الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَوْلُهُ: " فَمَا أَدْلَى إلَيْك " أَيْ مَا تَوَصَّلَ بِهِ إلَيْك مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي تَحْكُمُ بِهِ بَيْنَ الْخُصُومِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَدْلَى فُلَانٌ بِحُجَّتِهِ، وَأَدْلَى بِنَسَبِهِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188] أَيْ تُضِيفُوا ذَلِكَ إلَى الْحُكَّامِ وَتَتَوَصَّلُوا بِحُكْمِهِمْ إلَى أَكْلِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى لَقِيلَ: " وَتُدْلُوا بِالْحُكَّامِ إلَيْهَا " وَأَمَّا الْإِدْلَاءُ بِهَا إلَى الْحُكَّامِ فَهُوَ التَّوَصُّلُ بِالْبِرْطِيلِ بِهَا إلَيْهِمْ فَتَرْشُوا الْحَاكِمَ لِتَتَوَصَّلُوا بِرِشْوَتِهِ إلَى الْأَكْلِ بِالْبَاطِلِ.
قِيلَ: الْآيَةُ تَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا إدْلَاءٌ إلَى الْحُكَّامِ بِسَبَبِهَا، فَالنَّهْيُ عَنْهُمَا مَعًا
. وَقَوْلُهُ: " فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ لَا نَفَاذَ لَهُ " وِلَايَةُ الْحَقِّ: نُفُوذُهُ، فَإِذَا لَمْ يَنْفُذْ كَانَ ذَلِكَ عَزْلًا لَهُ عَنْ وِلَايَتِهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِي الْعَدْلِ الَّذِي فِي تَوَلِّيَتِهِ مَصَالِحُ الْعِبَادِ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، فَإِذَا عُزِلَ عَنْ وِلَايَتِهِ لَمْ يَنْفَعْ وَمُرَادُ عُمَرَ بِذَلِكَ التَّحْرِيضُ عَلَى تَنْفِيذِ الْحَقِّ إذَا فَهِمَهُ الْحَاكِمُ، وَلَا يَنْفَعُ تَكَلُّمُهُ بِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قُوَّةُ تَنْفِيذِهِ، فَهُوَ تَحْرِيضٌ مِنْهُ عَلَى الْعِلْمِ بِالْحَقِّ وَالْقُوَّةِ عَلَى تَنْفِيذِهِ، وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أُولِي الْقُوَّةِ فِي أَمْرِهِ وَالْبَصَائِرِ فِي دِينِهِ فَقَالَ:{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص: 45] فَالْأَيْدِي: الْقُوَى عَلَى تَنْفِيذِ أَمْرِ اللَّهِ، وَالْأَبْصَارُ: الْبَصَائِرُ فِي دِينِهِ.
[وَاجِبُ الْحَاكِمِ]
وَقَوْلُهُ: " وَآسِ النَّاسَ فِي مَجْلِسِك وَفِي وَجْهِك وَقَضَائِك حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِك وَلَا يَيْأَسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِك " إذَا عَدَلَ الْحَاكِمُ فِي هَذَا بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فَهُوَ عُنْوَانُ عَدْلِهِ فِي الْحُكُومَةِ؛ فَمَتَى خَصَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ أَوْ الْقِيَامِ لَهُ أَوْ بِصَدْرِ الْمَجْلِسِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ وَالْبَشَاشَةِ لَهُ وَالنَّظَرِ إلَيْهِ كَانَ عُنْوَانُ حَيْفِهِ وَظُلْمِهِ، وَقَدْ رَأَيْت فِي بَعْضِ التَّوَارِيخِ الْقَدِيمَةِ أَنَّ أَحَدَ قُضَاةِ الْعَدْلِ فِي بَنْيِ إسْرَائِيلَ أَوْصَاهُمْ إذَا دَفَنُوهُ أَنْ يَنْبُشُوا قَبْرَهُ بَعْدَ مُدَّةٍ فَيَنْظُرُوا هَلْ تَغَيَّرَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا، وَقَالَ: إنِّي لَمْ أُجِرْ قَطُّ فِي حُكْمٍ، وَلَمْ أُحَابِ فِيهِ، غَيْرَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيَّ خَصْمَانِ كَانَ أَحَدُهُمَا صِدِّيقًا لِي فَجَعَلْت أُصْغِي إلَيْهِ بِأُذُنِي أَكْثَرَ مِنْ إصْغَائِي إلَى الْآخَرِ، فَفَعَلُوا مَا أَوْصَاهُمْ بِهِ، فَرَأَوْا أُذُنَهُ قَدْ أَكَلَهَا التُّرَابُ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ جَسَدُهُ؛ وَفِي تَخْصِيصِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ بِمَجْلِسٍ أَوْ إقْبَالٍ أَوْ إكْرَامٍ مَفْسَدَتَانِ إحْدَاهُمَا: طَمَعُهُ فِي أَنْ تَكُونَ الْحُكُومَةُ لَهُ فَيَقْوَى قَلْبُهُ وَجِنَانُهُ، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْآخَرَ يَيْأَسُ مِنْ عَدْلِهِ، وَيَضْعُفُ قَلْبُهُ، وَتَنْكَسِرُ حُجَّتُهُ.
مَعْنَى الْبَيِّنَةِ]
وَقَوْلُهُ: " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ " الْبَيِّنَةُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ فَهِيَ أَعَمُّ مِنْ الْبَيِّنَةِ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، حَيْثُ خَصُّوهَا بِالشَّاهِدَيْنِ أَوْ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَلَا حَجْرَ فِي الِاصْطِلَاحِ مَا لَمْ يَتَضَمَّنْ حَمْلَ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَيْهِ فَيَقَعُ بِذَلِكَ الْغَلَطُ فِي فَهْمِ النُّصُوصِ وَحَمْلِهَا عَلَى غَيْرِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهَا وَقَدْ حَصَلَ بِذَلِكَ لِلْمُتَأَخِّرِينَ أَغْلَاطٌ شَدِيدَةٌ فِي فَهْمِ النُّصُوصِ، وَنَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ مِثَالًا وَاحِدًا، وَهُوَ مَا نَحْنُ فِيهِ لَفْظُ الْبَيِّنَةِ فَإِنَّهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25] وَقَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ - بِالْبَيِّنَاتِ} [النحل: 43 - 44] وَقَالَ: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4] وَقَالَ: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام: 57] وَقَالَ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} [هود: 17] وَقَالَ: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ} [فاطر: 40] وَقَالَ {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} [طه: 133] وَهَذَا كَثِيرٌ، لَمْ يَخْتَصَّ لَفْظُ الْبَيِّنَةِ بِالشَّاهِدَيْنِ، بَلْ وَلَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْكِتَابِ فِيهِمَا أَلْبَتَّةَ.
إذَا عُرِفَ هَذَا فَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «لِلْمُدَّعِي أَلَك بَيِّنَةٌ» وَقَوْلُ عُمَرَ " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي " وَإِنْ كَانَ هَذَا قَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا الْمُرَادُ بِهِ أَلِك مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ مِنْ شُهُودٍ أَوْ دَلَالَةٍ، فَإِنَّ الشَّارِعَ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ يَقْصِدُ ظُهُورَ الْحَقِّ بِمَا يُمْكِنُ ظُهُورُهُ بِهِ مِنْ الْبَيِّنَاتِ الَّتِي هِيَ أَدِلَّةٌ عَلَيْهِ وَشَوَاهِدُ لَهُ، وَلَا يَرُدُّ حَقًّا قَدْ ظَهَرَ بِدَلِيلِهِ أَبَدًا فَيُضَيِّعُ حُقُوقَ اللَّهِ وَعِبَادِهِ وَيُعَطِّلُهَا، وَلَا يَقِفْ ظُهُورُ الْحَقِّ عَلَى أَمْرٍ مُعَيَّنٍ لَا فَائِدَةَ فِي تَخْصِيصِهِ بِهِ مَعَ مُسَاوَاةِ غَيْرِهِ فِي ظُهُورِ الْحَقِّ أَوْ رُجْحَانِهِ عَلَيْهِ تَرْجِيحًا لَا يُمْكِنُ جَحْدُهُ وَدَفْعُهُ، كَتَرْجِيحِ شَاهِدِ الْحَالِ عَلَى مُجَرَّدِ الْيَدِ فِي صُورَةٍ مَنْ عَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ وَبِيَدِهِ عِمَامَةٌ وَآخَرُ خَلْفَهُ مَكْشُوفُ الرَّأْسِ يَعْدُو أَثَرَهُ، وَلَا عَادَةَ لَهُ بِكَشْفِ رَأْسِهِ، فَبَيِّنَةُ الْحَالِ وَدَلَالَتُهُ هُنَا تُفِيدُ مِنْ ظُهُورِ صِدْقِ الْمُدَّعِي أَضْعَافَ مَا يُفِيدُ مُجَرَّدَ الْيَدِ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ؛ فَالشَّارِعُ لَا يُهْمِلُ مِثْلَ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ وَالدَّلَالَةَ، وَيُضَيِّعُ حَقًّا يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ ظُهُورَهُ وَحُجَّتَهُ، بَلْ لَمَّا ظَنَّ هَذَا مَنْ ظَنَّهُ ضَيَّعُوا طَرِيقَ الْحُكْمِ، فَضَاعَ كَثِيرٌ مِنْ الْحُقُوقِ لِتَوَقُّفِ ثُبُوتِهَا عِنْدَهُمْ عَلَى طَرِيقٍ مُعَيَّنٍ، وَصَارَ الظَّالِمُ الْفَاجِرُ مُمَكَّنًا مِنْ ظُلْمِهِ وَفُجُورِهِ، فَيَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، وَيَقُولُ لَا يَقُومُ عَلَيَّ بِذَلِكَ شَاهِدَانِ اثْنَانِ، فَضَاعَتْ حُقُوقٌ كَثِيرَةٌ لِلَّهِ وَلِعِبَادِهِ، وَحِينَئِذٍ أَخْرَجَ اللَّهُ أَمْرَ الْحُكْمِ الْعِلْمِيِّ عَنْ أَيْدِيهِمْ، وَأَدْخَلَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْإِمَارَةِ وَالسِّيَاسَةِ مَا يَحْفَظُ بِهِ الْحَقَّ تَارَةً وَيَضِيعُ بِهِ أُخْرَى، وَيَحْصُلُ بِهِ الْعُدْوَانُ تَارَةً وَالْعَدْلُ أُخْرَى،