الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مطلب بدء نبوة موسى وكيفية تكليمه:
قال تعالى «فَلَمَّا جاءَها» وأبصر تلك النار «نُودِيَ» من جهتها «أَنْ بُورِكَ» أن هنا تفسيرية للنداء، والمعنى أي بورك لما في النداء من معنى القول دون حروفه، وضمير بورك يعود على موسى عليه السلام، وقيل إنها مخففة من الثقيلة وجاز كونها كذلك من غير حاجة الفصل بينهما وبين الفعل بقد والسين وسوف أو أحرف النفي، لانها وليت فعل دعاء وهو مستثنى من تلك الفواصل، خلافا لأبي علي الفارسي القائل إن أن المخففة لما كانت لا يليها إلا الأسماء استقبحوا أن يليها الفعل ليس بشيء يعتدّ به، لان هذا ليس على إطلاقه، فقد استثنى من عموم فعل الدعاء «مَنْ فِي النَّارِ» من جاء لأجلها إلى المحل الذي هي فيه «وَمَنْ حَوْلَها» موسى وغيره من الملائكة فيشمل كل من هو في تلك البقعة والبقعة نفسها، لانها مبعث الأنبياء ومهبط الوحي، وهي المعينة بقوله تعالى (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) الآية 19 الآتية من سورة القصص، وتفيد هذه الآية المفسرة إبداء التحية العظيمة من الله عز وجل لموسى عليه السلام، وفيها إشارة إلى حصول البركة في أراضي الشام التي هي حول تلك البقعة المقدسة المشار إليها في قوله تعالى حكاية عن حال إبراهيم عليه السلام:
(وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) الآية 71 من سورة الأنبياء في ج 2 وبشارة عظيمة من الله إلى موسى أيضا بحدوث أمر ديني فيها، وهي استنباؤه، ورسالته، وتكليمه، وإظهار المعجزات على يده، وتجديد دين أبيه إبراهيم عليه السلام.
ثم اعلم هداك الله أن لا مجال للقول هنا بأن السمع من الشجرة أو من جهة النار يدل على حدوث المسموع وهو كلام الله تعالى، لأن الله منزّه عن الجهة والمكان، وكذلك كلامه، لأن سماع موسى كلامه من إحدى الجهتين المذكورتين يرجع إلى موسى لا إلى الله، وان الله تعالى خلق لموسى علما ضروريا علم به أن الذي يسمعه هو كلام الله القديم الأزلي من غير صفة ولا صوت ولا جهة، فقد سمعه وحده من الجهات الست، وصارت جميع جوارحه كسمعه، ولو فرض أن هناك أحدا معه لما سمع شيئا البتة، وهكذا كان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما ينزل عليه الوحي، يعلمه وحده دون الحاضرين معه، راجع الآية 195 من سورة الشعراء المارة،
وسماع كلام الله في الآخرة يكون على هذه الصفة، لأن الكامل الواصل يكون له في الدنيا حكم الآخرة، وقيل في هذا المعنى:
إذا ذكرت ليلى فكلي مسامع
…
وإن ظهرت ليلى فكلي أعين
أي أنه يرى ويسمع بكل جوارحه وهي مبالغة عن شدّة تلذذه بما يسمعه ويراه منها لتوغله في محبتها، ولأن حبّها تداخل فيه وجرى في عروقه مجرى الدم منه.
ثم اعلم أيضا أنه لا يجوز السؤال عن الكيفية في ذات الله تعالى وصفاته، إذ لا يقال كيف ذاته من غير جسم ولا جوهر ولا عرض، ولا كيف علمه من غير كسب وضرورة، ولا كيف قدرته من غير صلابة، ولا كيف إرادته من غير شهوة وأمنية، ولا كيف تكليمه من غير حدة ولا صوت، لأن هذا كله من نعوت البشر، ولأن الله تعالى سدّ هذا الباب عليهم بقوله جل قوله:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الآية 11 من سورة الشورى في ج 2، أما كيفية سماع موسى كلامه فقد وضحته لك أعلاه، فاغتنم هذا، فإنك لا تجده على هذا التفصيل والتمثيل في كتب كثيرة، واحمد الله على إنعامه «وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» 8 وهذه الجملة من تتمة مانودي به موسى، أي نزه ربك عما لا يليق به، فقد نزه تعالى شأنه ذاته المقدسة بذاته عن صفات خلقه وعما تتخيله الأوهام من التشبيه والتمثيل، وفيها تعجب إلى موسى بأنه سيلقى من جلائل الأمور وعظائم الشئون ما يتعجب منه المتعجبون.
وما قاله السدي بأن هذه الجملة من كلام سيدنا موسى، بعيد عن المقام ويأباه مدلول الكلام، لأن موسى لم يتكلم بعد، كيف وقد اعتراه ما اعتراه من الدهشة وهيبة الربوبية التي ألمعنا إليها في الآية 10 من سورة طه المارة، ولما رأى الله تعالى موسى كما كان مرئيا في الأزل لديه وقد أخذته الرهبة، أراد أن يعرفه بذاته المقدسة ويزيل عنه ما أهابه ليمهد له ما أراد أن يلقيه عليه ويظهره على يده من الأمور الغريبة، ناداه «يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» 9 الذي يكلمك هو أنا، ولفظة الجلال بيان للفظة أنا والعزيز الغالب لما يفعله من العجائب والبدائع بمقتضى الحكمة، وهي صفتان له جلّت صفاته وفيها إشارة إلى كمال قدرته وقوة عظمته ورمز إلى أنه سيبين له ما يستبعده الوهم المستفاد من قوله «وَأَلْقِ
عَصاكَ»
فألقاها حالا دون تردد، امتثالا لأمره من غير أن يعلم المراد من إلقائها «فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ» تنحرك بشدة «كَأَنَّها جَانٌّ» حية صغيرة لشدة اضطرابها، وتقدم في الآية 10 من سورة الأعراف والآية 15 من سورة طه والآية 32 من سورة الشعراء فقد بينا فيها التوفيق بين ما جاء فيها هنا وهناك، فراجعها.
فلما رأى حركة عصاه وما انقلبت إليه هاله شأنها فتأخر عنها، وهو معنى قوله تعالى «وَلَّى» ظهره محلها «مُدْبِراً» عنها وهرب خوفا مما رأى وازداد اضطرابه «وَلَمْ يُعَقِّبْ» يرجع ويلتفت عقبه إليها ثم ناداه عز وجل ثانيا «يا مُوسى لا تَخَفْ» مما رأيت، ارجع لأني أريد أن أجعلك رسولا لي «إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ» 10 لأني آمنتهم مما يخافون. واعلم أن الله تعالى يفعل هذه المقدمات مع خلص خلقه من عباده الذين يختارهم لنبوته، ويصطفيهم لرسالته، بداية أمرهم إرهاصا لأقدارهم على تلقي وحيه، ليتوطنوا عليه، ويعلموا كيفية نزوله، وهذا الخوف غير الخوف الذي هو شرط الإيمان، فإن ذلك لا يفارقهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أخشاكم لله- راجع الآية 27 من سورة فاطر المارة-
ثم استثنى من عموم كلامه قوله «إِلَّا مَنْ ظَلَمَ» منهم بفعل ترك الأفضل وما هو خلاف الأولى أو زل عن غير قصد أو استعجل في أمره كآدم ونوح وداود وسليمان وإبراهيم ويونس عليهم السلام، وقد سبقت الإشارة إلى ما صدر من كل منهم وتأويله وتفسيره ودواعيه في محله، وقد سمى الله ما حدث منهم ظلما بالنسبة إليهم، راجع الآية 2 من الأعراف المارة والآية 23 من ص والآيتين 63 و 85 من سورة هود في ج 2، قال تعالى «ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ» تاب وندم على ما صدر منه، وقد سماه سوء أيضا نظرا لمقامهم وإلا في الحقيقة لا يسمى ظلما ولا سوء بالنسبة لغيرهم، لأنه على حد حسنات الأبرار وسيئات المقربين «فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» 11 به أعفو عما صدر منه ثم ناداه ثالثا بقوله «وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ» اجعلها تحت إبطك «تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» برص، فأدخلها امتثالا لأمره، من غير أن يعرف الغاية منها، ثم أخرجها فإذا هي تبرق كالشمس، وبعد أن توطن لكلام الله قال اذهب «فِي تِسْعِ آياتٍ» مع هاتين الآيتين كما بيناها