الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْمُرَادُ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ]
قُلْت: مُرَادُهُ وَمُرَادُ عَامَّةِ السَّلَفِ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ رَفْعُ الْحُكْمِ بِجُمْلَتِهِ تَارَةً وَهُوَ اصْطِلَاحُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَرَفْعُ دَلَالَةِ الْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ وَالظَّاهِرِ وَغَيْرِهَا تَارَةً، إمَّا بِتَخْصِيصٍ أَوْ تَقْيِيدٍ أَوْ حَمْلِ مُطْلَقٍ عَلَى مُقَيَّدٍ وَتَفْسِيرِهِ وَتَبْيِينِهِ حَتَّى إنَّهُمْ يُسَمُّونَ الِاسْتِثْنَاءَ وَالشَّرْطَ وَالصِّفَةَ نَسْخًا لِتَضَمُّنِ ذَلِكَ رَفْعَ دَلَالَةِ الظَّاهِرِ وَبَيَانَ الْمُرَادِ، فَالنَّسْخُ عِنْدَهُمْ وَفِي لِسَانِهِمْ هُوَ بَيَانُ الْمُرَادِ بِغَيْرِ ذَلِكَ اللَّفْظِ، بَلْ بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ، وَمَنْ تَأَمَّلَ كَلَامَهُمْ رَأَى مِنْ ذَلِكَ فِيهِ مَا لَا يُحْصَى، وَزَالَ عَنْهُ بِهِ إشْكَالَاتٌ أَوْجَبَهَا حَمْلُ كَلَامِهِمْ عَلَى الِاصْطِلَاحِ الْحَادِثِ الْمُتَأَخِّرِ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: قَالَ حُذَيْفَةُ: إنَّمَا يُفْتِي النَّاسَ أَحَدُ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٌ يَعْلَمُ نَاسِخَ الْقُرْآنِ وَمَنْسُوخَهُ، وَأَمِيرٌ لَا يَجِدُ بُدًّا، وَأَحْمَقُ مُتَكَلِّفٌ، قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: فَأَنَا لَسْت أَحَدُ هَذَيْنِ، وَأَرْجُو أَنْ لَا أَكُونَ أَحْمَقَ مُتَكَلِّفًا.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ " جَامِعِ فَضْلِ الْعِلْمِ ": حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ الْقَاسِمِ ثنا يَحْيَى بْنُ الرَّبِيعِ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ الْمِصِّيصِيُّ ثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ وَاقِدٍ ثنا الْمُطَّلِبُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ حُسَيْنٍ إمَامُنَا قَالَ: رَأَيْت أَبَا حَنِيفَةَ فِي النَّوْمِ، فَقُلْت: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك يَا أَبَا حَنِيفَةَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي، فَقُلْت لَهُ: بِالْعِلْمِ؟ فَقَالَ: مَا أَضَرَّ الْفُتْيَا عَلَى أَهْلِهَا، فَقُلْت: فَبِمَ؟ قَالَ: بِقَوْلِ النَّاسِ فِي مَا لَمْ يَعْلَمْ اللَّهُ أَنَّهُ مِنِّي، قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَالَ سَحْنُونٌ يَوْمًا: إنَّا لِلَّهِ، مَا أَشْقَى الْمُفْتِي وَالْحَاكِمِ، ثُمَّ قَالَ: هَا أَنَا ذَا يُتَعَلَّمُ مِنِّي مَا تُضْرَبُ بِهِ الرِّقَابُ وَتُوطَأُ بِهِ الْفُرُوجُ وَتُؤْخَذُ بِهِ الْحُقُوقُ، أَمَا كُنْت عَنْ هَذَا غَنِيًّا، قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْحَدَّادُ: الْقَاضِي أَيْسَرُ مَأْثَمًا وَأَقْرَبُ إلَى السَّلَامَةِ مِنْ الْفَقِيهِ - يُرِيدُ الْمُفْتِي؛ لِأَنَّ الْفَقِيهَ مِنْ شَأْنِهِ إصْدَارُ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ سَاعَتِهِ بِمَا حَصَرَهُ مِنْ الْقَوْلِ، وَالْقَاضِي شَأْنُهُ الْأَنَاةُ وَالتَّثَبُّتُ وَمَنْ تَأَنَّى وَتَثَبَّتَ تَهَيَّأَ لَهُ مِنْ الصَّوَابِ مَا لَا يَتَهَيَّأُ لِصَاحِبِ الْبَدِيهَةِ، انْتَهَى.
وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُفْتِي أَقْرَبُ إلَى السَّلَامَةِ مِنْ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ لَا يُلْزِمُ بِفَتْوَاهُ، وَإِنَّمَا يُخْبِرُ بِهَا مِنْ اسْتَفْتَاهُ، فَإِنْ شَاءَ قَبِلَ قَوْلَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَأَمَّا الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُلْزِمُ بِقَوْلِهِ، فَيَشْتَرِك هُوَ وَالْمُفْتِي فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الْحُكْمِ، وَيَتَمَيَّزُ الْقَاضِي بِالْإِلْزَامِ وَالْقَضَاءِ؛ فَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ خَطَرُهُ أَشَدُّ
[خَطَرُ تَوَلِّي الْقَضَاءِ]
وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْقَاضِي مِنْ الْوَعِيدِ وَالتَّخْوِيفِ مَا لَمْ يَأْتِ نَظِيرُهُ فِي الْمُفْتِي، كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا ذُكِرَ عِنْدَهَا الْقُضَاةُ فَقَالَتْ: سَمِعْت
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يُؤْتَى بِالْقَاضِي الْعَدْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَلْقَى مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ مَا يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي تَمْرَةٍ قَطُّ» وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ يَرْفَعُهُ: «مَا مِنْ حَاكِمٍ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ إلَّا وُكِّلَ بِهِ مَلَكٌ آخِذٌ بِقَفَاهُ حَتَّى يَقِفَ بِهِ عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ، فَيَرْفَعَ رَأْسَهُ إلَى اللَّهِ فَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْذِفَهُ قَذَفَهُ فِي مَهْوَى أَرْبَعِينَ خَرِيفًا» وَفِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ، اثْنَانِ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ: رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ قَضَى بَيْنَ النَّاسِ بِالْجَهْلِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فَهُوَ فِي النَّارِ» .
وَقَالَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: وَيْلٌ لِدَيَّانِ مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنْ دَيَّانِ مَنْ فِي السَّمَاءِ، يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ، إلَّا مَنْ أَمَرَ بِالْعَدْلِ، وَقَضَى بِالْحَقِّ، وَلَمْ يَقْضِ عَلَى هَوًى، وَلَا عَلَى قَرَابَةٍ، وَلَا عَلَى رَغَبٍ وَلَا رَهَبٍ، وَجَعَلَ كِتَابَ اللَّهِ مِرْآةً بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ طَلَبَ قَضَاءَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَنَالَهُ ثُمَّ غَلَبَ عَدْلُهُ جَوْرَهُ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ غَلَبَ جَوْرُهُ عَدْلَهُ فَلَهُ النَّارُ» وَفِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُ مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يَجُرْ، فَإِذَا جَارَ بَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ وَلَزِمَهُ الشَّيْطَانُ» وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنِ الْمُعَلِّمِ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يَجُرْ، فَإِذَا جَارَ وَكَّلَهُ إلَى نَفْسِهِ» .
وَفِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَعَّدَ قَاضِيًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» وَفِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَيْلٌ لِلْأُمَرَاءِ، وَوَيْلٌ لِلْعُرَفَاءِ، وَوَيْلٌ لِلْأُمَنَاءِ، لَيَتَمَنَّيَنَّ أَقْوَامٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ نَوَاصِيَهُمْ كَانَتْ مُعَلَّقَةً بِالثُّرَيَّا يَتَجَلْجَلُونَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَلُوا عَمَلًا» .
[الْوَعِيدُ عَلَى الْإِفْتَاءِ]
وَأَمَّا الْمُفْتِي فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمِ بْنِ يَسَّارٍ قَالَ: سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ بَيْتًا فِي جَهَنَّمَ، وَمَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ وَمَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ بِأَمْرٍ يَعْلَمُ الرُّشْدَ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ خَانَهُ» فَكُلُّ خَطَرٍ عَلَى الْمُفْتِي فَهُوَ عَلَى الْقَاضِي، وَعَلَيْهِ مِنْ زِيَادَةِ الْخَطَرِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ، وَلَكِنْ خَطَرُ الْمُفْتِي أَعْظَمُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى؛ فَإِنَّ فَتْوَاهُ شَرِيعَةٌ عَامَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَفْتِي وَغَيْرِهِ وَأَمَّا الْحَاكِمُ فَحُكْمُهُ جُزْئِيٌّ خَاصٌّ لَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَلَهُ؛ فَالْمُفْتِي يُفْتِي حُكْمًا عَامًّا كُلِّيًّا أَنَّ مَنْ فَعَلَ كَذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ كَذَا، وَمَنْ قَالَ كَذَا لَزِمَهُ كَذَا، وَالْقَاضِي