الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11] وَالْحُكْمُ لَا يَخْتَصُّ بِمَا فَوْقَهُمَا؟ قِيلَ: حُسْنُ تَرْتِيبِ الْكَلَامِ وَتَأْلِيفِهِ وَمُطَابِقَةِ مُضْمَرِهِ لِظَاهِرِهِ أَوْجَبَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - قَالَ:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] فَالضَّمِيرُ فِي: {كُنَّ} [النساء: 11] مَجْمُوعٌ يُطَابِقُ الْأَوْلَادَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوْلَادُ نِسَاءً فَذَكَرَ لَفْظَ الْأَوْلَادِ وَهُوَ جَمْعٌ وَضَمِيرَ:{كُنَّ} [النساء: 11] وَهُوَ ضَمِيرُ جَمْعٍ وَ: {نِسَاءً} [النساء: 11] وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ " فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ".
وَفِيهِ نُكْتَةٌ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - قَدْ ذَكَرَ مِيرَاثَ الْوَاحِدَةِ نَصًّا وَمِيرَاثَ الِاثْنَيْنِ تَنْبِيهًا كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَانَ فِي ذِكْرِ الْعَدَدِ الزَّائِدِ عَلَى الِاثْنَتَيْنِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ لَا يَزِيدُ بِزِيَادَتِهِنَّ عَلَى الِاثْنَتَيْنِ كَمَا زَادَ بِزِيَادَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى الْأُخْرَى. وَأَيْضًا فَإِنَّ مِيرَاثَ الِاثْنَتَيْنِ قَدْ عُلِمَ مِنْ النَّصِّ، فَلَوْ قَالَ:{فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} [النساء: 176] كَانَ تَكْرِيرًا، وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ حُكْمُ مَا زَادَ عَلَيْهِمَا، فَكَانَ ذِكْرُ الْجَمْعِ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَالْإِيجَازِ، وَتَطَابَقَ أَوَّلُ الْكَلَامِ وَآخِرُهُ وَحَسُنَ تَأْلِيفُهُ وَتَنَاسُبُهُ.
وَهَذَا بِخِلَافِ سِيَاقِ آخِرِ السُّورَةِ فَإِنَّهُ قَالَ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176] فَلَمْ يَتَقَدَّمْ اسْمُ جَمْعٍ وَلَا ضَمِيرُ جَمْعٍ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ.
وَقَدْ ذَكَرَ مِيرَاثَ الْوَاحِدَةِ وَأَنَّهُ النِّصْفُ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ذِكْرِ مِيرَاثِ الْأُخْتَيْنِ وَأَنَّهُ الثُّلُثَانِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْأُخْرَى إذَا انْضَمَّتْ إلَيْهَا أَخَذَتْ نِصْفًا آخَرَ، وَدَلَّ تَشْرِيكُهُ بَيْنَ الْبَنَاتِ وَإِنْ كَثُرْنَ فِي الثُّلُثَيْنِ عَلَى تَشْرِيكِهِ بَيْنَ الْأَخَوَاتِ وَإِنْ كَثُرْنَ فِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَإِنَّ الْبَنَاتِ أَقْرَبُ مِنْ الْأَخَوَاتِ وَيُسْقِطْنَ فَرْضَهُنَّ، فَجَاءَ بَيَانُهُ - سُبْحَانَهُ - فِي كُلٍّ مِنْ الْآيَتَيْنِ مِنْ أَحْسَنِ الْبَيَانِ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ مِيرَاثَ الِابْنَتَيْنِ بِمَا تَقَرَّرَ بَيْنَ مِيرَاثِ مَا زَادَ عَلَيْهِمَا، وَفِي آيَةِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لَمَّا بَيَّنَ مِيرَاثَ الْأُخْتِ وَالْأُخْتَيْنِ لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يُبَيِّنَ مِيرَاثَ مَا زَادَ عَلَيْهِمَا، إذْ قَدْ عُلِمَ بَيَانُ الزَّائِدِ عَلَى الِاثْنَتَيْنِ فِي مَنْ هُنَّ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْ الْأَخَوَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ حُكْمَ اجْتِمَاعِ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ، فَاسْتَوْعَبَ بَيَانُهُ جَمِيعَ الْأَقْسَامِ.
[فَصَلِّ مِيرَاثُ بِنْتِ الِابْنِ]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مِيرَاثُ بِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ مَعَ الْبِنْتِ، وَسُقُوطُهَا إذَا اسْتَكْمَلَ الْبَنَاتُ الثُّلُثَيْنِ، دَلَالَةُ الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا أَخْفَى مِنْ سَائِرِ مَا تَقَدَّمَ، وَبَيَانُهَا أَنَّهُ - تَعَالَى - قَالَ:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11]]
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْخِطَابَ يَتَنَاوَلُ وَلَدَ الْبَنِينَ، دُونَ وَلَدِ الْبَنَاتِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ:{أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] يَتَنَاوَلُ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْمَيِّتِ وَهُمْ وَلَدُهُ وَوَلَدُ بَنِيهِ، وَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُمْ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ الْبَنِينَ عِنْدَ عَدَمِ وَلَدِ الصُّلْبِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا بِنْتٌ فَلَهَا النِّصْفُ، وَبَقِيَ مِنْ نَصِيبِ الْبَنَاتِ السُّدُسُ، فَإِذَا كَانَ ابْنُ ابْنٍ أَخَذَ الْبَاقِيَ كُلَّهُ بِالتَّعْصِيبِ لِلنَّصِّ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَخَوَاتُهُ شَارَكْنَهُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ؛ لِأَنَّهُنَّ مَعَهُ عَصَبَةٌ، وَهَذَا أَحَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ «فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» لَا يَمْنَعُ أَنْ تَأْخُذَ الْأُنْثَى إذَا كَانَتْ عَصَبَةً بِغَيْرِهَا، وَلِهَذَا أَخَذَتْ الْأُخْتُ مَعَ الْبِنْتِ الْبَاقِيَ بِالتَّعْصِيبِ؛ لِأَنَّهَا عَصَبَةٌ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْبِنْتِ إلَّا بَنَاتُ ابْنٍ فَقَدْ كُنَّ بِصَدَدِ أَخْذِ الثُّلُثَيْنِ لَوْلَا الْبِنْتُ، فَإِذَا أَخَذَتْ النِّصْفَ فَالسُّدُسُ الْبَاقِي لَا مَانِعَ لَهُنَّ مِنْ أَخْذِهِ فَيَفُزْنَ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا اسْتَكْمَلَ الْبَنَاتُ الثُّلُثَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ شَيْءٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بَنَاتٌ أَخَذْنَ جَمِيعَ الثُّلُثَيْنِ، فَإِذَا قُدِّمَتْ الْبِنْتُ عَلَيْهِنَّ بِالنِّصْفِ أَخَذْنَ بَقِيَّةَ الثُّلُثَيْنِ اللَّذَيْنِ كُنَّ يَفُزْنَ بِهِمَا جَمِيعًا لَوْلَا الْبِنْتُ، وَهَذَا حُكْمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
فَإِنْ قِيلَ: فَمِنْ أَيْنَ أَعْطَيْتُمْ بَنَاتِ الِابْنِ إذَا اسْتَكْمَلَ الْبَنَاتُ الثُّلُثَيْنِ وَكَانَ مَعَهُنَّ أَخُوهُنَّ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ الْبَاقِيَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ؟ قِيلَ: قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانٌ مُسْتَوْفًى، وَأَنَّ هَذَا حُكْمُ كُلِّ عَصَبَةٍ مَعَ وَارِثٍ مِنْ جِنْسِهِ فِي دَرَجَتِهِ كَالْأَوْلَادِ وَالْإِخْوَةِ بِخِلَافِ الْأَعْمَامِ وَبَنِي الْإِخْوَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ عَصَّبَ ابْنُ ابْنِ الِابْنِ مَنْ فَوْقَهُ وَلَيْسَ فِي دَرَجَتِهِ؟ قِيلَ: إذَا كَانَ يُعَصِّبُ مَنْ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ مَعَ أَنَّهُ أَنْزَلُ مِمَّنْ فَوْقَهُ وَلَا يُسْقِطُهُ فَتَعْصِيبُهُ لِمَنْ هُوَ فَوْقَهُ وَأَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الْمَيِّتِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَإِذَا كَانَ الْأَنْزَلُ لَا يَقْوَى هُوَ عَلَى إسْقَاطِهِ فَكَيْفَ يَقْوَى عَلَى إسْقَاطِ الْأَعْلَى؟ عَلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ لَا يُعَصِّبُ بِهِ مَنْ فِي دَرَجَتِهِ وَلَا مَنْ فَوْقَهُ، بَلْ يَخُصُّهُ بِالْبَاقِي. وَوَجْهُ قَوْلِهَا أَنَّهَا لَا تَرِثُ مُفْرَدَةً فَلَا تَرِثُ مَعَ أَخِيهَا، كَالْمَحْجُوبَةِ بِرِقٍّ أَوْ كُفْرٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ وَارِثَةً كَبِنْتٍ وَبِنْتِ ابْنٍ مَعَهَا أَخُوهَا فَإِنَّهُ يُعَصِّبُهَا اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهَا وَارِثَةٌ.
وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَصَحُّ، فَإِنَّهَا وَارِثَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَهِيَ مِمَّنْ يَسْتَفِيدُ التَّعْصِيبَ بِأَخِيهَا. وَهُنَا إنَّمَا سَقَطَ مِيرَاثُهَا بِالْفَرْضِ لِاسْتِكْمَالِ مَنْ فَوْقَهَا الثُّلُثَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الْمِيرَاثِ بِالْفَرْضِ سُقُوطُهُ بِالتَّعْصِيبِ مَعَ قِيَامِ مُوجِبِهِ وَهُوَ وُجُودُ الْأَخِ، وَإِذَا كَانَ وُجُودُ الْأَخِ يَجْعَلُهَا عَصَبَةً فَيَمْنَعُهَا الْمِيرَاثَ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَوْلَاهُ وَرِثَتْ بِالْفَرْضِ وَهُوَ الْأَخُ الْمَشْئُومُ فَالْعَدْلُ يَقْتَضِي أَنْ يَجْعَلَهَا عَصَبَةً فَيُوَرِّثُهَا إذَا لَمْ تَرِثْ بِالْفَرْضِ وَهُوَ الْأَخُ النَّافِعُ، فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَالْمِيزَانِ، وَقَدْ فُهِمَتْ دَلَالَةُ الْكِتَابِ عَلَيْهِ.