الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالنِّزَاعُ فِي الْأُخْتِ لِلْأَبِ مَعَ الْأُخْتِ أَوْ الْأَخَوَاتِ لِلْأَبَوَيْنِ كَبِنْتِ الِابْنِ مَعَ الْبِنْتِ وَالْبَنَاتِ سَوَاءٌ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
[فَصَلِّ مِيرَاثُ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ]
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مِيرَاثُ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ لِقَوْلِ الصِّدِّيقِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ كَأَبِي مُوسَى وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْهُمْ رضي الله عنهم، وَوَجْهُ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَوْله تَعَالَى:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] إلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَلَمْ يَجْعَلْ لِلْإِخْوَةِ مِيرَاثًا إلَّا فِي الْكَلَالَةِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْكَلَالَةِ، وَالْكِتَابُ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ الصِّدِّيقِ أَنَّهَا مَا عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ، فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - قَالَ فِي مِيرَاثِ وَلَدِ الْأُمِّ:{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] فَسَوَّى بَيْنَ مِيرَاثِ الْإِخْوَةِ فِي الْكَلَالَةِ، وَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمْ فِي جِهَةِ الْإِرْثِ وَمِقْدَارِهِ، فَإِذَا كَانَ وُجُودُ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ لَا يُدْخِلُهُمْ فِي الْكَلَالَةِ، بَلْ يَمْنَعُهُمْ مِنْ صِدْقِ اسْمِ الْكَلَالَةِ عَلَى الْمَيِّتِ أَوْ عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى الْقَرَابَةِ، فَكَيْفَ أُدْخِلَ وَلَدُ الْأَبِ فِي الْكَلَالَةِ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ وُجُودُهُ صِدْقَ اسْمِهَا؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا تَفْرِيقٌ مَحْضٌ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ؟
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ يَمْنَعُ الْإِخْوَةَ مِنْ الْمِيرَاثِ، وَيُخْرِجُ الْمَسْأَلَةَ عَنْ كَوْنِهَا كَلَالَةً، لِدُخُولِهِ فِي قَوْلِهِ:{لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] وَنِسْبَةُ أَبِ الْأَبِ إلَى الْمَيِّتِ كَنِسْبَةِ وَلَدِ وَلَدِهِ إلَيْهِ، فَكَمَا أَنَّ الْوَلَدَ وَإِنْ نَزَلَ يُخْرِجُ الْمَسْأَلَةَ عَنْ الْكَلَالَةِ فَكَذَلِكَ أَبُ الْأَبِ وَإِنْ عَلَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا أَلْبَتَّةَ.
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: [وَهُوَ] أَنَّ نِسْبَةَ الْإِخْوَةِ إلَى الْجَدِّ كَنِسْبَةِ الْأَعْمَامِ إلَى أَبِي الْجَدِّ، فَإِنَّ الْأَخَ ابْنُ الْأَبِ وَالْعَمَّ ابْنُ الْجَدِّ، فَإِذَا خَلَّفَ عَمَّهُ وَأَبَا جَدِّهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ خَلَّفَ أَخَاهُ وَجَدَّهُ سَوَاءٌ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَقْدِيمِ أَبِ الْجَدِّ عَلَى الْعَمِّ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ تَقْدِيمُ الْجَدِّ عَلَى الْأَخِ، وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْقِيَاسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا قِيَاسًا جَلِيًّا فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا قِيَاسٌ جَلِيٌّ،
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّ نِسْبَةَ ابْنِ الْأَخِ إلَى الْأَخِ كَنِسْبَةِ أَبِ الْجَدِّ إلَى الْجَدِّ،
فَإِذَا قَالَ الْأَخُ: أَنَا أَرِثُ مَعَ الْجَدِّ لِأَنِّي ابْنُ أَبِ الْمَيِّتِ وَالْجَدُّ أَبُو أَبِيهِ فَكِلَانَا فِي الْقُرْبِ إلَيْهِ سَوَاءٌ، صَاحَ ابْنُ الْأَخِ مَعَ أَبِ الْجَدِّ وَقَالَ: أَنَا ابْنُ ابْنِ أَبِ الْمَيِّتِ فَكَيْف حَرَمْتُمُونِي مَعَ أَبِي أَبِي أَبِيهِ وَدَرَجَتُنَا وَاحِدَةٌ؟ وَكَيْف سَمِعْتُمْ قَوْلَ أَبِي مَعَ الْجَدِّ وَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلِي مَعَ أَبِي الْجَدِّ؟ فَإِنْ قِيلَ: أَبُو الْجَدِّ جَدٌّ وَإِنْ عَلَا، وَلَيْسَ ابْنُ الْأَخِ أَخًا.
قِيلَ: فَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ أَبُو الْأَبِ أَبًا، وَ [أَبُو] الْجَدِّ جَدًّا، فَمَا لِلْإِخْوَةِ مِيرَاثٌ مَعَ الْأَبِ بِحَالٍ.
فَإِنْ قُلْتُمْ: نَحْنُ نَجْعَلُ أَبَا الْجَدِّ جَدًّا، وَلَا نَجْعَلُ أَبَا الْأَبِ أَبًا.
قِيلَ: هَكَذَا فَعَلْتُمْ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَتَنَاقَضْتُمْ أَبْيَنَ تَنَاقُضٍ، وَجَعَلْتُمُوهُ أَبًا فِي مَوْضِعٍ وَأَخْرَجْتُمُوهُ عَنْ الْأُبُوَّةِ فِي مَوْضِعٍ.
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْخَامِسُ: وَهُوَ أَنَّ نِسْبَةَ الْجَدِّ إلَى الْأَبِ فِي الْعَمُودِ الْأَعْلَى كَنِسْبَةِ ابْنِ الِابْنِ إلَى الِابْنِ فِي الْعَمُودِ الْأَسْفَلِ، فَهَذَا أَبُو أَبِيهِ، وَهَذَا ابْنُ ابْنِهِ، فَهَذَا يُدْلِي إلَى الْمَيِّتِ بِأَبِ الْمَيِّتِ، وَهَذَا يُدْلِي إلَيْهِ بِابْنِهِ، فَكَمَا كَانَ ابْنُ الِابْنِ ابْنًا فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَبُو الْأَبِ أَبًا، فَهَذَا هُوَ الِاعْتِبَارُ الصَّحِيحُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدٌ؟ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا وَلَا يَجْعَلُ أَبَا الْأَبِ أَبًا؟
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ السَّادِسُ: [وَهُوَ] أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - سَمَّى الْجَدَّ أَبًا فِي قَوْلِهِ: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] وَقَوْلِهِ: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27] وَقَوْلِهِ: {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} [الشعراء: 76] وَقَوْلِ يُوسُفَ: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38] وَفِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ «هَذَا أَبُوكَ آدَم وَهَذَا أَبُوكَ إبْرَاهِيمُ» «وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْيَهُودِ مَنْ أَبُوكُمْ؟ قَالُوا: فُلَانٌ، قَالَ: كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ قَالُوا: صَدَقْتَ» .
وَسَمَّى ابْنَ الِابْنِ ابْنًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] وَ: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 40] وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «ارْمُوا بَنِي إسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا» وَالْأُبُوَّةُ وَالْبُنُوَّةُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَلَازِمَةِ الْمُتَضَايِفَةِ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ أَحَدِهِمَا بِدُونِ الْآخَرِ، فَيَمْتَنِعُ ثُبُوتُ الْبُنُوَّةِ لِابْنِ الِابْنِ إلَّا مَعَ ثُبُوتِ الْأُبُوَّةِ لِأَبِ الْأَبِ.
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ السَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّ الْجَدَّ لَوْ مَاتَ وَرِثَهُ بَنُو بَنِيهِ دُونَ إخْوَتِهِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ، فَهَكَذَا الْأَبُ إذَا مَاتَ يَرِثُهُ أَبُو أَبِيهِ دُونَ إخْوَتِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ لِزَيْدٍ: كَيْف يَرِثُنِي أَوْلَادُ
عَبْدِ اللَّهِ دُونَ إخْوَتِي وَلَا أَرِثُهُمْ دُونَ إخْوَتِهِمْ؟ ، فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ وَالْمِيزَانُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا مَغْمَزَ فِيهِ وَلَا تَطْفِيفَ.
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّامِنُ: [وَهُوَ] أَنَّ قَاعِدَةَ الْفَرَائِضِ وَأُصُولَهَا إذَا كَانَ قَرَابَةُ الْمُدْلِي مِنْ الْوَاسِطَةِ مِنْ جِنْسِ قَرَابَةِ الْوَاسِطَةِ كَانَ أَقْوَى مِمَّا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْقَرَابَتَيْنِ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَيِّتَ يُدْلِي إلَيْهِ ابْنُهُ بِقَرَابَةِ الْبُنُوَّةِ، وَأَبُوهُ يُدْلِي إلَيْهِ بِقَرَابَةِ الْأُبُوَّةِ، فَإِذَا أَدْلَى إلَيْهِ وَاحِدٌ بِبُنُوَّةِ الْبُنُوَّةِ وَإِنْ بَعُدَتْ كَانَ أَقْوَى مِمَّنْ يُدْلِي إلَيْهِ بِقَرَابَةِ بُنُوَّةِ الْأُبُوَّةِ وَإِنْ قَرُبَتْ، فَكَذَلِكَ قَرَابَةُ أُبُوَّةِ الْأُبُوَّةِ وَإِنْ عَلَتْ أَقْوَى مِنْ قَرَابَةِ بُنُوَّةِ الْأَبِ وَإِنْ قَرُبَتْ، وَقَدْ ظَهَرَ اعْتِبَارُ هَذَا فِي تَقْدِيمِ جَدِّ الْجَدِّ وَإِنْ عَلَا عَلَى ابْنِ الْأَخِ وَإِنْ قَرُبَ وَعَلَى الْعَمِّ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ الَّتِي يُدْلِي بِهَا الْجَدُّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهِيَ الْأُبُوَّةُ، وَالْقَرَابَةُ الَّتِي يُدْلِي بِهَا الْأَخُ وَبَنُوهُ مِنْ جِنْسَيْنِ وَهِيَ بُنُوَّةُ الْأُبُوَّةِ، وَلِهَذَا قُدِّمَتْ قَرَابَةُ ابْنِ الْأَخِ عَلَى قَرَابَةِ ابْنِ الْجَدِّ؛ لِأَنَّهَا قَرَابَةُ بُنُوَّةِ أَبٍ، وَتِلْكَ قَرَابَةُ بُنُوَّةِ أَبِي أَبٍ، فَبَيْنَ ابْنِ الْأَخِ فِيهَا وَبَيْنَ الْمَيِّتِ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَهِيَ الْأُخُوَّةُ، فَبِوَاسِطَتِهَا وَصَلَ إلَيْهِ، بِخِلَافِ الْعَمِّ فَإِنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ جِنْسَيْنِ أَحَدُهُمَا الْأُبُوَّةُ وَالثَّانِي بُنُوَّتُهَا، وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ بِنَاءُ بَابِ الْعَصَبَاتِ.
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ التَّاسِعُ: وَهُوَ أَنَّ كُلَّ بَنِي أَبٍ أَدْنَى وَإِنْ بَعُدُوا عَنْ الْمَيِّتِ يُقَدَّمُونَ فِي التَّعْصِيبِ عَلَى بَنِي الْأَبِ الْأَعْلَى وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى الْمَيِّتِ، فَابْنُ ابْنِ ابْنِ الْأَخِ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَمِّ الْقَرِيبِ، وَابْنُ ابْنِ ابْنِ الْعَمِّ وَإِنْ نَزَلَ يُقَدَّمُ عَلَى عَمِّ الْأَبِ، وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ يَقُومُ أَقْصَاهُ مَقَامَ أَدْنَاهُ، وَيُقَدَّمُ الْأَقْصَى عَلَى مَنْ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ الْأَدْنَى، فَيُقَدَّمُ ابْنُ ابْنِ الِابْنِ عَلَى مَنْ يُقَدَّمُ الْعَمَّ، فَمَا بَالُ أَبِ الْأَبِ وَحْدَهُ خَرَجَ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَلَمْ يُقَدَّمْ عَلَى مَنْ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ الْأَبُ؟
وَبِهَذَا يَظْهَرُ بُطْلَانُ تَمْثِيلِ الْأَخِ وَالْجَدِّ بِالشَّجَرَةِ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا غُصْنَانِ وَالنَّهْرِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ سَاقِيَتَانِ، فَإِنَّ الْقَرَابَةَ الَّتِي مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَقْوَى مِنْ الْقَرَابَةِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ جِنْسَيْنِ، وَهَذِهِ الْقَرَابَةُ الْبَسِيطَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى تِلْكَ الْمُرَكَّبَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالِاعْتِبَارِ الصَّحِيحِ، ثُمَّ قِيَاسُ الْقَرَابَةِ عَلَى الْقَرَابَةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مِثْلِهَا أَوْلَى مِنْ قِيَاسِ قَرَابَةِ الْآدَمِيِّينَ عَلَى الْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ مِمَّا لَيْسَ فِي الْأَصْلِ حُكْمًا شَرْعِيًّا، ثُمَّ نَقُولُ: بَلْ النَّهْرُ الْأَعْلَى أَوْلَى بِالْجَدْوَلِ مِنْ الْجَدْوَلِ الَّتِي اُشْتُقَّ مِنْهُ، وَأَصْلُ الشَّجَرَةِ أَوْلَى بِغُصْنِهَا مِنْ الْغُصْنِ الْآخَرِ، فَإِنَّ هَذَا صِنْوُهُ وَنَظِيرُهُ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَذَلِكَ أَصْلُهُ وَحَامِلُهُ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَاحْتِيَاجُ الشَّيْءِ إلَى أَصْلِهِ أَقْوَى مِنْ احْتِيَاجِهِ إلَى نَظِيرِهِ، فَأَصْلُهُ أَوْلَى بِهِ مِنْ نَظِيرِهِ.
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: [وَهُوَ] أَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَوَجَبَ طَرْدُهُ، وَلَمَا
اُنْتُقِضَ، فَإِنَّ طَرْدَهُ تَقْدِيمُ الْإِخْوَةِ عَلَى الْجَدِّ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى بُطْلَانِ طَرْدِهِ عُلِمَ أَنَّهُ فَاسِدٌ فِي نَفْسِهِ.
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: [وَهُوَ] أَنَّ الْجَدَّ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ فِي التَّعْصِيبِ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِهِ، وَيُقَدَّمُ عَلَى كُلِّ عَصَبَةٍ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ الْأَبُ، فَمَا الَّذِي أَوْجَبَ اسْتِثْنَاءَ الْإِخْوَةِ خَاصَّةً مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ؟
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ: [وَهُوَ] أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُوجِبُ لِاسْتِثْنَائِهِمْ قُوَّتَهُمْ وَجَبَ تَقْدِيمُهُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُسَاوَاتُهُمْ لَهُ فِي الْقُرْبِ وَجَبَ اعْتِبَارُهَا فِي بَنِيهِمْ وَآبَائِهِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي السَّبَبِ الَّذِي اشْتَرَكَ فِيهِ هُوَ وَالْإِخْوَةُ، وَهَذَا مَا لَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْهُ.
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ: وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ الْأَخَ لَا يُسَاوِي الْجَدَّ، فَإِنَّ لَهُمْ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: تَوْرِيثُهُ مَعَهُ، وَالْمُوَرِّثُونَ لَا يَجْعَلُونَهُ كَأَخٍ مُطْلَقًا، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يُقَاسِمُ بِهِ الْإِخْوَةَ إلَى الثُّلُثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاسِمُهُمْ بِهِ إلَى السُّدُسِ، فَإِنْ نَقَصَتْهُ الْمُقَاسَمَةُ عَنْ ذَلِكَ أَعْطَوْهُ إيَّاهُ فَرْضًا وَأَدْخَلُوا النَّقْصَ عَلَيْهِمْ أَوْ حَرَمُوهُمْ، كَزَوْجٍ وَأُمٍّ وَجَدٍّ وَأَخٍ، فَلَوْ كَانَ الْأَخُ مُسَاوِيًا لِلْجَدِّ وَأَوْلَى مِنْهُ كَمَا ادَّعَى الْمُوَرِّثُونَ أَنَّهُ الْقِيَاسُ لَسَاوَاهُ فِي هَذَا السُّدُسِ وَقُدِّمَ عَلَيْهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْجَدَّ أَقْوَى، وَحِينَئِذٍ فَقَدْ اجْتَمَعَ عَصَبَتَانِ وَأَحَدُهُمَا أَقْوَى مِنْ الْآخَرِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ.
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: [وَهُوَ] أَنَّ الْمُوَرِّثِينَ لِلْإِخْوَةِ لَمْ يَقُولُوا فِي التَّوْرِيثِ قَوْلًا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ مَعَ تَنَاقُضِهِمْ.
وَأَمَّا الْمُقَدِّمُونَ لَهُ عَلَى الْإِخْوَةِ فَهُمْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَعَدَمِ التَّنَاقُضِ، فَإِنَّ مِنْ الْمُوَرِّثِينَ مَنْ يُزَاحِمُ بِهِ إلَى الثُّلُثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُزَاحِمُ بِهِ إلَى السُّدُسِ، وَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَنْ يَكُونُ عَصَبَةً يُقَاسِمُ عَصَبَةَ نَظِيرِهِ إلَى حَدٍّ ثُمَّ يُفْرَضُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْحَدِّ، فَلَمْ يَجْعَلُوهُ مَعَهُمْ عَصَبَةً مُطْلَقًا، وَلَا ذَا فَرْضٍ مُطْلَقًا، وَلَا قَدَّمُوهُ عَلَيْهِمْ مُطْلَقًا، وَلَا سَاوَوْهُ بِهِمْ مُطْلَقًا، ثُمَّ فَرَضُوا لَهُ سُدُسًا أَوْ ثُلُثًا بِغَيْرِ نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ ثُمَّ حَسَبُوا عَلَيْهِ الْإِخْوَةَ مِنْ الْأَبِ وَلَمْ يُعْطُوهُمْ شَيْئًا إذَا كَانَ هُنَاكَ إخْوَةٌ لِأَبَوَيْنِ، ثُمَّ جَعَلُوا الْأَخَوَاتِ مَعَهُ عَصَبَةً إلَّا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ فَرَضُوا فِيهَا لِلْأُخْتِ، ثُمَّ لَمْ يُهَنُّوهَا بِمَا فَرَضُوا لَهَا، بَلْ عَادُوا عَلَيْهَا بِالْإِبْطَالِ فَأَخَذُوهُ وَأَخَذُوا مَا أَصَابَهُ فَقَسَمُوهُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، ثُمَّ أَعَالُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ خَاصَّةً مِنْ مَسَائِلِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ، وَلَمْ يُعِيلُوا غَيْرَهَا، ثُمَّ رَدُّوهَا بَعْدَ الْعَوْلِ إلَى التَّعْصِيبِ وَسَلَّمَ الْمُقَدِّمُونَ لَهُ عَلَى الْإِخْوَةِ مِنْ هَذَا كُلِّهِ مَعَ فَوْزِهِمْ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ وَدُخُولِهِمْ فِي حِزْبِ الصِّدِّيقِ.
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ: [وَهُوَ] أَنَّ الصِّدِّيقَ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي عَهْدِهِ أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِخْوَةِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي بَابِ مِيرَاثِ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ: وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ: الْجَدُّ أَبٌ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26]{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38] وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ أَحَدًا خَالَفَ أَبَا بَكْرٍ فِي زَمَانِهِ، وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُتَوَافِرُونَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَرِثُنِي ابْنُ ابْنِي دُونَ إخْوَتِي وَلَا أَرِثُ أَنَا ابْنَ ابْنِي؟ ، وَيُذْكَرُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَقَاوِيلُ مُخْتَلِفَةٌ، انْتَهَى.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: ثنا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يُحَدِّثُ «أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ إنَّ الَّذِي قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ سِوَى اللَّهِ لَاِتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا» كَانَ يَجْعَلُ الْجَدَّ أَبًا.
وَقَالَ الدَّارِمِيُّ فِي صَحِيحِهِ: ثنا سَالِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ثنا وُهَيْبٍ ثنا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «قَالَ: جَعَلَهُ الَّذِي قَالَ: لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاِتَّخَذْتُهُ خَلِيلًا وَلَكِنَّ أُخُوَّةَ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ» يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ جَعَلَهُ أَبًا، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: لَقِيتُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَبِي مُوسَى أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّ الْجَدَّ لَا يَنْزِلُ فِيكُمْ مَنْزِلَةَ الْأَبِ وَأَنْتَ لَا تُنْكِرُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَوْ كُنْتَ أَنْتَ لَمْ تُنْكِرْ، قَالَ مَرْوَانُ فَأَنَا أَشْهَدُ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ شَهِدَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ جَعَلَ الْجَدَّ أَبًا إذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهُ أَبٌ.
ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ثنا أَشْعَثُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: إنَّ الْجَدَّ قَدْ مَضَتْ فِيهِ سُنَّةٌ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ جَعَلَ الْجَدَّ أَبًا، وَلَكِنْ النَّاسُ تَحَيَّرُوا.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: ثنا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ مَرْوَانَ قَالَ لِي عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إنَّ عُمَرَ قَالَ لِي: إنِّي قَدْ رَأَيْتُ فِي الْجَدِّ رَأْيًا، فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تَتَّبِعُوهُ فَاتَّبِعُوهُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: إنْ نَتَّبِعْ رَأْيَكَ فَهُوَ رُشْدٌ، وَإِنْ نَتَّبِعْ رَأْيَ الشَّيْخِ قَبْلَكَ فَنِعْمَ ذُو الرَّأْيِ كَانَ، قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَجْعَلُهُ أَبًا وَالْمُوَرِّثُونَ لِلْإِخْوَةِ بَعْدَهُمْ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَابْنِ مَسْعُودٍ، فَأَمَّا عُمَرُ فَإِنَّ أَقْوَالَهُ اضْطَرَبَتْ فِيهِ، وَكَانَ قَدْ كَتَبَ كِتَابًا فِي مِيرَاثِهِ، فَلَمَّا طُعِنَ دَعَا بِهِ فَمَحَاهُ.
وَقَالَ الْخُشَنِيُّ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ حِينَ طُعِنَ: إنِّي لَمْ أَقْضِ فِي الْجَدِّ شَيْئًا.
وَقَالَ وَكِيعٌ: عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: مَاتَ ابْنٌ لِابْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَدَعَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَقَالَ: شَعِّبْ مَا كُنْتَ تُشَعِّبُ؛ لِأَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَوْلَى بِهِ مِنْهُمْ.
وَأَمَّا عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - فَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: عَنْ مَعْمَرٍ ثنا أَيُّوبُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ مُرَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَقَحَّمَ جَرَاثِيمَ جَهَنَّمَ فَلْيَقْضِ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ.
وَأَمَّا عُثْمَانُ وَابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ الْبَغَوِيّ: ثنا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ
أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ عُثْمَانَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَا: الْجَدُّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ.
فَهَذِهِ أَقْوَالُ الْمُوَرِّثِينَ كَمَا تَرَى قَدْ اخْتَلَفَتْ فِي أَصْلِ تَوْرِيثِهِمْ مَعَهُ، وَاضْطَرَبَتْ فِي كَيْفِيَّةِ التَّوْرِيثِ، وَخَالَفَتْ دَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، بِخِلَافِ قَوْلِ الصِّدِّيقِ وَمَنْ مَعَهُ.
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ: [وَهُوَ] أَنَّ النَّاسَ الْيَوْمَ قَائِلَانِ: قَائِلٌ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَقَائِلٌ بِقَوْلِ زَيْدٍ، وَلَكِنَّ قَوْلَ الصِّدِّيقِ هُوَ الصَّوَابُ وَقَوْلَ زَيْدٍ بِخِلَافِهِ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَعْصِيبَ الْجَدِّ لِلْأَخَوَاتِ وَهُوَ تَعْصِيبُ الرَّجُلِ جِنْسًا آخَرَ لَيْسُوا مِنْ جِنْسِهِ، وَهَذَا أَصْلٌ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ، إنَّمَا يُعْرَفُ فِي الشَّرِيعَةِ تَعْصِيبُ الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ إذَا كَانُوا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، وَلَا يُنْتَقَضُ هَذَا بِالْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ فَإِنَّ الرِّجَالَ لَمْ يُعَصِّبُوهُنَّ، وَإِنَّمَا عَصَّبَهُنَّ الْبَنَاتُ، وَلَمَّا كَانَ تَعْصِيبُ الْبَنِينَ أَقْوَى كَانَ الْمِيرَاثُ لَهُمْ دُونَ الْأَخَوَاتِ، بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ عَصَّبَ الْأَخَوَاتِ بِالْجَدِّ، فَإِنَّهُ عَصَّبَهُنَّ بِجِنْسٍ آخَرَ أَقْوَى تَعْصِيبًا مِنْهُنَّ، وَهَذَا لَا عَهْدَ بِهِ فِي الشَّرِيعَةِ أَلْبَتَّةَ.
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ: [وَهُوَ] أَنَّ الْجَدَّ وَالْإِخْوَةَ لَوْ اجْتَمَعُوا فِي التَّعْصِيبِ لَكَانُوا إمَّا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جِنْسَيْنِ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرُ الْبُطْلَانِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اخْتِلَافُ جِهَةِ التَّعْصِيبِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَاسْتَوَوْا فِي الْمِيرَاثِ وَالْحِرْمَانِ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ إذَا انْفَرَدُوا، وَهَذَا هُوَ التَّعْصِيبُ الْمَعْقُولُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَبُطْلَانُهُ أَظْهَرُ، إذْ قَاعِدَةُ الْفَرَائِضِ أَنَّ الْعَصَبَةَ لَا يَرِثُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا إذَا كَانُوا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ لَنَا عَصَبَةٌ مِنْ جِنْسَيْنِ يَرِثَانِ مُجْتَمِعَيْنِ قَطُّ، بَلْ هُوَ مُحَالٌ، فَإِنَّ الْعَصَبَةَ حِكْمَةٌ أَنْ يَأْخُذَ مَا بَقِيَ بَعْدَ الْفُرُوضِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا حُكْمَ هَذَا الْجِنْسِ وَجَبَ أَنْ يَأْخُذَ دُونَ الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ الْجِنْسُ الْآخَرُ فَيُفْضِي أَحَدُهُمَا إلَى حِرْمَانِهِمَا، وَاشْتِرَاكُهُمَا مُمْتَنِعٌ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا.
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّامِنَ عَشَرَ: [وَهُوَ] أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ وَفِي بَابِ سُقُوطِ الْقِصَاصِ، وَأَبٌ فِي بَابِ الْمَنْعِ مِنْ دَفْعِ الزَّكَاةِ إلَيْهِ، وَأَبٌ فِي بَابِ وُجُوبِ إعْتَاقِهِ عَلَى وَلَدِ وَلَدِهِ، وَأَبٌ فِي بَابِ سُقُوطِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَأَبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي بَابِ الْإِجْبَارِ فِي النِّكَاحِ، وَفِي بَابِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ، وَفِي بَابِ الْعِتْقِ بِالْمِلْكِ، وَفِي بَابِ الْإِجْبَارِ عَلَى النَّفَقَةِ، وَفِي بَابِ إسْلَامِ ابْنِ ابْنِهِ تَبَعًا لِإِسْلَامِهِ، وَأَبٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ فِي بَابِ الْمِيرَاثِ عِنْدَ عَدَمِ
الْأَبِ فَرْضًا وَتَعْصِيبًا فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَمَا الَّذِي أَخْرَجَهُ عَنْ أُبُوَّتِهِ فِي بَابِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ؟ فَإِنْ اعْتَبَرْنَا تِلْكَ الْأَبْوَابَ فَالْأَمْرُ فِي أُبُوَّتِهِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ظَاهِرٌ، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا بَابَ الْمِيرَاثِ فَالْأَمْرُ أَظْهَرُ وَأَظْهَرُ.
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ التَّاسِعَ عَشَرَ: [وَهُوَ] أَنَّ الَّذِينَ وَرَّثُوا الْإِخْوَةَ مَعَهُ إنَّمَا وَرَّثُوهُمْ لِمُسَاوَاةِ تَعْصِيبِهِ لِتَعْصِيبِهِمْ، ثُمَّ نَقَضُوا الْأَصْلَ: فَقَدَّمُوا تَعْصِيبَهُمْ عَلَى تَعْصِيبِهِ فِي بَابِ الْوَلَاءِ وَأَسْقَطُوهُ بِالْإِخْوَةِ لِقُوَّةِ تَعْصِيبِهِمْ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ نَقَضُوا ذَلِكَ أَيْضًا فَقَدَّمُوا الْجَدَّ عَلَيْهِمْ فِي بَابِ وِلَايَةِ النِّكَاحِ، وَأَسْقَطُوا تَعْصِيبَهُمْ بِتَعْصِيبِهِ، وَهَذَا غَايَةُ التَّنَاقُضِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الْقِيَاسِ لَا بِنَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ.
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ: وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» فَإِذَا خَلَّفَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا وَأُمَّهَا وَأَخَاهَا وَجَدَّهَا، فَإِنْ كَانَ الْأَخُ أَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْبَاقِي، وَإِنْ كَانَا سَوَاءً فِي الْأَوْلَوِيَّةِ وَجَبَ اشْتِرَاكُهُمَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْجَدُّ أَوْلَى وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ، وَإِذَا كَانَ الْجَدُّ أَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ وَجَبَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْبَاقِي بِالنَّصِّ، وَهَذَا الْوَجْهُ كَافٍ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَلَيْسَ الْقَصْدُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِعَيْنِهَا، بَلْ بَيَانَ دَلَالَةِ النَّصِّ وَالِاكْتِفَاءَ بِهِ عَمَّا عَدَاهُ، وَأَنَّ الْقِيَاسَ شَاهِدٌ وَتَابِعٌ، لَا أَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ فِي إثْبَاتِ حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ لَمْ تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ.
وَمِنْ ذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» عَنْ إثْبَاتِ التَّحْرِيمِ بِالْقِيَاسِ فِي الِاسْمِ أَوْ فِي الْحُكْمِ كَمَا فَعَلَهُ مَنْ لَمْ يُحْسِنْ الِاسْتِدْلَالَ بِالنَّصِّ.
وَمِنْ ذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] عَنْ إثْبَاتِ قَطْعِ النَّبَّاشِ بِالْقِيَاسِ اسْمًا أَوْ حُكْمًا، إذْ السَّارِقُ يَعْنِي فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَعُرْفِ الشَّارِعِ سَارِقَ ثِيَابِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ.
وَمِنْ ذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] فِي تَنَاوُلِهِ لِكُلِّ يَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ يَحْلِفُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ، مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ - سُبْحَانَهُ - فِي قَوْلِهِ:{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ كُلَّ يَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ فَهَذَا كَفَّارَتُهَا، وَقَدْ أَدْخَلَتْ الصَّحَابَةُ فِي هَذَا النَّصِّ الْحَلِفَ بِالْتِزَامِ الْوَاجِبَاتِ وَالْحَلِفَ بِأَحَبِّ الْقَرَابَاتِ الْمَالِيَّةِ إلَى اللَّهِ وَهُوَ الْعِتْقُ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ سُنَّةٍ مِنْهُمْ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْ بَقِيَّتِهِمْ، وَأَدْخَلَتْ فِيهِ الْحَلِفَ بِالْبَغِيضِ إلَى اللَّهِ وَهُوَ الطَّلَاقُ كَمَا