الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْحُكْمِ بِالْعَقْدِ مَلَكَهُ بِالشَّرْطِ الَّذِي هُوَ تَابِعٌ لَهُ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -:{إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] فَأَبَاحَ التِّجَارَةَ الَّتِي تَرَاضَى بِهَا الْمُتَبَايِعَانِ، فَإِذَا تَرَاضَيَا عَلَى شَرْطٍ لَا يُخَالِفُ حُكْمَ اللَّهِ جَازَ لَهُمَا ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ إلْغَاؤُهُ وَإِلْزَامُهُمَا بِمَا لَمْ يَلْتَزِمَاهُ وَلَا أَلْزَمَهُمَا اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ إلْزَامُهُمَا بِمَا لَمْ يُلْزِمْهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ وَلَا هُمَا الْتَزَمَاهُ، وَلَا إبْطَالُ مَا شَرَطَاهُ مِمَّا لَمْ يُحَرِّمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَيْهِمَا شَرْطَهُ، وَمُحَرِّمُ الْحَلَالِ كَمُحَلِّلِ الْحَرَامِ، فَهَؤُلَاءِ أَلْغَوْا مِنْ شُرُوطِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَا لَمْ يُلْغِهِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَقَابَلَهُمْ آخَرُونَ مِنْ الْقِيَاسِيِّينَ فَاعْتَبَرُوا مِنْ شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ مَا أَلْغَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ، بَلْ الصَّوَابُ إلْغَاءُ كُلِّ شَرْطٍ خَالَفَ حُكْمَ اللَّهِ، وَاعْتِبَارُ كُلِّ شَرْطٍ لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
[فَصْلٌ أَخْطَاءُ الْقِيَاسِيِّينَ]
وَأَمَّا أَصْحَابُ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَعْتَنُوا بِالنُّصُوصِ وَلَمْ يَعْتَقِدُوهَا وَافِيَةً بِالْأَحْكَامِ وَلَا شَامِلَةً لَهَا وَغُلَاتُهُمْ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَفِ بِعُشْرِ مِعْشَارِهَا فَوَسَّعُوا طُرُقَ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، وَقَالُوا بِقِيَاسِ الشَّبَهِ، وَعَلَّقُوا الْأَحْكَامَ بِأَوْصَافٍ لَا يُعْلَمُ أَنَّ الشَّارِعَ عَلَّقَهَا بِهَا، وَاسْتَنْبَطُوا عِلَلًا لَا يُعْلَمُ أَنَّ الشَّارِعَ شَرَّعَ الْأَحْكَامَ لِأَجْلِهَا، ثُمَّ اضْطَرَّهُمْ ذَلِكَ إلَى أَنْ عَارَضُوا بَيْنَ كَثِيرٍ مِنْ النُّصُوصِ وَالْقِيَاسِ، ثُمَّ اضْطَرَبُوا فَتَارَةً يُقَدِّمُونَ الْقِيَاسَ، وَتَارَةً يُقَدِّمُونَ النَّصَّ، وَتَارَةً يُفَرِّقُونَ بَيْنَ النَّصِّ الْمَشْهُورِ وَغَيْرِ الْمَشْهُورِ، وَاضْطَرَّهُمْ ذَلِكَ أَيْضًا إلَى أَنْ اعْتَقَدُوا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ أَنَّهَا شُرِّعَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَكَانَ خَطَؤُهُمْ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: ظَنُّهُمْ قُصُورَ النُّصُوصِ عَنْ بَيَانِ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ.
الثَّانِي: مُعَارَضَةُ كَثِيرٍ مِنْ النُّصُوصِ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ. الثَّالِثُ: اعْتِقَادُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ أَنَّهَا عَلَى خِلَافِ الْمِيزَانِ وَالْقِيَاسِ، وَالْمِيزَانُ هُوَ الْعَدْلُ، فَظَنُّوا أَنَّ الْعَدْلَ خِلَافُ مَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ. الرَّابِعُ: اعْتِبَارُهُمْ عِلَلًا وَأَوْصَافًا لَمْ يُعْلَمْ اعْتِبَارُ الشَّارِعِ لَهَا وَإِلْغَاؤُهُمْ عِلَلًا وَأَوْصَافًا اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. الْخَامِسُ: تَنَاقُضُهُمْ فِي نَفْسِ الْقِيَاسِ كَمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا.
[فَصْلُ فِي شُمُولُ النُّصُوصِ وَإِغْنَاؤُهَا عَنْ الْقِيَاسِ]
[الْمَسْأَلَةُ الْمُشْتَرَكَةُ فِي الْفَرَائِضِ]
وَنَحْنُ نَعْقِدُ هَهُنَا ثَلَاثَةَ فُصُولٍ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ شُمُولِ النُّصُوصِ لِلْأَحْكَامِ وَالِاكْتِفَاءِ بِهَا عَنْ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ.
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي سُقُوطِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ، وَبُطْلَانِهَا مَعَ وُجُودِ النَّصِّ. الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي بَيَانِ أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ كُلَّهَا عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، وَلَيْسَ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم حُكْمٌ يُخَالِفُ الْمِيزَانَ وَالْقِيَاسَ الصَّحِيحَ.
وَهَذِهِ الْفُصُولُ الثَّلَاثَةُ مِنْ أَهَمِّ فُصُولِ الْكِتَابِ، وَبِهَا يَتَبَيَّنُ لِلْعَالِمِ الْمُنْصِفِ مِقْدَارُ الشَّرِيعَةِ وَجَلَالَتُهَا وَهَيْمَنَتُهَا وَسِعَتُهَا وَفَضْلُهَا وَشَرَفُهَا عَلَى جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا هُوَ عَامُّ الرِّسَالَةِ إلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ فَرِسَالَتُهُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَدَقِيقِهِ وَجَلِيلِهِ، فَكَمَا لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ عَنْ رِسَالَتِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَخْرُجُ حُكْمٌ تَحْتَاجُ إلَيْهِ الْأُمَّةُ عَنْهَا وَعَنْ بَيَانِهِ لَهُ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّا لَا نُوفِي هَذِهِ حَقَّهَا وَلَا نُقَارِبُ، وَأَنَّهَا أَجَلُّ مِنْ عُلُومِنَا وَفَوْقَ إدْرَاكِنَا، وَلَكِنْ نُنَبِّهُ أَدْنَى تَنْبِيهٍ وَنُشِيرُ أَدْنَى إشَارَةٍ إلَى مَا يَفْتَحُ أَبْوَابَهَا وَيَنْهَجُ طُرُقَهَا، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ:
[شُمُولُ النُّصُوصِ وَإِغْنَاؤُهَا عَنْ الْقِيَاسِ]
فِي شُمُولِ النُّصُوصِ وَإِغْنَائِهَا عَنْ الْقِيَاسِ، وَهَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى بَيَانِ مُقَدَّمَةٍ، وَهِيَ أَنَّ دَلَالَةَ النُّصُوصِ نَوْعَانِ: حَقِيقِيَّةٌ، وَإِضَافِيَّةٌ، فَالْحَقِيقِيَّةُ تَابِعَةٌ لِقَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ وَإِرَادَتِهِ، وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ لَا تَخْتَلِفُ، وَالْإِضَافِيَّةُ تَابِعَةٌ لِفَهْمِ السَّامِعِ وَإِدْرَاكِهِ، وَجَوْدَةِ فِكْرِهِ وَقَرِيحَتِهِ، وَصَفَاءِ ذِهْنِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِالْأَلْفَاظِ وَمَرَاتِبِهَا، وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ تَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا بِحَسَبِ تَبَايُنِ السَّامِعِينَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَحْفَظَ الصَّحَابَةِ لِلْحَدِيثِ وَأَكْثَرَهُمْ رِوَايَةً لَهُ، وَكَانَ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أَفْقَهَ مِنْهُمَا، بَلْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَفْقَهُ مِنْهُمَا وَمِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَقَدْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُمَرَ فَهْمَهُ إتْيَانَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ إطْلَاقِ قَوْلِهِ:" إنَّكَ سَتَأْتِيهِ وَتَطُوفُ بِهِ " فَإِنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي هَذَا اللَّفْظِ عَلَى تَعْيِينِ الْعَامِ الَّذِي يَأْتُونَهُ فِيهِ، وَأَنْكَرَ عَلَى عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فَهْمَهُ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ نَفْسَ الْعِقَالَيْنِ، وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلَةٍ مِنْ كِبْرٍ» شُمُولَ لَفْظِهِ لِحُسْنِ الثَّوْبِ وَحُسْنِ النَّعْلِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ " بَطْرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ ".
وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» أَنَّهُ كَرَاهَةُ الْمَوْتِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ هَذَا لِلْكَافِرِ إذَا اُحْتُضِرَ وَبُشِّرَ بِالْعَذَابِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكْرَهُ لِقَاءَ اللَّهِ، وَاَللَّهُ يَكْرَهُ لِقَاءَهُ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا اُحْتُضِرَ وَبُشِّرَ بِكَرَامَةِ اللَّهِ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ، وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ.
وَأَنْكَرَ عَلَى عَائِشَةَ إذْ فَهِمَتْ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] مُعَارَضَتَهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ " وَبَيَّنَ لَهَا أَنَّ الْحِسَابَ الْيَسِيرَ هُوَ الْعَرْضُ، أَيْ حِسَابُ الْعَرْضِ لَا حِسَابُ الْمُنَاقَشَةِ.
وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ فَهِمَ قَوْله تَعَالَى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] أَنَّ هَذَا الْجَزَاءَ إنَّمَا هُوَ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ
عَمَلِ السُّوءِ، وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْجَزَاءَ قَدْ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا بِالْهَمِّ وَالْحُزْنِ وَالْمَرَضِ وَالنَّصَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَصَائِبِهَا، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ تَقْيِيدُ الْجَزَاءِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] أَنَّهُ ظُلْمُ النَّفْسِ بِالْمَعَاصِي، وَبَيَّنَ أَنَّهُ الشِّرْكُ، وَذَكَرَ قَوْلَ لُقْمَانَ لِابْنِهِ:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] مَعَ أَنَّ سِيَاقَ اللَّفْظِ عِنْدَ إعْطَائِهِ حَقَّهُ مِنْ التَّأَمُّلِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - لَمْ يَقُلْ وَلَمْ يَظْلِمُوا أَنْفُسَهُمْ، بَلْ قَالَ:{وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] وَلُبْسُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ تَغْطِيَتُهُ لَهُ وَإِحَاطَتُهُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَلَا يُغَطِّي الْإِيمَانَ وَيُحِيطُ بِهِ وَيَلْبَسُهُ إلَّا الْكُفْرُ، وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى:{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81] فَإِنَّ الْخَطِيئَةَ لَا تُحِيطُ بِالْمُؤْمِنِ أَبَدًا، فَإِنَّ إيمَانَهُ يَمْنَعُهُ مِنْ إحَاطَةِ الْخَطِيئَةِ بِهِ، وَمَعَ أَنَّ سِيَاقَ قَوْلِهِ:{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 81] ثُمَّ حَكَمَ اللَّهِ أَعْدَلَ حُكْمٍ وَأَصْدَقَهُ أَنَّ مَنْ آمَنَ وَلَمْ يَلْبِسْ إيمَانَهُ بِظُلْمٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ وَالْهُدَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الظُّلْمَ الشِّرْكُ.
«وَسَأَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ الْكَلَالَةِ وَرَاجَعَهُ فِيهَا مِرَارًا، فَقَالَ: تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ، وَاعْتَرَفَ عُمَرُ بِأَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِ فَهْمُهَا وَفَهِمَهَا الصِّدِّيقُ» ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ» فَفَهِمَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنْ نَهْيِهِ أَنَّهُ لِكَوْنِهَا لَمْ تُخَمَّسْ وَفَهِمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ النَّهْيَ لِكَوْنِهَا كَانَتْ حَمُولَةَ الْقَوْمِ وَظَهْرَهُمْ، وَفَهِمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لِكَوْنِهَا كَانَتْ جَوَّالَ الْقَرْيَةِ، وَفَهِمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ - وَكِبَارُ الصَّحَابَةِ مَا قَصَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّهْيِ وَصَرَّحَ بِعِلَّتِهِ مِنْ كَوْنِهَا رِجْسًا.
وَفَهِمَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] جَوَازَ الْمُغَالَاةِ فِي الصَّدَاقِ فَذَكَرَتْهُ لِعُمَرَ فَاعْتَرَفَ بِهِ، وَفَهِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْله تَعَالَى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] مَعَ قَوْلِهِ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] أَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَلِدُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَلَمْ يَفْهَمْهُ عُثْمَانُ فَهَمَّ بِرَجْمِ امْرَأَةٍ وَلَدَتْ لَهَا حَتَّى ذَكَّرَهُ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَقَرَّ بِهِ.
وَلَمْ يَفْهَمْ عُمَرُ مِنْ قَوْلِهِ «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا» قِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ حَتَّى بَيَّنَ لَهُ الصِّدِّيقُ فَأَقَرَّ بِهِ.
وَفَهِمَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة: 93] رَفْعَ الْجُنَاحِ عَنْ الْخَمْرِ حَتَّى بَيَّنَ لَهُ عُمَرُ أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْخَمْرَ، وَلَوْ تَأَمَّلَ سِيَاقَ الْآيَةِ لَفَهِمَ الْمُرَادَ مِنْهَا، فَإِنَّهُ إنَّمَا رَفْعُ الْجُنَاحِ عَنْهُمْ فِيمَا طَعِمُوهُ مُتَّقِينَ لَهُ فِيهِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِاجْتِنَابِ مَا حَرَّمَهُ مِنْ الْمَطَاعِمِ، فَالْآيَةُ لَا تَتَنَاوَلُ
الْمُحَرَّمَ بِوَجْهٍ مَا، وَقَدْ فَهِمَ مِنْ قَوْله تَعَالَى:{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] انْغِمَاسَ الرَّجُلِ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى بَيَّنَ لَهُ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الْإِلْقَاءِ بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ، بَلْ هُوَ مِنْ بَيْعِ الرَّجُلِ نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرِضَاتِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْإِلْقَاءَ بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ هُوَ تَرْكُ الْجِهَادِ وَالْإِقْبَالُ عَلَى الدُّنْيَا وَعِمَارَتِهَا.
وَقَالَ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه: «أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِالْعِقَابِ مِنْ عِنْدِهِ» فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ يَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا فِي فَهْمِهِمْ مِنْهَا خِلَافَ مَا أُرِيدَ بِهَا، وَأُشْكِلَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَمْرُ الْفِرْقَةِ السَّاكِتَةِ الَّتِي لَمْ تَرْتَكِبْ مَا نُهِيَتْ عَنْهُ مِنْ الْيَهُودِ: هَلْ عُذِّبُوا أَوْ نَجَوْا حَتَّى بَيَّنَ لَهُ مَوْلَاهُ عِكْرِمَةُ دُخُولَهُمْ فِي النَّاجِينَ دُونَ الْمُعَذَّبِينَ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ،؛ لِأَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - قَالَ عَنْ السَّاكِتِينَ:{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الأعراف: 164] فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا فِعْلَهُمْ وَغَضِبُوا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُوَاجِهُوهُمْ بِالنَّهْيِ فَقَدْ وَاجَهَهُمْ بِهِ مَنْ أَدَّى الْوَاجِبَ عَنْهُمْ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَلَمَّا قَامَ بِهِ أُولَئِكَ سَقَطَ عَلَى الْبَاقِينَ، فَلَمْ يَكُونُوا ظَالِمِينَ بِسُكُوتِهِمْ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - إنَّمَا عَذَّبَ الَّذِينَ نَسَوْا مَا ذُكِّرُوا بِهِ وَعَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ، وَهَذَا لَا يَتَنَاوَلُ السَّاكِتِينَ قَطْعًا، فَلَمَّا بَيَّنَ عِكْرِمَةُ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الظَّالِمِينَ الْمُعَذَّبِينَ كَسَاهُ بُرْدَةً وَفَرِحَ بِهِ.
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلصَّحَابَةِ: مَا تَقُولُونَ فِي: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] السُّورَةَ؟ قَالُوا: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ إذَا فَتَحَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَهُ، فَقَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ مَا تَقُولُ أَنْتَ؟ قَالَ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَعْلَمَهُ إيَّاهُ، فَقَالَ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا غَيْرَ مَا تَعْلَمُ، وَهَذَا مِنْ أَدَقِّ الْفَهْمِ وَأَلْطَفِهِ، وَلَا يُدْرِكُهُ كُلُّ أَحَدٍ، فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - لَنْ يُعَلِّقَ الِاسْتِغْفَارَ بِعَمَلِهِ، بَلْ عَلَّقَهُ بِمَا يُحْدِثُهُ هُوَ - سُبْحَانَهُ - مِنْ نِعْمَةِ فَتْحِهِ عَلَى رَسُولِهِ وَدُخُولِ النَّاسِ فِي دِينِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلِاسْتِغْفَارِ، فَعَلِمَ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِغْفَارِ غَيْرُهُ، وَهُوَ حُضُورُ الْأَجَلِ الَّذِي مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ تَوْفِيقُهُ لِلتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَالِاسْتِغْفَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ لِيَلْقَى رَبَّهُ طَاهِرًا مُطَهَّرًا مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَيَقْدَمَ عَلَيْهِ مَسْرُورًا رَاضِيًا مَرْضِيًّا عَنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ:{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3] وَهُوَ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ دَائِمًا. فَعَلِمَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ التَّسْبِيحُ بَعْدَ الْفَتْحِ وَدُخُولُ النَّاسِ فِي هَذَا الدِّينِ أَمْرٌ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ الْمُتَقَدِّمِ، وَذَلِكَ مُقَدَّمَةٌ بَيْنَ يَدَيْ انْتِقَالِهِ إلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى. وَأَنَّهُ قَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ مِنْ عُبُودِيَّةِ التَّسْبِيحِ وَالِاسْتِغْفَارِ الَّتِي تُرَقِّيهِ إلَى ذَلِكَ الْمَقَامِ بَقِيَّةٌ فَأَمَرَهُ بِتَوْفِيَتِهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - شَرَعَ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ فِي خَوَاتِيمِ الْأَعْمَالِ، فَشَرَعَهَا فِي خَاتِمَةِ الْحَجِّ وَقِيَامِ
اللَّيْلِ، «وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا سَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا» ، وَشُرِعَ لِلْمُتَوَضِّئِ بَعْدَ كَمَالِ وُضُوئِهِ أَنْ يَقُولَ " اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ الْمُتَطَهِّرِينَ " فَعُلِمَ أَنَّ التَّوْبَةَ مَشْرُوعَةٌ عَقِيبَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَأَمَرَ رَسُولَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ عَقِيبَ تَوْفِيَتِهِ مَا عَلَيْهِ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ حِينَ دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِهِ أَفْوَاجًا، فَكَأَنَّ التَّبْلِيغَ عِبَادَةٌ قَدْ أَكْمَلَهَا وَأَدَّاهَا، فَشُرِعَ لَهُ الِاسْتِغْفَارُ عَقِيبَهَا.
وَالْمَقْصُودُ تَفَاوُتُ النَّاسِ فِي مَرَاتِبِ الْفَهْمِ فِي النُّصُوصِ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَفْهَمُ مِنْ الْآيَةِ حُكْمًا أَوْ حُكْمَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْهَمُ مِنْهَا عَشَرَةَ أَحْكَامٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِرُ فِي الْفَهْمِ عَلَى مُجَرَّدِ اللَّفْظِ دُونَ سِيَاقِهِ وَدُونَ إيمَائِهِ وَإِشَارَتِهِ وَتَنْبِيهِهِ وَاعْتِبَارِهِ، وَأَخَصُّ مِنْ هَذَا وَأَلْطَفُ ضَمُّهُ إلَى نَصٍّ آخَرَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ فَيَفْهَمُ مِنْ اقْتِرَانِهِ بِهِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ اللَّفْظِ بِمُفْرَدِهِ، وَهَذَا بَابٌ عَجِيبٌ مِنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ لَا يَتَنَبَّهُ لَهُ إلَّا النَّادِرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الذِّهْنَ قَدْ لَا يَشْعُرُ بِارْتِبَاطِ هَذَا بِهَذَا وَتَعَلُّقِهِ بِهِ.
وَهَذَا كَمَا فَهِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15][مَعَ قَوْلِهِ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] أَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَلِدُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَكَمَا فَهِمَ الصِّدِّيقُ مِنْ آيَةِ الْفَرَائِضِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَآخِرِهَا أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، وَأَسْقَطَ الْإِخْوَةَ بِالْجَدِّ، وَقَدْ أَرْشَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ إلَى هَذَا الْفَهْمِ حَيْثُ سَأَلَهُ عَنْ الْكَلَالَةِ وَرَاجَعَهُ السُّؤَالَ فِيهَا مِرَارًا، فَقَالَ: يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ، وَإِنَّمَا أُشْكِلَ عَلَى عُمَرَ قَوْلُهُ:{قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] فَدَلَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا يُبَيِّنُ لَهُ الْمُرَادَ مِنْهَا وَهِيَ الْآيَةُ الْأُولَى الَّتِي نَزَلَتْ فِي الصَّيْفِ، فَإِنَّهُ وَرَّثَ فِيهَا وَلَدَ الْأُمِّ فِي الْكَلَالَةِ السُّدُسَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْكَلَالَةَ فِيهَا مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، وَإِنْ عَلَا.
وَنَحْنُ نَذْكُرُ عِدَّةَ مَسَائِلَ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهَا السَّلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَتْهَا النُّصُوصُ، وَمَسَائِلَ قَدْ اُحْتُجَّ فِيهَا بِالْقِيَاسِ وَقَدْ بَيَّنَهَا النَّصُّ وَأَغْنَى فِيهَا عَنْ الْقِيَاسِ.
[الْمَسْأَلَةُ الْمُشْتَرَكَةُ فِي الْفَرَائِضِ]
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُشْتَرَكَةُ فِي الْفَرَائِضِ، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى اخْتِصَاصِ وَلَدِ الْأُمِّ فِيهَا بِالثُّلُثِ، بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] وَهَؤُلَاءِ وَلَدُ الْأُمِّ، فَلَوْ أَدْخَلْنَا مَعَهُمْ وَلَدَ الْأَبَوَيْنِ لَمْ يَكُونُوا شُرَكَاءَ فِي الثُّلُثِ بَلْ يُزَاحِمُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ، فَإِنْ قِيلَ: بَلْ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ مِنْهُمْ، إلْغَاءً لِقَرَابَةِ الْأَبِ، قِيلَ: هَذَا وَهْمٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] فَذَكَرَ حُكْمَ وَاحِدِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ حُكْمًا يَخْتَصُّ بِهِ الْجَمَاعَةُ مِنْهُمْ كَمَا
يَخْتَصُّ بِهِ وَاحِدُهُمْ، وَقَالَ فِي وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ:{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] فَذَكَرَ حُكْمَ وَلَدِ الْأَبِ وَالْأَبَوَيْنِ وَاحِدِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ، وَهُوَ حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِهِ جَمَاعَتُهُمْ كَمَا يَخْتَصُّ بِهِ وَاحِدُهُمْ فَلَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ، فَكَذَا حُكْمُ وَلَدِ الْأُمِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الصِّنْفَيْنِ غَيْرُ الْآخَرِ، فَلَا يُشَارِكُ أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ الْآخَرَ، وَهَذَا الصِّنْفُ الثَّانِي هُوَ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ أَوْ الْأَبِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ وَلَدُ الْأُمِّ بِالْإِجْمَاعِ، كَمَا فَسَّرَتْهُ قِرَاءَةُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ " مِنْ أُمٍّ " وَهِيَ تَفْسِيرٌ وَزِيَادَةُ إيضَاحٍ، وَإِلَّا فَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ السِّيَاقِ وَلِهَذَا ذَكَرَ - سُبْحَانَهُ - وَلَدَ الْأُمِّ فِي آيَةِ الزَّوْجَيْنِ، وَهُمْ أَصْحَابُ فَرْضٍ مُقَدَّرٍ لَا يَخْرُجُونَ عَنْهُ، وَلَا حَظَّ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي التَّعْصِيبِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا أَحَدًا مِنْ الْعَصَبَةِ، بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ فِي آيَةِ الْعَمُودَيْنِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَإِنَّ لِجِنْسِهِمْ حَظًّا فِي التَّعْصِيبِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي آيَةِ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ وَالزَّوْجَيْنِ:{غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12] وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فِي آيَةِ الْعَمُودَيْنِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرًا مَا يَقْصِدُ ضِرَارَ الزَّوْجِ وَوَلَدِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ عَصَبَتِهِ بِخِلَافِ أَوْلَادِهِ وَآبَائِهِ فَإِنَّهُ لَا يُضَارُّهُمْ فِي الْعَادَةِ، فَإِذَا كَانَ النَّصُّ قَدْ أَعْطَى وَلَدَ الْأُمِّ الثُّلُثَ لَمْ يَجُزْ تَنْقِيصُهُمْ مِنْهُ، وَأَمَّا وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ فَهُمْ جِنْسٌ آخَرُ وَهُمْ عَصَبَتُهُ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ " وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ تُبْقِ الْفَرَائِضُ شَيْئًا، فَلَا شَيْءَ لِلْعَصَبَةِ بِالنَّصِّ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِسِ " هَبْ أَنَّ أَبَانَا كَانَ حِمَارًا " فَقَوْلٌ بَاطِلٌ حِسًّا وَشَرْعًا، فَإِنَّ الْأَبَ لَوْ كَانَ حِمَارًا لَكَانَتْ الْأُمُّ أَتَانًا، وَإِذَا قِيلَ: يُقَدَّرُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، قِيلَ: هَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْمَوْجُودَ لَا يَكُونُ كَالْمَعْدُومِ، وَأَمَّا بُطْلَانُهُ شَرْعًا فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - حَكَمَ فِي وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ بِخِلَافِ حُكْمِهِ فِي وَلَدِ الْأُمِّ.
فَإِنْ قِيلَ: الْأَبُ إنْ لَمْ يَنْفَعْهُمْ لَمْ يَضُرَّهُمْ.
قِيلَ: بَلْ قَدْ يَضُرُّهُمْ كَمَا يَنْفَعُهُمْ، فَإِنَّ وَلَدَ الْأُمِّ لَوْ كَانَ وَاحِدًا وَوَلَدُ الْأَبَوَيْنِ مِائَةً وَفَضَلَ نِصْفُ سُدُسٍ انْفَرَدَ وَلَدُ الْأُمِّ بِالسُّدُسِ، وَاشْتَرَكَ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ فِي نِصْفِ السُّدُسِ، فَهَلَّا قَبِلْتُمْ قَوْلَهُمْ هَهُنَا هَبْ أَنَّ أَبَانَا كَانَ حِمَارًا؟ وَهَلَّا قَدَّرْتُمْ الْأَبَ مَعْدُومًا فَخَرَجْتُمْ عَنْ الْقِيَاسِ كَمَا خَرَجْتُمْ عَنْ النَّصِّ؟ وَإِذَا جَازَ أَنْ يُنْقِصَهُمْ الْأَبُ جَازَ أَنْ يَحْرِمَهُمْ، وَأَيْضًا فَالْقَرَابَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُلْتَئِمَةُ مِنْ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لَا تُفَرَّقُ أَحْكَامُهَا، هَذِهِ قَاعِدَةُ النَّسَبِ فِي الْفَرَائِضِ وَغَيْرِهَا، فَالْأَخُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ لَا نَجْعَلُهُ كَأَخٍ مِنْ أَبٍ وَأَخٍ مِنْ أُمٍّ فَنُعْطِيهِ السُّدُسَ فَرْضًا بِقَرَابَةِ الْأُمِّ وَالْبَاقِي تَعْصِيبًا بِقَرَابَةِ الْأَبِ