المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌[مُقَدِّمَة الْكتاب] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ خَلْقَهُ - إعلام الموقعين عن رب العالمين - ط العلمية - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌[مُقَدِّمَة الْكتاب]

- ‌[فَصْلٌ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ مَا يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُوَقِّعُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ]

- ‌[فَصْلٌ أَوَّلُ مَنْ وَقَّعَ عَنْ اللَّهِ]

- ‌[فَصْلٌ عَمَّنْ انْتَشَرَ الدِّينُ وَالْفِقْهُ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْ صَارَتْ إلَيْهِ الْفَتْوَى مِنْ التَّابِعِينَ]

- ‌[فَصْلٌ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فُقَهَاءُ مَكَّةَ]

- ‌[فَصْلٌ فُقَهَاءُ الْبَصْرَةِ]

- ‌[أُصُولُ فَتَاوَى أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ]

- ‌[فَصْلٌ كَرَاهَةُ الْعُلَمَاءِ التَّسَرُّعَ فِي الْفَتْوَى]

- ‌[الْمُرَادُ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ]

- ‌[خَطَرُ تَوَلِّي الْقَضَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمُحَرَّمَاتُ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ]

- ‌[النَّهْيُ عَنْ أَنْ يُقَالَ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ]

- ‌[لَفْظُ الْكَرَاهَةِ يُطْلَقُ عَلَى الْمُحَرَّمِ]

- ‌[مَا يَقُولُهُ الْمُفْتِي فِيمَا اجْتَهَدَ فِيهِ]

- ‌[فَصْلٌ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ فِي الْفُتْيَا]

- ‌[أَدَوَاتُ الْفُتْيَا]

- ‌[الْفَتْوَى بِالتَّقْلِيدِ]

- ‌[شُرُوطُ الْإِفْتَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ الْإِفْتَاءِ فِي دِينِ اللَّهِ بِالرَّأْيِ]

- ‌[الْأَمْرُ بِالرَّدِّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يَشْتَمِلَانِ عَلَى حُكْمِ كُلِّ شَيْءٍ]

- ‌[الْوَعِيدُ عَلَى الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ]

- ‌[فَصْلٌ تَأْوِيلُ مَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ مِنْ الْأَخْذِ بِالرَّأْيِ]

- ‌[فَصْلٌ الرَّأْيُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ]

- ‌[الرَّأْيُ الْبَاطِلُ وَأَنْوَاعُهُ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ]

- ‌[النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ]

- ‌[فَصْلٌ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ]

- ‌[فَصْلٌ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ]

- ‌[فَصْلٌ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ]

- ‌[كِتَابِ عُمَرَ فِي الْقَضَاءِ وشرحه]

- ‌[صِحَّةُ الْفَهْمِ وَحُسْنُ الْقَصْدِ]

- ‌[وَاجِبُ الْحَاكِمِ]

- ‌[نِصَابُ الشَّهَادَةِ]

- ‌[فَصْل تُشْرَعُ الْيَمِينُ مِنْ جِهَةِ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ]

- ‌[صِفَاتُ الْحَاكِمِ وَمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ]

- ‌[فَصْلٌ الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ]

- ‌[فَصْلٌ يُؤَجِّلُ الْقَاضِي الْحُكْمَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ]

- ‌[تَغَيُّرُ الْحُكْم بِتَغَيُّرِ الِاجْتِهَادِ]

- ‌[مَنْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ]

- ‌[فَصْلٌ شَاهِدُ الزُّورِ]

- ‌[الْكَذِبِ فِي غَيْرِ الشَّهَادَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الْحِكْمَةُ فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْكَذَّابِ]

- ‌[فَصْلٌ شَهَادَةِ الْمَجْلُودِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ]

- ‌[فَصْلٌ رَدُّ الشَّهَادَةِ بِالتُّهْمَةِ]

- ‌[فَصْلٌ شَهَادَةُ مَسْتُورِ الْحَالِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي الْقِيَاسِ]

- ‌[أَنْوَاعُ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصْلٌ قِيَاسُ الدَّلَالَةِ]

- ‌[فَصْلٌ قِيَاسُ الشَّبَهِ]

- ‌[فَصْلٌ قِيَاسِ الْعَكْسِ]

- ‌[فَصْلٌ مِثْل مِنْ الْقِيَاسِ التَّمْثِيلِيِّ]

- ‌[السِّرُّ فِي ضَرْبِ الْأَمْثَالِ]

- ‌[تَسْوِيَة الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ جَاءَ الْقُرْآنُ بِتَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ]

- ‌[مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ تَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ]

- ‌[فَصْلٌ حَدِيثُ مُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ الرَّسُولُ إلَى الْيَمَنِ]

- ‌[فَصْلٌ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ يَجْتَهِدُونَ وَيَقِيسُونَ]

- ‌[مَا أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَيْهِ مِنْ مَسَائِلِ الْقِيَاسِ]

- ‌[قِيَاسُ الصَّحَابَةِ حَدَّ الشُّرْبِ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ]

- ‌[قِيَاسُ الصَّحَابَةِ فِي الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ]

- ‌[اخْتِلَافُ الصَّحَابَة فِي الْمَرْأَةِ الْمُخَيَّرَةِ]

- ‌[الصَّحَابَةُ فَتَحُوا بَابَ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ]

- ‌[الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ مَرْكُوزٌ فِي فِطَرِ النَّاسِ]

- ‌[الْقَيَّاسُونَ وَالظَّاهِرِيَّةُ مُفْرِطُونَ]

- ‌[فَصْلٌ قَوْلُ نُفَاةِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصْلٌ فَائِدَةُ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ]

- ‌[فَصْلٌ لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ بِالْقِيَاسِ بَلْ نَهَى عَنْهُ]

- ‌[فَصْلٌ نهى الصَّحَابَةُ عَنْ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصْلٌ ذَمِّ التَّابِعُونَ لِلْقِيَاسِ]

- ‌[فَصْلٌ الْقِيَاسُ يُعَارِضُ بَعْضُهُ بَعْضًا]

- ‌[إذَا اخْتَلَفَتْ الْأَقْيِسَةُ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِينَ]

- ‌[لَمْ يَكُنْ الْقِيَاسُ حُجَّةً فِي زَمَنِ الرَّسُولِ]

- ‌[فَصْلٌ تَنَاقُضُ أَهْلِ الْقِيَاسِ دَلِيلُ فَسَادِهِ]

- ‌[فَصْلٌ مَثَلٌ مِمَّا جَمَعَ فِيهِ الْقِيَاسِيُّونَ بَيْنَ الْمُتَفَرِّقَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ مِنْ تَنَاقُضِ الْقِيَاسِيِّينَ مُرَاعَاةُ بَعْضِ الشُّرُوطِ دُونَ بَعْضِهَا الْآخَرِ]

- ‌[فَصْلٌ هَلْ فِي اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ قِصَاصٌ]

- ‌[فَصْلٌ حُكُومَةُ النَّبِيَّيْنِ الْكَرِيمَيْنِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ]

- ‌[الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي قُوَّة أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ]

- ‌[إحَاطَةُ الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ]

- ‌[فَصْلٌ هَلْ تُحِيطُ النُّصُوصُ بِحُكْمِ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ]

- ‌[أخطاء المختلفين فِي إحاطة النُّصُوص بِأَحْكَام الحوادث]

- ‌[الْخَطَأ الْأَوَّل والثانى]

- ‌[الْخَطَأُ الثَّالِثُ تَحْمِيلُ الِاسْتِصْحَابِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّهُ]

- ‌[الِاسْتِصْحَابُ وَأَقْسَامُهُ]

- ‌[الْخَطَأُ الرَّابِعُ اعْتِقَاد أَنَّ عُقُودَ الْمُسْلِمِينَ وَشُرُوطَهُمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ كُلَّهَا عَلَى الْبُطْلَانِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الصِّحَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ أَخْطَاءُ الْقِيَاسِيِّينَ]

- ‌[فَصْلُ فِي شُمُولُ النُّصُوصِ وَإِغْنَاؤُهَا عَنْ الْقِيَاسِ]

- ‌[الْمَسْأَلَةُ الْمُشْتَرَكَةُ فِي الْفَرَائِضِ]

- ‌[الْمَسْأَلَةُ الْعُمَرِيَّةُ]

- ‌[فَصَلِّ مِيرَاثُ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ]

- ‌[فَصَلِّ مِيرَاثُ الْبَنَاتِ]

- ‌[فَصَلِّ مِيرَاثُ بِنْتِ الِابْنِ]

- ‌[فَصَلِّ مِيرَاثُ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ]

- ‌[فَصْلُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ شَيْءٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ الْحَوَالَةُ مُوَافِقَةٌ لِلْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ الْقَرْضُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ طَهَارَةُ الْخَمْرِ بِالِاسْتِحَالَةِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ الْوُضُوءُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ الْفِطْرُ بِالْحِجَامَةِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ التَّيَمُّمُ جَارٍ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ السَّلَمُ جَارٍ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ الْكِتَابَةُ تَجْرِي عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ بَيَانُ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

الفصل: ‌ ‌[مُقَدِّمَة الْكتاب] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ خَلْقَهُ

[مُقَدِّمَة الْكتاب]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ خَلْقَهُ أَطْوَارًا، وَصَرَّفَهُمْ فِي أَطْوَارِ التَّخْلِيقِ كَيْف شَاءَ عِزَّةً وَاقْتِدَارًا، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ إلَى الْمُكَلَّفِينَ إعْذَارًا مِنْهُ وَإِنْذَارًا، فَأَتَمَّ بِهِمْ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ سَبِيلَهُمْ نِعْمَتَهُ السَّابِغَةَ، وَأَقَامَ بِهِمْ عَلَى مَنْ خَالَفَ مَنَاهِجَهُمْ حُجَّتَهُ الْبَالِغَةَ، فَنَصَبَ الدَّلِيلَ، وَأَنَارَ السَّبِيلَ، وَأَزَاحَ الْعِلَلَ، وَقَطَعَ الْمَعَاذِيرَ، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ، وَأَوْضَحَ الْمُحَجَّةَ، وَقَالَ:{هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153] وَهَؤُلَاءِ رُسُلِي {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] ، فَعَمَّهُمْ بِالدَّعْوَةِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ حُجَّةً مِنْهُ وَعَدْلًا، وَخَصَّ بِالْهِدَايَةِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ نِعْمَةً وَفَضْلًا، فَقِيلَ: نِعْمَةُ الْهِدَايَةِ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ سَابِقَةُ السَّعَادَةِ وَتَلَقَّاهَا بِالْيَمِينِ، وَقَالَ:{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19] ، وَرَدَّهَا مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةُ وَلَمْ يَرْفَعْ بِهَا رَأْسًا بَيْنَ الْعَالَمِينَ، فَهَذَا فَضْلُهُ وَعَطَاؤُهُ {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20] وَلَا فَضْلُهُ بِمَمْنُونٍ، وَهَذَا عَدْلُهُ وَقَضَاؤُهُ فَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ فَسُبْحَانَ مَنْ أَفَاضَ عَلَى عِبَادِهِ النِّعْمَةَ، وَكَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَأَوْدَعَ الْكِتَابَ الَّذِي كَتَبَهُ، إنَّ رَحْمَتَهُ تَغْلِبُ غَضَبَهُ، وَتَبَارَكَ مَنْ لَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ أَعْدَلُ شَاهِدٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا أَنْ فَاضَلَ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي مَرَاتِبِ الْكَمَالِ حَتَّى عَدَلَ الْآلَافَ الْمُؤَلَّفَةَ مِنْهُمْ بِالرَّجُلِ الْوَاحِدِ، ذَلِكَ لِيَعْلَمَ عِبَادُهُ أَنَّهُ أَنْزَلَ التَّوْفِيقَ مَنَازِلَهُ، وَوَضَعَ الْفَضْلَ مَوَاضِعَهُ، وَأَنَّهُ {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 74] {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: 2]، {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 29] أَحْمَدُهُ وَالتَّوْفِيقُ لِلْحَمْدِ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَشْكُرُهُ وَالشُّكْرُ كَفِيلٌ بِالْمَزِيدِ مِنْ فَضْلِهِ وَكَرْمِهِ وَقَسَمِهِ، وَاسْتَغْفِرْهُ وَأَتُوبُ إلَيْهِ مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي تُوجِبُ زَوَالَ نِعَمِهِ وَحُلُولَ نِقَمِهِ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَه إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ كَلِمَةٌ قَامَتْ بِهَا الْأَرْضُ وَالسَّمَوَاتُ، وَفَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَعَلَيْهَا أُسِّسَتْ الْمِلَّةُ، وَنُصِبَتْ الْقِبْلَةُ، وَلِأَجْلِهَا جُرِّدَتْ سُيُوفُ

ص: 3

الْجِهَادِ، وَبِهَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَمِيعَ الْعِبَادِ؛ فَهِيَ فِطْرَةُ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَمِفْتَاحُ عُبُودِيَّتِهِ الَّتِي دَعَا الْأُمَمَ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ إلَيْهَا، وَهِيَ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ؛ وَمِفْتَاحُ دَارِ السَّلَامِ، وَأَسَاسُ الْفَرْضِ وَالسُّنَّةِ، وَمَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ لَا إلَه إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَحُجَّتُهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ، أَرْسَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمَيْنِ، وَقُدْوَةً لِلْعَالَمَيْنِ، وَمُحَجَّةً لِلسَّالِكِينَ، وَحُجَّةً عَلَى الْمُعَانِدِينَ، وَحَسْرَةً عَلَى الْكَافِرِينَ، أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدَيْنِ الْحَقِّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًّا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ نِعْمَةً لَا يَسْتَطِيعُونَ لَهَا شَكُورًا، فَأَمَدَّهُ بِمَلَائِكَتِهِ الْمُقَرَّبِينَ، وَأَيَّدَهُ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ الْمُبِينَ، الْفَارِقَ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ وَالشَّكِّ وَالْيَقِينِ، فَشَرَحَ لَهُ صَدْرَهُ، وَوَضَعَ عَنْهُ وِزْرَهُ، وَرَفَعَ لَهُ ذِكْرَهُ، وَجَعَلَ الذِّلَّةَ وَالصِّغَارَ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ، وَأَقْسَمَ بِحَيَاتِهِ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ، وَقَرَنَ اسْمَهُ بِاسْمِهِ فَإِذَا ذُكِرَ ذُكِرَ مَعَهُ كَمَا فِي الْخُطَبِ وَالتَّشَهُّدِ وَالتَّأْذِينِ، وَافْتَرَضَ عَلَى الْعِبَادِ طَاعَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَالْقِيَامَ بِحُقُوقِهِ، وَسَدَّ الطُّرُقَ كُلَّهَا إلَيْهِ وَإِلَى جَنَّتِهِ فَلَمْ يُفْتَحْ لِأَحَدٍ إلَّا مِنْ طَرِيقِهِ؛ فَهُوَ الْمِيزَانُ الرَّاجِحُ الَّذِي عَلَى أَخْلَاقِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ تُوزَنُ الْأَخْلَاقُ وَالْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ، وَالْفُرْقَانُ الْمُبِينُ الَّذِي بِاتِّبَاعِهِ يُمَيَّزُ أَهْلُ الْهُدَى مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ، وَلَمْ يَزَلْ صلى الله عليه وآله وسلم مُشَمِّرًا فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَرُدُّهُ عَنْهُ رَادٌّ، صَادِعًا بِأَمْرِهِ لَا يَصُدُّهُ عَنْهُ صَادٌّ، إلَى أَنْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ وَنَصَحَ الْأَمَةَ وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ الْجِهَادِ، فَأَشْرَقَتْ بِرِسَالَتِهِ الْأَرْضُ بَعْدَ ظُلُمَاتِهَا، وَتَأَلَّفَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ شَتَاتِهَا، وَامْتَلَأَتْ بِهِ الْأَرْضُ نُورًا وَابْتِهَاجًا، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دَيْنِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَلَمَّا أَكْمَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الدِّينَ، وَأَتَمَّ بِهِ النِّعْمَةَ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، اسْتَأْثَرَ بِهِ وَنَقَلَهُ إلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَالْمَحِلِّ الْأَسْنَى، وَقَدْ تَرَكَ أُمَّتَهُ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ، وَالطَّرِيقِ الْوَاضِحَةِ الْغَرَّاءِ، فَصَلَّى اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ وَرُسُلُهُ وَالصَّالِحُونَ مِنْ عِبَادِهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ كَمَا وَحَّدَ اللَّهَ وَعَرَّفَ بِهِ وَدَعَا إلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أَوْلَى مَا يَتَنَافَسُ بِهِ الْمُتَنَافِسُونَ، وَأَحْرَى مَا يَتَسَابَقُ فِي حَلَبَةِ سِبَاقِهِ الْمُتَسَابِقُونَ، مَا كَانَ بِسَعَادَةِ الْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ كَفِيلًا، وَعَلَى طَرِيقِ هَذِهِ السَّعَادَةِ دَلِيلًا، وَذَلِكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ اللَّذَانِ لَا سَعَادَةَ لِلْعَبْدِ إلَّا بِهِمَا، وَلَا نَجَاةَ لَهُ إلَّا بِالتَّعَلُّقِ بِسَبَبِهِمَا، فَمَنْ رُزِقَهُمَا فَقَدْ فَازَ وَغَنِمَ، وَمَنْ حُرِمَهُمَا فَالْخَيْرُ كُلُّهُ حُرِمَ، وَهُمَا مَوْرِدُ انْقِسَامِ الْعِبَادِ إلَى مَرْحُومٍ وَمَحْرُومٍ، وَبِهِمَا يَتَمَيَّزُ الْبَرُّ مِنْ الْفَاجِرِ وَالتَّقِيُّ مِنْ الْغَوِيِّ وَالظَّالِمُ مِنْ الْمَظْلُومِ، وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ لِلْعَمَلِ قَرِينًا وَشَافِعًا، وَشَرَفُهُ لِشَرَفِ مَعْلُومِهِ تَابِعًا، كَانَ أَشْرَفُ الْعُلُومِ عَلَى الْإِطْلَاقِ عِلْمَ التَّوْحِيدِ، وَأَنْفَعُهَا عَلَى أَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعَبِيدِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى اقْتِبَاسِ

ص: 4

هَذَيْنِ النُّورَيْنِ، وَتَلَقِّي هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ، إلَّا مِنْ مُشَكَّاةِ مَنْ قَامَتْ الْأَدِلَّةُ الْقَاطِعَةُ عَلَى عِصْمَتِهِ، وَصَرَّحَتْ الْكُتُبُ السَّمَاوِيَّةُ بِوُجُوبِ طَاعَتِهِ وَمُتَابَعَتِهِ، وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى؛ إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى

وَلَمَّا كَانَ التَّلَقِّي عَنْهُ صلى الله عليه وآله وسلم عَلَى نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ بِوَاسِطَةٍ، وَنَوْعٌ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَكَانَ التَّلَقِّي بِلَا وَاسِطَةٍ حَظَّ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ حَازُوا قَصَبَاتِ السَّبَّاقِ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى الْأَمَدِ فَلَا طَمَعَ لِأَحَدٍ مِنْ الْأُمَّةِ بَعْدَهُمْ فِي اللِّحَاقِ، وَلَكِنْ الْمُبْرِزُ مَنْ اتَّبَعَ صِرَاطَهُمْ الْمُسْتَقِيمَ، وَاقْتَفَى مِنْهَاجَهُمْ الْقَوِيمَ وَالْمُتَخَلِّفُ مَنْ عَدَلَ عَنْ طَرِيقِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ، فَذَلِكَ الْمُنْقَطِعُ التَّائِهُ فِي بَيْدَاءِ الْمَهَالِكِ وَالضَّلَالِ، فَأَيُّ خَصْلَةٍ خَيْرٌ لَمْ يَسْبِقُوا إلَيْهَا؟ وَأَيُّ خُطَّةِ رُشْدٍ لَمْ يُسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا؟ تَاللَّهِ لَقَدْ وَرَدُوا رَأْسَ الْمَاءِ مِنْ عَيْنِ الْحَيَاةِ عَذْبًا صَافِيًا زُلَالًا، وَأَيَّدُوا قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَدَعُوا لِأَحَدٍ بَعْدَهُمْ مَقَالًا، فَتَحُوا الْقُلُوبَ بِعَدْلِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ، وَالْقُرَى بِالْجِهَادِ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَّانِ، وَأَلْقَوْا إلَى التَّابِعِينَ مَا تَلَقَّوْهُ مِنْ مُشَكَّاةِ النُّبُوَّةِ خَالِصًا صَافِيًا، وَكَانَ سَنَدُهُمْ فِيهِ عَنْ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وآله وسلم عَنْ جِبْرِيلَ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ سَنَدًا صَحِيحًا عَالِيًا، وَقَالُوا: هَذَا عَهْدُ نَبِيِّنَا إلَيْنَا وَقَدْ عَهِدْنَا إلَيْكُمْ، وَهَذِهِ وَصِيَّةُ رَبِّنَا وَفَرْضُهُ عَلَيْنَا وَهِيَ وَصِيَّتُهُ وَفَرْضُهُ عَلَيْكُمْ، فَجَرَى التَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ عَلَى مِنْهَاجِهِمْ الْقَوِيمِ، وَاقْتَفُوا عَلَى آثَارِهِمْ صِرَاطَهُمْ الْمُسْتَقِيمِ، ثُمَّ سَلَكَ تَابِعُو التَّابِعِينَ هَذَا الْمَسْلَكَ الرَّشِيدَ، {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: 24] ، وَكَانُوا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ قَبْلَهُمْ كَمَا قَالَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ:{ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة: 13]{وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة: 14] ثُمَّ جَاءَتْ الْأَئِمَّةُ مِنْ الْقَرْنِ الرَّابِعِ الْمُفَضَّلِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، فَسَلَكُوا عَلَى آثَارِهِمْ اقْتِصَاصًا، وَاقْتَبَسُوا هَذَا الْأَمْرَ عَنْ مِشْكَاتِهِمْ اقْتِبَاسًا، وَكَانَ دِينُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَجَلَّ فِي صُدُورِهِمْ، وَأَعْظَمَ فِي نُفُوسِهِمْ، مِنْ أَنْ يُقَدِّمُوا عَلَيْهِ رَأْيًا أَوْ مَعْقُولًا أَوْ تَقْلِيدًا أَوْ قِيَاسًا، فَطَارَ لَهُمْ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ فِي الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ، ثُمَّ سَارَ عَلَى آثَارِهِمْ الرَّعِيلُ الْأَوَّلُ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، وَدَرَجَ عَلَى مِنْهَاجِهِمْ الْمُوَفَّقُونَ مِنْ أَشْيَاعِهِمْ، زَاهِدِينَ فِي التَّعَصُّبِ لِلرِّجَالِ، وَاقِفِينَ مَعَ الْحُجَّةِ وَالِاسْتِدْلَالِ، يَسِيرُونَ مَعَ الْحَقِّ أَيْنَ سَارَتْ رَكَائِبُهُ، وَيَسْتَقِلُّونَ مَعَ الصَّوَابِ حَيْثُ اسْتَقَلَّتْ مَضَارِبُهُ، إذَا بَدَا لَهُمْ الدَّلِيلُ بِأُخْذَتِهِ طَارُوا

ص: 5

إلَيْهِ زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانًا، وَإِذَا دَعَاهُمْ الرَّسُولُ إلَى أَمْرٍ انْتَدَبُوا إلَيْهِ وَلَا يَسْأَلُونَهُ عَمَّا قَالَ بُرْهَانًا، وَنُصُوصُهُ أَجَلُّ فِي صُدُورِهِمْ وَأَعْظَمُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أَنْ يُقَدِّمُوا عَلَيْهَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، أَوْ يُعَارِضُوهَا بِرَأْيٍ أَوْ قِيَاسٍ

ثُمَّ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا وَكُلٌّ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، جَعَلُوا التَّعَصُّبَ لِلْمَذَاهِبِ دِيَانَتَهُمْ الَّتِي بِهَا يَدِينُونَ، وَرُءُوسَ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي بِهَا يَتَّجِرُونَ، وَآخَرُونَ مِنْهُمْ قَنَعُوا بِمَحْضِ التَّقْلِيدِ وَقَالُوا:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] ، وَالْفَرِيقَانِ بِمَعْزِلٍ عَمَّا يَنْبَغِي اتِّبَاعُهُ مِنْ الصَّوَابِ، وَلِسَانُ الْحَقِّ يَتْلُو عَلَيْهِمْ:{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء: 123]، قَالَ الشَّافِعِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ تَعَالَى رُوحَهُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَبَانَتْ لَهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدَعَهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ: أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ الْمُقَلِّدَ لَيْسَ مَعْدُودًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَنَّ الْعِلْمَ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ أَبُو عُمَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ الْحَاصِلَةُ عَنْ الدَّلِيلِ، وَأَمَّا بِدُونِ الدَّلِيلِ فَإِنَّمَا هُوَ تَقْلِيدٌ

فَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَانِ الْإِجْمَاعَانِ إخْرَاجَ الْمُتَعَصِّبِ بِالْهَوَى وَالْمُقَلِّدِ الْأَعْمَى عَنْ زُمْرَةِ الْعُلَمَاءِ، وَسُقُوطَهُمَا بِاسْتِكْمَالِ مَنْ فَوْقَهُمَا الْفُرُوضَ مِنْ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ «الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» ، وَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ وَرَثَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنْ يَجْهَدُ وَيَكْدَحُ فِي رَدِّ مَا جَاءَ بِهِ إلَى قَوْلِ مُقَلِّدِهِ وَمَتْبُوعِهِ، وَيُضَيِّعُ سَاعَاتِ عُمْرِهِ فِي التَّعَصُّبِ وَالْهَوَى وَلَا يَشْعُرُ بِتَضْيِيعِهِ تَاللَّهِ إنَّهَا فِتْنَةٌ عَمَّتْ فَأَعْمَتْ، وَرَمَتْ الْقُلُوبَ فَأَصْمَتْ، رَبَا عَلَيْهَا الصَّغِيرُ، وَهَرِمَ فِيهَا الْكَبِيرُ، وَاُتُّخِذَ لِأَجْلِهَا الْقُرْآنُ مَهْجُورًا، وَكَانَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا، وَلَمَّا عَمَّتْ بِهَا الْبَلِيَّةُ، وَعَظُمَتْ بِسَبَبِهَا الرَّزِيَّةُ، بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُ أَكْثَرُ النَّاسِ سِوَاهَا، وَلَا يُعِدُّونَ الْعِلْمَ إلَّا إيَّاهَا، فَطَالِبُ الْحَقِّ مِنْ مَظَانِّهِ لَدَيْهِمْ مَفْتُونٌ، وَمُؤْثِرُهُ عَلَى مَا سِوَاهُ عِنْدَهُمْ مَغْبُونٌ، نَصَبُوا لِمَنْ

ص: 6