الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولم يزل على طيشه وتمرد إلى أن ابتلى بداء الاسستقاء واستفحل فيه، وأعيا الأطباء علاجه وصار كالزق يمج منه الماء المنتن مجا حتى كان يضطر إلى تغيير ثيابه وفراسة في اليوم مرات، ولا يمكن تحويله من محل إلى آخر إلا بجعله في إزار يحمل فيه ودام على ذلك ستة عشر شهرا وهو مع ذلك مسموع الكلمة نافذ الأمر صحيح اللسان بذاء، لا يقيم لأحد وزنا.
ثم في أوائل رجب عام 1342 أحدق لفيف من الريفيين أشباه محمَّد بن عبد الكريم الريفى بداره بتازروت، ودخل عليه قوادهم وأشياخهم بعد أن دام البارود بينهم يوما وليلة، هلك فيه عدد عديد من الأنفس واتخذوا له محملا حملوه فيهم على عواتقهم إلى مرسى وادى (لو) ببنى سعيد على حد غمارة وركبوا به البحر وذهبوا به إلى آجدير، ثم أخرجوا عائلته وسائر نسائه من تازروت بكل احترام ووقار ووجهوا بهن لشفشاون.
وفي تاسع رمضان العام لبى داعى مولاه، وبعد ذلك نقلت عائلته من شفشاون إلى (سنادة) وبقيت هنالك إلى أن قامت قيامة ابن عبد الكريم فنقلت لتطوان، ولاذت به إلى الآن ولله في خلقه شئون.
مقتل الدكتور موشان واحتلال وجدة:
ومن ذلك أيضًا ثورة قتل الدكتور موشان الفرنسى بمراكش، وذلك كما قدمنا أن بموت المترجم وتسنم المناصب العليا غير مستحقيها ظهرت الأوابد واختلفت العقائد، وتطلعت رءوس كأنها رءوس الشياطين، وتغير نظام الحكومة بالمرة، ووقع الانقلاب الفجائى في هيئتها، ولم يجد السلطان في دائرته رجلًا يعتمد عليه ولا بطلا يكل الأمر إليه، فجرت الأمور على غير المراد، وإذا أبرمت الأقدار الإلهية أمرا فليس له من راد، وعادت الفتنة الحوزية لشبابها، وكثر القتل والنهب والسلب بالطرقات، واذداد ذلك فشوا ونموا بمبارحة سلطان المولى عبد
العزيز للديار المراكشية ومقامه بالعاصمة الفاسية وذلك عام تسعة عشر وثلاثمائة وألف 1319.
وتعدد رفع الشكايات للحضرة السلطانية بما لحق الناس من الأضرار وتورطوا فيه من الأخطار، بسبب سلب الأمن وتكاثف العيث في الطرقات، وقتل القوى للضعيف، فألقيت شكايتهم في روايا الإهمال وكتمها أولو الأمر من الديوان المخزنى عن السلطان واشتغلوا بلذاتهم وشهواتهم ولم يرفعوا لما يرفع إليهم ويقرر لديهم رأسا، ولا قرأوا لعاقبته الوخيمة حسبانا فكانت النتيجة فراغ الأفئدة من خوف سطوة السلطان وشديد بأسه ومهابة صولته وبطشه وتلاشى نفوذ ولاة أمره من قواد وعمال وخصوصا بمراكش، وبقى الناس كالفوضى لا سراة لهم.
فاتفق أن ركب الطبيب المذكور علم دولته بباب محله بعرصة موسى، وذلك يوم السبت رابع صفر عام خمسة وعشرين وثلاثمائة وألف على ما حقق لي بعض الأعلام من عدول مراكش، والذي قرأته في بعض التقاييد أن ذلك يوم الثلاثاء خامس صفر المذكور في الساعة الواحدة بعد الزوال، وفي العين تسارع إليه همج الرعاع وقتلوه بالضرب والحجارة والعصى وتركوا جثته ملقاة على الأرض بباب داره، وانتشروا في أزقة المدينة يسرقون ويخطفون، واغتنم اللصوص النهابون تلك الفرصة لما علموا من أن من فرص اللص ضجة السوق والمجانين من الأوباش، وكثيرا ما هم يضحكون ويمرحون، ومن علم أن الفتنة أشد من القتل وتيقن المثال وذلك أول شرر لا ينطفئ وقع في المغرب بكى واستبكى وتكلم وتألم.
ثم لما اتصل بالعامل هذا الخبر المحزن والحادث الجلل وهو إذ ذاك الحاج عبد السلام الورزازى قام من حينه يبكى بكاء الثكلى، ووجه قوة كافية من أعوانه لتسكين روعة البلد، وذهب هو بنفسه في لفيف من أعوانه لمحل القتيل، ووقف
عليه حتى جهز ووضع في تابوته وحمل لمضجعه، وحضر في معية العامل المذكور من كان بمراكش من الأوروبيين.
ثم في يوم الجمعة الرابع عشر من صفر المذكور بقى احتلال وجدة من غير مقابلة ولا مشاغبة أخذا بثأر اقتيل وطلبا للإنصاف من الفعلة والفصال فيما لها من الحقوق والدعاوى غير ما ذكر مما هو مسطور في ظهير سلطانى خوطب به القائد عبد الرحمن بركاش وأعيان الصويرة ودونك لفظه:
الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا ومولانا محمَّد وآله ثم الطابع الشريف بداخله عبد العزيز بن الحسن الله وليّه وبدائرته:
ومن تكن برسول الله نصرته
…
إن تلقه الاسد في آجامها تجم
من يعتصم بك يا خير الورى شرفا
…
الله حافظه من كل منتقم
"خديمنا الأرضى القائد عبد الرحمن بركاش وأعيان أهل الصويرة المحروسة بالله وفقكم الله وسلام عليكم ورحمة الله، وبعد فإن طبيبا فرنسويا كان مقيما بمراكش فركب علماً بالمحل الذي هو به فتسارع الرعاع إليه وقتلوه، ومن قبله كان جرح فرنسويا آخر ببلاد تكنة، وكذلك في طنجة كان قتل آخر من كبراء فرنسا، وكذلك بفاس جرح آخر".
ولما بلغ ذلك الدولة الفرنسوية حصل لها انزعاج واغتاظت لذلك وها لها ما وقع من هذه الحوادث التي يؤدى إليها طيش الرعاع الذين لا يعرفون مزية الهدنة والسكينة، ولا يتدبرون عواقب النزاع، ولا ينظرون لما نكابده من حسن المهادنة وسياسة الدفاع، مع أن ذلك لا حق له فيه من جهة الشروط، وأن المخزن قادر على رفع ما تشوشوا منه من غير ضرر منهم لصاحبة بطريق الإنصاف، وحملها الغيظ على احتلال عسكرها بوجدة طالبة الإنصاف، وقبض الحق في هذه القضايا
والفصال فيما لها من الحقوق والدعاوى وعلقت خروجها من وجدة على إيقاع الفصال في ذلك.
إذ حلولها مؤقت لأجل ما تطلبه من المعوضات لأجل ذلك وها نحن جادون في مباشرة وجوه الفصائل معها بما يقتضيه الحق لها في ذلك، ومجتهدون في ارتكاب العلاج المخلص من ذلك، حتى يخرج عسكرها من وجدة بحول الله ولأجل هذا كنا نحذركم ونحذر غيركم من رعيتنا السعيدة ونبالغ في الاسترعاء والإنذار خشية التورط في مثل هذا، ونؤكد عليهم في إعلام جانبنا الشريف بكل ما تشوشوا منه، ورفع أمره إلينا ليتدارك على الوجه الأسلم من غير افتيات ولا مديد في أحد، وعلى كل حال فلا يأخذكم قوله ولا يروعكم تشويش، فإننا بحول الله مهتمون بهذا الأمر، ومبالغون في معالجتة حتى يخرج بسلام، فليسكن جأشكم ويطمئن بالكم؛ لأننا لا نألو جهدا في صيانتكم والدفاع عنكم بأموالنا ورجالنا بحول الله حالًا واستقبالا، كمل الله المراد، ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخذنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد، والسلام في 18 صفر عام 1325 ". انتهى. من أصله.
ثم بعد مدة قدمت على مراكش لجنة أوروبية بقصد البحث في السبب الداعى لقتل ذلك الطبيب ومن تولى قتله والحامل عليه، فهيأ لهم عامل البلد المذكور مأدبة فاخرة، ولما أحضر لهم الطعام امتنعوا من الأكل، وقالوا إنما أتينا للمباحثة لا للمواكلة، فلم يزل يلين لهم القول ويلاطفهم ويستعطفهم حتى أكلوا وزال ما بهم، ثم بعد الفراغ من الأكل بحثوا العامل عما ذكر بحثا مدققا، فحقق لهم أنه لا علم له بشيء ما أصلًا حتى وقعت الواقعة.
وقد كشف الغيب بعد ذلك أن الذي أغرى على قتله هو رجل من الألمان كان قاطنا بمراكش، له إلمام ببعض العلوم الإِسلامية، وكان كثيرا ما يتذاكر في
تفسير القرآن ويتردد على العلماء ويحبب للمغفلين سيرة دولته، أوعز هذا الألمانى لبعض الأغبياء الساقطين أن الطبيب المذكور عازم على نصب الراية الفرنسية بمحله، وتلك دسيسة يدسها لهم، وحضهم على منعه من ذلك والتعرض له والقيام في وجهه ولو أدى الحال إلى قتله فإنه لا ينتطح عليه عنزان.
ثم بعد مدة أمر السلطان بتوجيه ولد العامل المذكور صديقنا الفقيه البركة السيد محمَّد للمحاكمة بطنجة، ثم بعد أخذ ورد وبحث وتنقير اتضحت براءة العامل من كل تهمة ألصقت بجنبه في قضية القتل، وأنه لا مسئولية عليه ولا على أحد من أولاده وعشيرته.
وبعد ذلك صدر الأمر بإلقاء القبض على المتهمين بالقتل فوقع القبض على خمسة عشر رجلًا، وأودعوا سجن مراكش، ثم نقلوا لسجن الصويرة وذلك في يوم السبت الخامس عشر من ربيع الثاني ثم نقلوا لسجن طنجة، ثم ردوا لسجن الصويرة بطلب من النائب الفرنسى بها حسبما وقع التصريح بذلك في ظهير سلطانى، ودونك لفظه بعد الحمدلة والصلاة والطابع الكريم:
"خديمنا الأرضى القائد عبد الرحمن بركاش وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله، وبعد: فبعدما كان ورد لطنجة على يديك مساجين أهل مراكش المقبوضون في قضية الطبيب موشان القتيل بمراكش، جاء نائب الفرنسيس في ردهم للصويرة ليكون بحثهم بها على يد القنصل المكلف بالقضية، وقد اقتضت المصلحة المساعدة على ما ذكر، وأمرنا خديمنا النائب الحاج محمَّد الطريس بتوجيه المساجين المذكورين بحرا إليك صحبة من يعينهم لمصاحبتهم، ونأمرك أن تقبلهم وتختلى بهم بنفسك حتى تستوعب كلامهم وتستخرج ما في بواطنهم لتكون على بصيرة ثم تدعهم السجن، وإذا كتب لك خديمنا المذكور بالتنبيه على ما تسلكه في شأنهم بما يثبت أقدامهم عند مباحثاتهم، فنأمرك أن تجرى في ذلك على ما تقتضيه المصلحة