المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَقَوْلُهُ: " فَمَا أَدْلَى إلَيْك " أَيْ مَا تَوَصَّلَ بِهِ - إعلام الموقعين عن رب العالمين - ط العلمية - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌[مُقَدِّمَة الْكتاب]

- ‌[فَصْلٌ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ مَا يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُوَقِّعُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ]

- ‌[فَصْلٌ أَوَّلُ مَنْ وَقَّعَ عَنْ اللَّهِ]

- ‌[فَصْلٌ عَمَّنْ انْتَشَرَ الدِّينُ وَالْفِقْهُ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْ صَارَتْ إلَيْهِ الْفَتْوَى مِنْ التَّابِعِينَ]

- ‌[فَصْلٌ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فُقَهَاءُ مَكَّةَ]

- ‌[فَصْلٌ فُقَهَاءُ الْبَصْرَةِ]

- ‌[أُصُولُ فَتَاوَى أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ]

- ‌[فَصْلٌ كَرَاهَةُ الْعُلَمَاءِ التَّسَرُّعَ فِي الْفَتْوَى]

- ‌[الْمُرَادُ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ]

- ‌[خَطَرُ تَوَلِّي الْقَضَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمُحَرَّمَاتُ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ]

- ‌[النَّهْيُ عَنْ أَنْ يُقَالَ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ]

- ‌[لَفْظُ الْكَرَاهَةِ يُطْلَقُ عَلَى الْمُحَرَّمِ]

- ‌[مَا يَقُولُهُ الْمُفْتِي فِيمَا اجْتَهَدَ فِيهِ]

- ‌[فَصْلٌ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ فِي الْفُتْيَا]

- ‌[أَدَوَاتُ الْفُتْيَا]

- ‌[الْفَتْوَى بِالتَّقْلِيدِ]

- ‌[شُرُوطُ الْإِفْتَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ الْإِفْتَاءِ فِي دِينِ اللَّهِ بِالرَّأْيِ]

- ‌[الْأَمْرُ بِالرَّدِّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يَشْتَمِلَانِ عَلَى حُكْمِ كُلِّ شَيْءٍ]

- ‌[الْوَعِيدُ عَلَى الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ]

- ‌[فَصْلٌ تَأْوِيلُ مَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ مِنْ الْأَخْذِ بِالرَّأْيِ]

- ‌[فَصْلٌ الرَّأْيُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ]

- ‌[الرَّأْيُ الْبَاطِلُ وَأَنْوَاعُهُ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ]

- ‌[النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ]

- ‌[فَصْلٌ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ]

- ‌[فَصْلٌ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ]

- ‌[فَصْلٌ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ]

- ‌[كِتَابِ عُمَرَ فِي الْقَضَاءِ وشرحه]

- ‌[صِحَّةُ الْفَهْمِ وَحُسْنُ الْقَصْدِ]

- ‌[وَاجِبُ الْحَاكِمِ]

- ‌[نِصَابُ الشَّهَادَةِ]

- ‌[فَصْل تُشْرَعُ الْيَمِينُ مِنْ جِهَةِ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ]

- ‌[صِفَاتُ الْحَاكِمِ وَمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ]

- ‌[فَصْلٌ الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ]

- ‌[فَصْلٌ يُؤَجِّلُ الْقَاضِي الْحُكْمَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ]

- ‌[تَغَيُّرُ الْحُكْم بِتَغَيُّرِ الِاجْتِهَادِ]

- ‌[مَنْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ]

- ‌[فَصْلٌ شَاهِدُ الزُّورِ]

- ‌[الْكَذِبِ فِي غَيْرِ الشَّهَادَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الْحِكْمَةُ فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْكَذَّابِ]

- ‌[فَصْلٌ شَهَادَةِ الْمَجْلُودِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ]

- ‌[فَصْلٌ رَدُّ الشَّهَادَةِ بِالتُّهْمَةِ]

- ‌[فَصْلٌ شَهَادَةُ مَسْتُورِ الْحَالِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي الْقِيَاسِ]

- ‌[أَنْوَاعُ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصْلٌ قِيَاسُ الدَّلَالَةِ]

- ‌[فَصْلٌ قِيَاسُ الشَّبَهِ]

- ‌[فَصْلٌ قِيَاسِ الْعَكْسِ]

- ‌[فَصْلٌ مِثْل مِنْ الْقِيَاسِ التَّمْثِيلِيِّ]

- ‌[السِّرُّ فِي ضَرْبِ الْأَمْثَالِ]

- ‌[تَسْوِيَة الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ جَاءَ الْقُرْآنُ بِتَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ]

- ‌[مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ تَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ]

- ‌[فَصْلٌ حَدِيثُ مُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ الرَّسُولُ إلَى الْيَمَنِ]

- ‌[فَصْلٌ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ يَجْتَهِدُونَ وَيَقِيسُونَ]

- ‌[مَا أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَيْهِ مِنْ مَسَائِلِ الْقِيَاسِ]

- ‌[قِيَاسُ الصَّحَابَةِ حَدَّ الشُّرْبِ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ]

- ‌[قِيَاسُ الصَّحَابَةِ فِي الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ]

- ‌[اخْتِلَافُ الصَّحَابَة فِي الْمَرْأَةِ الْمُخَيَّرَةِ]

- ‌[الصَّحَابَةُ فَتَحُوا بَابَ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ]

- ‌[الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ مَرْكُوزٌ فِي فِطَرِ النَّاسِ]

- ‌[الْقَيَّاسُونَ وَالظَّاهِرِيَّةُ مُفْرِطُونَ]

- ‌[فَصْلٌ قَوْلُ نُفَاةِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصْلٌ فَائِدَةُ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ]

- ‌[فَصْلٌ لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ بِالْقِيَاسِ بَلْ نَهَى عَنْهُ]

- ‌[فَصْلٌ نهى الصَّحَابَةُ عَنْ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصْلٌ ذَمِّ التَّابِعُونَ لِلْقِيَاسِ]

- ‌[فَصْلٌ الْقِيَاسُ يُعَارِضُ بَعْضُهُ بَعْضًا]

- ‌[إذَا اخْتَلَفَتْ الْأَقْيِسَةُ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِينَ]

- ‌[لَمْ يَكُنْ الْقِيَاسُ حُجَّةً فِي زَمَنِ الرَّسُولِ]

- ‌[فَصْلٌ تَنَاقُضُ أَهْلِ الْقِيَاسِ دَلِيلُ فَسَادِهِ]

- ‌[فَصْلٌ مَثَلٌ مِمَّا جَمَعَ فِيهِ الْقِيَاسِيُّونَ بَيْنَ الْمُتَفَرِّقَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ مِنْ تَنَاقُضِ الْقِيَاسِيِّينَ مُرَاعَاةُ بَعْضِ الشُّرُوطِ دُونَ بَعْضِهَا الْآخَرِ]

- ‌[فَصْلٌ هَلْ فِي اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ قِصَاصٌ]

- ‌[فَصْلٌ حُكُومَةُ النَّبِيَّيْنِ الْكَرِيمَيْنِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ]

- ‌[الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي قُوَّة أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ]

- ‌[إحَاطَةُ الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ]

- ‌[فَصْلٌ هَلْ تُحِيطُ النُّصُوصُ بِحُكْمِ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ]

- ‌[أخطاء المختلفين فِي إحاطة النُّصُوص بِأَحْكَام الحوادث]

- ‌[الْخَطَأ الْأَوَّل والثانى]

- ‌[الْخَطَأُ الثَّالِثُ تَحْمِيلُ الِاسْتِصْحَابِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّهُ]

- ‌[الِاسْتِصْحَابُ وَأَقْسَامُهُ]

- ‌[الْخَطَأُ الرَّابِعُ اعْتِقَاد أَنَّ عُقُودَ الْمُسْلِمِينَ وَشُرُوطَهُمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ كُلَّهَا عَلَى الْبُطْلَانِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الصِّحَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ أَخْطَاءُ الْقِيَاسِيِّينَ]

- ‌[فَصْلُ فِي شُمُولُ النُّصُوصِ وَإِغْنَاؤُهَا عَنْ الْقِيَاسِ]

- ‌[الْمَسْأَلَةُ الْمُشْتَرَكَةُ فِي الْفَرَائِضِ]

- ‌[الْمَسْأَلَةُ الْعُمَرِيَّةُ]

- ‌[فَصَلِّ مِيرَاثُ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ]

- ‌[فَصَلِّ مِيرَاثُ الْبَنَاتِ]

- ‌[فَصَلِّ مِيرَاثُ بِنْتِ الِابْنِ]

- ‌[فَصَلِّ مِيرَاثُ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ]

- ‌[فَصْلُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ شَيْءٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ الْحَوَالَةُ مُوَافِقَةٌ لِلْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ الْقَرْضُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ طَهَارَةُ الْخَمْرِ بِالِاسْتِحَالَةِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ الْوُضُوءُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ الْفِطْرُ بِالْحِجَامَةِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ التَّيَمُّمُ جَارٍ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ السَّلَمُ جَارٍ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ الْكِتَابَةُ تَجْرِي عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ بَيَانُ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

الفصل: وَقَوْلُهُ: " فَمَا أَدْلَى إلَيْك " أَيْ مَا تَوَصَّلَ بِهِ

وَقَوْلُهُ: " فَمَا أَدْلَى إلَيْك " أَيْ مَا تَوَصَّلَ بِهِ إلَيْك مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي تَحْكُمُ بِهِ بَيْنَ الْخُصُومِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَدْلَى فُلَانٌ بِحُجَّتِهِ، وَأَدْلَى بِنَسَبِهِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188] أَيْ تُضِيفُوا ذَلِكَ إلَى الْحُكَّامِ وَتَتَوَصَّلُوا بِحُكْمِهِمْ إلَى أَكْلِهَا.

فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى لَقِيلَ: " وَتُدْلُوا بِالْحُكَّامِ إلَيْهَا " وَأَمَّا الْإِدْلَاءُ بِهَا إلَى الْحُكَّامِ فَهُوَ التَّوَصُّلُ بِالْبِرْطِيلِ بِهَا إلَيْهِمْ فَتَرْشُوا الْحَاكِمَ لِتَتَوَصَّلُوا بِرِشْوَتِهِ إلَى الْأَكْلِ بِالْبَاطِلِ.

قِيلَ: الْآيَةُ تَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا إدْلَاءٌ إلَى الْحُكَّامِ بِسَبَبِهَا، فَالنَّهْيُ عَنْهُمَا مَعًا

. وَقَوْلُهُ: " فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ لَا نَفَاذَ لَهُ " وِلَايَةُ الْحَقِّ: نُفُوذُهُ، فَإِذَا لَمْ يَنْفُذْ كَانَ ذَلِكَ عَزْلًا لَهُ عَنْ وِلَايَتِهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِي الْعَدْلِ الَّذِي فِي تَوَلِّيَتِهِ مَصَالِحُ الْعِبَادِ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، فَإِذَا عُزِلَ عَنْ وِلَايَتِهِ لَمْ يَنْفَعْ وَمُرَادُ عُمَرَ بِذَلِكَ التَّحْرِيضُ عَلَى تَنْفِيذِ الْحَقِّ إذَا فَهِمَهُ الْحَاكِمُ، وَلَا يَنْفَعُ تَكَلُّمُهُ بِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قُوَّةُ تَنْفِيذِهِ، فَهُوَ تَحْرِيضٌ مِنْهُ عَلَى الْعِلْمِ بِالْحَقِّ وَالْقُوَّةِ عَلَى تَنْفِيذِهِ، وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أُولِي الْقُوَّةِ فِي أَمْرِهِ وَالْبَصَائِرِ فِي دِينِهِ فَقَالَ:{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص: 45] فَالْأَيْدِي: الْقُوَى عَلَى تَنْفِيذِ أَمْرِ اللَّهِ، وَالْأَبْصَارُ: الْبَصَائِرُ فِي دِينِهِ.

[وَاجِبُ الْحَاكِمِ]

وَقَوْلُهُ: " وَآسِ النَّاسَ فِي مَجْلِسِك وَفِي وَجْهِك وَقَضَائِك حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِك وَلَا يَيْأَسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِك " إذَا عَدَلَ الْحَاكِمُ فِي هَذَا بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فَهُوَ عُنْوَانُ عَدْلِهِ فِي الْحُكُومَةِ؛ فَمَتَى خَصَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ أَوْ الْقِيَامِ لَهُ أَوْ بِصَدْرِ الْمَجْلِسِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ وَالْبَشَاشَةِ لَهُ وَالنَّظَرِ إلَيْهِ كَانَ عُنْوَانُ حَيْفِهِ وَظُلْمِهِ، وَقَدْ رَأَيْت فِي بَعْضِ التَّوَارِيخِ الْقَدِيمَةِ أَنَّ أَحَدَ قُضَاةِ الْعَدْلِ فِي بَنْيِ إسْرَائِيلَ أَوْصَاهُمْ إذَا دَفَنُوهُ أَنْ يَنْبُشُوا قَبْرَهُ بَعْدَ مُدَّةٍ فَيَنْظُرُوا هَلْ تَغَيَّرَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا، وَقَالَ: إنِّي لَمْ أُجِرْ قَطُّ فِي حُكْمٍ، وَلَمْ أُحَابِ فِيهِ، غَيْرَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيَّ خَصْمَانِ كَانَ أَحَدُهُمَا صِدِّيقًا لِي فَجَعَلْت أُصْغِي إلَيْهِ بِأُذُنِي أَكْثَرَ مِنْ إصْغَائِي إلَى الْآخَرِ، فَفَعَلُوا مَا أَوْصَاهُمْ بِهِ، فَرَأَوْا أُذُنَهُ قَدْ أَكَلَهَا التُّرَابُ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ جَسَدُهُ؛ وَفِي تَخْصِيصِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ بِمَجْلِسٍ أَوْ إقْبَالٍ أَوْ إكْرَامٍ مَفْسَدَتَانِ إحْدَاهُمَا: طَمَعُهُ فِي أَنْ تَكُونَ الْحُكُومَةُ لَهُ فَيَقْوَى قَلْبُهُ وَجِنَانُهُ، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْآخَرَ يَيْأَسُ مِنْ عَدْلِهِ، وَيَضْعُفُ قَلْبُهُ، وَتَنْكَسِرُ حُجَّتُهُ.

ص: 70

مَعْنَى الْبَيِّنَةِ]

وَقَوْلُهُ: " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ " الْبَيِّنَةُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ فَهِيَ أَعَمُّ مِنْ الْبَيِّنَةِ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، حَيْثُ خَصُّوهَا بِالشَّاهِدَيْنِ أَوْ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَلَا حَجْرَ فِي الِاصْطِلَاحِ مَا لَمْ يَتَضَمَّنْ حَمْلَ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَيْهِ فَيَقَعُ بِذَلِكَ الْغَلَطُ فِي فَهْمِ النُّصُوصِ وَحَمْلِهَا عَلَى غَيْرِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهَا وَقَدْ حَصَلَ بِذَلِكَ لِلْمُتَأَخِّرِينَ أَغْلَاطٌ شَدِيدَةٌ فِي فَهْمِ النُّصُوصِ، وَنَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ مِثَالًا وَاحِدًا، وَهُوَ مَا نَحْنُ فِيهِ لَفْظُ الْبَيِّنَةِ فَإِنَّهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25] وَقَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ - بِالْبَيِّنَاتِ} [النحل: 43 - 44] وَقَالَ: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4] وَقَالَ: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام: 57] وَقَالَ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} [هود: 17] وَقَالَ: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ} [فاطر: 40] وَقَالَ {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} [طه: 133] وَهَذَا كَثِيرٌ، لَمْ يَخْتَصَّ لَفْظُ الْبَيِّنَةِ بِالشَّاهِدَيْنِ، بَلْ وَلَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْكِتَابِ فِيهِمَا أَلْبَتَّةَ.

إذَا عُرِفَ هَذَا فَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «لِلْمُدَّعِي أَلَك بَيِّنَةٌ» وَقَوْلُ عُمَرَ " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي " وَإِنْ كَانَ هَذَا قَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا الْمُرَادُ بِهِ أَلِك مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ مِنْ شُهُودٍ أَوْ دَلَالَةٍ، فَإِنَّ الشَّارِعَ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ يَقْصِدُ ظُهُورَ الْحَقِّ بِمَا يُمْكِنُ ظُهُورُهُ بِهِ مِنْ الْبَيِّنَاتِ الَّتِي هِيَ أَدِلَّةٌ عَلَيْهِ وَشَوَاهِدُ لَهُ، وَلَا يَرُدُّ حَقًّا قَدْ ظَهَرَ بِدَلِيلِهِ أَبَدًا فَيُضَيِّعُ حُقُوقَ اللَّهِ وَعِبَادِهِ وَيُعَطِّلُهَا، وَلَا يَقِفْ ظُهُورُ الْحَقِّ عَلَى أَمْرٍ مُعَيَّنٍ لَا فَائِدَةَ فِي تَخْصِيصِهِ بِهِ مَعَ مُسَاوَاةِ غَيْرِهِ فِي ظُهُورِ الْحَقِّ أَوْ رُجْحَانِهِ عَلَيْهِ تَرْجِيحًا لَا يُمْكِنُ جَحْدُهُ وَدَفْعُهُ، كَتَرْجِيحِ شَاهِدِ الْحَالِ عَلَى مُجَرَّدِ الْيَدِ فِي صُورَةٍ مَنْ عَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ وَبِيَدِهِ عِمَامَةٌ وَآخَرُ خَلْفَهُ مَكْشُوفُ الرَّأْسِ يَعْدُو أَثَرَهُ، وَلَا عَادَةَ لَهُ بِكَشْفِ رَأْسِهِ، فَبَيِّنَةُ الْحَالِ وَدَلَالَتُهُ هُنَا تُفِيدُ مِنْ ظُهُورِ صِدْقِ الْمُدَّعِي أَضْعَافَ مَا يُفِيدُ مُجَرَّدَ الْيَدِ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ؛ فَالشَّارِعُ لَا يُهْمِلُ مِثْلَ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ وَالدَّلَالَةَ، وَيُضَيِّعُ حَقًّا يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ ظُهُورَهُ وَحُجَّتَهُ، بَلْ لَمَّا ظَنَّ هَذَا مَنْ ظَنَّهُ ضَيَّعُوا طَرِيقَ الْحُكْمِ، فَضَاعَ كَثِيرٌ مِنْ الْحُقُوقِ لِتَوَقُّفِ ثُبُوتِهَا عِنْدَهُمْ عَلَى طَرِيقٍ مُعَيَّنٍ، وَصَارَ الظَّالِمُ الْفَاجِرُ مُمَكَّنًا مِنْ ظُلْمِهِ وَفُجُورِهِ، فَيَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، وَيَقُولُ لَا يَقُومُ عَلَيَّ بِذَلِكَ شَاهِدَانِ اثْنَانِ، فَضَاعَتْ حُقُوقٌ كَثِيرَةٌ لِلَّهِ وَلِعِبَادِهِ، وَحِينَئِذٍ أَخْرَجَ اللَّهُ أَمْرَ الْحُكْمِ الْعِلْمِيِّ عَنْ أَيْدِيهِمْ، وَأَدْخَلَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْإِمَارَةِ وَالسِّيَاسَةِ مَا يَحْفَظُ بِهِ الْحَقَّ تَارَةً وَيَضِيعُ بِهِ أُخْرَى، وَيَحْصُلُ بِهِ الْعُدْوَانُ تَارَةً وَالْعَدْلُ أُخْرَى،

ص: 71