الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من فحول أهل العلم بفاس ومكناس وغيرهما من البلاد، وكان جل أخذه على طريق المذاكرة والمباحثة.
حاله: كان شعلة ذكاء ونباهة فقيها حازما ضابطا عفيف الأزار، طاهر الذيل، سياسيا آية في الدهاء وحسن التدبير كثير الصمت، محافظا على الطهارة والصلاة في أوقاتها مع الجماعة، صلبا في دينه، كثير الأذكار، حريصا على التعرف بالأخيار، طلق الوجه ظاهر البشر متواضعا بشوشا، ذا مكايد وحيل، مستبدا بالأمور، لا يشاور إلا فيما تتوقف الأنظار فيه على الأخذ برأْي غيره ذا حزم وعزم وثبات، مَجَالِسُه لا تخلو من العلماء ومذاكرتهم.
حجابته: تولي الحجابة عن الخليفة السلطاني بفاس المولى إسماعيل أخ السلطان المولى الحسن، ثم الحجابة لدى الجلالة الملوكية الحسنية، وفيها تدرب على الخدمة الملوكية وحنكته التجاريب وعلم من أين تُؤكل الكتف.
إسقاطه وزارة الجامعيين وسبب ذلك:
ثم صار وزيراً صدرًا في الدولة العزيزية وفيها علا كعبه وارتفع صيته، وأوقع بأعدائه أولاد الجامعي واستنزلهم من وظائفهم، وذلك بعد أن قاسى أهو إلا وشدائد قيد حياة مخدومه الأعظم السلطان مولانا الحسن، كان اتهمهما بأنهما اللذان سعيا في إفساد ذات البين بينه وبين السلطان المذكور حتى انحرف عنه، وهمّ بالإيقاع به لولا أن المنية حالت بينه وبين ذلك والواقع خلاف ذلك كله.
وحقيقة الأمر أن السلطان مولاي الحسن لما ولى الحاج المعطي منصب الوزارة العظمى أنف المترجم من ذلك، إذ كان يرى أنه ليس بكفء لذلك المنصب وقد تحقق السلطان باستياء المترجم وإطلاقه لسانه بالطعن والتنقيص، وأنه قال: إن هذا الرجل فقد عقله يعني السلطان فأسرها في نفسه ولم يبدها له، وصار يحض الحاج
المعطي ويوصيه بمخالفة المترجم والغض منه والتضييق به وعدم المبالاة فأظهر له من الغلظة والجفاء امتثالا لما أمر به ما زاده حنقا، وأخذ لنفسه بالأحوط، فكان كما ازداد الوزير غلظة وجفاء للمترجم زاد في إظهار اللين وخفض الجناح والخضوع والانحياش له ولأخيه السيد محمَّد الصغير وزير الحربية وهو يتربص بهم الدوائر وهم لا يشعرون، بل يعتقدون أن زمام الأمر بيدهما وأن الجو خلا لهما حتى صمم السيد محمَّد الصغير المذكور على القبض عليه بالرباط فمنعه من ذلك أخوه الصدر الحاج المعطي، وقال لا يسمع علينا أننا عقب موت السلطان فتحنا باب الشهوات والتوصل إلى الأغراض الشخصية، على أنه لا شيء بيننا وبين هذا الرجل والسلطان الذي كان يأمرنا بمضادته وعدم اعتباره قد لبى داعي مولاه.
هذا والمترجم يدبر لهما الحيل ونصب شبك المكايد القاضية عليهما بالقاضية، فنسب لهما الخوض فيما لا تحمده عقباه.
من ذلك أنه لما لبي السلطان مولانا الحسن داعي مولاه وبويع لولده المولى عبد العزيز بالمحل المعروف بالبروج من قبيلة بني مسكين استبد بالرأي دونهم، وصار يتداخل فيما هو خارج عن خطته اعتمادا على ما يعلمه من اختصاصه بالسلطان المولى عبد العزيز وتيقنه بعدم خروجه عن أمره، وأنه لا يركن لأحد سواه، وكان يعلم ذلك كل من له أدنى مسكة من بقية الوزراء، ولذلك تسارعوا لمحالفته، وتعاهدوا على تعزيزه ونصرته، والتزم هو لهم ببقاء كل واحد منهم بمحله وعلى وظيفه ما عدا الحاج المعطي الصدر ومحمَّد الصغير وزير الحربية، فإنهما كانا على خط مستقيم في مخالفته ومضادته، فأشاع عليهما أنهما يرغبان الناس في نقض بيعة السلطان المولى عبد العزيز المذكور وهما في سكرتهم يعمهون، لا يعلمان أن المترجم لهما بالمرصاد يترقب انتهار الفرصة في المكر بهما ولا يصده عن ذلك إذ ذاك إلا خوف انتشار الفتنة لقوة حزبهما من جيش شراكة وأولاد جامع والقوة الحربية كلها تحت سيطرتهما.
ولما فشا ما رماهما به من خلع السلطان استفتى العلماء في شأنهما وقرر لهم أن مرادهما شق العصار وافتراق كلمة الجماعة، فأفتى البعض بالقتل والبعض بالتخليد في السجن وأسر ذلك في نفسه ولم يبده لهما ورأى أنه لا يتم له مراده فيهما إلا بعد حلول السلطان عاصمة سلفه المكناسية.
ولما نهض السلطان من الرباط صمم أولاد الجامعي على التوجه لفاس وقالا: إنها قاعدة المغرب، وصمم المترجم على التوجه لمكناس، وقال: إن العادة قاضية بالمرور بها لكونها دار الملك ومقر الجيوش ووسيلة لزيارة مولانا إدريس الأكبر، فجنح السلطان لما صمم عليه صاحب الترجمة وزيف قول غيره.
ثم لما حل السلطان بعاصمة سلفه المكناسية، دخل عليه وهو على أريكة ملكه الوزير الصدر الحاج المعطي المذكور بصكوك الأوامر السلطانية على عادة الوزراء في تقديم المكاتب للتوقيع عليها، فأمره السلطان بدفعها للمترجم فامتنع وأبى، وطلب الأمير بالتمشي معه على العرف المألوف الذي كان يتمشى معه عليه والده السلطان المقدس، فقال السلطان مجيبا له: افعل ما آمرك به فغضب وترك الصكوك مطروحة بإزائه وخرج، فعند ذلك تم للمترجم ما أراد فأمر الأمير قائد مشوره وهو إذ ذاك إدريس بن العلام البخاري بأن يأمر الوزير الجامعي بالانسلاخ عن كل ما يرجع لوظيفه ولزوم داره هو وأخوه، وذلك أمر دُبِّر بليْلٍ.
وكان من جملة ما خاطبهم به رئيس المشور المذكور، على لسان السلطان المنصور، قوله: لقد طغيتم في البلاد وكَفَرْتم نِعَمَ ما أسْدَاه لكم مولانا المقدس من النعم، وارتكبتم بدل المجازاة بالإحسان العقوق، وقد بلغ سيدنا أيده الله ما صممتم عليه من شق عصا الطاعة وإيقاد نار الفتن، ولولا رعاية محبة سيدنا المقدس فيكم وقرابتكم منه لأذاقكم سيدنا شديد النكال وأليم العذاب، قوما اذهبا لحال سبيلكما، فلم يسعهما إلا الانصراف ولزوم محلهما، واتفق أن كان يوم طردهما عن شريف الأعتاب يوم الثلاثاء.
[صورة]
السلطان السابق مولانا عبد العزيز
[صورة]
بيعة أهل فاس للسلطان مولاي عبد العزيز
ثم بعد ذلك أمر باشا مكناس حم بن الجيلاني بن حم البخاري به بإلقاء القبض عليهما، وذلك صبيحة يوم الجمعة ثم على صهرهما العربي الزبدي واستئصال أموالهما وأثاثهما، وبيعت تركتهما في العواصم المغربية، وبعد إلقاء القبض عليهم بذل المترجم العطاء للوفود وأسدى للضعفاء والمساكين بكل ناحية ولا سيما مكناسة وفاس ووجه بالمقبوضين مقيدين لسجن ثغر تطاوين، إلَّا الأخير فنقل لآسفي سجينا.
وبسجن تطاوين مات الحاج المعطي وكانت مدة اعتقاله ثلاثة وثلاثين شهرا، ومن عجيب الاتفاق أن مدة وزارته كانت كذلك ثلاثة وثلاثين شهرا.
وبقي به أخوه محمَّد الصغير إلى أن سرح أواخر الدولة العزيزية، ونقل لطنجة وبقي في حكم الثقاف بها في أتعس عيش، إلى أن اخترمته المنية.
وأما الزبدي فقد سرح بعد وفاة المترجم بأيام قلائل ولحق بالسلطان المولي عبد العزيز بمراكش، فكرم وفادته ورده لوظيفه السابق، وأنزله بعرصة مولا يعلي الشهيرة بحومة الكتبية ولم يزل على وظيفه إلى أن بارح السلطان مراكش ووجهته محروسة فاس، وذلك في شعبان عام تسعة عشر وثلاثمائة وألف فكلف بإتمام حساب ما بيع من متخلف المترجم وحساب بناءاته التي كان السيد محمَّد بن عبد الهادي زنيبر مكلفا بها وتصفية ذلك أمر كله، فلم يزل في مأموريته هذه إلى متم عام 1320، فأصدر له الأمر السلطاني بالقدوم لفاس، ولما لحق بالجلالة طلب الخدمة بوطنه رباط الفتح فأسعفت رغبته وعين أمينا على الديوانة والمستفاد وخليفة مستقلا عن عامل الثغر الرباطي، وبقي على وظائفه المذكورة إلى أن حل الركاب السلطاني بالثغر المذكور عام خمسة وعشرين وثلاثمائة وألف، فأمر عندئذ بالطلوع لمحل خدمته بالبساط الملوكي، وأُقر زيادة على ذلك على أمانة المستفاد وأُذن له في جعل ولده نائبا عنه.