصلى الله على من لا نبي بعده.
بنى هذا المنار أمير صدق
…
محمد الرضا في عام (عشق)
وجدد فيه مسجده فحازت
…
به مكناسة قصبات سبق
أشار للتاريخ المذكور بحروف لفظة عشق، وجدد مسجد باب البراذعيين المذكور فيما مر كما جدد ضريح الولي الشهير سيدى سعيد المَشَنْزَائى ومسجده:
تنبيه: عدّ أبو القاسم الزياني من جملة ما شيده السلطان سيدي محمد بن عبد الله من المعاهد الدينية مسجد سيدي سعيد المذكور، ومسجد بريمة، ومدرسته، ومدرسة الصهريج، وقد تبعه على ذلك صاحبا "الجيش" و"الاستقصاء".
قلت: ويتعين حمل كلامهم في ذلك على تشييد الإصلاح والترميم، وإلا فقد قدمنا أن مؤسس تلك المعاهد الثلاثة الأولى ومشيد بناءاتها هو جده مولانا إسماعيل، وقد ألممنا بشواهد ذلك في تأسيسات المباني الإسماعيلية، كما أن الزياني وتابعيه قد أغفلوا من مباني سيدي محمد بن عبد الله بعاصمة جده مكناسة ما نبهناك عليه هنا فلتكن من ذلك على ذكر.
وأما مدرسة الصهريج فلا يعرف لها اليوم أثر ولا موقع، بعد أن كانت هي وغيرها من مدارس الدولة العلوية المتقدمة الذكر آهلة بما بنيت له، معتني بسكانها بمحافظة سلاطيننا على تفقد رواتبهم، ومن ذلك ما أصدره الإمام الذي افتخرت به الأواخر على الأوائل والمغارب على المشارق السلطان العادل سيدي محمد بن عبد الله لناظر الأحباس بهذه العاصمة ونصه:
نأمر أحباس مكناسة الحاج الطيب المسطاسي أن يجعل طلبة باب مراح في المرتب مثل المدارس الست، وهي: مدرسة الدار البيضاء، ومدرسة باب مراح ومدرسة قصبة هدراش، ومدرسة الصهريج، ومدرسة جامع الشاوية، ومدرسة
سيدنا ومولانا إسماعيل رحمه الله بحسب سبع أواقي لكل واحد من الطلبة المذكورين في الشهر، ومثقال للمؤذن، وخمس عشرة أوقية للإمام، وخبزة لكل واحد في اليوم من عند الزياتينية كما تقدم لك أمرنا بذلك وراتبهم من الأحباس، كما هو مرسوم عندك ولا فرق بين الطلبة المذكورين فكلهم في ذلك سواء.
وأما طلبة مدرسة الأوداية فلا يقبضون إلا الراتب فقط، كما أمرناك قبل، وأما الخبز فلا تعطهم شيئا لأنهم في ديارهم ومع أهليهم هنالك، والسلام في ثاني عشر شوال من سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف.
ومن تمامه أن الخبز المذكور يكون من أربعة في الرطل، وكل ما يدفع الرياتينية من الخبز، فأعطهم خط يدك والسلام. اهـ.
فبمثل هذا الاعتناء من أمراء الملة كانت معالم الدين قائمة، وبه دامت المحافظة عليها حسا ومعنى ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن تأسيسات سيدي محمد بن عبد الله أيضا ما جدده بالضريح الإدريسي الأكبر المقدس، قال شيخنا الشريف البركة العلامة الأقعد سيدي محمد بن جعفر الكتاني في كتابه "الأزهار العاطرة الأنفاس" ما لفظه ثم لما ولى السلطان الأسعد، الهمام الأصعد، الأنوه الأرشد، مولانا محمد بن عبد الله بن مولانا إسماعيل المذكور، جدد بناء هذه القبة وما هو متصل بها مرة أخرى، وجلب لها المرمر الحسن مما كان بدار جده بمكناسة الزيتون، وبالغ في إتقان ذلك وإحكام عمله، وكان بناؤه له على ما هو مرقوم إلى الآن بالقلم الغباري برتاح دفة باب القبة المذكور سنة ثمانية وثمانين ومائة وألف. اهـ.
قلت: رتاج الدفة الذي به التاريخ المشار له هو الأسفل عن يمين الداخل للقبة، ولا زال ذلك التاريخ إلى الآن مفروشا فوقه الحصير لا تمكن رؤيته إلا برفع
الحصير عنه، ولعل من آثار هذا التجديد اللوحتين القائمتين في خدي باب القبة المصنوعين من المرمر الرفيع المنقوش في يمناها ما صورته:
يا ناظرا بهجتي الله يرعاكا
أمر بعمله مولانا إسماعيل بن مولانا الشريف عام ألف وسبع وثمانين. اهـ.
وفي يسراهما ما صورته:
أبشر بما ترتجي من خير مولاكا
فرغ من عمل هذا سنة سبع وثمانين وألف لمولانا إسماعيل أيده الله بعزيز نصره. اهـ.
فإن هذا التاريخ متقدم على تاريخ بناء المولى إسماعيل للقبة الإدريسية بنحو ثلاث وعشرين سنة كما قدم علم مما قدمناه، مع كون تاريخ اللوحين لا مزيد فيه على أنهما معمولان للمولى إسماعيل، وذلك يؤذن بأنه كان عملهما لقصور نفسه فنقلها حفيده مولانا محمد بن عبد الله لخدي القبه الإدريسية لما جدد ما احتاج للتجديد منها، وليسا هما بأصلين فيها ولا مصنوعين لأجلها، وإلا لكان تاريخهما موافقا لتاريخ البناء الإسماعيلي المتقدم للقبة، ولكان فيه أيضا ما يؤذن بأن إنشاءهما للضريح الإدريسي، على أن تجديد مولانا محمد بن عبد الله لنفس قبة الضريح هو عندنا الآن مجمل، لأنه لا دليل عندنا على أنه جددها بعد أن نقضها من أصلها، فتكون الرخامة التي في مواجهة الداخل المكتوب فيها ذلك القصيد المختوم ببيان تاريخ المولى إسماعيل لبناء القبة، إنما أعيد إلى محله بعد التجديد، أو إنما كان التجديد في بعضهما، فيكون رخام ذلك القصيد لم ينزل عن محله منذ وضعه البناء الإسماعيلي بذلك المحل، والعادة قاضية بهذا، فإنه يبعد كل البعد أن يحتاج الضريح كله إلى التجديد في المدة التي بين السلطانين مولانا إسماعيل
وسيدي محمد، مع متانة الأبنية الإسماعيلية ومزيد اعتنائه بإتقان الأضرحة، ومع هذا فعلم الحقيقة عند الله تعالى.
ومن المتصل بالقبة الساحة أمامها المحيطة من جهاتها الأربع بالمباحات الأنيقة المحمولة على اثني عشر عمودا من الأعمدة الرخامية البديعة، وبوسط الصحن المحيط بتلك المباحات خصة تقذف من جوفها المعين الفرات المزدري باللجين صفاء، ويوجد بجدار الجهة الشرقية بهذا البراح محراب للصلاة يقابله بالجهة الغربية باب بيت القناديل، وبالجهة الشمالية باب لدار الزاوية بهيج أنيق، يقابل باب قبة الضريح الأقدس.
ودار الزاوية هذه أسست وأعدت لسكنى المنقطعات من الشريفات وجراية النفقة عليهم، وعلى طلبة المدرسة هنالك، والملازمين لدار الأضياف المعدة لسكنى المنقطعين والغرباء والفقراء من الرجال، وكانت دار الزاوية المذكورة يؤكل فها كل يوم بضميمة ما يضاف إليها نحو خمسة أمداد من القمح وما يلزم ذلك من إدام (1) وحطب وتوابل، وكان معظم ما يقام به ذلك أعشار سكان الزاوية الإدريسية، وبعض المداشر التابعة لها حبا وزيتونا، وبسبب ذلك كانت تعظم ثروتها في بعض السنين حتى يكون لها المطامير العديدة موفورة حبا، والخزائن مملوءة زيتا.
وكانت الملوك تنفذ من مدخولات دار الزاوية هذه إعاناتى، قمحية وزيتية شهرية لبعض ذوى الحاجات وبالأخص الأشراف، كما كانت نفرق الخبز المستعمل هناك، وكذلك الكسكوسون على ديار المضطرين من آل البيت بالزاوية، وبسبب ذلك وجدت الأيدي العادية سببا إلى الاستيلاء منها على ما لا تستحقه، حتى أفضى ذلك إلى إغلاق باب دار الزاوية بعض السنين في وجوه المستحقين، وبقي من كان تجري عليه النفقة منها يتكفف الناس للإجحاف كثرة الخارج في غير
(1) الإدام: ما يُستمرَأ به الخبز.
وجوهه من مدخولها حتى استسلف لها بأمر المخزن، ولم يوجد ما يرد منه السلف لكون الأعشار التي كانت منفذة لها إنما هى أعشار بعض العامة، وهم المقيمون بالزاوية والمجاورون لها وبقية الزراهنة كانت تدفع أعشارها بمكناس، وأما الشرفاء فقد كانت الملوك تسوغ لهم دفع أعشارهم لضعفائهم وتكل ذلك لأمانتهم، فلما رأى ذلك كثير من العامة تسارعوا لادعاء النسب النبوي الطاهر وفتحوا الطريق لتمشية ذلك وقبوله منهم وتأييد دعاويهم الباطلة ببذل المال لأولي الأمر، فآل ذلك إلى الإجحاف بدار الزاوية وإلى غلقها بالكلية كما تقدم، وهكذا عاقبة كل أمر أسند إلى غير أهله.
ثم لما رأى ذلك متأخرو الولاة والنظار اختصروا خارجها حتى ردوه لنحو خمس الخارج قبل، وصار لا يعطى منه إلا للمقيمات بدار الزاوية المذكورة مع طلبة المدرسة والقليل من المساكين المقيمين بدار الأضياف، ويدفع قليل منه لبعض محتاجي الشرفاء الساكنين بالزاوية، ثم لما أحدث الترتيب وقطع المخزن النظر عن التداخل في الزكاة لم يبق لدار الزاوية داخل إلا من بعض الأصول المحبسة عليها وخراجها يضعف عن القيام بخارجها، فكان المخزن بعد اختياره لذلك صار يؤدي لها مما يجيبه من الضرائب كل سنة خمسة عشر ألف بسيطة لتتميم الخارج اللازم لها، وكانت صورة الطعام المستعمل فيها في سائر الظروف المتقدمة أن القمح يطحن ثم تزال نخالته القوية بالغربال، وما عدا ذلك يستعمل منه الخبز والكسكوسون من غير تصفية، بل الغالب أن لبابه يستولي عليه نصف الخبزة السوقية وهو الذي يفرق على من عدا طلبة المدرسة ونوع فوقه، وهو الذي يدفع للطلبة.
ثم لما حسنت حالة الأحباس وتوفرت مادة ماليتها في الأقطار المغربية على يد المخزن حيث جعل لها وزارة خاصة تحت نظرها نظار ومراقبون، وعظم وفر
الأحباس بكل بلد، جاء وزير الأحباس المشار له لاختبار الأحوال بالزاوية وتعاهد الشئون، وذلك يوم الخميس فاتح صفر عام أربعة وثلاثين وثلاثمائة وألف، وحين شاهد حالة الخبز والكسكوسون الموصوفة أنكر ذلك وأباه، وأمر في الحين بأن يكون يشترى ذلك صافيا من السوق وتكون الخبزة لا تنقص عن السوقية، كما أمر باشتراء قدر معين لها من اللحم وتوابعه كل يوم ليطبخ مع الكسكوسون، وقد كان اللحم قبل ذلك لا يشترى لها إلا يوم السبت الذي يعمر فيه السوق هنالك، فكان ذلك من أعظم حسناته، وإنما فسد ما فسد بإهمال الولاة، وتقاعسهم عن القيام بمثل هذه النهضات، ألهمنا الله وإياهم الرشد في الحال والآت.
ودار الأضياف المشار لها هي الواقعة في أسراك وهي الأولى عن يسار الداخل للحرم الإدريسي من باب المعراض الشهير، وتلك الدار عبارة عن مربع محيط بمباحات أربع محتو على عدة بيوت وكنيف حافل.
ومن تأسيسات الأمير الفخيم الليث الهصور مولانا اليزيد بن محمد بن عبد الله بن إسماعيل الزيادة الواقعة في الجهة الغربية من المسجد الإدريسي، يفصل بينها وبين المسجد القديم الصحن، وذلك عام أربعة ومائتين وألف، ويدل له ما هو منقوش في خشب بباب المسجد المذكور ودونك لفظه:
يا سائلا عمن بنى طلعتي
…
ومن لدين الله شكلي يشيد
أنشأني المولى الملك الرضى
…
محمد المهدي الإمام اليزيد
أعطاه مولانا جميع المنى
…
وزاده نصرا وفتحا يزيد
ونشأتي من رام تاريخها
…
فإنني (رشد) أراه يزيد
أشار بلفظ رشد للتاريخ المذكور، ويدل له أيضا اختلاف البناء القديم مع الزيادة في الشكل.
ومنها أيضا المسجد الشهير بجامع مولاي اليزيد إلى الآن بالزاوية المذكورة موقع هذا المسجد بالحومة المعروفة بتازجا من الزاوية المشار لها، تقام بهذا المسجد الجماعة والجمعة.
ومنها الدار الجديدة وهي قصبة سكني الأشراف العلميين الآن بزاوية زرهون كان أنشأها لسكناه ولكنها لم تكمل في حياته.
ومن آثار السلطان العالم العامل الخاشع مولانا سليمان بن محمد بن عبد الله بن إسماعيل الدار المعروفة اليوم بالدار الجديدة مع روضها، جوار جعده المولى إسماعيل، وتلك الدار وروضها بها الآن إدارة شئون حاكم الأحواز المكناسية وما يضاف إليها.
ومنها تلافيه بالتجديد والترميم والإصلاح ما افتقر لذلك من القصور السلطانية المحنشة، والمدرسة وما انضم إليهما، قال أبو القاسم الزياني عاطفا على ما أسسه وشيده المولى سليمان بالأقطار المغربية كما ستقف عليه مفصلا في ترجمته بحول الله ما لفظه: ثم جدد قصور الملك لمكناسة بعد تلاشيها. اهـ.
قلت: مراده بالقصور قصر المحنشة، والمدرسة وما أضيف إليهما، أما قصور الدار الكبرى دار خلافة جده الأعلى فإنها إذ ذاك كانت خربة بيد بعض أفراد العائلة الملوكية الإسماعيلية، خربها والده سيدي محمد بن عبد الله وسلمها لمن استحقها من العائلة المذكورة حيث قاموا بطلب حقوقهم وراموا السكنى بدار والدهم، ولم يجد السلطان سيدي محمد بن عبد الله مناصا من ذلك لما لهم من الحق في بيت مال المسلمين، ورأى أن تسليمها لهم على بهجتها وضخامتها الملوكية التي مر بك بعض وصفها ليس من العدل والإنصاف في شيء لتعلق حقوق غيرهم من الخاصة والعامة ببيت المال.
ولذلك مَدَّ يَدَ الهدم والتخريب فيها لإزالة كل ما له قيمة، ولما صيرها بلاقع ولم يبق بها غير شاهق الجدرات المنسلخة عن كل زينة وما لا قيمة له توجب الالتفات نحوها، فعند ذلك سلمها لهم فتملكوها وبنوا فيها دورهم وأنشأوا بها غراسات متعددة واستقروا بها، ولا زال بها عقبهم إلى الحين الحالي يتصرفون فيها بالبيع والابتياع وسائر أنواع التصرفات.
ومن تأسيسات هذا السلطان الجليل المقدار مولانا سليمان السقايات التي على يمين ويسار الداخل من الباب المقابل لباب المعراض الشهير بالحرم الإدريسي بالزاوية، وكان تأسيسه لها عام ثمانية وعشرين ومائتين وألف، ويدل لذلك ما هو منقوش في زليج مثبت بالجدار الذي به السقايتان اللتان عن يمين الداخل ودونك لفظه:
تأمل بهجتي وبديع حسني
…
وما ألبست من حلل البهاء
تجد عزي ومجدي وارتفاعي
…
يفوق البدر في أفق السماء
جمعت من المحاسن كل فرد
…
وأعظمها جوار أبي العلاء
إمام الغرب إدريس ذي المعالي
…
سليل الأكرمين ذوي الوفاء
وقمت بباب روضته بجد
…
أطهر زائريه بطيب ماء
بإذن إمامنا الأسمى بنوني
…
وتاريخي (تجليت بالسناء)
أشار للتاريخ المذكور بحروف تجليت بالسناء.
ومن تأسيسات الأمير الأورع السلطان مولانا عبد الرحمن بن هشام بن محمد بن عبد الله بن إسماعيل بالعاصمة الإسماعيلية قبب الخشب البديعة الشكل العجيبة المثال المعروفة باسم الخيمة، وهي الواقعة بجنان ابن حليمة في الجهة الشرقية منه المحمولة على ساقية وادي بوفكران التي يجري فيها ماؤه الداخل
للمدينة، وهذه القبة تحتوى على مباحات ثلاث محمولة على الأعمدة الخشبية، وثلاثة بيوت وبهو بوسطها إلى ما يتبع ذلك من منافع ومرافق، وجعل في الساقية المذكورة أمام المباح الجنوبي دولبا يحمل الماء من الساقية ويصبه في القنوات الموصلة له للخصة الواقعة أمام المباح المذكور وإلى غيرها من الفروع التي يجري فيها الماء، ثم مع السقاية التي بأسفل القبة المذكورة ويصعد لهذه القبة بدرج، وتحيط بجوانبها الثلاثة أبواب الزجاج الملون تركب هذه الأبواب هناك وقت حلول السلطان بالعاصمة المكناسية، وعند سفره تزال وتصان بالخزائن السلطانية إلى أن يعود من سفره فترجع لمحلها، وعلى هذا استمرار العمل إلى أواخز الدولة العزيزية.
ومنها إنشاء الباب الثاني لجامع القصبة المار الذكر والمباح داخله المشار له آنفا.
ومنها المباح الواقع على يسار الخارج من باب منصور العلج لبطحاء الهديم المحمول هو أي المباح على أساطين ستة حجرية، وكان إنشاؤه إياه على يد عاصمة سلفه المكناسية الباشا الأنصح القائد الجيلاني بن العواد الشهير، وكان ذلك المباح مُعَدًّا لجلوس أعيان الجيوش المظفرة وذوي الحيثيات منها في أوقات الأحكام المخزنية، حيث إن باب منصور العلج المذكور كان هو المحكمة الرسمية لباشا مكناس، يجلس به لفصل الخصوم وسماع المظالم كل يوم صباحا ومساء، وبهذه المحكمة الواقعة بباب قصبة الدار العالية بالله كانت العادة جارية في كل يوم جمعة يتناول الباشا وقواد اراحي الجيش الغداء أثر الفراغ من أداء فريضة الجمعة بجامع القصبة المار الذكر، وصائر ذلك من بيت المال ولم يزل العمل مستمرا على ذلك إلى انصرام دولة السلطان مولاي عبد العزيز، كما كانت العادة جارية بأن سائر الاحتفالات والأفراح المخزنية الرسمية التي تقام تحت رياسة الباشا إنما تكون بالباب المذكور، واستقر على ذلك الحال إلى أواخر الدولة الحفيظية.
ومن تأسيساته المباحان خارج باب قصر المحنشة السعيدة المحمولان على
اثنين وثلاثين عموم من الأعمدة الحجرية، وأعدهما لجلوس الموظفين ورؤساء رجال البساط الملوكى وذوي الحيثيات وقت جلوس السلطان للنظر في أمور الرعية كل غدو ورواح عندما يكون جنابه بالقصر المذكور، وعند جلوسه في غيره من القصور السلطانية، أو نهوض ركابه الشريف من العاصمة يعمر الحرس المباحين المذكورين ليلا ونهارا ظعن السلطان أو أقام، ومع الأسف فقد استولى الخراب على تلك المباحات وعما قريب يستأصل شأفتها إن لم تتداركها يد الإصلاح.
ومن آثاره إتمامه لمسجد ومنار ضريح الولي الشهير مولانا عبد القادر بن محمد بن بلقاسم العلمي، ونقل الخطبة من مسجذ سيدي أحمد بن خضراء إلى مسجده وذلك بعد وفاة صاحب الضريح، ووفاته كانت يوم الاثنين وقيل الجمعة سادس عشري رمضان المعظم سنة ست وستين ومائتين وألف.
كما أن السلطان مولانا عبد الرحمن المذكور هو الأمر والمنشئ لأحباس المسجد المذكور، وذلك من متخلف الولى سيدي عبد القادر المذكور حسبما تضمن ذلك ظهير له شريف هذه صورته:
خديمنا الأرضي الناظر الطاهر بن عثمان وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد: فقد بلغنا كتابك أن الولى الصالح سيدى عبد القادر العلمي نفع الله ببركاته، خلف من الناض اثني عشر ألف مثقال ومائة مثقال واحدة وواحدا وستين مثقالا وست أواقي وريع الأوقية، وقد كنا مهتمين بأمر مسجد زاويته المباركة الذي ابتدئ بناؤه في حياته من أين يكون الصائر على إكماله، حتى بلغنا تخليفه لهذا القدر المذكور فسري عنا، وعلمنا أن ذلك من بركاته رضي الله عنه، فنأمرك أن تقف في حيازة ذلك ووضعه تحت أيدي الأمناء هناك على وجه الحفظ والأمانة، وتشرع في إكمال المسجد المذكور وإتمام تلك الحسنة على حسب ما كان يشير به السيد المذكور في حياته، وجد في ذلك كل
الجد ومهما احتجت إلى ما تصيره عليه يدفعه لك الأمناء، فإن عندهم أمرنا بذلك، وكن في خلال ذلك عينا وأذنا على الأصول التي تباع بمكناسة الزيتون وزرهون، فمهما ظهر لك أصل نفاع يشتريه الإنسان لنفسه فاشتره للزاوية المذكورة، ويؤدي الأمناء ثمنه حتى يستوعب بناء المسجد والأصول التي تشترى للزاوية من جميع متخلفه من الناض وغيره، ومهما اشتريت أصلا لذلك فأعلمنا به لنمضي تحبيسه ومتخلفه من الأثاث والبهائم، ثم أجره على ما تقتضيه السنة من البيع ونض الثمن، فإن السيد إنما ترك ذلك في حياته لأسرار لا نعلمها نحن، ولا يليق به بعد مماته إلا البيع، وما يتجمل في ذلك بعد التنضيض، يضاف لما تحت أيدي الأمناء ويسلك به سبيله من الصائر على المسجد وشراء الأصول التي تحبس على الزاوية، والسلام في سابع شوال المبارك عام ستة وستين ومائتيين وألف.
وقد امتثل الناظر المذكور أمره الشريف فاشترى أصولا هي الآن من أحباس ما ذكر بإمضاء الأمير المذكور لتحبيسها، ومن جملتها حظ في رحى وقفت على إمضائه لتحبيسه هذه صورته:
الحمد لله أمضينا بحول وقِوته شراء الحظ في الرحى المذكور أعلاه يليه، وتحبيسه على الزاوية ومسجدها حيث أشير وبسطنا اليد للناظر على التصرف التام فيه وعلى الواقف عليه أن يعلمه ويعمل به، ولا يحيد عن كريم مذهبه، والسلام في ذي الحجة الحرام عام 1266.
وأول من خطب بذلك المسجد العلمي الفقيه السيد قاسم بن حلام. كان رحمه الله من أهل الدين والورع ومن خاصة أصحاب صاحب الروضة العلمية، ثم بعده خطب سيدي محمد فتحا بوزكري من آل الولي الصالح سيدي أبي زكرياء الصبان أحد صلحاء مكناسة المشهور، ثم خطب بعده أخوه سيدي عبد الحق بوزكري، ثم بعده النقيب المفضال سيدي المختار الإدريسي الشبيهي، ثم بعده نجله
النقيب الأجل سيدي مشيش، ثم بعده أخوه سيدي محمد بن المختار المذكور وهو الخطيب الحالي.
أما الزاوية التي بها الضريح العلمي فمؤسسها هو صاحبها سيدي عبد القادر المذكور، كانت داره ورثها من أبيه، وكان يسكن بها مع أخته السيدة خديجة، ولما توفيت دفنها في بيتها الذي كانت تسكن فيه، وهو القبة المدفون معها هو فيها، كما أنه هو الذي شرع في تأسيس المنار واخترمته المنية قبل إتمامه، وكان تأسيسه لهذه الزاوية عام تسعة وخمسين ومائتين وألف، ويدل له ما هوه نقوش في الجبص فوق الشرجب الذي عن يسار الداخل لقبة الضريح ولفظه:
سمت روضة لله فتح بابها
…
وفاض بسر الهاشمي عبابها
فللواردين من هناها ظلالها
…
وللصادرين من جناها رطابها
وللزائرين بالمكارم عمرت
…
على بركات الله جل رحابها
وباليمن والإقبال والسعد خاطبت
…
لقاصدها فوزوا فهذا لبابها
هلموا إلى كهف السعادة والرضى
…
وكيف وللتاجين صح انتسابها
(وبالشكر) للمولى مطالع أفقها
…
مدى الدهر ترجوا أن يدوم احتسابها
فذي روضة ورحمة الله غيثها
…
إلى البعث لا ينفك عنها انصبابها
فطوبى لمن يأوي إليها وينتمي
…
ويلقاه من بشرى الكريم خطابها
أشار للتاريخ المشار بحروف لفظ وبالشكر، وهو مؤسس مسجد ضريحه القديم أيضا، أما الزيادة التي وقعت فيه مع الحالة التي هو عليها الآن فإنما أحدثت - بعد على ما سيمر بك بحول الله قريبا.
ومنها تأسيس ضريح الولي الشهير سيدي عمرو الحصيني عام اثنين وخمسين
ومائتين وألف ويدل لذلك ما هو منقوش في الجدار الشمالي من قبة الضريح المذكور المقابل الداخل ولفظه:
متع جفونك في محاسن شاني
…
عاد الشباب فعاد عيشي الثاني
ألبست من حلل الجمال قلادة
…
كسيت بنور بهائها أركاني
فأنا الحصيني الشهير مقامه
…
ما بين قِاص في البلاد وداني
فالله يمنح من يشا بهباته
…
كمليكنا المنصور ذي السلطان
ملك الملوك الصالحين وفخرهم
…
نور الخلافة عابد الرحمن
ابن الهمام هشام نجل محمد
…
من آل أحمد سيد الأكوان
عرفت بصيرته المعارف والهدى
…
فلذاك جاد بجوده فبناني
في عام (بشرى لي) بنيل مسرتي
…
إذ أتى البشير بدولة السلطان
بقيت مآثره الحسان مصانة
…
كبقاء مجده سائر الأزمان
الله يكرمه بكل كريمة
…
وينيل قلبه منتقى الإيمان
بأجل مبعوث وأكرم مرسل
…
وبآله والصحب والتبيان
ثم الصلاة عليهم ما صافحت
…
أيدي النسيم ذوائب الأغصان
أشار للتاريخ المذكور بحروف: "بشرى لي".
ومنها إحداث بَابَىْ السيبة ووجه العروس مع السور الممتد من الأخير إلى باب بريمة على ما سيمر بك لدى الكلام على الأبواب. ومنها مسجد السلامي بحومة الحفرة من الزاوية، وكان صدور إذنه بذلك في حادي عشر صفر عام تسع وثلاثين ومائتين وألف، ومحبس هذا المسجد المذكور وما بني به هو سيدي عبد
السلام بن على الإدريسي الشبيهي، جَدّ أولا سيدي عبد الله المعروفين بهذا الاسم الإضافي إلى الآن بالزاوية الإدريسية.
ومنها القصبة المعدة الآن لسكنى الشرفاء آل سيدي أبى الغيث بالزاوية المذكورة، قد كان أسسها للشرفاء الأمرانيين أهل يفران، وقفت على بطاقة من عامل الزاوية الإدريسية لخليفته بها إذ ذاك.
لفظها بعد الحمدلة والصلاة: محبنا وخليفتنا القائد قاسم بن علال أعانك الله وأرشدك، وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته عن خير مولانا نصره وأيده، وبعد: فيرد عليك ساداتنا الشرفاء العلاويون أولاد سيدي بلغيث، فاعلم أنه قد أتى أمر مولانا المولوي المطاع وها نص كتابه:
وبعد فإن أربعة وعشرين رحيلا من أبناء عمنا الشرفاء أهل سيدي بلغيث قد أنعمنا عليهم بالمحل الذي كنا أسسنا بناءه للشرفاء أهل يفران بزرهون، فأمر خليفتك أن يمكنهم من النزول به والسكنى فيه والبناء فيه لأنفسهم، فإن هؤلاء الشرفاء أهل سكينة وخير، وفيهم ثلاثة أناس طعنوا في السن، فانظر لهم دورًا بزرهون يسكنون بها والسلام، في ثامن رمضان عام ستة وخمسين ومائتين وألف. وأنت نفذ الأمر المطاع على ما أمر به مولانا المنصور بالله. اهـ.
ومن تأسيسات نجله السلطان الأفخم سيدي محمد القبة الواقعة في الجهة الشمالية من جنان ابن حليمة السالف الذكر، وكان بناء هذه القبة على يد أمينه الصادق الأحزم الطالب بوعزة الفشار البخاري.
ومنها قبة الزجاج الواقعة على الصقالة المشرفة على الغرصة المعروفة بالبحراوية، تلك القبة هي التي بين قصري سكنى الجناب السلطاني من قصور المدرسة المولوية وبين الباب المعروف إلى الآن بباب الشبكة.
ومن آثاره زيادته في سمك قبة الضريح الإدريسي الأنوه بزاوية زرهون ورفعها في الهواء زيادة على ما كانت عليه من قبل، وتزيين ذلك بالحزام الأخضر الزليجي الكائن أعالي القبة الآن، وكان انتهاء العمل في تلك الزيادة سنة ثلاث وثمانين ومائتين وألف، والزيادة المذكورة هي من ابتداء حزام الزليج المذكور الذي لا يقل ارتفاعه عن متر، فالحزام داخل في الزيادة، ويوجد تاريخ البناء مرموقا بالقلم الغباري بلون أحمر فوق الحزام المذكور، ومنها في حرم ذلك الضريح أيضا المباح الأول خارج الباب الذي يدخل منه للصحن الذي به السقايات الذي تقدم، أن السلطان المولى سليمان كان أنشأها وكان السلطان سيدي محمد هذا المباح عام تسعة وثمانين ومائتين وألف على يد ناظره على ذلك الحرم الإدريسي الحاج قدور ابن عبد الرحمن بن الحاج محمد السراج دفين أبي العباس السبتي رضي الله عنه.
ويدل لذلك ما هو منقوش في زليج أسود بأعلى القوس الوسط من المباح المذكور ودونك محل الشاهد منه:
وانصر إماما عادلا في حكمه
…
أعلى الإله بأمره هذا البنا
ذاك الأمير محمد المنصور نجـ
…
ـل هشام البدري نجل نبينا
ولتذكر السراج ناظر وقفه
…
إذ لم يزل في ذا النظارة محسنا
وقل إن تسل يا صاح عن تاريخه
…
(يا زائرا إدريس سعدك قددنا)
أشار بحروف كلمات الشطر الأخير للتاريخ المومى إليه.
ومنها أيضا المدارج الرخامية المفضية لداخل ذلك الحرم الإدريسي مع تسوية الصحن المفضي لهذه المدارج وتزليجه على ما هو عليه الآن وتبديله الخصة الرخامية أمام قبة الضريح بالخصة العديمة المثال الموجودة هناك الآن.
ومن تأسيسات نجله السلطان العظيم الشأن مولانا الحسن بالقصور الملوكية قبة الباهية الواقعة بقصر المدرسة.
وقبة الزجاج المشرفة على غراسات جنان البحراوية.
ومنها الصرح البديع الذي أنشأه وشيده بقصر المحنشة وأحدث له بابا بالنهج المستطيل المعروف بأسراك وذلك عام خمسة وثلاثمائة وألف. وفق ما وقعت الإشارة للتاريخ المذكور بلفظ خذه في نقش زليج بأعلى الباب المذكور وسط أبيات لطيفة دونك لفظها:
تكامل هذا الباب حسنا وبهجة
…
وحاز ضروب الوشي والرقم والحكم
ولم لا ومبناه على العز والتقى
…
كما الحسن المولي به أمر الخدم
فقف وانشق الرحمى يهب نسيمها
…
به فهو باب الله فتح للكرم
بداخله الرضوان والأمن والهنا
…
وروض أريض فيه منزهه الأشم
فمن أمه يظفر بنيل مرامه
…
ويرجع مسرورا ويكفي الذي أهم
أدم ربنا العلياء والملك للذي
…
بناه وحطه في البنين وفي الحرم
وأوله عزا دائما متوافرا
…
ونصرا عميما ثابتا راسخ القدم
وجدد قصر المحنشة وأنشأ به قبة عظيمة وجعل لها بابين بابا للمحنشة وبابا للعرصة المعروفة بعرصة الرخام، إحدى البساتين التي تتخلل تلك القصور السلطانية، وهي التي على يمين الداخل للنهج المستطيل المعروف يبين العراصي من باب المحنشة السعيدة المعد لاستقرار عبيد الدار الخصيان الذين هم عند الملوك بمثابة الحرس الداخلي، وأنشأ بهذا البستان أيضا حماما حافلا وجعل له بابين، بابا لقصر المحنشة المذكور وبابا بالبستان المحدث عنه.
ومنها الصقالة الشاهقة العظيمة المتصلة بساباط قصر سكنى جنابه السامي بالمدرسة السعيدة الطالع، وكان قصده من تأسيس هذه الصقالة إنشاء صرح عليها تتراءى منه بواسطة المرآة المكبرة المقربة الديار الفاسية، وشرع في بناء ذلك الصرح بالفعل إلا أنه لم يتم لذلك أمر، وحال حلول المنية دون الوصول إلى الغاية المقصودة، وكان ابتداء تأسيسه له عام ستة وتسعين ومائتين وألف على ما هو منقوش بالغباري في رخامة بخد الباب الذي يصعد منه للصرح المذكور، كما أنه منقوش على الخد الموالي ليمين الصاعد له ما لفظه:
باب السعود ومظهر الإقبال
…
منه الصعود لغاية الآمال
ظهرت نتيجته وصين أساسه
…
فبدا مشيدا في المقام العالي
وعلى الأيسر ما لفظه:
فتنافس الصناع والحكماء في
…
إتقانه بمواهب المتعالي
تاريخ منشئِه علا من مجد ذا
…
الحسن الأمير سلالة الكمال
أما الإشارة للتاريخ الواقعة في البيت الأخير فإنها لم تظهر لي صحتها بعد الإمعان فلتتأمل.
وفي دولة السلطان المولى عبد العزيز أمر بهد ما كان أسس من ذلك الصرح المشار لعيب حدث به، وكان في عزمه اقتفاء أثر والده في تشييد ذلك الصرح إلا أن ذلك لم يكن في الكتاب مسطورًا، ولا زالت تلك الصقالة شاخصة للأبصار تتراءى من مسافة بعيدة.
ومنها تأسيس منار جامع المحنشة، إلا أنه اخترمته المنية دون إتمام عمله وفق ما رام.
ومنها القبب الخمس المتصلة بالمنار المذكور من الجهة الجنوبية، كان أعد تلك القبب لجلوس وزرائه وذوي الحيثيات والكبراء والوجهاء من الموظفين في خدمة جنابه الأسمى.
ومنها الصهريج المحدث أمام مسجد المحنشة المذكور المحتوي هو أي الصهريج على الجوابي الرخامية الخمس، في رأس كل ركن من أركانه الأربع واحدة والخامسة بوسطه وهي أكبرها.
ومنها قبتا الزجاج الواقعة إحداهما شمال المسجد المشار والأخرى جنوبه أحدهما لجلوسه على كرسي ملكه للنظر في أمور رعيته وعرض قضاياها عليه.
ومنها التربيعة المعروفة باسم الوسعة الواقعة بين بابي الدار العالية بالله المحنشة الباب الذي به استقرار عبيد الدار المذكورين وباب سي مسعود أضيف هذا الباب لبواب كان به من جملة وصفان الجلالة السلطانية اسمه مسعود كان متفقها، وأنشأ بالساحة المشار لها قبة ذات بال يجلس بها لسماع المظالم وإعطاء الأوامر، وجعل لها مباحا يضارعها في التنميق والزخرفة وجعل أمامها، صهريجا لطيفا بوسطه جابية من الرخام الرائق تتدفق زلالا، وجعل عن يمين هذه القبة قبة دونها في الرونق والأبهة، وعن شمالها كذلك، وأمام هذه القبة على يسار الداخل من باب سي مسعود المتقدم الذكر عدة قبب معدة للشئون المخزنية، ومع الأسف فقد أسرع الخراب لذلك كله لعدم المعاهد والمباشر ومتلافي ما انصدع فخر جل تلك السقف وانقلع الزليج وزالت تلك المحاسن ونبت الكلأ والكروم على عالي تلك الأسطح.
ومنها الدويرية التي بداخل باب سكنى عبيد الدار المتقدمي الذكر الكائنة على يمين داخله، وقد كان أعدها مكتبا لتعليم البنات القرآن العظيم، واستمر العمل على ذلك فيها إلى أن هَرِمت الدولة العزيزية.
ومن آثاره تجديد الباب المعروف بباب سي مسعود الذي مرت الإشارة إليه وذلك عام ألف وثلاثمائة، ويدل لذلك ما هو متوج به في نقش زليج ودونك لفظه:
باب السعود وبهجة الأمان هذا
…
وباب الجود والإحسان
رفعت على التقوى معالم عزه
…
محروسة بعناية الرحمن
فانظر محاسن طلعتي شمس الضحى
…
منها استمدت أشرق اللمعان
(أوج شريف) صار تاريخي به
…
يزهو بطلعته على كيوان
أسمي بديع محاسني ومعالمي
…
ملك همام مز بني عدنان
فهو الشريف السيد الحسن الرضا
…
فخر الملوك وكهف كل أمان
ذاك المجدد للشريعة ركنها
…
في غاية الأحكام والإتقان
فالله ينصره ويبقي ملكه
…
متحصنا في عزة المنان
ومنها الأروى السعيد لربط خيله وبغاله بقصر المحنشة الميمون، وقد تهدم السور المحيط بهذا الأروى في هذا الأيام الأخيرة من الجهة الموالية لباب مراح المار الذكر، فسد بابه الاعتيادي الواقع بداخل المحنشة على يسار الداخل من باب هذا القصر الشهير بالباب الفوقانى، وهو الباب المقابل لباب الناعورة السالف الذكر وصار الدخول اليوم لهذا الأروى من الجهة المتهدمة السور بباب مراح المشار له.
ومنها الطريق السرى المعروف بـ (طالع وهابط) الموصل من قصْر المحنشة المنيف لجنان ابن حليمة، بحيث يتيسر خروج الحرم الكبير من القصور السلطانية إلى جنان ابن حليمة الذى سبقت الإشارة إليه من غير أن يمر بالنهج العمومى الذى كان يمنع المارون من سلوكه وقت ما أرادت الجلالة السلطانية إخراج حرمها الطاهر
وحاشيتها الكريمة للتفسح في ذلك الجنان، وبسبب ذلك ارتفع عن سكان تلك الناحية ضرر منع المرور من النهج العمومى كل آونة.
ومنها القبب التي بالنهج المستطيل المسمى بأسراك -بالكاف المعقودة- الكائنة هى -أى القبب- على يمين الذاهب، لقصر المدرسة الخارج من باب الرائس الشهير، وأعدها لجلوس وزرائه وأعَيان كتابه وقت جلوسه للأحكام وسماع المظالم، وجعل لتلك القبب مباحات أعدت لجلوس بقية الكتاب مع أعيان رؤساء ذوى الحيثيات والموظفين.
ومنها الروض الجديد الذى أنشأه بالبحراوية بصهر يجيه.
ومنها قبة الزجاج التي على الصقالة بأعلى الروض المشار المشرفة عليه، بل وعلى عرصتى البحراوية والاترنجية.
ومنها الصرح الذى بأعلى باب المحنشة المقابل لباب الناعورة المذكور، إلا أنه لم يكمل.
ومنها تلافيه صدع مسجد الأزهر، المعروف بجامع الأروى.
ومنها تأسيس منار الضريح الإسماعيلى.
ومنها تجديد سقف المباح الشرقى بصحن الضريح المذكور.
ومنها زيادته في مسجد الضريح العلمى المذكور آنفا لما كثر أتباع ذلك الولى وضاق بهم المسجد، وكانت زيادته فيه على يد ناظره إذ ذاك الحاج محمد بن عمرو الصنهاجى السابق الترجمة، وهو الذى رد محرابه إلى عين القبلة حيث هو الآن، إذ كان قبل في الجهة الجنوبية موضع الخزين في العصر الحاضر، وذلك بعد هرج ومرج بين أتباع صاحب الضريح والمعدل الميقاتى بمكناس إذ ذاك السيد الجيلانى الرحالى، وطال ذلك وتفاحش إلى أن رفع الأمر إلى الجلالة السلطانية فقام لذلك
وقعد وحضر بنفسه وأحضر مهرة المعدلين العارفين بأدلة القبلة من فاس ومراكش ومكناس، فأداهم اجتهادهم إلى أن الأصوب هو جعل المحراب بالمحل الذى أشار به ميقاتى مكناسة المذكور، وأنه لَا وجه لرده للجهة الجنوبية التي كان بها قبل لقيام الأدلة على خطأ الواضع الأول، فأمر السلطان حينا بإمضاء ما قالوا وبسببه انحسمت مادة النزاع.
ومن تأسيسات هذا السلطان قصبة أهل تولال -بضم التاء وسكون الواو وفتح اللام المشبعة- وتولال اسم لواد من أودية صحراء تافلالت كان نقلهم السلطان المقدس مولانا عبد الرحمن بن هشام بن بلادهم لتمردهم وأنزلهم بنواحى فاس قرب دار دبيبغ، وجعلهم تحت نظر باشا الوقت بباب الدار العالية بالله ثمة وهو القائد فرجى الشهير، ثم نقلهم نجله السلطان سيدى محمد من فاس إلى نواحى مكناس وذلك عام اثنين وثمانين ومائتين وألف، وأدرجهم في جملة الجيش البخارى، وكانت سكناهم إذ ذاك في الخيام.
ثم في دولة نجله السلطان مولاى الحسن أنشأ لهم القصبة المذكورة التي هى مستقرهم الآن، وموقع هذه القصبة غربا من المدينة، وقد أحدثت بها اليوم عدة دور ومسجد للصلاة.
ومنها قصبة الحاجب الشهيرة ببلاد بنى مطير على اثنين وثلاثين كيلو مترا من المدينة، وهذه القصبة هى التي صارت اليوم محلا لإدارة الأحكام الإدارية ومتعلقاتها.
ومنها المسجد الذى أنشأه بالساحة المقابلة للمزارة السفلى للضريح الإدريسى الأكبر التي كانت مستقرا للأوساخ والقذرات، ومحلا لذبح ما يهدى لضريح ذلك الإمام العظيم ليفرق، وعلى أبناء صاحبه وعلى من انتظم في سلكهم من المقيمين بذلك الضريح الأقدس من الإنعام، وكان تأسيسه لهذا المسجد ولدار الذبائح المذكورة خارجه عام ثلاثة وثلاثمائة وألف، وفى هذا التاريخ أو قبله بيسير أنشأ
بالزاوية الإدريسية أيضا الحمام الجديد البديع سعة وشكلا، إلى غير هذا مما ليس لغايته وصول.
ومن تأسيسات نجله السلطان المولى عبد العزيز تجديد بعض القنوات التي يجرى فيها الماء للمساجد والمدارس بالمدينة وغيرها.
ومنها بناء الساقية مع القنطرة ذات الأقواس التي يمر فوقها الماء المجلوب من عين شانش النابع أصلها قرب مدشر موساوة أحد مداشر جبل زرهون ليزاد ذلك الماء على ماء عين خيبر الداخل للحرم الإدريسى وغيره من الأماكن التي يجرى بها الماء من تلك الزاوية المباركة، إلا أن هذا الماء إلى الآن لم يحصل منه المقصود الذى جلب لأجله، وهذا الماء هو الجارى اليوم بالمحل الذى أحدثته الدولة الحامية بأرض خيبر المعروف بالبئر ولسائر فروعه.
ومن ذلك أيضا تلافيه بالترميم والإصلاح ما كان تلاشى بذلك الحرم الإدريسى ومضافاته، كتجديدة لقرمود القبة الإدريسية وتبييضه لصومعتها ولمسجدها وتزويقه لمحرابه وترميمه لدار الزاوية ولدار الأضياف ولدار المخزن التي تستريح بها الجلالة الملوكية عند زيارتها لذلك الضريح.
ومن ذلك أيضا إنشاؤه للفندق الجديد المعروف بهذا الاسم بالزاوية الإدريسية وكانت هذه الأعمال جلها على يد الناظر السيد إدريس بن زاكور الفاسى، وبقيتها على يد بدله الناظر السيد الحاج الهادى غلاب أحد الأعيان بفاس الآن.
ومن آثار المولى زين العابدين تزليج أرض ضريح سيدى سعيد المَشَنْزَائى (1) السالف الذكر وما انضم إليه، وبناء الصفة الواقعة خارج بابه، وذلك أيام الفتنة البربرية التي حدثت في دولة أخيه السلطان المولى عبد الحفيظ عام سبعة وعشرين وثلاثمائة وألف.
(1) تحرف في المطبوع إلى: "المشترائى" وصوابه من دوحة الناشر في موسوعة أعلام المغرب 2/ 880.
ومن آثار سلطاننا الحالى المعظم الملحوظ بعين الإجلال والإكبار مولانا يوسف أعز الله أمره، وأيده وأدام فخره، تجديد جبص المسجد الأعظم بمكناسة وتبليط أرضه بالجص وتزليج جناحيه.
ومنها إصلاح جامع القصبة وتجصيص صحنه الخارجى الموالى لبابه.
ومنها إصلاح مدرسة الشاوية المعروفة اليوم بجامع الستينية وتسقيف صف واحد منها.
ومنها إعادة تبييض جبص قبة ضريح جده الأكبر المولى إسماعيل قدس سره، وإعادة ما أزيل وتلاشى من زليج بعض جدراتها.
ومنها تجديد مسجد سيدى يحيى وسقايته المار الكلام فيها.
ومنها تجديد جامع الكرمة المعروف بزنقة حومة الأنوار قرب سيدى سلامة الولى الشهير.
ومنها إصلاح المسجد العتيق المعروف بجامع النجارين.
ومنها إصلاح مسجد الزيتونة ومسجد البراذعيين وزاوية مولاى عبد الله بن حمد المعدة للمعتوهين والضعفاء والمنقطعين، ومسجد باب عيسى وضريح سيدى على بن نون، وضريح الست كلينة -بالكاف المعقودة.
ومنها إصلاح حمام باب البراذعيين، وتجديد ما افتقر منا للتجديد وكذلك حمام الزيتونة، وحمام مولاي عبد الله بن حمد، وحمام النجارين، وحمام السويقة، وحمام الجديد، وحمام سيدي عَمْرو بو عوادة، وحمام التوتة.
ومنها تجديد بعض سقف القصور السلطانية، وترميم ما دعت الحاجة الأكيدة لترميمه، وبالأخص قصور المدرسة الشريفة.
ومنها تجديد السقاية التي ببطحاء الهديم قبالة باب منصور العلج، تلك السقاية العجيبة الشكل العديمة المثال التي لم ينسج على منوالها في حاضر الأزمان ولا في غابرها ناسج، فما شئت من تزويق وتنميق، ونقش رقيق، يستلفت الأنظار، ويستوقف الأبصار، وكان تجديده لهذه السقاية على ما وصفناه عام اثنين وثلاثين وثلاثمائة وألف، ويدل لذلك ما هو منقوش في أعاليها ولفظه:
يا ناظرا في بهائي
…
ورونقي وازدهائي
فبغيتي ومنائي
…
منك جميل الدعاء
إلى جناب تسامى
…
به ابتداء انتهائي
مولاي يوسف أضحى
…
محبوب دان ونائي
مع المقيم العمومي
…
رئيس ناس الولاء
وأهل مجلس نصح
…
وهمة في ارتقاء
فادع لكل بخير
…
شكرا على جري ماء
وقل مؤرخ هذا
…
تاريخ زين بنائي
أشار للتاريخ المومي إليه بحروف الشطر الأخير من القطعة، ومع الأسف فقد مد الخراب لهذه السقاية يد الاعتداء ولم تجد منجدا، فإن دام حالها هكذا رجعت إلى ما كانت آلت إليه قبل، فإن هذه السقاية هي التي يعبر عنها في العقود الحبسية القديمة بالسقاية الكبرى، ففى بعض العقود الحبسية ما لفظه:
أرباب البصر سئل منهم الوقوف على عين مسجد رواغة الكائن بالهديم من الحضرة المذكورة المجاور للسقاية الكبرى التي هناك. اهـ.
وقد كان الدهر أخنى على هذه السقاية حتى تعطل وصول الماء إليها وصارت
مقر الأوساخ والأزبال، كما أخنى على المسجد المشار له في العقد السابق ولعب به شوطا في أدوار الامتهان، بعد العزة ورفعه الشان، إلى أن مزق مجتمعه أيدي سبا فصار بعضه مربضا للغنم المعدة لتموين البلد وبعضه جرنة (محلا لذبح المواشي) ثم صار محل المربض من جملة روض لبعض عظماء الموظفين، وذلك الروض هو الواقع في الجهة الغربية من بطحاء الهديم المذكور المتصل بباب رواغة الشهير ذلك الروض هو الذي صار اليوم مكتبا اقتصاديا للدولة الحامية بالعاصمة المكناسية وأما الجرنة فقد صارت دكانا لبيع السلع.
ومن التأسيسات والآثار الخالدة التالدة الواقعة في دولة جلالة سلطاننا الأعظم أيضا القيسارية الجديدة المعدة لبيع أنواع البز الواقعة خارج باب بريمة المجاورة لسوق البز القديم المستندة على سوق السلالين، وقد كان موقعها قبل فندقا معدًّا لبيع الفحم وربط الدواب.
ومن أعظمها وأفخرها تأسيس المدينة الجديدة الكائنة بأرض غابة الزيتون المعروفة بحمرية، التي كان أنشأها سيدنا الجد الأعظم مولانا إسماعيل برد الله ثراه، وحبسها على الحرمين الشريفين مكة والمدينة حسبما مرت الإشارة إليه، وكان الشروع في تسطير طرقها في شهر غشت سنة ست عشرة وتسعمائة وألف مسيحية، وصدر الأمر العالي بتعويض أرضها معاوضة نقدية لمن يريد البناء بها من الأجانب والأهالي عام خمسة وثلاثين وثلاثمائة وألف موافقة شهر جوليت سنة سبع عشرة وتسعمائة وألف، وشرع في البناء بالفعل في محرم فاتح سنة ست وثلاثين وثلاثمائة وألف، وكان ثمن المتر المربع إذ ذاك فرنكا واحداً وخمسا وسبعين سنتيما.
ولما كثرت الرغبة وتهافت الأجانب والأهالى على الشراء ولاحت لوائح الاستعمار، بلغ ثمن المتر المربع سبعين فرنكا، ولا يسوغ لمشتر أيا كان أن يترك شراه بدون بناء فوق سنتين، ومثل ترك البناء أصلا بناء ما لا يبلغ صائره خمسة
عشر فرنكا لكل متر، فإن ترك البناء أصلا أو بنى ما لا يبلغ صائره ما ذكر ومرت السنتان، فإنه يحاز منه مشتراه ويسلم لجانب الحبس ويرد للمشترى ما خرج من يده بعد إسقاط قدر معين في الصوائر.
ومنها تشييد بناءات دار السمن وروى مزيل الصلة بباب أبى العمائر على الطراز الأورباوى الذى هى عليه الآن، حتى دخل بذلك المحلان في طور جديد، وصارا منظوراً ومرغوبًا فيهما بعد أن كانا مهملين ومرغوبا عنهما.
ومنها تأسيس الباب المتصل بجدار البوسطة لدار السمن، تمرّ عليه العربات والسيارات الداخلة لدار السمن وترجع من القديم حذوه متصلا به فرارا من التصادم الناشئ عن الورود والصدور من مورد واحد، وقد كان بمحل هذا الباب المحدث مكتب لتعليم الصبيان:
ومنها إحداث الصف الأول بمسجد الشافية مع مِيضَأة به، وإحداث مباح آخر في المسجد المذكور، وإحداث مكتب عليه لقراءة الصبيان عوضا عن المسجد الذى جعل بمحله الباب المحدث بدار السمن المذكور. وباب المكتب المحدث وهو النافذ للزقاق العمومى يمين الداخل لمسجد الشافية المذكور.
ومنها تجديد مسجد تيبربارين، وزيادة المكتب حذوه صفا فيه، ورد سقايته وكنفه إلى صحنه وقد كانتا بأسطوان بابه.
ومنها تجديد سقاية أبى الحسن على بن منون، وإحداث أنبوبين للسبيل بزقاق روى مزيل، وتجديد سقاية جامع الزيتونة، وتجديد سقاية حومة حمام الجديد، وسقاية درب القرع، وسقاية التوتة، وسقاية ضريح أبى محمد عبد القادر العلمى، وسقاية سبع أنابيب مع تجديد سقفها وترصيف أرض مباحها، وسقاية حمادشة بتزيمى الصغرى، وسقاية تزيمى الكبرى، وسقاية براكة، وسقاية حومة جامع الساباط، وسقاية الغمادين داخل باب الجديد.
وإحداث سقاية وكنف بالوسعة داخل باب السيبة، وتجديد سقاية العوادين وسقف سقاية الشريشرة، وسقاية تبربارين، وإحداث سوق لبيع الخضر يدعى البلاصة بالعريصة المعروفة قديما باسم حبس قارة التي كانت معدة لنزول قائد حنطة الأتاى، وإنشاء المحكمة الباشوية حذو البلاصة المذكورة، وإحدات البوسطة بمحل الزواية العينية التي كان أحدثها القائد إدريس بن يعيش، وصرف على بنائها كمية ليست بالتافهة الكائنة بدار السمن.
ومنها تجديد حائط محراب مسجد الولى الصالح عمرو بو عوادة، وتسقيف صفوفه وتزليج أرضه وإصلاح ميضاته، وإصلاح مسجد براكة، وتجديد مسجد سيدى الصفيفر بدرب سيدى عبد الله الجزار.
ومنها إنشاء المستشفى للأهالى الكائن أمام ضريح سيدى سعيد.
ومنها إنشاء الجرنة الحافلة لذبح الأنعام الكائنة خارج باب السيبة أحد أبواب المدينة.
ومنها تجديد جبص الضريح الأنور ضريح مولانا إدريس الأكبر وتجديد جبص ما حوله كذلك، وتجديد صبغ خشب سقفه الفخيمة، وإعادة تزويق ذلك كله ورده لبهجته ورونقه، وكان الشروع في ابتداء العمل في ذلك صبيحة يوم الاثنين تاسع عشرى شوال عام أربعة وثلاثين وثلاثمائة وألف، وانتهاء العمل في غالب ذلك أواسط جمادى الثانية عام خمسة وثلاثين وثلاثين وثلاثمائة وألف.
ومنها تزليج أسراك من باب المعراض إلى مباح باب الحفاة هناك، وترميمه لجدران أسراك المذكور.
ومنها تزليج السقايات السليمانية الكائنة داخل باب الحفاة المذكور، وتجديد القف أعلاها.
ومنها تجديد قرمود قبة الضريح المذكور وسائر ما حوله من المسجد الأعظم هناك وغيره.
ومنها ترميم وتجديد ما وهى من غير واحد من مساجد جبل، زَرْهُون.
ومنها تجديد وتوسيع وتحويل باب فكرة أحد أبواب الزاوية على الهيئة التي هى عليها الآن.
ومنها مسجد السوق البرانى بالزاوية الذى أنشأه وحبسه المرحوم الحاج أحمد ابن محمد الريفى بموافقة أميرنا الحالى مولاى يوصف أدام الله جلالته، فهذا ما حضرنا من التأسيسات والإشادات الواقعة بمكناسة وزرهون في هذه الدولة السعيدة العلوية، وهو في جنب ما جهلناه وما غاب عنا أو أغفلناه قُلٌّ من كُثْر، وليس إلا عند الله حقيقة الأمر.
قال في الروض: وللمدينة ستة أبواب: باب البراذعيين، وباب المشاورين (1)، وبمقربة منه هوايمى ارتجمى، ودار الأشراف، وجامع الخطبة القديمة ويعرف لهذا العهد بجامع النجارين، وباب عيسى، وباب القلعة، وكان يسمى بهذا الاسم قبل أن تبنى هنالك القصبة على ما يظهر من كلام بعضهم والله تعالى أعلم وباب أقورج، وباب دردورة وربما قيل له باب الصفا. اهـ. من خطه (2).
قلت: كتب بعضهم على هذا المحل ما صورته: كل باب من هذه الأبواب تغير عن حاله.
أما باب البراذعيين فقد أدركناه على خمسة أقواس تحيط به أبراج كثيرة فهدم في سنة سبع وتسعين أو ثمانية ورحلق لناحية الجوف وبنى على ثمانية عشر قوسا محدقة بصحن فسيح، وبمدخله مسجد الخطبة مما صنعه وبناه الوزير على بن يشو.
(1) في المطبوع: "المشاوريين" والمثبت من الروض الهتون الذى ينقل عنه المصنف.
(2)
الروض الهتون - ص 78.
وأما باب المشاوريين فقد هدم أيضا لقريب من هذا العهد، وبنى وراءه غربا باب يسمى باب بريِّمة بتشديد الراء مكسورة.
وأما باب عيسى فقد هدم قبل هذا التاريخ وزيد في القصبة وموضعه الآن بين باب سعيِّد -بكسر ياء مشددة- وضريح سيدى عبد الرحمن المجذوب نفعنا الله به.
وأما باب القلعة فقد هدم وزيد في القصبة وموضعه الآن قريب من باب العلوج.
وأما باب قورجة فقد هدم وزيد في القصبة وبنى جوفا منه باب يسمى عبد الرزاق.
وأما باب دردورة فقد هدم ولم يبق وموضعه الآن بباب تزيمى، وتزيمى اسم قبيلة أخرج أهلها من الصحراء من عمالة سجلماسة وغربوا وأسكنوا في هذا الموضع، وقد أدركناه قبل دار عمل الفخارين، فأُخرج الفخارون إلى عدوة النهر شرقا، وكان هناك قنطرتان قديمتان فهدمتا وجعلت قنطرة واحدة. اهـ.
قلت: إنما تكلم ابن غازى والمطرر عليه هنا على أبواب المدينة القديمة تاجرارت، ولم يتعرض واحد منها لأبواب القصبة القديمة ولا لأبواب القصبة الإسماعيلية سوى باب العلوج الذى ذكره الثانى فإنه هو باب منصور العلج المعروف للقصبة الآن، وكذا لم يشر ابن غازى لموقع القصبة المرينية إلا في قوله:
قبل أن تبنى هناك القصبة يعنى والله أعلم خارج باب القلعة.
ثم إن أبواب المدينة الموجودة لهذا العهد اثنا عشر بابا بضميمة أبواب القصبة إليها لصيرورتهما شيئا واحدا ودخولهما معا في مسمى مكناس كدخول سائر القصبات المتصلة المتقدمة فيما أسلفناه.
فأما باب البراذعيين فموقعة قديما وحديثا في الجانب الغربى للمدينة، غير أنه كما زحلق زمن ذلك المطرر إلى الباب ذى الثمانية عشر قوسا الذى ذكره كذلك زحلق بعده الى الباب الخارج عنه المقابل له الموجود الآن وهو باب في غاية الارتفاع والسعة والإتقان وإحكام البناء، يكتنفه برجان أحدهما عن يمين داخله والآخر عن شماله، وتنفتح دفتاه بين قوسين خرّ سقفها وانهد القوس الداخلى وغارباه الدالان عليه لازالا لهذا العهد.
ومن هذا الباب يخرج لضريح الولى الكامل المولى عبد الله بن حمد وهو متصل من جهة يمين الخارج منه بالسور المحيط بقصبة تزيمى الممتد إلى الباب المعروف بباب تزيمى.
وعن يمين الخارج أيضا روضة قبور الشهداء.
وعلى يساره المقبرة العظيمة الجامعة لجم غفير لا يعلمه الا الله من العلماء والأولياء الكاملين التي بها ضريح الشيخ محمد بن عيسى الولى الشهير.
وبينه وبين الباب ذى الأقواس الثمانية عشر صحن فسيح يقام فيه سوق لبيع الخشب كل يوم جمعة بعد صلاتها، وقد كان الداخل على الباب ذى الثمانية عشر قوسا المذكور ينعطف فيه لجهة اليمين حيث الفندق الموجود الآن، ويدخل للمدينة من قوس كان مجاورا للمئذنة فسد ذلك القوس، وأحدث في محله دكان للبيع والابتياع وروى صغير وجعل فوق الكل غرفة، والكل تحت القوس الذى فوقه المستودع محل القيم بالتوقيت، ولا زال كل ذلك قائم العين إلى الحين الحالى.
ولما سد ذلك القوس المشار فتح نقب كالقوس مسامت للبابين المذكورين، ومنه الممر الآن لكل ذاهب وآت.
أما الأقواس الثمانية عشر فمنها ما هو قائم العين والأثر حتى الآن، ومنها ما
هد وبقيت أساطينه أو بعضها شاهدة له، كان إذا دخل الإنسان من القوس المحدث في محله الدكان وما ذكر معه وجد خمسة أقواس في صف عن يساره، وأربعة كذلك عن يمينه، فيمر بينهما مستطيلا، فإذا وصل إلى القوس الخامس استدبره منحرفا عن اليمين فيجد قوسا آخر عن اليمين في مقابلة القوس الذى منه المرور الآن، وهو في الوسط بين خمسة أقواس: اثنان عن اليمين ومثلهما على اليسار.
وهذا الذى يخرج منه الآن اشتمل على قوسين يحوطهما سقف واحد أحدهما مساو للأقواس التي عن اليمين واليسار، والآخر ملتصق بالجدار المحيط بالجميع.
والأقواس الأربعة التي عن اليمين والخمسة التي عن الشمال مع قوسين من الأقواس الخمس المقابلة، هى التي صارت فندقا وهو الموجود الآن عن يمين الداخل هناك، وعن يسار القوس الذى ذكرنا نقبه وفتحه للصدور منه والورود قوس آخر أحدث الحمام الموجود الآن في محله، فمجموع الأقواس ثمانية عشر كما ذكر، منها ما هو قائم العين محكم البناء إلى الآن، ومنها ما أتى العفاء عليه ولم يبق البلى غير الأطلال الشاهدة لما كان عليه في الماضى مما بيناه.
وكل هذه التغيرات حدثت بعد أن زحلق باب البراذعيين المعروف بهذا الاسم الآن، وذلك زمن سيدى محمد بن عبد الله كما بينا، وبانى الباب ذى الثمانية عشر قوسًا وكذا الباب المزحلق إليه هو المولى إسماعيل، فقول ذلك المطرر بنى عام سبعة أو ثمانية وتسعين يعنى وألف، وقد كان سرادق ملك المولى إسماعيل وقتئذ على الأنام ممدودا.
وأما باب المشاورين وباب عيسى وباب القلعة وباب أقورج، وباب دردورة فقد بسط ذلك المطرر السابق ما يبين مواقعها وما آلت إليه، وقد أفاد كلامه أن باب دردورة كان خارج باب تزيمى أحد أبواب المدينة المعروف بهذا الاسم الآن،
والقنطرة التي أشار لها هناك هى والله أعلم التي يمر عليها الذاهب للفخارين وغيرها هناك، وقد كان سقط بعضها قرب التاريخ فتدوركت بالإصلاح.
وموقع باب تزيمى في الجانب الغربى الشمالى تنفتح دفتاه بين قوسين يسترهما سقف أعلاه غرفة معدة للقيم بحراسته، ووجه إضافته تقدمت الإشارة إليها، وخارج هذا الباب كانت سقاية السبيل المعروفة بسقاية الذهب المشار لها فيما أسلفناه في ذكر الآثار الإسماعيلية، ولا زال إلى الآن سور صدر هذه السقاية شاخصا للعيان وكذلك غارباها، وقد أحدث في محلها بناء جعلته دولة الحماية من جملة مرافقها.
ويوجد الآن باب بالنهج الموصل من باب منصور العلج لدار السمن، يسمى باب عيسى، وهو غير الأول قطعا، ولعله هو الذى كان يعرف بباب سعيد قديما، فلما هدم باب عيسى نقل اسمه إليه لقربه منه.
وأما باب عبد الرزاق فقد أدركته قائم العين متقن البناء محكم الصنع كان يخرج منه للحبول محل البستان العمومى الآن، ثم هد في هذه الأزمنة الأخيرة ولم يبق له رسم ولا طلل، وصار محله براحا.
وأما باب بريمة فلا زال قائم العين إلى وقتنا هذا، غير أن الجدار المتصل به هدته الدولة الحامية ولم يبق للباب بعد هد هذا الجدار فائدة.
وأما باقى أبواب المدينة التي لم يقع لها تعرض ممن أسلفنا؛ فمنها باب السيبة وموقعه في الجانب الغربى الجنوبى خارج باب الجديد المعروف بهذا الاسم إلى الآن بُنِىَ باب السيبة هذا على عهد السلطان المولى عبد الرحمن بن هشام، وذلك لما أضرمت نار الفتن البربرية وتفاحش عيث أهل الزيغ والبغى وصارت لصوصهم توالى النهب لكل ما وجدت إليه سبيلا خارج بابَى الجديد وبريمة، وتفاحش الضرر
بالأهالى سكان البلد وضاقوا ذرعا من ذلك، بنى هذا الباب إذ ذاك على يد الباشا القائد محمد بن العواد الكبير، وهذا وجه إضافته للسيبة، تنفتح دفتا هذا الباب بين قوسين يعلوهما سقف وبين هذين البابين -أعنى باب الجديد والسيبة- سوق به دكاكين للبيع والابتياع وفسيح متسع كانت تباع فيه الخيل والبغال والحمير كل يوم خميس وأحد، ثم تعطل يوم الأحد وبقى يوم الخميس إلى إن نقل بعد نشر الحماية للمحل الذى يعمر فيه الآن خارج المدينة بين ضريحى سيدى سعيد المَشَنْزَائى (1) وسيدى محمد بن عيسى -رضى الله عنهما- كل يوم خميس كما يعمر كل يوم أربعاء بالمحل سوق بهيمة الأنعام.
ومنها باب سيدى سعيد، ويقال له باب الملاح، وباب وجه العروس وموقع هذا الباب في الربع الغربى الجنوبى، وهو من تأسيس السلطان المولى عبد الرحمن ابن هشام أنشأه أيضا عند شق البرابر عصا الطاعة وامتداد تمردهم وإضرارهم بأهل الذمة بنهب أمتعتهم، حيث كانت حارتهم خارج سور البلد عن يسار الخارج من باب بريمة، فأنشأ المولى عبد الرحمن هذا الباب والسور الممتد منه إلى أن اتصل بباب بريمة أحد أبواب الفخامة الإسماعيلية لعاصمته المكناسية، وتنفتح دفتا هذا الباب بين قوسين يعلوهما سقف وإضافته لسيدى سعيد لوقوع ضريحه وراويته خارجه وللملاح لمجاورته له واتصاله ببابه، ولوجه العروس لكون المزارع خارجه تسمى بوجه العروس، وذلك لنضارة اخضراره وبهجة أنواره في سائر فصول السنة لأن جل الخضر التي تجبى للمدينة إنما تزرع ثمة.
ومنها باب زين العابدين موقع هذا الباب في الجانب الغربى الجنوبى على يسار الخارج من باب منصور العلج لبطحاء الهديم، بنى هذا الباب المولى زين العابدين بن السلطان الأعظم المولى إسماعيل أيام إمرته، تنفتح دفتاه بين قوسين يعلوهما سقف فوقه غرفة.
(1) تحرف في المطبوع إلى: "المشترائى".
ومنها باب ابن القارى موقعه في الجانب الغربى الجنوبى كسابقه، وهو باب محكم البناء يعلوه برج هائل يشتمل هذا الباب على بابين أحدهما يدخل منه لناحية القصور الملوكية من جهة صهريج السوانى، والآخر يدخل منه لناحية الأروى الإسماعيلى ومساكن الجيش الملوكى الذى كان بمثابة الحرس.
ومنها باب البطيوى، موقعه في الجانب الغربى، وهو باب متقن البناء في غاية الإحكام، يدخل منه لناحية الأروى المذكور.
ومنها باب كبيش -بصيغة التصغير- موقعه في الجانب الشرقى في ناحية الأروى كذلك أيضا.
ومنها باب الناعورة وموقعه في الجانب الشرقى الشمالى يعلوه برج عظيم هائل محكم البناء عجيب الإتقان، أحدث السلطان العظيم الشان المولى الحسن في هذا البرج بإزاء هذا الباب بابا آخر قبالة قصر المحنشة السعيد، ومنه اليوم مرور كل صادر ووارد ممن يأتى من ناحيته، ووراء هذا الباب باب آخر يعرف بباب الناعورة البرانى وهو حديث البناء ولا أستحضر الآن بانيه.
ومنها باب القزدير موقعه في الجانب الشرقى يخرج منه لناحية ضريح أبى زكرياء الصبان، تنفتح دفتاه بين قوسين عليهما سقف، ومن هذا الباب كان دخول جيوش فرنسا الاستعمارية لهذه الحضرة المكناسية، وذلك في زوال يوم الخميس ثامن جمادى الثانية عام ثمانية وعشرين وثلاثمائة وألف موافق شهر مايو بلغتنا سنة إحدى عشرة وتسعمائة وألف على ما يأتى مفصلا بحول الله.
ومنها باب أبى العمائر خارب باب الحجر المتقدم الذكر كان موقعه أمام باب المرس الآتى، وقد تقدمت الإشارة لوجه هذه الإضافة وما آل إليه أمره.
ومنها باب المرس وهو لناحية القبلة، وإنا أضيف للمرس لوقوع المرس
الإسماعيلى الهائل خارجه وهذه الأبواب الثمانية كلها -والله أعلم- من إنشاء المولى إسماعيل، والمرس المذكور هو من أعظم الآثار الإسماعيلية، وقد أدركنا هذا المرس يعمر بما يجبى إليه من زكوات الإيالة المولوية المجاورة للديار المكناسية وعليه قيمون يحرسونه وأمناء على محصولات ما تجبى إليه سنويا إلى أن اختل ذلك بحدوث الترتيب والضرائب الوقتية.
فهذه أبواب المدينة الموجودة لهذا العهد، وكلها كما علمت من التأسيسات الإسماعيلية غير باب زين العابدين، وبابى السيبة، ووجه العروس.
أما الأول فلولده من صلبه، وأما الأخيران فلحفيده مولاى عبد الرحمن بن هشام بن محمد بن عبد الله بن إسماعيل، وقد أسس غير ما ذكر من الأبواب العظيمة ذات الهياكل المدهشة التي صارت داخل المدينة وبالأخص في قصبته السعيدة.
قال أبو القاسم الزيانى ومن تابعه: إنه جعل للقصبة عشرين بابا في غاية السعة والارتفاع مقبوة، وفوق كل باب منها برج عظيم عليه من المدافع النحاسية العظيمة الأشكال ما يقضى منه العجب. اهـ.
قلت: هذا غالب ما يتعلق بتفاصيل التأسيسات المكناسية من لدن شأنها إلى الوقت الحاضر، وأما الإتيان على جميعها فمن قبيل المحال، لا يعلم حقيقة ذلك إلا الكبير المتعال، وما أتينا به من ذلك لم يحوه قبل تقييدنا هذا ديوان، ولا حاز فضيلة حفظه وجمعه واحد من أبناء الإنسان، على طول الآنات ومر الزمان، والفضل في ذلك للواهب الفتاح المنان، وأنت ترى جل تلك التأسيسات والمآثر الخالدة التالدة، إنما هى لملوكنا العلويين، وقاداتنا الأكرمين، ذوى الأيادى البيضاء على الإسلام والمسلمين، أعز الله كلمتهم، وأدام في سماء المعالى منزلتهم، آمين.
[المطلب الثاني]
[في نعوتها التي أسلت عن الحسناء والحسن][وأنست من البقاع سواها كل سهل وحزن]
قال في الروض: ولو لم يكن من مفاخر مدينة مكناسة إلا اشتمال عملها على مدفن وليّ الله تعالى المجمع عليه شيخ المشايخ سيدى أبى يعزى، لكان كافيا وقد ذكرت في الفهرسة المرسومة بالتعلل برسوم الإسناد -بعد انتقال أهل المنزل والناد- بعض من لقيت بها كالشيخ الفقيه المتفق أبى زيد عبد الرحمن الكوانى، والشيخ الأستاذ أبى الحسن بن منون الحسنى، والشيخ الخطيب الأحفل أبى العباس أحمد بن سعيد الغفجميسى، كما ذكرت هناك شيخنا العلامة أبا عبد الله القورى فيمن لقيت بمدينة فاس كلأها الله تعالى، وكان هذان الشيخان قد ارتحلا من مكناسة إلى فاس وصبب ارتحالهما مشهور عند الناس، فلنقبض عنه العنان والله المستعان. اهـ. من خطه (1).
قلت: أبو يعزى (2)، هو الولى الكامل العارف الشهير قال فيه اين أبى زرع في "روض القرطاس": قطب دهره، أعجوبة عصره، أبو يَعْزَى يِلَنُّور بن ميمون ابن عبد الله الهزميرى، قيل من بنى صبيح من هسكورة، مات وقد نيف على المائة وثلاثين سنة، أقام منها عشرين سنة سائحا في الجبال المشرفة على تنميل، ثم ارتحل إلى السواحل فقام بها منقطعا ثمانى عشرة سنة، لا يتعيش إلا من نبات الأرض، وكان أسود كبدى اللون طويلا رقيقا يلبس تليسا وبرنسا مرقعا وشاشية عزف على رأسه. اهـ.
ونقل في المعزى عن عصريه مولانا عبد القادر الجيلانى أنه قال فيه إنه عبد حبشى. اهـ.
(1) الروض الهتون - ص 125.
(2)
له ترجمة في شرف الطالب في موسوعة أعلام المغرب 1/ 365.
وكذا اختلفوا في اسم أبيه فقيل: ميمون كما تقدم، وقيل عبد الرحمن، وقيل عبد الله، وقد كان وجهه عاريا لا شعر فيه، وما وقع في كلام الشيخ زروق من أنه دكالى فهو باعتبار كثرة مكثه بدكالة، وليس هو من نفس دكالة كما بينه في المعزى، وكان بربرى اللسان أميا لا يحفظ إلا الفاتحة والإخلاص والمعوذتين، ومع ذلك كان يرد على من أخطأ في القراءة عنده، ويلنُّور هو اسمه وقيل يالبخث.
من شيوخه: أبو شعيب أيوب بن سعيد الصنهاجى دفين آزمور خدمه كثيرا، ومن شيوخه أبو عبد الله بن آمغار وغيرهما من الشيوخ الذين لقيهم، وهم نحو أربعين.
وممن أخذ عن أبى يعزى: أبو مدين الغوث المتوفى سنة أربع وتسعين وخمسمائة المدفون حذو تلمسان، وممن أخذ عنه أيضا الشيخ الفقيه الصالح، الإمام المرشد الناصح، سيدى على بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن حِرْزهم - بكسر الحاء المهملة وسكون الراء وبعدها زاى- وربما قيل ابن حرازهم كما في الطبقات الكبرى للسبكى (1) وغيره المتوفى بفاس آخر يوم من شعبان سنة تسع وخمسين وقيل ستة وستين وخمسائة وغيرهما من أئمة الشريعة والحقيقة رضوان الله عنهم.
توفى أبو يَعْزَى كما سبق عن نحو مائة وثلاثين سنة في شهر شوال سنة اثنين وتسعين وخمسمائة (2)، ودفن بثاغية من جبل أيرجان ويقال فيه أركان -بالكاف المعقودة- وقبره هنالك إلى الحين الحالى مزارة عظيمة عليه مشهد فاخر، هو والله أعلم من بناءات مولانا الجدابى النصر مولانا إسماعيل.
وكشف أبى يعزى وكراماته وطاعة الأسود له واستجابة دعاء زائريه وقضاء
(1) طبقات السبكى 6/ 258.
(2)
في شرف الطالب: "سنة 561 هـ".
حوائجهم بإذن الله تعالى وإطعامه لزائريه الأطعمة المتنوعة كل وما يناسبه، واقتصاره في نفسه على نبات الأرض وما تأكله البهائم أشهر من أن يذكر، وأجلى من أن يسطر.
وقد أفرد مناقبه ابن أبى القاسم الصومعى بمجموع فلينظر، وكان ابن غازى عنى بكون مدفن أبى يعزى من عمل مكناسة أنه كان داخلا تحت حكم ولاته، وقد انفصل محل دفنه من عمل عمال مكناسة قديما وصار من جملة عمل عمال قبيلة زيان، ولا ريب أن افتخار مدينة مكناسة بالقرب من مولانا إدريس الأكبر أجل وأعظم من افتخارها بالقرب من أبى يعزى.
قال في "الروض": نقل عن ابن الخطيب السلمانى في وصف هذه البلدة في كتابه "نفاضة الجراب" ما صورته وأطلت مدينة مكناسة في مظهر النجد، رافلة في حلل (1) الدوح، مبتسمة عن شنب المياه العذبة، سافرة عن أجمل المرأى، قد أحكم وضعها الذى أخرج المرعى، قيد البصر، وفذلكلة الحسن، فنزلنا بها منزلا لا تستطيع العين أن تخلفه حسنا ووضعا، من بلد دارت به المجاشر المغلة، والتفت بسورة الزياتين المفيدة، وراق بخارجه للسلطان المستخلص الذى يسمو إليه الطرف، ورحب ساحة، والتفاف (2) شجرة، ونباهة بنية، وإشراف ربوة.
ومثلت بإزائها الزاوية القُدْمى المعدة للوراد، ذات البركة النامية، والمئذنة السامية، والمرافق المتيسرة، يصاقبها الخان البديع المنصب، الحصين الغلق، الغاص بالسابلة والجوَّابة في الأرض يبتغون من فضل الله، تقابلها غربا الزاوية الحديثة المربية برونق الشبيبة، ومزية الجدة والانفساح، وتفق الاحتفال (3) انتهى.
(1) في المطبوع: "حلة" ومثله في الروض - ص 126 والمثبت من نفاضة الجراب - ص 371.
(2)
تحرف في المطبوع إلى: "والتفات" وصوابه من النفاضة.
(3)
الروض الهتون - ص 126، نفاضة الجراب - ص 371 - 372.
والزاويتان معا من بناء أمير المسلمين أبى الحسن المرينى، جدد الله تعالى عليه رحمته بفضله، إلا أن الأولى بناها في دولة أبيه، والثانية بناها بعد استقلاله بالدولة.
ثم قال ابن الخطيب: وبداخلها مدارس ثلاث لبث العلم كلفت بها الملوك الجلة الهمم، وأخذها التنجيد، فجاءت فائقة الحسن: ما شئت من أبواب نحاسية وبرك فياضة تقذف فيها صافى الماء أعناق أسدية وفيها خزائن الكتب والجراية الدارة على العلماء والمتعلمين (1).
وتفضل هذه المدينة كثيرا من لداتها بصحة الهواء وتبحر أصناف الفواكه، وتعمير الخزين، ومداومة البر لجوار ترابها سليما من الفساد، معافى من العفن، إذ تقدم ساحات منازلها غالبا على أطباق الآلاف من الأقوات تتناقلها المواريث، ويصحبها التعمير وتتجافى عنها الأرض، ومحاسن هذه البلدة المباركة جمة قال ابن عبدون من أهلها ولله دره:
إن تفتخر فاس بما في طيها
…
وبأنها في زيها حسناء
يكفيك من مكناسة أرجاؤها
…
والأطيبان هواؤها والماء (2)
ويسامتها شرقا جبل زرهون، المنبجس العيون، الظاهر البركة المتزاحم العمران الكثير الزياتين والأشجار، قد جلله الله شكرًا ورزقا حسنًا فهو عنصر الخير ومادة المجبى وفى المدينة دور نبيهة، وبنى أصيلة، والله تعالى ولى من اشتملت ليه بقدرته.
وفيها أقول:
بالحسن من مكناسة الزيتون
…
قد صح عذر الناظر المفتون
(1) نفاضة الجراب - ص 372.
(2)
نفاضة الجراب - ص 372.
فضل الهواء وصحة الماء الذى
…
يجرى بها وسلامة المخزون
سحت عليها كل عين ثَرة
…
للمزن هامية الغمام هَتُون
فاحمر خدُّ الورد بين أباطح
…
وافترّ ثغر الزهر فوق غصون
ولقد كفاها شاهدا مهما ادعت
…
قصب السياق القربُ من زَرْهُون
جبل تضاحكت البروق بجوِّه
…
فبكت عِذَابُ عيونه بعيون
وكأنما هو بربرى وافد (1)
…
في لوحه والتين والزيتون
حييت من بلد خصيب أرضه
…
مثوى أمان أو مناخ أمون
وضفت عليك (2) من الإله عناية
…
تكسوك ثوبى أمنة وسكون (3)
انتهى.
ما قصدنا نقله من نفاضة الجراب، ولم أكن وقفت عليها حين ابتدأت هذا المجموع فلذلك اقتصرت في صدره على الخمسة الأبيات التي علقت بحفظى من هذه القصيدة.
وقال في "ريحانة الكتاب. ونجعة المنتاب": مكناسة مدينة أصيلة، وشعب للمحاسن وفصيلة. فضلها الله تعالى ورعاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها، فجانبها مريع، وخيرها سريع، ووضعها له في فقه الفضائل تفريع، عدل فيها الزمان، وانسدل الأمان، وفاقت الفواكه فواكهها، ولا سيما الرمان، وحفظ أقواتها الاختزان، ولطفت فيها الأوانى والكيزان، ودنا من الحضرة جوارها، فكثر قصادها من الوزراء وزوارها، وبها المدارس والفقهاء، ولقصبتها الأبهة والبهاء، والمقاصير والأبهاء. انتهى. من خطه.
(1) كذا نفاضة الجراب والروض الهتون. وفى المطبوع: "نافذ".
(2)
في نفاضة الجراب: "وضعت إليك"، وما هنا في الموضعين رواية:"الروض الهتون".
(3)
الخبر والأبيات في الروض الهتون - ص 128، ونفاضة الجراب - ص 372 - 373.
قلت: "نفاضة الجراب. في علالة الاغتراب. بمن بقى من الأصحاب" هى في أربعة أسفار.
"وريحانة الكتاب. ونجعة المنتاب. في الرسائل والمكاتبات" في جزء ضخم وهى مما ضمته مكتبتنا، وقد وهم من قال إنها في ثمانية أسفار، وما نقله ابن غازى عنها مثله باللفظ لابن الخطيب أيضا في "معيار الاختيار، في ذكر المعاهد والديار"، ومراد ابن الخطيب بالحضرة فاس، كما نبه في "نفح الطيب" قائلا: ويعنى بالحضرة مدينة فاس المحروسة، لأنها إذ ذاك كرسى الخلافة ومكناسة مقر الوزارة، وأهل المغرب يعبرون عن المدينة التي فيها كرسى الخلافة بالحضرة (1) هـ.
وأبو عبد الله بن الخطيب هو الإمام القدوة الهمام، بغية الآمل، العالم الأديب الكامل، الفقيه الأكتب المتحلى بأجمل الشمائل، الحافظ المتقن، المدرس المتفتن، ذو الوزارتين، لسان الدنيا والدين، وفخر الإسلام بالأندلس في عصره أبو عبد الله محمد بن الفقيه الرئيس عبد الله بن الفقيه الكاتب القائد سعيد بن عبد الله بن الفقيه الصالح ولى الله سعيد بن على بن أحمد السلمانى القرشى القرطبى الأصل ثم الطليطلى ثم اللوشى ثم الغرناطى المالكى المذهب. يعرف بيتهم قديما ببنى الوزير، وحديثا بلوشة ببنى الخطيب، ولد في الخامس والعشرين من شهر رجب سنة ثلاث عشر وسبعمائة، وقرأ القرآن أولا على أبى عبد الله بن عبد المولى العواد، ثم على أستاذ الجماعة أبى الحسن القيجاطى، وقرأ العربية والفقه والتفسير على العلامة أبى عبد الله البيري، وقرأ على الخطيب ابن جزى، وعلى قاضى الجماعة أبى عبد الله بن بكر، وتأدب على الرئيس ابن الجياب، وأخذ الطب والتعاليم وصناعة التعديل عن أبى زكريا بن هذيل، وقرأ على العلامة أبى القاسم محمد بن أحمد السبتى قاضى الجماعة بغرناطة المتوفى سنة إحدى.
(1) نفح الطيب 6/ 213.
وستين وسبعمائة، وعلى العلامة شمس الدين أبى عبد الله محمد بن جابر المتوفى سنة سبعمائة وتسع وسبعين، وعلى العلامة محمد ابن محمد بن أحمد القرشى المَفرِى قاضى القضاة بفاس وغيرها من العلماء الأعلام.
وأخذ عنه أفاضل الفطاحل من قادة العلم كابن المهنى، والوزير ابن زمرك، وأبى عبد الله الشريشى، وأحمد بن سليمان بن فركون، وأبى محمد بن عطية وغيرهم.
وترجمته أفردت بالتأليف، توفى شهيدا بفاس سنة ست وسبعين وسبعمائة ودفن خارج باب الشريعة المعروف اليوم بباب محروق، وضريحه الآن عليه حوش صغير بمقابلة من روضة سيدى عبد النور، يفصل بينهما الطريق الممرور عليها لظهر الخميس.
والزاويتان اللتان وصفهما ابن الخطيب في كلامه المتقدم، هما: الزاوية القورجية، وزاوية باب المشاورين، والمدارس الثلاث، هى: مدرسة الشهود، والمدرسة الجديدة، وهى المعروفة اليوم بالبوعنانية، ومدرسة سماط العدول الآن، والقصبة هى: المرينية وقد بينا فيما سبق ما يتعلق بذلك كله.
وفى وصف هذه البلدة أيضًا يقول قاضى الدولة الإسماعيلية بها العلامة المبرز سيدى أبو مدين السوسى في كتاب رفعه لمولانا إسماعيل: هذه الحضرة المشرفة بعناية مولانا إذ جعلها من ثماره. واصطفاها لقربه وجواره. وشنفها من بديع الفراديس ورفيع القباب، بما لو رآه الإسكندر لاعترف بأنه العجب العجاب، قد حليت من المحاسن بمنتهاها، وأسعدها الإسعاف بنيل أرفع مشتهاها، والعلوم قد تدفقت بها أنهارها، وتفتقت على أرج التحصيل أزهارها هـ.
وقد أكثر الشعراء والكتاب قديما وحديثا من وصف هذه المدينة التي كل بلد من محاسنها مدينة، وذكر شرفها الأصيل، والتفنن في نشر ذلك في قوالب
الإجمال والتفصيل، فمن ذلك قول العلامة الذى لا يحتاج إلى التمييز بعلامة سيدى محمد بن أحمد السناوى:
كذب الذين ترفعت في زعمهم
…
فاس على مكناسة الزيتون
وأصاب من جعلت له مكناسة
…
دار الإمارة والعلا والدين
بأبى العمائر عمرت أرجاؤها
…
وترنمت أطيارها في الحين
وقول علامتها وقاضيها أبى القاسم بن سعيد العميرى مذيلا لهذه الأبيات، ومعددا ما أحرزته من فاخر محاسن الصفات:
خطت قصيبتها بأسعد طالع
…
فاختص فيها الملك بالتمكين
وبمشتهاها منتهى ما تشتهى
…
للعين والسلوان في وسلين
وبباب جمال يفوق جمالها
…
مرأى دمشق ومرأى قنسرين
نشرت عليها محاسنا ورزيغة
…
بالروح والريحان والنسرين
وقوله من قصيدة تنيف على عشرين بيتا:
أمكناسة الزيتون يا خير بلدة
…
حدائقها تزهو على الحدق النجل
وما القول فيمن حال حال وصاله
…
فلا جعل الله الموانع في حل
إذا لاح نحو الغرب برق هوت به
…
دواعى الجوى بعد العلو إلى السفل
وإن هبت الأرواح رق وراق من
…
يسهل من أمريه ما ليس بالسهل
لمان غنت الورقاء بالأيك روعت
…
فؤادا دعاه الشوق بالجد والهزل
وقول الشريف المنيف المولى محمد الغالى بن محمد الحسنى الإدريسى العمرانى اللجائى في كتابه "دوحة المجد والتمكين" في وزارة بنى العشرين
ومكناسة دار علم، وإدراك وفهم، كانبها علماء فضلاء، وأئمة نبلاء فقهاء، وبدور سافرة، لا تريد الا الدار الآخرة. انتهى.
وقول بعض شعراء الدولة الإسماعيلية وظرفاء أدبائها:
أمكناسة إنى لرؤياك آمل
…
وإن عاقنى شغل من الدهر شاغل
فأنت التي حزت المفاخر كلها
…
ومنك تنشت في البلاد الفضائل
إذا افتخرت مراكش ببديعها
…
ففى القبة الخضرا تضيق الأقاول
وإن ذكرت مصر بجامع أزهر
…
ففى الجامع الخضرا بدور كوامل
لك الفخر يا مكناسة قد حويته
…
كأنك بحر والبلاد جداول
وقول العلامة الأديب الماهر أبى العباس أحمد بن على بن أحمد مصباح من قصيدة طنانة يمدح بها سيدنا الجد مولانا إسماعيل:
لئن مسها الأعياء أو شفها الظما
…
فمكناسة راحاتها وارتواؤها
بلاد هى الدنيا بأجمعها التي
…
أضاء على كل البلاد ضياؤها
فجنتها الزوراء والزهر أهلها
…
وأربعها الزهرا ودجلة ماؤها
إذا ما رأت أعلامها نفس مدنف
…
معنى تداعى للرحيل عناؤها
وقصر على أفنائها وقصورها
…
مزايا جسام ليدس يخشى فناؤها
فتانوتها مثل السما وقبابها
…
بدور أمير المؤمنين سناؤها
وقول الأديب سيدى إدريس بن أحمد الوكيلى كما بكناشة العلامة المفتى سيدى بو بكر بن عبد الرحمن المنجرة ومن خطه نقلت:
مكناسة دار علم
…
وبالسرور بنيه
تاج الملوك حباها
…
لها بذاك مزيه
وأهلها خير قوم
…
لهم عهود وفيه
وقول الفقيه الأديب العلامة العدل المدرس سيدى التهامى بن الطيب آمغار رحمه الله تعالى:
لله ما أبهى عمائر الحمى
…
معالم الأنس مطالع المنى
معاهدا ما برحت محفوفة
…
بظل أمن من فراديس الهنا
قلبى إليها قد صبا كيف وهى
…
أول أرض مسنى منها الثرا
مكناسة قطب البلاد كلها
…
وشمسها التي إليها المنتهى
أعظم بها من حضرة عم الورى
…
مددها ونفعها طول المدا
فيا لها من بلد يجلو الصدى
…
عن القلوب الماء منها والهوى
أبو العمائر سقاها سلسلا
…
عذبا معينا سالما من القذى
وطود زرهون بقربها زها
…
على الجبال كلها وقد سما
فكل من أبصر معنى لفظها
…
يود لو أنه فيها قد ثوى
لا تسمعن قول جحود لم يجد
…
إلى سماء مجدها من مرتقى
ودت بقاع الأرض طرًّا أن ترى
…
ما خصصت من السناء والسنا
أشرقت الدنيا بها إذ أحدقت
…
بها قصور وسط روض مشتها
ما أعين رأت ولا قد سمعت
…
أذن ولا خطر قط بحشا
رفع سمكها شريف مصطفى
…
من آل أفضل العباد المصطفى
مشرفة على حمى حمرية
…
ذات المعانى والحلى والحلا
تالله ما أبصر طرف مثلها
…
في الكون طرا قط منذ نشا
يكاد زيتها يضئ في الدجى
…
من قبل أن يمسه جمر الغضا
صفوفها جند لحاضرتها
…
يحرسها ممن بغى ومن طغا
محتميا بعلمى ورزيغة
…
ذات السرور والحبور والهنا
تأمل في أبى السلو إذ جرى
…
مسبحا لله في در الحصا
كسا الرياض حللا من سندس
…
فسجدت لله شكرا للحبا
حلى السواعد سوارى ذهب
…
والساق خلخالى لجين قد صفا
يغشى عيون الناظرين نورها
…
من كل لون مشرق يذكى الحجا
بالبنفسج زها بزرقة
…
على يواقيت الشقيق وازدهى
فانتصر الورد له لمرحم
…
فسليا لسانه من القفا
وصعد النرجس فيه طرفه
…
أطراق كرا إن النعام في القرى
فطأطأ الرأس صغارا وانثنى
…
وأظهر الخجلة سنه واستحا
شأن من طغى تجبرا
…
لا بد أن ينبذ يوما بالعرا
وأظهر الخيرى خيرا في الضحى
…
وهو يشرق إذا الليل سجا
مختفيا من الرقيب في الدجى
…
وشانه النمام خبرا ففشا
حروف خط فوق طرس أخضر
…
مرصع جاءت لمعنى معتما
أصل زكا فرع زها زهر ذكا
…
نهر سلا روح جلا ظل ضفا
تنازع الأذن العيون غبطة
…
فيها إذا سجا الحمام أو شدا
جنتها الدنيا التي قد زخرفت
…
لمن أقر نفسه على الهوى
هوى لكن محجوبة في خدرها
…
تحن للعشاق أرباب النهى
أطرق طرف الشمس منها خجلا
…
وربما غاب بسحب كالدمى
فكم رشفنا ثغرها بمحضر
…
من خلها الذى إليه تنتما
وكم أدارت كاس أنس في الدجا
…
حتى بدا وجه الصباح وانجلا
وسبحت كأس ببحر من طلا
…
ملتطم برشف ريق قد شفا
أم الكنوز قد حوى مالكها
…
من الكنوز الفاخرات ما حوا
أم العشير حولها تفخر في
…
حللها على بنى موسى الرضى
وما رعت ذمام قصر مَرِض (1)
…
ولا ذمام قصر (2) يكدر السها
بل رغبت عنهم عساها أن ترى
…
وجه العروس كى تفوز بالمنى
لله ما أبهى محياه الذى
…
جماله في كل عين قد حلا
يحن شوقًا لجنان العافية
…
شغفه الوهاد منه والربا
وما استوى إلى مياه ملك
…
فباب ريح اليمن منتهى الحمى
محل أنس الغانيات في الضحى
…
ومربع الظبا ومرتع المها
فالنور منه شاخص كمقلة
…
من ذهب إنسانها مسك ذكا
يهوى شباب الشمس غضا ناضرا
…
دابا ويذيل إذا الشبيب عرا
ويحه أحرق حشاه حبها
…
فصار أحوي من تباريح الجوى
كأن أرضه سماء قد بدلت
…
نجومها مشرقة وقت الضحى
وحوله الرياض قدما قد محت
…
رسومه أيدى الزمان فانمحى
أين البروج والحصون حو
…
والمسجد الأسمى السنى المبتنا
(1) في المطبوع: "مرضن".
(2)
كذا في المطبوع.
أودى بها الدهر الديهار إن في
…
ذاك لآية لأرباب النهى
فيا لها من آية دلت على
…
أن ليس يبقى غير من له البقا
لا تعجبن ما دمت حيا يا فتى
…
من كدر الدهر إذا هو سطا
ما أبررت إلا حقيق نعتها
…
لكن على غير منعوتها جرى
ما زال يوم الأربعاء يذكرنى
…
وحال هذه المغانى في الصبا
على أنى في رتبة تسمو السها
…
أحبر في روض العلوم والعلا
أحرر النقل بذهن ثاقب
…
ليلا وعند الصبح يحمد السرى
فأحكم الدرس بقول رائق
…
يملى على كل ضمير ما نوى
أطواراً أطرب لحل مشكل
…
وربما أنصب مما قد زوا
مشمرا عن ساعد الجد وقد
…
ساعدنا الجد بكل مبتغى
ممتطيا ذرى المعالى دائما
…
وقصد من شيمته العلو العلا
موفقا بالله مهديا به
…
مؤيدا بنصره كما أشا
فقل لمن رام لحاق رتبتى
…
شتان ما بين الثريا والثرا
وهل ينال المجد يوما من ونى
…
أم هل ينال الرشيد يوما من غفا
بل ذاك محض فضل ربنا الذى
…
أعطى العبد كل شئ فهدى
ظنوا بأنى قلق وما دروا
…
أنى امرؤ عن موقف الذل نأى
والحر يستف الثرى ولا يرى
…
عليه فضل أحد من الورى
همته بالله لا بغيره
…
بالله أخذه وبالله العطا
ومن تمام فضله عليه أن
…
منع ما أطغى وأعطى ما كفى
أحمده حمدا يوافى ما حبا
…
غير أن لا أحصى عليه من ثنا
اهـ. كما وجد.
وقول بعض نبغاء الثغر التطوانى متوجا أوائل الصدور بما لفظهه "مكناسة حسناء":
مكناسة الزيتون فردوس الدنا
…
تزهو بهجتها على الزوراء
كلفت بها النجم المنيرة فانثنت
…
سكرى بها تدنو إلى البطحاء
نور الغزالة مستمد جمالها
…
حصباؤها در ترى للرائى
أبناؤها أهل الذكاء سجية
…
أهل السخا يسدون للغرباء
سيما التمدن في جباههم فهم
…
بين الورى كالشامة البيضاء
تختال من رقص البلاغة ألسن
…
لهم كميس الغادة العذراء
حزت الفضائل والتقدم للعلا
…
مكناسة والطيب في الأهواء
سادت طرائقك الفسيحة غيرها
…
نسخت بحسن آية الأقذاء
نالت عذوبة كوثر أودية
…
تختال فخرا من لجين الماء
الله يعلم أننى أحببتها
…
أو ما تراها مسكن النبلاء
أهل بهم سعد الزمان وأخضبت
…
أهل السخا بالبلدة الغراء
وقول صديقنا المؤرخ الأشهر أبى عبد الله محمد بو جندار الرباطى دام إسعاده:
مكناسة عهدى بها مرفوعة
…
فلايما نصبت على التمييز
فتأرجت وتبرجت وتبرزت
…
مثل العرائس ساعة التبريز
وكفاك أن رياضها وحياضها
…
تنسيك في "فرساى" من باريز
هاتيك إسماعيل أبدع صنعها
…
ولهذه آثار صنع "لويز"
وكلاهما بلد عليه حلة
…
في غاية الإبداع والتطريز
وعلى قصورهما المحاسن أصبحت
…
مقصورة كتقاصير الإبريز
من لى بزورة تلك أو هذى فهل
…
حكم القضاء أتى على التجويز
لا خيب الله الرجا حتى أرى
…
وعد الزمان اليوم في تنجيز
وقوله:
مكناس ليست لو ترى حجراتها
…
إلا كناسا للظبا ومهاتها
بلد بها يأتى إلى المضنى الشفا
…
يا حسرة المضنى إذا لم يأتها
طاب الهواء مع الهوى في حيها
…
والماء كالصهباء في كاساتها
إن جئتها تسقى بأكواب وكأ
…
س من معين في أكف سقاتها
فكأنما هى جنة الرضوان طا
…
ف الحور والولدان في عرصاتها
سافر إليها عاجلا أو آجلا
…
واغنم بها السراء قبل فواتها
وإذا لمحت معاهدا قد أومضت
…
ومضت بها اللذات في أوقاتها
حى ابن زيدان الرِّضا والأحمد يـ
…
ـن الناظر الأسمى وخير قضاتها
وقول الأديب الماهر الفقيه السيد إبراهيم بن أحمد السلوى العدل الأول بنظارة الأحباس بالدار البيضاء:
إن مكناس بلدة خصها اللـ
…
ـه برحب الفنا وطيب النسيم
بلدة للمحاسن الغر أمست
…
مركزا ينتديه كل كريم
بلد طيب ومرعى فنسيح
…
خصب معشب بصنع الحكيم
فيها الاطمئنان ألقى عصاه
…
وازدهت في معارف وعلوم
وبها كانت الفطاحل من كـ
…
ـل وزير وقائد وزعيم
وبها الدولة العظيمة كانت
…
لأبى النصر والفخار الصميم
كان فيها إذ ذاك وقع عظيم
…
ودوى يروع كل مظلوم
إلى أن قال:
وبمكناس كم مآثر تتلى
…
أودعتها الرواة بطن رقيم
وكفى نهرها الذى حل منها
…
بمحل السوار في زند ريم
ما لغمدان ما لبغداد معنى
…
مشبه بالذى حوت من رسوم
ذاك باب المنصور يشهد بالعجـ
…
ـز لمن رامه بعيّ ذميم
واستجدت بهمة المتوليـ
…
ـها فقرت جفون كل مقيم
وإلى الآن لم تزل في ترق
…
واعتناء معضدا بقروم
وقول نابغة الشرق وناطورة الأدب الشيخ رشيد مصوبع اللبنانى:
في المغرب الأقصى رأيت مدينة
…
فيه تعد حديقة للناظر
مكناس هاتيك الديار فحيها
…
يا من مررت بها بشوق وافر
لم يحك رقتها سوى ماء بها
…
شبم وغير شذا نسيم عاطر
وقول صاحبنا الفقيه الأديب الناظم النثر السيد محمد بن الحاج السلمى الفاسى:
على مكناسة الزيتون سور
…
يقول لساكنيهما لا تخافوا
هى الدنيا جمالا وافتخارا
…
وإنى في حياطنها لقاف
وقوله على لسانها:
يمثلنى ذو اللب أول ما يرى
…
حصونى بجيش للحروب عرمرم
فيخشى من التمثيل ما ليس يختشى
…
من المرهف البتار وهو مصرم
فصينت دماء القوم والمال كله
…
وأصبح شمل البغي وهو مهشم
ولم لا وغصن الحسن منى أعاده
…
جلال ملوك الغرب ذاك المقدم
بمولاى إسماعيل كنت وحيدة
…
وكل بحسن الوضع منى مغرم
فلا زال رضوان من الله عاطفا
…
على رمسه والشأن منى معظم
وقوله:
بمكناسة الزيتون من ملح الحسن
…
معان بها تعلو على كل ذى زين
لها الشرف الذاتى وفى الغير عارض
…
إذا ما أعارت بعض ما لاح للعين
فمن شام دور الحى منها وقد سمت
…
تخيل أزهارا منوعة اللون
وقول محبنا الفقيه العدل السيد عبد القادر العلمى المكناسى شهر بالعرائشى:
يا ناظرا مكناسة الزيتون
…
ذات البها والحسن والتحسين
نزه لحاظك في أجنتها التي
…
تحيى فؤاد العاشق المحزون
وانظر إلى أسوارها وبروجها
…
قد أسست للفخر والتحصين
فكأنها ملك بدا في عرشه
…
ليرى دفاع الهاجم المفتون
أو أنها عذراء حسن أحرست
…
بجبالها عن ناظر بعيون
أحسن بها من بلدة فمياهها
…
قد أجريت من كوثر ومعين
يكفيك فيها شرحها بهوائها
…
صدرا لمكلوم الحشا بعيون
ولحسن منظرها البديع أنشدت
…
(يا ناظرا مكناسة الزيتون)
وقول صاحبنا الأديب الفقيه القاضى السيد محمد الشنكيطى البيضاوى:
لله لله ما أبهاك مكناس
…
أرض هى الأرض بل ناس هم الناس
بها القصور وأسوار مشيدة
…
كالراسيات وأبراج وأقواس
تجسم الفخر في تلك المعاقل والـ
…
ـجلال والعزم والسلطان والباس
وماؤها السلسبيل العذب باكره
…
ريح هو المسك أنفاس فأنفاس
يكفى مدينتها أن الكبير بها
…
يضئ من علمه الفياض مقباس
إلى روائح من أخلاقه عبقت
…
ما الرند منها وما الريحان والآس
وقول صديقنا العلامة المشارك المتضلع السيد أحمد بن العياشى سكيرج من قطعة:
فما مكناسة الزيتون إلا
…
جنان الخلد أو دار السلام
هى الدنيا بها قد حاط قاف
…
لها من كل ما يحتاط حام
فمن فيها يحل ينال أمنا
…
به يحظى بحفظ مستدام
وفيها وسادة فقهاء فاقوا
…
سواهم في جلال واحترام
وقوله:
عرج على مكناسة الزيتون
…
فيها حلول الطالع الميمون
بلد تريك ضخامة الملك العلى
…
وتريك ما هو قرة لعيون
بلد بها ماء الحياة جرى وقد
…
طاب الهوى فيها، غير الدون
لله من بلد تحلى أهلها
…
بإقامة المفروض والمسنون
ولهم من الآداب ما يسبى النهى
…
مع حسن أخلاق برفع شئون
فعليهم أذكى السلام يعمهم
…
بالطيب من صب بهم مفتون
وقوله:
سكنت في مكناس
…
فعرفت خير الناس
حتى تكون مفاخرا
…
أولى الندا والباس
بلد بها تحيا النفوس
…
بطيب الأنفاس
ما دمت لم تسكن بها
…
لم تحظ بالإيناس
قوله:
مكنس الغزلان مكناس وهل
…
مثل مكناس يري في المغرب
بلد فاقت بمن حل بها
…
وبماء وهواء طيب
وقوله:
هذه مكناس يا قوم بدت
…
هل رأيتم حسنها يسبى النهى
بلدة طابت وطابت ناسها
…
وبها الأنفس قرت عينها
وقوله:
خليل فسر بى (1) بين سربى لمكناس
…
ففيها تطيب النفس من بين أنفاس
لقد زرتها أزمان كان مساعدى
…
زمانى بناس كنت أعتادهم ناسى
فشاهدت أرضا لا نظير لها ولا
…
نظير لمن فيها لدى الجود والباس
وقد زادنى فيها ابن زيدان غبطة
…
بها وبه قد تم في الناس إيناسى
فَسِر بِى كى تدوم مسرتى
…
فإن لم تَسِرْ بالرجل سرت على الرأس
(1) في المطبوع: "خليل سربى" وهو غير صحيح عروضيا، والأبيات من بحر الطويل.
وقول الأديب أبى على حسون بن على بن عمر القسمطينى المعروف بابن الفكون في قصيدة له في رحلته من قسمطينة إلى مراكش كتب بها إلى أبى البدر ابن مردانيش وهو بقسمطينة عدد فيها البلادات التي دخل فيها مطلعها:
ألا قل للسرى بن السرى
…
أبى البدر الجواد الأريحى
إلى أن قال: فيها:
وما مكناسة إلا كناس
…
لا حوى الطرف ذى حسن سنى
وقول الوزير السيد الشرقى الإسحاقى في رحلته: تذاكرنا الغرب يوما ونحن بمصر فذكرنا مطمح النفس، ومحل الأنس، مكناسة الزيتون وما بها من المعاهد التي استفتى القلب فيها نفسه وإن أفتاه المفتون، ففتت الشوق مناكل كبد، وبرح كل منا بما يجد، فأنشدنى صاحبنا الفقيه الأديب السيد بلقاسم بن الفقيه العلامة السيد سعيد العميرى لنفسه ما أنشده أيام نزوحه عن الحضرة المذكورة وجلائه عنها أيام الحادث الجارف، الذى استدعى التالد والطارف، بناحية جبل غمارة:
يا للوى لعمارة
…
شئمتها بغمارة
أرابنى اليوم أمر
…
كنت امتطيت غماره
إلى أن قال:
وكيف لى وبكره
…
خلى الحبيب وداره
فليس يبغى سواها
…
مأوى ولو كان داره
وقول حبيبنا الفقيه الكاتب الشاعر المطبوع الشهير السيد الحاج عبد الله القباج مشطرا للقطعة الشنجيطية المارة:
لله لله ما أبهاك مكناس
…
خصب ورخص وأغراس وأعراس
مكناس ما نظرت عينى نظيرتها
…
أرض هى الأرض بل ناس هم الناس
بها القصور وأسوار مشيدة
…
ثشى وفيها من الإفضال أجناس
وبين ساحتها الآثار ثابتة
…
كالراسيات وأبراج وأقواس
تجسم المجد في تلك المعاقل
…
والفخار والعز قلب والعلا راس
والمجد فيها مقيم والمهابة
…
والجلال والعزم والسلطانه والباس
وماؤها السلسبيل العذب باكره
…
ريح الصبا وهواه الخمر والكاس
ما مر منها امرؤ إلا ومر به
…
ريح هو المسك أنفاس فأنفاس
يكفى مدينتها أن الكبير بها
…
هو الإمام الذى تصبو له فاس
والأبلج الفرد من لو في الظلام سرى
…
يضئ من علمه الفياض مقباس
إلى روائح من أخلاقه عبقت
…
فوق القياس وللأخلاق مقياس
كأنها من جنان الخلد قد هبطت
…
ما الرند منها وما الريحان والآس
وقول المشطر المذكور لا زال يشنف الأسماع بخرائده، ويحلى النحور بفوائده:
بمكناسة الزيتون أهل معالى
…
وأهل عوالى بل وأهل علالى
بلاد هواها لا يقاس به هوى
…
بلاد حباها الله خير زلال
بلاد هى السلوان للنفس والمنى
…
وليس بها هم وغم كلال
بلاد ويكفيك اسمها عن صفاتها
…
كساها جمال الدهر ثوب جلال
بلاد فما في الغرب من جنة ترى
…
سواها وما فيما ذكرت تغال
بلاد بها الجنات والحور غيدها
…
وفيها من الولدان كل غزال
بلاد ولكن من هوى كل مهجة
…
أقيمت بلا ريب ودون جدال
بلاد لروح المرء روح وراحة
…
وللجسم طب من أضر عضال
بلاد متى تقبل بهمك نحوها
…
دخلت وحد الهم باب جمال
بلاد تنسى من أتاها بربعه
…
وما غيرها ينسبه فيه بحال
بلاد هى الدنيا فخذها غنيمة
…
لنفسك دارا لم تسم بملال
بلاد إذا أسقطت من أحرف اسمها
…
وأوله حرفا ورمت سؤال
يعود كناسا والكناس مخصص
…
لسكنى الظبا والريم بين جبال
بلاد بإسماعيل تزهو وتزدهي
…
على كل مصر قد زها بظلال
بأنحائها آثاره وفخاره
…
وللملك والسلطان خير مثال
وفي قلبها من نسله خير زمرة
…
ومن آله الأطهار أفضل آل
ومزوارهم في عصرنا وكبيرهم
…
أبو زيد الغطريف راحة بال.
حلاحل مغناها وجحجاح أهلها
…
وأورعها مصباحها المتلالي
سلالة زيدان الشهير بفضله
…
قديما وأهل الفضل أهل نوال
وإن أبا زيد لأكرم سيد
…
بكناسة فاعلم وثق بمقالي
شريف عفيف عالم متواضع
…
وتاج فخار بل وسيف نضال
وبحر من الآداب عذب مذاقه
…
خضم وبحر العلم كنز لآلي
له خلق كالزهر باكره الندى
…
ووجه منير فديه ألف هلال
فلا زال للعلم المقدس خادما
…
ولا زال للتحقيق فيه موالي
ولا زال للتاريخ كوكب أفقه
…
ولا زال للآداب بدر كمال
انتهى.
قاله وكتبه في ثاني عشري ربيع الثاني عام أربعة وأربعين وثلاثمائة وألف، ودودكم عبد الله القباج وفقه الله. انتهى. من خطه.
وقول ابن عمنا الفقيه الأديب العدل مولاي الحسن بن النقيب الأبر البركة سيدي محمد بن العباس العلوي النَّجَار، الفاسي النشأة والدار والقرار:
إذا افتخرت فاس بطيب معانيها
…
ولطف أهاليها ورقراق واديها
ومراكش الحمرا بطلع نخيلها
…
وحسن سجايا أهلها وأغانيها
وثغر رباط الفتح بالأدب الذي
…
غدا مفرق العليا يصول به تيها
فمكناسة الزيتون فاقت بتربة
…
وطيب هواء وابتهاج مبانيها
فما مثلها الزهراء في حسن منظر
…
ولم لا وسبط المصطفى هو بانيها
إمام همام ساعد السعد سعيه
…
فكانت شموس الفضل مشرقة فيها
وقول صفينا الشريف الأديب سيد محمد فتحا بن يحىي الصقلي:
مكناسة ما لها في الحسن من ثاني
…
تسبي عقول ذوي العرفان والشان
وأهلها حسن أخلاق لهم جملت
…
نسيت من لطفهم أهلي وأوطاني
هواؤها عز أن يلفى له شبه
…
به الدواء لمكروب وللعاني
وماؤها السلسبيل العذب منهله
…
يشفي السقيم به من كل أحزان
هي العروس التي تجلي لمغربنا
…
بين البلاد بحسن ثم إحسان
فاقت برفعتها كل البلاد ولا
…
يلفي شبيه لها قاص ولا داني
وقول محبوبنا الأديب المفضال مراقب أحباس حضرتنا المكناسية سابقا وخليفة عامل فاس على فاس الجديد حينه السيد الحاج محمد بو عشرين.
يا رائدا للفخر والأيناس
…
عرج لنيل المجد في مكناس
بلد حباه الله كل مزية
…
وحماه من زيغ ومن أدناس
وكساه من ثوب الجمال أرقه
…
ووقاه من شر ومن وسواس
فغدا بوجه القطر شامة خده
…
وبجيده عقد من الألماس
تسمو معالمه بأقدس مشهد
…
وبخير أرض أُخرجت للناس
ونزاهة الأخلاق في نفس العلا
…
وصيانة الأعمال في الأحباس
وقول مالك أزمة الشعر الأديب الماهر السيد محمد بن المفضل غريط من قصيدة:
يا نجل زيدان يا أندى الكرام يدا
…
يا من أَضاءت به أرجاء مكناس
مدينة من شكا ضيقا بمهجته
…
ففي ترامسها لسقمه آس
كان بركتها وجه سوالفه
…
ما يبهج العين من أغصان أغراس
يا حسنها إن حكت شمس الأصيل بها
…
مخلص التبر محلولا بقرطاس
تنال في حوزها أفكار زائرها
…
ما لا تناله بالأوتار والكاس
هوى يتيم من رقت طبيعته
…
بلي يلين طبع النافر القاسي
تلك الديار التي جلت ضخامتها
…
فاستوجبت مدحها من جلة الناس
وأُدعت من صنيع الملك ما وسمت
…
بالعجز عن مثله ملوك أحناس
ينبي بما كان للمجد المقدس من
…
ملك عظيم جليل الفخر والباس
يستوقف الفكر حتى لا يجيء له
…
من كل أبنية الدنيا بقياس
وقوله من قصيدة:
فلعله يجد السبيل لحضرة
…
تسمو بنصرتها على "غمدان"
بلد تصادق ماؤها وهواؤها
…
كتصادق الأرواح والأبدان
مغني القصور الشم والدور التي
…
لم تلف في "شام" ولا "بغدان"
مكناسة إحدى الشهود لمالك
…
بعظيم منقبة ورفعة شان
مجلى مآثر من تجول صيته
…
في سائر الأقطار والأوطان
إلى أن قال:
بلد لها آوت أصولي عندما
…
غمر" الجزيرة" وابل" الإصبان"
فتبوءوا دارا يعز قطينها
…
وتفيئوا في نعمة وأمان
وتسنموا في دولة علوية
…
رُتَبًا تُنَاهِضُ رتبة "السلماني"
وتشرفوا بمراسم مرعية
…
لم يخترم أحكامها الملوان
بلد تكامل حسنها بفريدة الـ
…
ـعقد قد الذي يغلو عن الأثمان
وقوله:
أهل الصفا والود من مكناسة
…
الزيتون ذات البشر والسلوان
وقوله
بمكناس غنمت صفاء وقت
…
وأنسا ما رأيته في سواها
فإن أَكثرت ذكراها فإني
…
شغفت بها وتيمني هواها
وقول الفقيه الكاتب السيد محمد بن داني من قصيدة طنانة أنانة:
لمكناس على البلدان فخر
…
عميم والفخار لها قديم
وقول صديقنا الحميم العلامة سيدي المدني بن الحسني الحسني الرباطي:
لله مكناس في حسن وإحسان
…
يرنو لها كل إنسان بإنسان
حديقة تدع الأحداق محدقة
…
بمنظر يزدرى بـ"شعب بوان"
بها يصح ضعيف الجسم من علل
…
يرتد من حسنها صحيح أبدان
لقد تجلت محاسن البديع بها
…
على منصة ديوان وإيوان
فمن مناخ بها صارت نسائمه
…
بين الأماثل من أثمال ميدانى
ومن روابي إذا اقتعدت صهوتها
…
ترى القصي كـ (زرقاء) بميدان
ومن قصور إذا رام البليغ لها
…
وصفا يكون القصور وصفه الداني
ومن دساكر فيها للعساكر قد
…
كانت مبوأَة من نسل عبدان
ومن حصون كغيل السيد ما فتئت
…
مأوى الكمأة لمن يأتى بعدوان
تناطح السحب و [الأهرام] من صعد
…
ك [الدردنيل] و [واثور](1) و [فردان]
وقد تجلت مفاخر الإمارة من
…
[أبي الفدا] فغدت تزري [بغمدان]
يفتر ثغر (أصيلا) و (العرائش) مع
…
[ثغر الزقاق](2) لنصر فوق تبيانى
ومن مدارس زانتها قد انبجست
…
منها العلوم فأروت كل ظمآن
ومن مساجد للعباد مزهرة
…
كالكتبيين (3) بدت أو مثل حسان (4)
ومن عيون بها للصادي مزهرة
…
وكل راء وقاف ما (بوفكران)
(1) في هامش المطبوع: بالروسيا.
(2)
في هامش المطبوع: طنجة.
(3)
في هامش المطبوع: بمراكش الحمراء.
(4)
في هامش المطبوع: الرباط.
ومن بساتين تحكي في منازهها
…
حلي البدائع من در وعقيان
وأخضر يانع وأبيض يقق
…
وأصفر فاقع وأحمر قاني
كأنها في جمالها وبهجتها
…
آجام (جلق)(1) أو كغاب (بولان)(2)
والورق تشدو على الأوراق من مرح
…
والطير يرقص زهوا فوق أفنان
والماء يعلو وقد أبدي لنا نغما
…
كالناي وقعه (زرياب)(3) عيدان
لذاك تنشد من أقوالها مثلا
…
إذا سقتها السما بكل هتان
إن البساتين (في الدنيا بلا عدد
…
وليس فيها لعمري مثل) بستاني
فقد تكامل فيها الحسن واتسقت
…
لها الحلي فبدت عروس بلدان
فأذكرتنا (فروق)(4) في مباهجها
…
أو (الكنانة)(5) أو جسرا (ببغدان)(6)
لما استعارت محاسن الشموس غدت
…
عطر العروس وزادت بابن زيدان
إذ صار بهجتها فضلا وكان بها
…
[كاليحمدي] الرضا و [كابن حمدان](7)
عليك مني سلام عاطر أرج
…
يعم ربعكم الزاهي إحسان
وقول حبنا ناظر مكناسة الحالي الفقية الأديب أبي العباس أحمد الصبيحي السلاوي:
(1) في هامش المطبوع: دمشق الفيحاء.
(2)
في هامش المطبوع: غابة بولينا ببارس.
(3)
في هامش المطبوع: مغني بالأندلس.
(4)
في هامش المطبوع: فروق الآستانة العثمانية.
(5)
في هامش المطبوع: مصر الفاطمية.
(6)
في هامش المطبوع: بغداد العباسية.
(7)
في هامش المطبوع: في حلب الشهباء.
عرج على مكناسة الزيتون
…
متيمنا بالتين والزيتون
وأنخ مطيك حيث منطلق الهوى
…
يشفي الجوي والجسم بالتعيين
حيث المياه الدافقات ترقرقت
…
وجرت بأودية كما بعيون
حيث البساتين الكثيفات التي
…
كالغاب تحسبها بلا تخمين
حيث الزياتين الكثيرات التي
…
لا حد يدركها إلى زرهون
حيث الصوامع شامخات في السما
…
تقضي بكل عناية بالدين
حيث المآثر جمة لملوكنا
…
لا سيما المفضال إسماعين
لا تنس منها دوره وقصوره
…
ومعامل التحصين والتحسين
وأماكن الأجناد والأسرى بها
…
ومخازن التجنيد والتموين
ولباب منصور تراه آية
…
من أكبر الآيات في التمدين
هذا وإن بها أفاضل جلة
…
موتي وإحياء بهذا الحين
ناهيك بالشيخ ابن عيسى منهم
…
وكذاك رب الدار للمسكين
واقصد بأحياء بها رب القرى
…
من غير معرفة ولا تبيين
عين البلاد أخو الوداد المرتضى
…
العالم المخطوط في التدوين
ذاك ابن زيدان النقيب ومن له
…
في الخلق لطف الورد والنسرين
أبقاه مولاه لنشر عبيره
…
وسقي رياضا حلها بهتون
وقولي:
مكناسة الزيتون تيهي وافخري
…
حزت الشفوف على بلاد المغرب
بمناظر يسبي العقول جمالها
…
وزلال مائك والهواء الطيب
وأريج أرجاء ولطف حدائق
…
بك أَحدقت وبديع ربع مخصب
وفواكه كالشهد إلا أنها
…
مسكية تزري بثغر أشنب
أعظم بما قد نلته من رونق
…
يصبو له في الناس كل مهذب
وقد شطر قطعتنا هذه قاضي مكناسة الحالي شيخنا أبو العباس البلغيثي حفظه الله بما لفظه:
(مكناسة الزيتون تيهي وافخري)
…
فالتيه من ذات المحاسن يعذب
ولئن فخرت فلا غرابة حيث قد
…
(حزت الشفوف على بلاد المغرب)
(بمناظر يسبي العقول جمالها)
…
جمد الذي بجمالها لم يطرب
وجلال ربي قد سموت بموقع
…
(وزلال مائك والهواء الطيب)
(وأريج أرجاء ولطف حدائق)
…
تحكي الفرادس من بهاها الأعجب
لا غرو أن فقت البلاد بجنة
…
(بك أحدقت وبديع ربع مخصب)
(وفواكه كالشهد لولا أنها)
…
فيها الشفا تغني عن المتطبب
تغني عن الصباء إلا أنها
…
(مسكية تزري بثغر أشنب)
(أعظم بما قد نلته من رونق)
…
هو موقف الأبصار للمتعجب
فيه لنفس الأريحي راحة
…
(يصبو له في الناس كل مهذب)
وكذا صديقنا الأديب الماهر السيد عمر بري المدني:
(مكناسة الزيتون تيهي وافخري)
…
بالروض فيك كناس ظبي ربرب
يكفيك أنك للجمال بأسره
…
(حزت الشفوف على بلاد المغرب)
(بمناظر يسبي العقول جمالها)
…
وبطرز شكل ليس يفهمه غبي
وملاعب تلهو بلب ذوي النهي
…
(وزلال مائك والهواء الطيب)
(وأريج أرجاء ولطف حدائق)
…
حدق الوري من حسنها لم تذهب
وزهور أنوار الربيع بما احتوت
…
(بك أحدقت وبديع ربع مخصب)
(وفواكهه كالشهد إلا أنها)
…
تنشي كسكر وسط كأس مذهب
وتخال في استنشاق ريح أريجها
…
(مسكية تزري بثغر أشنب)
(أعظم بما قد نلته من رونق)
…
راقت مدائحه لكل مؤدب
أني يغض الذوق عنه وقد غدا
…
(يصبو له في الناس كل مهذب)
وخمس تشطير هذا بقوله:
طاب الزمان يوجه روض أخضر
…
الورد وجنته بخد أحمر
زيتونه خال عليه عنبري
…
(مكناسة الزيتون تيهي وافخري
بالروض أنت كناس ظبي ربربي)
كم فيك من لحظ يصيد بسحره
…
ويصيب شاكلة الكمي بنحره
لا حزم فيك مع المدل بمكره
…
(يكفيك أنك للجمال بأسره
حزت الشفوف على بلاد المغرب)
زانت بك الدنيا فتم كمالها
…
وتحسنت في نظمها أحوالها
قد سلمت عند الورى أقوالها
…
(بمناظر يسبي العقول جمالها
وبطرز شكل ليس يفهمه غبي)
ما حل فيك غريب دار قد وهي
…
ألا تفتح من لهاك له اللهي
بمنازه ما إن تقاس بمزدهي
…
(وملاعب تلهو بلب ذوي النهى
وزلال مائك والهواء الطيب)
أصبحت بين أزاهر وشقائق
…
كقلائد القيان عند الرامق
وبكل نعت قد حلا للعاشق
…
(وأريج أرجاء ولطف حدائق
حدق الورى من حسنها لم تذهب)
فيك النفوس على مقاصدها استوت
…
من كل شرب للظما منها روت
ببلابل تنسيك (معبدا) إن روت
…
(وزهور أنوار البديع بما احتوت
بك أحدقت وبديع ربع مخصب)
أما ثمارك إن أدلي فنها
…
فكأنني للراح أفتق دنها
ولديك في الأعناب ما ينهى النهى
…
(وفواكه كالشهد إلا أنها
تنشي كخمر وسط كأس مذهب)
روح الشجي إن روعت بأجيجها
…
وتغلغلت من حره بضجيجها
فلروحها طب لرع مهيجها
…
(وتخال في استنشاق ريح أريجها
مسكية تزرى بثغر أشنب)
حسناء نادي رفقها بترفق
…
يا عاشقي هذي الملاعب فانتقي
نزه عيونك في البهيج المونق
…
(أعظم بما قد نلته من رونق
راقت مدائحه لكل مؤدب)
أما النعيم فتحت ذيلي قد بدا
…
ولثغر أنسي رشفه فقد الصدى
لا تدخر أُنسا تصابحه غدا
…
(أني يغض الذوق عنه وقد غدا
يصبو له في الناس كل مهذب)
وشطرها أيضا صديقنا الأديب الفقيه سيدي اليمني الناصري الرباطي النشأة والدار والقرار:
(مكناسة الزيتون تيهي وافخري)
…
بمفاخر تزهو بفخر مغرب
جزت السماك ترفعا حتى لقد
…
(حزت الشفوف على بلاد المغرب)
(بمناظر يسبي العقول جمالها)
…
تغني النفوس عن الأنيس المطرب
طاب المقام لديك من طيب الهوي
…
(وزلال مائك والهواء الطيب)
(وأريج أرجاء ولطف حدائق)
…
ضحكت على دمع الغمام الصيب
وبأعين من نرجس حداقها
…
(بك أحدقت وبديع ربع مخصب)
(وفواكه كالشهد إلا أنها)
…
تنسيك ذوقا كل ذوق أعذب
فإذا ارتشفت أو اقتطفت وجدتها
…
(مسكية تزري بثغر أشنب)
(أعظم بما قد نلته من رونق)
…
راق يروق لكل راء معجب
قد هذبته يد الهنا حتى غدا
…
(يصبو له في الناس كل مهذب)
وكذا حبنا الفقيه ابن الحاج السلمي فقال:
(مكناسة الزيتون تيهي وافخري)
…
وطئى الثريا بالجمال المعجب
أو ليس أنك فوق ما قد نلته
…
(حزت الشفوف على بلاد المغرب)
(بمناظر يسبي العقول جمالها)
…
أسلت عن الحسنا ونغمه مطرب
تصبو النفوس إلى مغانيك العلا
…
(وزلال مائك والهواء الطيب)
(وأريج أرجاء ولطف حدائق)
…
كالهيف في حلي اللجين ومذهب
فنون ما يهوي ويعشق حسنه
…
(بك أحدقت وبديع ربع مخصب)
(وفواكه كالشهد إلا أنها)
…
ساغت لآكلها كسوغ المشرب
مدت له عند التناول نفحة
…
(مسكية تزري بثغر أشنب)
(أعظم بما قد نلته من رونق)
…
يهدي لرائيه جميع المأرب
لا زال عهدك والزمان رفيقه
…
(يصبو له في الناس كل مهذب)
وخمسها الشاب الأنجب الشريف الأديب المولي عبد المالك بن شيخنا البلغيثي المذكور:
مكناسة حسناء بين الأظهر
…
تختال في ذيل البهاء الأزهر
ظهرت محاسنها بهذي الأعصر
…
(مكناسة الزيتون تيهي وافخري
حزت الشفوف على بلاد المغرب)
بقصورك العليا العجيب جلالها
…
وحصونك الشما العديم مثلها
فكأنها الخضرا وأنت هلالها
…
(بمناظر يسبي العقول جمالها
وزلال مائك والهواء الطيب)
عجبا لزخرفك القديم الرائق
…
وبديع شكلك والبناء الشاهق
وأريجك الأبهى الأنيق الشائق
…
(وأريج أرجاء ولطف حدائق
بك أحدقت وبديع ربع مخصب)
ببنفسج وبنرجس ما بينها
…
ورد يذكرك الخدود وحسنها
وعصافير بالأيك تبدي لحنها
…
(وفواكه كالشهد إلا أنها
مسكية تزري بثغر أشنب)
قد فقت صونا كل فرد أبلق
…
وحويت فضلا ماله من ممحق
وعليك ألوية الفخار تخفق
…
أعظم بما قد نلته من رونق
يصبو له في الناس كل مهذب)
إلى غير هذا مما يطول، وليس لغايته وصول.
ثم إن ما توارد عليه هؤلاء الأدباء وغيرهم من محاسن مكناسة منظور فيه إلى الحسن الفعلى الحالي تارة وإلى الأصلي الذي عضدته آثاره أخرى، إذ لا محالة أنها كغيرها تعاورتها أطوار الزمان، وكسفت المرة بعد الأخرى بأيدي الامتحان.
وما دام في العيش خير لا بد أن يقابل كل شروق بغروب، وَمِنْ أنْ يتقلب فصل الربيع المحبوب، في أطوار باقي الفصول وبذلك يكمل المرغوب، وعلى ذلك نبه علامة مكناسة ومؤرخها وأديبها ابن جابر الغساني بقوله:
لا تنكرن الحسن من مكناسة
…
فالحسن لم يبرح بها معروفا
ولئن محت أيدي الزمان رسومها
…
فلربما أبقت هناك حروفا
هذا وحيث أتينا ببعض ما امتازت به هذه المدينة من الفخر، وجئنا للمطالع المنصف بما يجده نعم الذخر، ومنحناه تلك المنح المزرية برقة الملح، وروينا الظماء من عذوبة أخبارها، فلا بد أن نأتي على المطلب الثالث ونحلي تاج مفرقها بذكر ما لا غني عنه من تراجم من حفظت ترجمته من علمائها وأحبارها، مشاهير الإسلام وحماته، وحفاظه وحاملي راياته، ونظم نثار أوليائها شم الأنوف، الباذلين مهجهم في عرفان من هو بالديمومة معروف، أولئك الذين رفعوا بانتصابهم لنفع العباد، وإرشاد الخليفة حاضرها والباد، مرتبا تراجمهم على ترتيب حروف المعجم غير مبال في نظمها بتقديم من تأخر، أو تأخير من تقدم، لا أهمل من الحروف غير حرف عدمت تراجمه، أو جهلت معالمه.
أذكر أولا ما حلي به كل واحد منهم بنصه، ثم أذيله بما وقفت عليه زائدًا من أحوال شخصه، وأطرز حلل أولئك الأعاظم، بذكر ما للناثر منهم إن وقفت
عليه والناظم. ملتزم التعرض لذكر من كان أصله منها، سواء استوطنها أو رحل عنها، ولمن كانت له ولاية أو إقبار بها، ولو كان من غير سر بها، أو هاجر إليه لما صح عنده من عموم برها، وتعجيل خيرها، واتخذ دار استيطان فأسلته عن تذكار الأهل والأوطان.
معتمدا في النقل على ما يتلي عليك من الكتب الذي عرفت جلالة أربابها. وأجمع العقلاء على أنهم أتوا البيوت من أبوابها. كنفح الطيب، ووفيات ابن خلكان، وتكملة الصلة للحافظ أبي بكر ابن الأبار القضاعي، وفهرسة مسند فاس أبي زكرياء السراج، وخلاصة الأثر للمحبي، ودرة الحجال، والرياض الربانية، والمنح البادية، في الأسانيد العالية، ونيل الابتهاج، وكفاية المحتاج، ونشر المثاني والرحلة العياشية، ودوحة الناشر والصفوة، وفهرسة ابن غازي، وتعريف السلف، وروض القرطاس، وابتهاج القلوب، ومرآة المحاسن، وممتع الأسماع، وابن خلدون، وسلوة الأنفاس، والإحاطة، وتحفة الزائر، ببعض مناقب سيدي أحمد بن عاشر، لابن عاشر الحافي، وجواهر السماط وتعطير البساط، بذكر تراجم قضاة الرباط، والجيش العرمرم، وخمائل الورد والنسرين لأكنسوس، ودوحة المجد والتمكين لمحمد الغالي الإدريسي العمراني اللجائي، ورحلة النابلسي الكبري، وفهرسة النخلي، وفهرسة ابن سالم البصري، والسلسل العذب للحضرمي، والنبذة اليسيرة النافعة، التي هي لأستار بعض أحوال الشعبة الكتانية راجعة. لشيخنا الإمام سيدي محمد بن جعفر الكتاني، والفتح الوهبي للحاج العربي بن داود، وأداء الحق الفرض في الذي يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض، لأخينا النسابة المعتني مولاي عبد الحي الكتاني، وسلوك الطريق الوارية للشيخ والمريد والزاوية للإمام الزيادي، وفهرسة سيدي العربي الدمناتي وثبت الأمير الكبير، وثبت ابن الصباغ، والشجرة الشما لمولاي الزكي العلوي، وسلك
الدرلابي الفضل المرادي، وكتاب صله الصلة لأبي جعفر أحمد بن الزبير، ورحلة الإمام العبدري، والاستقصا، ورحلة ابن عثمان المكناسي، المسماة إحراز المعلى والرقيب، وبغية الوعاة، والبدور الضاوية، والدرر البهية، وفهرسة الشيخ التاودي، وفهرسة أبي القاسم الميري، وذيل السلوك وعجائب الآثار، والروض الهتون، والمعجم المختصر لشارح الإحياء، والقاموس، والإصابة، وما تلقيته من مشايخي النقاد، وأخلائي الأنجاد، أو نقلته من كنانيشهم أو شاهدته بالعيان إلى غير هذا مما يطول تعداده وقد اكتفيت بذكر المواد التي لي منها الاستمداد، عن نسبة النقل في التراجم غالبا فأقول: