الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهذه جملة يعتبر بها غيرها استطردناها تنبيها على أن أمراءنا كان لهم الشغف بضبط ما ولوا عليه لو أسعدهم الدهر بولاة أهل كفاءة واقتدار مثل صاحب الترجمة.
البيعة الحفيظية:
ولم يزل أمر الدولة ينحل، ونظامها يختل، إلى أن قام بعض رؤساء من أعيان القبائل الحوزية يدبر في رتق ذلك الفتق عسى أن ترجع المياه لمجاريها، فأداه اجتهاده إلى أن ذلك لا يتم إلا بجمع الكلمة على مبايعة الخليفة السلطانى الذى كان بين أظهرهم بالحضرة المراكشية في ذلك الحين وهو المولى عبد الحفيظ لحزمه ونجدته ونباهته وتيقظه وعلمه، فأعلنوا بنصره وخلع أخيه المولى عبد العزيز بمراكش صبيحة يوم الجمعة سادس رجب عام خمسة وعشرين وثلاثمائة وألف، وفى ذلك قال الأديب السيد عبد الله التادلى الرباطى مؤرخا:
قد بدا عبد الحفيظ المرتضى
…
ملكا ما مثله قبل ملك
سأل الإقبال ما تاريخه
…
قلت يا إقبال (بشر بالملك)
وأسباب الخلع والبيعة مبنية في صك بيعتهم التي وقعت بعد أخذ فتوى العلماء في المخلوع وكفاءته وتلت بيعة مراكش بيعة الجديدة وآسفى، إلا أنهما أعيدتا بعد لطاعة المخلوع.
ولما قدم المخلوع للرباط بنية استرجاع طاعة مراكش إليه أعلن بخلعه أيضا بفاس يوم الجمعة ثانى وعشرى قعدة الحرام عام خمسة وعشرين المذكور بعد استفتاء العلماء في شأنه وإفتائهم بوجوب عزله ليقضى الله أمرا كان مفعولا، ومن
[صورة]
السلطان السابق مولانا عبد الحفيظ
الغد بويع بها للمولى عبد الحفيظ بعد هرج ومرج تركت لغيرى تفصيله، وكان ذلك على شروط مندمجة في عقد البيعة وهى من إنشاء أبى العباس أحمد بن عبد الواحد بن المواز صدر الكتاب وواسطة عقدهم ودونك لفظها:
الحمد لله الذى جعل كلمة الحق هى العليا، وأرشد المؤمنين من عباده لاتباع مقتضياتها أمرا ونهيا، وفضل الأمة المحمدية على سائر الملل والأجناس كما فضل آل بيته الكريم على الناس، وشرف هذا الوجود بمن يرقيه الله من خيارهم منصب الخلافة، فيتبع في الشريعة والعدل والسياسة سنة جده، ويقتفى في ذلك الكرام أسلافه، تصديقها لقوله صلى الله عليه وسلم ولاية أهل بيتى، أمان لأمتى.
نحمده سبحانه أن تفضل على المسلمين بالهداية لقبلة الرشاد، والتمسك بحبل التوفيق والإسعاد، والعدول عن مواضع الزيغ والتفريط والعناد، ونشكره أن هدى خاصة الأمة وعامتها لتقليد من يوفى بالعهود الشرعية، ويقوم بحفظ الدين ومصالح الرعية.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذى يؤتى الحكمة من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء.
ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الشفيع في أمته يوم يتميز القاسطون من المقسطين، والحافظون للأمانة من المفرطين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين اجتهدوا في كشف غياهب الضلال، وكانوا يميلون مع الحق حيث مال، ولا يحابون من يتساهل في أحكام الشريعة بحال.
أما بعد: فإنه لما أراد الله تعالى أن يزيح ليل الجهالة عن عباده، وأن يجدد الدين بمن يطلعه شمسا في أرضه وبلاده، ليعود عز الإسلام لشبابه، ويبقى استناد الإمارة العلية إلى سنته وكتابه، وتعلقها من الشرع بأسبابه، تدارك سبحانه
الوجود، وأعز العالم الموجود، واستطارت الأنوار المضيئة للأغوار. والنجود، بمبايعة من يُعيد الله به شمس الخلافة إلى برج شرفها، ويرد به نقطة العدل والحلم إلى مركزها، ويحيى به أثر الخلفاء الراشدين، ومكارم الأسلاف الكرام المهتدين، وهو من حاز من الأوصاف الكاملة غايتها، وبلغ من المزايا الجسيمة نهايتها، فاكتسى العلم لباسا، والشجاعة أتراسا، واتخذ العلم أساسا، والحلم شعارا، والكرم دثارا، والدين قواما، والسياسة الشرعية نظاما، مولانا أمير المؤمنين ابن مولانا أمير المؤمنين الذى جعله الله خير آية ناسخة، وأثبت له في الكمالات قدما راسخة، نخبة الخلافة العلوية، وجوهرة عقد المملكة الإسلامية، المتفاءل باسمه، في حفظ الإسلام ورسمه، أبو المعالى مولانا عبد الحفيظ بن مولانا الامام المقدس بالله سيدنا الحسن ابن ساداتنا الملوك الكرام، المقدسين في دار السلام، لما ألقى الله له في قلوب الخلائق من الحب الجميل، والاعتقاد الذى هو بنصرة الدين كفيل فحبذا من إمام تهتز لذكره أعطاف المنابر، وتتقلد من شريف دعوته بأبهى من نفيس الجواهر، وتستضئ البلاد بإكليل شرفه الزاهر، وتسكن العابد تحت ظله المؤيد الوافر، أبقى الله أيامه، بقاء يستصحب النصر دوامه وخلد له ولأعقابه هذا الأمر الكريم إلى يوم القيامة، فانتدب من وقفت بهم مطية التوفيق، على حضرة الإخلاص والتصديق، وأخذت بهم أزمة السعادة إلى حيث الفوز برضا الله ورسوله حقيق، من جميع أهل فاس الإدريسية، لا زالت مصونة محمية، وسائر أشرافهم ورماتهم وعلمائهم وقضاتهم وكبرائهم ونقبائهم ومرابطيهم وصلحائهم وأعيانهم وخاصتهم وعامتهم وكذلك أهل فاس الجديد، لشمول التوفيق لهم والتسديد، على تقليد الجمع بيعة مولانا أمير المؤمنين المذكور، المختص بالسعد الباهر واللواء المنصور بيعة تؤسس على تقوى من الله ورضوان، ويشهد عقدها الكريم ملائكة الرحمان.
فبايعوه كلهم على الأمن والأمانة، والعفاف والديانة والعدل الذى يشيد
للمجدار كانه، مبايعة شائعة على عقدها الكريم بحكم الوفاق، وعموم الاتفاق، والمواثيق الشديدة الوثاق، وبجميع الأيمان، الصادقة الإيمان، أعطوا بها صفقة أيديهم، ورفع العقيرة بها مناديهم.
وندبوا إليها سائر القبائل التي بنواحيهم، عارفين أن يد الله فوق أيديهم وأمضاها الكل المجموعى والجميعى على السمع والطاعة، والانتظام في سلك الجماعة إمضاء يدينون به في الجهر والسر، والعسر واليسر، والتزموها رغبة منهم وطوعا، واستوعبوا شروطها أصلا وفرعا، وجنسا ونوعا، خالصة صادقة وعدة من الله بالخير لهم سابقة، وسعادة بالحسنى لاحقة، أبرءوا عقدها، وأحكموا عهدها، وعرضوا عليها أفرادا وأزواجا، وزمرا وأفواجا، وناداهم داعى السعادة إعلانا، لقوله تعالى {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} .
وكيف لا وهو المتصف بالكفاية الشرعية التي بينت في كتب الفقه بأن يكون مهتديا إلى مصالح الأمور وضبطا، ذا نجدة في تجهيز الجيوش وسد الثغور، وذا رأى مصيب في النصر للمسلمين، لا تروعه هوادة النفس عن التنكيل لمستوجبى الحدود. انتهى.
فقد جعله الله زمام الأمور ونظام الحقوق والقطب الذى عليه مدار الدنيا وهو حمى الله في بلاده، وظله الممدود على عباده، به يمتنع حريمهم وينصر مظلومهم وينقمع ظالمهم ويأْمَنُ خائفهم قال تعالى:
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ} . الآية، وقال أبو هريرة رضى الله عنه:"لما نزلت آية أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم قد أمرنا بطاعة الأئمة وطاعتهم من طاعة الله"، وفى الحديث عن مولانا على كرم الله وجهه:"إمام عادل خير من مطر وابل" وفى الحديث السلطان ظل الله في الأرض ورمحه، وفى الحديث من أجل سلطان الله أجله الله
وفى الحديث المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وفى الحديث: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" وسئل سهل أى الناس خير؟ فقال: السلطان، لأن لله في كل يوم نظرتين نظرة إلى سلامة أموال الناس، ونظرة إلى سلامة أبكارهم فيطلع في صحيفته فيغفر له ذنوبه
وفى السراج ليس فوق السلطان العادل منزلة إلا نَبِىٌّ مرسل أو ملك مقرب.
وقالت الحكماء: أسوس الناس برعيته من قاد أبدانها بقلوبها وقلوبها بخواطرها وخواطرها بأسبابها ولا غرو أن مولانا أمير المؤمنين، الذى انتظمت بيعته في أعناق المسلمين، أجل من صدقت فيه ظنونهم ونياتهم، وتوجهت إليه آمالهم وأمنياتهم، ومدت له الرعية أرمتها، وقدمت إليه الوفود أعنتها، راجين من شريف همته، وكريم عنايته، أن يلبسهم رداء نعمته. وينزلهم ظل كرامته، ويعمهم بسيرة المعدلة، ويشملهم بالحلم والفضل والرحمة المكملة، ويسعى جهده في رفع ما أضر بهم من الشروط الحادثة في الخزيرات، حيث لم توافق الأمة عليها ولا سلمتها ولا رضيت بأمانة من كان يباشرها ولا علم لها بتسليم شئ منها وأن بعمل وسعه في استرجاع الجهات المأخوذة من الحدود المغربية وأن يباشر إخراج الجنس المحتل من المدينتين اللتين احتل بهما ويزين صحيفته الطاهرة بحسنة استخلاصهما، وأن يستخير الله في تطهير رعيته من دنس الحمايات والتنزيه من اتباع إشارة الأجانب في أمور الأمة، لمحاشاة همته الشريفة عن كل ما يخل بالحرمة.
وإن دعت الضرورة إلى اتحاد أو تعاضد فليكن مع إخواننا المسلمين كآل عثمان وأمثالهم من بقية الممالك الإسلامية المستقلة، وإذا عرض ما يوجب مفاوضة مع الأجانب في أمور سلمية أو تجارية فلا يبرم أمرا منها، إلا بعد الصدع به للأمة، كما كان يفعله سيدنا المقدس الحافظ للذمة، حتى يقع الرضا منا بما لا يقدح في دينها ولا عقائدها ولا في استقلال سلطانها.
وأن يوجه أيده الله وجهته الشريفة لاتخاذ وسائل الاستعداد، للمدافعة عن البلاد والعباد، لأنها أهم ما تصرف فيه الدخائر والجبايات، وأوجب ما يقدم في البدايات والنهايات، وأن يقرّ بفضله العيون والنفوس، برفع ضرر المكوس، ويحقق رجاء خدامه وكافة رعاياه بالذب عن حرماتهم ودمائهم وأموالهم وأعراضهم وصيانة دينهم وحياطة حقوقهم، وتجديد معالم الإسلام وشعائره بزيادة نشر العلم، وتقويم الوظائف والمساجد، وإجراء الأحباس على عملها القديم، وانتخاب أهل الصلاح والمروءة والورع للمناصب الدينية.
وكف العمال عن الدخول في الخطط الشرعية، وترك ما أحدث من الجمع المستلزم لاستبداد الرؤساء بتنفيذ مراداتهم في القضايا والأغراض لما تحقق والحمد لله من كمال أوصاف مولانا الإمام، واعتماد المسلمين على كفايته في الأمر الخاص والعام.
فهو أيده الله العضب الكافى، ورأيه العلاج الشافى، ومما يقتضيه حسن سيرته وكمال وفائه جميل الصنع بشريف القرابة وتقريب الصالحين، واعتبار مقادير الأشراف وأهل العلم والدين وإقرار ذوى الحرمة على ما عهد لهم من المبرات والاحترام، وظهائر الملوك الكرام، وإبعاد الطالحين، وإخساء المفترين والواشين، ومعاملة المؤمنين، بما تعودوه منه من أسلافه المقدسين، من إيثار العفو والحلم والأناة. وتجديد مآثر الخير في حالة العز والثبات وحسن الظن بسيدنا أيده الله حمل أهل مملكته الشريفة المتيمنين بكريم بيعته المنيفة على أن صدعوا لجلالته بما أثرت فيه مضرته، عالمين أنهم لا يكشف ما بهم إلا عناية مولانا المنصور وهمته، ومستسلمين مع ذلك إلى الله بالقلوب الخاشعة، ومبتهلين بالأدعية النافعة، أن يعرفهم الله خير هذا العقد الكريم بدءا وختاما ويمنحهم بركته التي تصحبهم حالا ودواما، لا رب غيره ولا خير إلا خيره، أشهدوا على أنفسهم بما فيه عنهم عموما
والواضعون أشكالهم عقبه خصوصا وهم عارفون قدره وأكمله وفى فاتح ذى الحجة الحرام عام خمسة وعشرون وثلاثمائة وألف.
ولما خرج المولى عبد العزيز المخلوع إلى إرجاع مراكش لطاعته انكسر ورجع إلى الدار البيضاء، فبايعت طنجة أخاه المذكور يوم الأحد 24 رجب 1326 ثم العرائش والعدوتان سلا، وَالرباط -وكانت بيعتهما في يوم الثلاثاء 26 رجب المذكور- ثم الجديدة وآزمور يوم 28 منه ثم الصويرة يوم الأربعاء 12 شعبان عامه وهكذا.
وكانت هذه البيعات مبعث ارتياح واستبشار من الناس بسلطانهم الجديد العالم فطفقوا يتفاءلون باسمه ويرجون أن يكون له من اسمه نسبة فتحفظ البلاد من أرزاء التفكك والانحلال، ويعود لها ما انتقص من أطرافها، وقال الشعراء في ذلك مظهرين شعور الأمة فكان من جملة ما قيل قول الأديب الكبير السيد أحمد ابن قاسم جسوس:
بشرى الخلائق لا تزال تزيد
…
هذا زمان كل أنه عيد
ذهب العناء جميعه وتتابعت
…
زمر الهناء بسيطها ومديد
والبشر باد والسرور موفر
…
والأنس يبدى ما يشا ويعيد
وهى قصيدة من غرر منشآته.
وقد حققت الأيام بعض ما كانوا يرجون على يديه، فقبض على أبى حمارة كما تقدم تفصيل ذلك قريبا، ولجسوس المذكور قطعة في ذلك يقول منها:
لله من نبأ كدت أفراحه
…
تترى لدينا بالنعيم الطيب
نبأ الشقى المارق الفدم الذى
…
كم شب من نار بقطر المغرب