الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِي مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا تَرَى، وَكُنْتَ أَهْوَنَ الثَّلَاثَةِ عَلَيَّ، وَكُنْتُ لَكَ مُضَيِّعًا، وَفِيكَ زَاهِدًا، فَمَا عِنْدَكَ؟ قَالَ: عِنْدِي أَبِي قَرِينُكَ وَحَلِيفُكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَدْخُلُ مَعَكَ قَبْرَكَ حِين تَدْخُلُهُ، وَأَخْرُجُ مِنْهُ حِينَ تَخْرُجُ مِنْهُ، وَلَا أُفَارِقُكَ أَبَدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَذَا مَالُهُ وَأَهْلُهُ وَعَمَلُهُ، أَمَّا الْأَوَّلُ الَّذِي قَالَ خُذْنِي زَادًا فَمَالُهُ، وَالثَّانِي أَهْلُهُ، وَالثَّالِثُ عَمَلُهُ» .
وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا بِسِيَاقِ آخَرَ مِنْ حَدِيثِ أُبَيٍّ أَيْضًا، وَلَفْظُهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمًا لِأَصْحَابِهِ أَتَدْرُونَ مَا مَثَلُ أَحَدِكُمْ وَمَثَلُ مَالِهِ وَأَهْلِهِ وَعَمَلِهِ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ: إنَّمَا مَثَلُ أَحَدِكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَعَمَلِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ لَهُ ثَلَاثَةُ إخْوَةٍ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَعَا بَعْضَ إخْوَتِهِ فَقَالَ: إنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِي مِنْ الْأَمْرِ مَا تَرَى، فَمَالِي عِنْدَكَ؟ وَمَا لَدَيْكَ؟ فَقَالَ: لَكَ عِنْدِي أَنْ أُمْرِضَكَ وَلَا أُزَايِلَكَ، وَأَنْ أَقُومَ بِشَأْنِكَ، فَإِذَا مِتَّ غَسَّلْتُكَ وَكَفَّنْتُكَ وَحَمَلْتُكَ مَعَ الْحَامِلِينَ، أَحْمِلُكَ طَوْرًا وَأُمِيطُ عَنْكَ طَوْرًا، فَإِذَا رَجَعْتُ أَثْنَيْتُ عَلَيْكَ بِخَيْرٍ هُنَا عِنْدَ مَنْ يَسْأَلُنِي عَنْكَ، هَذَا أَخُوهُ الَّذِي هُوَ أَهْلُهُ، فَمَا تَرَوْنَهُ؟ قَالُوا: لَا نَسْمَعُ طَائِلًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ يَقُولُ لِلْأَخِ الْآخَرِ: أَتَرَى مَا قَدْ نَزَلَ بِي؟ فَمَالِي لَدَيْكَ؟ وَمَالِي عِنْدَكَ؟ فَيَقُولُ: لَيْسَ عِنْدِي غَنَاءٌ إلَّا وَأَنْتَ فِي الْأَحْيَاءِ، فَإِذَا مِتَّ ذَهَبَ بِكَ مَذْهَبٌ وَذَهَبَ بِي مَذْهَبٌ، هَذَا أَخُوهُ الَّذِي هُوَ مَالُهُ، كَيْف تَرَوْنَهُ؟ قَالُوا: لَا نَسْمَعُ طَائِلًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ يَقُولُ لِأَخِيهِ الْآخَرِ: أَتَرَى مَا قَدْ نَزَلَ بِي وَمَا رَدَّ عَلَيَّ أَهْلِي وَمَالِي؟ فَمَالِي عِنْدَكَ؟ وَمَا لِي لَدَيْكَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكَ فِي لَحْدِكَ، وَأَنِيسُكَ فِي وَحْشَتِكَ، وَأَقْعُدُ يَوْمَ الْوَزْنِ فِي مِيزَانِكَ فَأُثَقِّلُ مِيزَانَكَ. هَذَا أَخُوهُ الَّذِي هُوَ عَمَلُهُ، كَيْفَ تَرَوْنَهُ؟ قَالُوا: خَيْرُ أَخٍ وَخَيْرُ صَاحِبٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَإِنَّ الْأَمْرَ هَكَذَا» .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ مَثَلُ صَاحِبِ الْمِسْكِ، إمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ يَبِيعَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَمَثَلُ جَلِيسِ السُّوءِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْكِيرِ، إنْ لَمْ يُصِبْكَ مِنْ شَرَرِهِ أَصَابَكَ مِنْ رِيحِهِ» ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:«مَثَلُ الْمُنْفِقِ وَالْبَخِيلِ مَثَلُ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ - أَوْ جُنَّتَانِ - مِنْ حَدِيدٍ مِنْ لَدُنْ ثَدْيِهِمَا إلَى تَرَاقِيِهِمَا، فَإِذَا أَرَادَ الْمُنْفِقُ أَنْ يُنْفِقَ سَبَغَتْ عَلَيْهِ حَتَّى يَجُرَّ بَنَانَهُ وَيَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَإِذَا أَرَادَ الْبَخِيلُ أَنْ يُنْفِقَ قُلِّصَتْ وَلَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَوْضِعَهَا فَهُوَ يُوَسِّعُهَا وَلَا تَتَّسِعُ» ، وَقَالَ:«مَثَلُ الَّذِينَ يَغْزُونَ مِنْ أُمَّتِي وَيَتَعَجَّلُونَ أُجُورَهُمْ كَمَثَلِ أُمِّ مُوسَى تُرْضِعُ وَلَدَهَا وَتَأْخُذُ أَجْرَهَا» .
[فَصْلٌ فَائِدَةُ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ]
قَالُوا: فَهَذِهِ وَأَمْثَالُهَا مِنْ الْأَمْثَالِ الَّتِي ضَرَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِتَقْرِيبِ الْمُرَادِ، وَتَفْهِيمِ الْمَعْنَى، وَإِيصَالِهِ إلَى ذِهْنِ السَّامِعِ، وَإِحْضَارِهِ فِي نَفْسِهِ بِصُورَةِ الْمِثَالِ الَّذِي مَثَّلَ بِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ
يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى تَعَقُّلِهِ وَفَهْمِهِ وَضَبْطِهِ وَاسْتِحْضَارِهِ لَهُ بِاسْتِحْضَارِ نَظِيرِهِ؛ فَإِنَّ النَّفْسَ تَأْنَسُ بِالنَّظَائِرِ وَالْأَشْبَاهِ الْأُنْسَ التَّامَّ، وَتَنْفِرُ مِنْ الْغُرْبَةِ وَالْوَحْدَةِ وَعَدَمِ النَّظِيرِ؛ فَفِي الْأَمْثَالِ مِنْ تَأْنِيسِ النَّفْسِ وَسُرْعَةِ قَبُولِهَا وَانْقِيَادِهَا لِمَا ضُرِبَ لَهَا مَثَلُهُ مِنْ الْحَقِّ أَمْرٌ لَا يَجْحَدُهُ أَحَدٌ، وَلَا يُنْكِرُهُ، وَكُلَّمَا ظَهَرَتْ لَهَا الْأَمْثَالُ ازْدَادَ الْمَعْنَى ظُهُورًا وَوُضُوحًا، فَالْأَمْثَالُ شَوَاهِدُ الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَمُزَكِّيَةٌ لَهُ، فَهِيَ {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح: 29] ، وَهِيَ خَاصَّةُ الْعَقْلِ وَلُبُّهُ وَثَمَرَتُهُ.
[فَرْقٌ بَيْنَ الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ]
وَلَكِنْ أَيْنَ فِي الْأَمْثَالِ الَّتِي ضَرَبَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَهِمْنَا أَنَّ الصَّدَاقَ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ أَوْ عَشَرَةٍ قِيَاسًا وَتَمْثِيلًا عَلَى أَقَلِّ مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ؟ هَذَا بِالْأَلْغَازِ وَالْأَحَاجِي أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِلْفَهْمِ، كَمَا قَالَ إمَامُ الْحَدِيثِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ فِي جَامِعِهِ الصَّحِيحِ: بَابُ مَنْ شَبَّهَ أَصْلًا مَعْلُومًا بِأَصْلٍ مُبَيَّنٍ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَهُمَا لِيُفْهِمَ السَّامِعَ، فَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ هَذِهِ الْأَمْثَالَ الَّتِي ضَرَبَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا نَجْهَلُ مَا أُرِيدَ بِهَا، وَإِنَّمَا نُنْكِرُ أَنْ يُسْتَفَادَ وُجُوبُ الدَّمِ عَلَى مَنْ قَطَعَ مِنْ جَسَدِهِ أَوْ رَأْسِهِ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ أَوْ أَرْبَعَ مِنْ قَوْله تَعَالَى:{وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] ، وَأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ:«صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعٌ مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعٌ مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعٌ مِنْ زَبِيبٍ» ، يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ أَعْطَى صَاعًا مِنْ إهْلِيلِجٍ جَازَ، وَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّمْثِيلِ وَالِاعْتِبَارِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم:«الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» ، يُسْتَفَادُ مِنْهُ وَمِنْ دَلَالَتِهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ الْوَلِيُّ بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي - وَهُوَ بِأَقْصَى الشَّرْقِ وَهِيَ بِأَقْصَى الْغَرْبِ - فَقَالَ: قَبِلْتُ هَذَا التَّزْوِيجَ وَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ جَاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَنَّهُ ابْنُهُ، وَقَدْ صَارَتْ فِرَاشًا بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ:" قَبِلْتُ هَذَا التَّزْوِيجَ " وَمَعَ هَذَا لَوْ كَانَتْ لَهُ سُرِّيَّةٌ يَطَؤُهَا لَيْلًا وَنَهَارًا لَمْ تَكُنْ فِرَاشًا لَهُ، وَلَوْ أَتَتْ بِوَلَدٍ لَمْ يَلْحَقْهُ نَسَبُهُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ وَيَسْتَلْحِقَهُ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَلْحِقْهُ فَلَيْسَ بِوَلَدِهِ.
وَأَيْنَ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ» ، أَنَّهُ لَوْ ضَرَبَهُ بِحَجَرِ الْمَنْجَنِيقِ أَوْ بُكُورِ الْحَدَّادِ أَوْ بِمَرَازِبِ الْحَدِيدِ الْعِظَامِ حَتَّى خَلَطَ دِمَاغَهُ بِلَحْمِهِ وَعَظْمِهِ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ شِبْهُ عَمْدٍ لَا يُوجِبُ قَوَدًا، وَأَيْنَ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ يَكُنْ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ» ، أَنَّ مِنْ عَقَدَ عَلَى أُمِّهِ أَوْ ابْنَتِهِ أَوْ أُخْتِهِ وَوَطِئَهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَأَنَّ هَذَا مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ
بِالشُّبُهَاتِ» ، فَهَذَا فِي مَعْنَى الشُّبْهَةِ الَّتِي تُدْرَأُ بِهَا الْحُدُودُ، وَهِيَ الشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ، أَوْ فِي الْفَاعِلِ، أَوْ فِي الِاعْتِقَادِ، وَلَوْ عَرَضَ هَذَا عَلَى فَهْمٍ مِنْ فَرْضٍ مِنْ الْعَالَمِينَ لَمْ يَفْهَمْهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَأَنَّ مَنْ يَطَأُ خَالَتَهُ أَوْ عَمَّتَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهَا خَالَتُهُ أَوْ عَمَّتُهُ، وَتَحْرِيمِ اللَّهِ لِذَلِكَ، وَيُفْهَمُ هَذَا مِنْ «، ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» ، وَأَضْعَافُ أَضْعَافِ هَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ يَنْحَصِرُ.
فَهَذَا التَّمْثِيلُ وَالتَّشْبِيهُ هُوَ الَّذِي نُنْكِرُهُ، وَنُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ دَلَالَةٌ عَلَى فَهْمِهِ بِوَجْهٍ مَا.
قَالُوا: وَمِنْ أَيْنَ يُفْهَمُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} [النحل: 66]، وَمِنْ قَوْلِهِ:{فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2] ، تَحْرِيمُ بَيْعِ الْكِشْكِ بِاللَّبَنِ، وَبَيْعِ الْخَلِّ بِالْعِنَبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ .
قَالُوا: وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] ، وَلَمْ يَقُلْ " إلَى قِيَاسَاتِكُمْ وَآرَائِكُمْ " وَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ أَرَاءَ الرِّجَالِ وَأَقْيِسَتَهَا حَاكِمَةً بَيْنَ الْأُمَّةِ أَبَدًا.
وَقَالُوا: وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] ، فَإِنَّمَا مَنَعَهُمْ مِنْ الْخِيَرَةِ عِنْدَ حُكْمِهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ، لَا عِنْدَ آرَاءِ الرِّجَالِ وَأَقْيِسَتِهِمْ وَظُنُونِهِمْ، وَقَدْ أَمَرَ - سُبْحَانَهُ - رَسُولَهُ بِاتِّبَاعِ مَا أَوْحَاهُ إلَيْهِ خَاصَّةً وَقَالَ:{إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50]، وَقَالَ:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]، وَقَالَ - تَعَالَى -:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، قَالُوا: فَدَلَّ هَذَا النَّصُّ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ مِنْ الدِّينِ فَهُوَ شَرْعُ غَيْرِهِ الْبَاطِلِ.
قَالُوا: وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَبِّهِ تبارك وتعالى أَنَّ كُلَّ مَا سَكَتَ عَنْ إيجَابِهِ أَوْ تَحْرِيمِهِ فَهُوَ عَفْوٌ عَفَا عَنْهُ لِعِبَادِهِ، يُبَاحُ إبَاحَةُ الْعَفْوِ؛ فَلَا يَجُوزُ تَحْرِيمُهُ وَلَا إيجَابُهُ قِيَاسًا عَلَى مَا أَوْجَبَهُ أَوْ حَرَّمَهُ بِجَامِعٍ بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ رَفْعَ هَذَا الْقِسْمِ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِلْغَاءَهُ؛ إذْ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحَرَّمِ شَبَهٌ وَوَصْفٌ جَامِعٌ، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَاجِبِ، فَلَوْ جَازَ إلْحَاقُهُ بِهِ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قِسْمٌ قَدْ عُفِيَ عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ مَا سَكَتَ عَنْهُ قَدْ عَفَا عَنْهُ، بَلْ يَكُونُ مَا سَكَتَ عَنْهُ قَدْ حَرَّمَهُ قِيَاسًا عَلَى مَا حَرَّمَهُ، وَهَذَا لَا سَبِيلَ إلَى دَفْعِهِ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ تَحْرِيمُ مَا سَكَتَ عَنْهُ تَبْدِيلًا لِحُكْمِهِ، وَقَدْ ذَمَّ - تَعَالَى - مَنْ بَدَّلَ غَيْرَ الْقَوْلِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ؛ فَمَنْ بَدَّلَ غَيْرَ الْحُكْمِ
الَّذِي شَرَعَ لَهُ فَهُوَ أَوْلَى بِالذَّمِّ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ عَلَى النَّاسِ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» فَإِذَا كَانَ هَذَا فِيمَنْ تَسَبَّبَ إلَى تَحْرِيمِ الشَّارِعِ صَرِيحًا بِمَسْأَلَتِهِ عَنْ حُكْمِ مَا سَكَتَ عَنْهُ، فَكَيْفَ بِمَنْ حَرَّمَ السُّكُوتَ عَنْهُ بِقِيَاسِهِ وَبِرَأْيِهِ؟ .
يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ لَمَّا كَانَ عَفْوًا عَفَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ عَنْهُ، وَكَانَ الْبَحْثُ عَنْهُ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ اللَّهِ إيَّاهُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُقْتَضَى التَّحْرِيمِ، لَا لِمُجَرَّدِ السُّؤَالِ عَنْ حُكْمِهِ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ عَفَا عَنْ ذَلِكَ وَسَامَحَ بِهِ عِبَادَهُ كَمَا يَعْفُو عَمَّا فِيهِ مَفْسَدَةٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ؛ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ ذِكْرِ لَفْظٍ عَامٍّ يُحَرِّمُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَفْوٌ عَنْهُ، فَمَنْ حَرَّمَهُ بِسُؤَالِهِ عَنْ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَقِيَاسِهِ عَلَى الْمُحَرَّمِ بِالنَّصِّ كَانَ أَدْخَلَ فِي الذَّمِّ مِمَّنْ سَأَلَهُ عَنْ حُكْمِهِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ فَحَرُمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ، بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَبْحَثَ عَنْهُ، وَلَا يَسْأَلَ عَنْ حُكْمِهِ، اكْتِفَاءً بِسُكُوتِ اللَّهِ عَنْ عَفْوِهِ عَنْهُ؛ فَهَكَذَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُحَرِّمَ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ بِغَيْرِ النَّصِّ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ أَصْلَهُ الَّذِي يُلْحَقُ بِهِ.
قَالُوا: وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا كِتَابُ اللَّهِ حَيْثُ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة: 101]{قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة: 102] ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «، ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوهُ مِنْ السُّؤَالِ مَا تَرَكَهُمْ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ، فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ أَنْ نَتْرُكَهُ صلى الله عليه وسلم وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ، فَلَا نَقُولَ لَهُ: لِمَ حَرَّمَتْ كَذَا؟ لِنُلْحِقَ بِهِ مَا سَكَتَ عَنْهُ، بَلْ هَذَا أَبْلَغُ فِي الْمَعْصِيَةِ مِنْ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ حُكْمِ شَيْءٍ لَمْ يَحْكُمْ فِيهِ، فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ وَاضِحٌ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ «وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» ، فَجَعَلَ الْأُمُورَ ثَلَاثَةً، لَا رَابِعَ لَهَا: مَأْمُورٌ بِهِ، فَالْفَرْضُ عَلَيْهِمْ فِعْلُهُ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَالْفَرْضُ عَلَيْهِمْ اجْتِنَابُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمَسْكُوتٌ عَنْهُ؛ فَلَا يُتَعَرَّضُ لِلسُّؤَالِ وَالتَّفْتِيشِ عَنْهُ. وَهَذَا حُكْمٌ لَا يَخْتَصُّ بِحَيَاتِهِ فَقَطْ، وَلَا يَخُصُّ الصَّحَابَةَ دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ، بَلْ فُرِضَ عَلَيْنَا نَحْنُ امْتِثَالُ أَمْرِهِ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ، وَتَرْكُ الْبَحْثِ وَالتَّفْتِيشِ عَمَّا سَكَتَ عَنْهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ التَّرْكُ جَهْلًا وَتَجْهِيلًا لِحُكْمِهِ، بَلْ إثْبَاتٌ لِحُكْمِ الْعَفْوِ
وَهُوَ الْإِبَاحَةُ الْعَامَّةُ وَرَفْعُ الْحَرَجِ عَنْ فَاعِلِهِ، فَقَدْ اسْتَوْعَبَ الْحَدِيثُ أَقْسَامَ الدِّينِ كُلَّهَا، فَإِنَّهَا إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا حَرَامٌ وَإِمَّا مُبَاحٌ؛ وَالْمَكْرُوهُ وَالْمُسْتَحَبُّ فَرْعَانِ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ خَارِجَيْنِ عَنْ الْمُبَاحِ؛ وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18]{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] ، فَوَكَلَ بَيَانَهُ إلَيْهِ - سُبْحَانَهُ - لَا إلَى الْقَيَّاسِينَ والأرائيين، وَقَالَ - تَعَالَى -:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]، فَقَسَّمَ الْحُكْمَ إلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٍ أَذِنَ فِيهِ وَهُوَ الْحَقُّ وَقِسْمٍ اُفْتُرِيَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، فَأَيْنَ أَذِنَ لَنَا أَنْ نَقِيسَ الْبَلُّوطَ عَلَى التَّمْرِ فِي جَرَيَانِ الرِّبَا فِيهِ؟ وَأَنْ نَقِيسَ الْقَصْدِيرَ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْخَرْدَلَ عَلَى الْبُرِّ؟ فَإِنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَّانَا بِهَذَا فَسَمْعًا وَطَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِلَّا فَإِنَّا قَائِلُونَ لِمُنَازِعِينَا:{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} [الأنعام: 144] فَمَا لَمْ تَأْتِنَا بِهِ وَصِيَّةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ عَيْنُ الْبَاطِلِ، وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ بِرَدِّ مَا تَنَازَعْنَا فِيهِ إلَيْهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَلَمْ يُبِحْ لَنَا قَطُّ أَنْ نَرُدَّ ذَلِكَ إلَى رَأْيٍ وَلَا قِيَاسٍ وَلَا تَقْلِيدِ إمَامٍ وَلَا مَنَامٍ وَلَا كُشُوفٍ وَلَا إلْهَامٍ وَلَا حَدِيثِ قَلْبٍ وَلَا اسْتِحْسَانٍ وَلَا مَعْقُولٍ وَلَا شَرِيعَةِ الدِّيوَانِ وَلَا سِيَاسَةِ الْمُلُوكِ، وَلَا عَوَائِدِ النَّاسِ الَّتِي لَيْسَ عَلَى شَرَائِعِ الْمُسْلِمِينَ أَضَرُّ مِنْهَا، فَكُلُّ هَذِهِ طَوَاغِيتُ، مَنْ تَحَاكَمَ إلَيْهَا أَوْ دَعَا مُنَازِعَهُ إلَى التَّحَاكُمِ إلَيْهَا فَقَدْ حَاكَمَ إلَى الطَّاغُوتِ.
وَقَالَ - تَعَالَى -: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74]، قَالُوا: وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ حَقَّ التَّأَمُّلِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا نَصٌّ عَلَى إبْطَالِ الْقِيَاسِ وَتَحْرِيمِهِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ كُلَّهُ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ لِلدَّيْنِ، وَتَمْثِيلُ مَا لَا نَصَّ فِيهِ بِمَا فِيهِ نَصٌّ، وَمَنْ مَثَّلَ مَا لَمْ يَنُصَّ اللَّهُ عَلَى تَحْرِيمِهِ أَوْ إيجَابِهِ بِمَا حَرَّمَهُ أَوْ أَوْجَبَهُ فَقَدْ ضَرَبَ لِلَّهِ الْأَمْثَالَ، وَلَوْ عَلِمَ - سُبْحَانَهُ - أَنَّ الَّذِي سَكَتَ عَنْهُ مِثْلُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ لَأَعْلَمَنَا بِهِ، وَلَمَا أَغْفَلَهُ - سُبْحَانَهُ - {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] ، وَلْيُبَيِّنْ لَنَا مَا نَتَّقِي كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِذَلِكَ إذْ يَقُولُ - سُبْحَانَهُ -:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] وَلَمَّا وَكَلَهُ إلَى آرَائِنَا وَمَقَايِيسِنَا الَّتِي يَنْقُضُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَهَذَا يَقِيسُ مَا يَذْهَبُ إلَيْهِ عَلَى مَا يَزْعُمُ أَنَّهُ نَظِيرُهُ فَيَجِيءُ مُنَازِعُهُ فَيَقِيسُ ضِدَّ قِيَاسِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَيُبْدِي مِنْ الْوَصْفِ الْجَامِعِ مِثْلَ مَا أَبْدَاهُ مُنَازِعُوهُ أَوْ أَظْهَرَ مِنْهُ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسَانِ مَعًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، فَلَيْسَا مِنْ عِنْدِهِ، وَهَذَا وَحْدَهُ كَافٍ فِي إبْطَالِ الْقِيَاسِ.
وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، وَقَالَ:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ، فَكُلُّ مَا بَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَنْ رَبِّهِ - سُبْحَانَهُ - بَيَّنَهُ بِأَمْرِهِ وَإِذْنِهِ، وَقَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا وُقُوعَ كُلِّ اسْمٍ فِي اللُّغَةِ عَلَى مُسَمَّاهُ فِيهَا، وَأَنَّ
اسْمَ الْبُرِّ لَا يَتَنَاوَلُ الْخَرْدَلَ، وَاسْمَ التَّمْرِ لَا يَتَنَاوَلُ الْبَلُّوطَ، وَاسْمَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْقَصْدِيرَ، وَأَنَّ تَقْدِيرَ نِصَابِ السَّرِقَةِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ تَقْدِيرُ الْمَهْرِ، وَأَنَّ تَحْرِيمَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ الطَّيِّبَ عِنْدَ اللَّهِ حَيًّا وَمَيِّتًا إذَا مَاتَ صَارَ نَجَسًا خَبِيثًا، وَأَنَّ هَذَا عَنْ الْبَيَانِ الَّذِي وَلَّاهُ اللَّهُ رَسُولَهُ وَبَعَثَهُ بِهِ أَبْعَدَ شَيْءٍ وَأَشَدَّهُ مُنَافَاةً لَهُ، فَلَيْسَ هُوَ مِمَّا بُعِثَ بِهِ الرَّسُولُ قَطْعًا، فَلَيْسَ إذًا مِنْ الدِّينِ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «، مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ شَرِّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ» ، وَلَوْ كَانَ الرَّأْيُ وَالْقِيَاسُ خَيْرًا لَهُمْ لَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ، وَأَرْشَدَهُمْ إلَيْهِ، وَلَقَالَ لَهُمْ: إذَا أَوْجَبْتُ عَلَيْكُمْ شَيْئًا أَوْ حَرَّمْتُهُ فَقِيسُوا عَلَيْهِ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَصْفٌ جَامِعٌ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ، أَوْ قَالَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يَسْتَلْزِمُهُ، وَلَمَا حَذَّرَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْحَذَرِ كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ -، وَقَدْ أَحْكَمَ اللِّسَانُ كُلَّ اسْمٍ عَلَى مُسَمَّاهُ لَا عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْعَرَبِيَّةِ الَّتِي يَفْهَمُهَا الْعَرَبُ مِنْ لِسَانِهَا، فَإِذَا نَصَّ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ نَصَّ رَسُولُهُ عَلَى اسْمٍ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَعَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمًا مِنْ الْأَحْكَامِ وَجَبَ أَلَّا يُوقَعَ ذَلِكَ الْحُكْمُ إلَّا عَلَى مَا اقْتَضَاهُ ذَلِكَ الِاسْمُ، وَلَا يَتَعَدَّى بِهِ الْوَضْعَ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِيهِ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ شَيْءٌ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الِاسْمُ؛ فَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي الدِّينِ، وَالنَّقْصُ مِنْهُ نَقْصٌ فِي الدِّينِ؛ فَالْأَوَّلُ الْقِيَاسُ، وَالثَّانِي التَّخْصِيصُ الْبَاطِلُ، وَكِلَاهُمَا لَيْسَ مِنْ الدِّينِ، وَمَنْ لَمْ يَقِفْ مَعَ النُّصُوصِ فَإِنَّهُ تَارَةً يَزِيدُ فِي النَّصِّ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَيَقُولُ: هَذَا قِيَاسٌ، وَمَرَّةً يَنْقُصُ مِنْهُ بَعْضَ مَا يَقْتَضِيهِ وَيُخْرِجُهُ عَنْ حُكْمِهِ وَيَقُولُ: هَذَا تَخْصِيصٌ، وَمَرَّةً يَتْرُكُ النَّصَّ جُمْلَةً وَيَقُولُ: لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ، أَوْ يَقُولُ: هَذَا خِلَافُ الْقِيَاسِ، أَوْ خِلَافُ الْأُصُولِ.
قَالُوا: وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ مِنْ الدِّينِ لَكَانَ أَهْلُهُ أَتْبَعَ النَّاسِ لِلْأَحَادِيثِ، وَكَانَ كُلَّمَا تَوَغَّلَ فِيهِ الرَّجُلُ [فِيهِ] كَانَ أَشَدَّ اتِّبَاعًا لِلْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ.
قَالُوا: وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ كُلَّمَا اشْتَدَّ تَوَغُّلُ الرَّجُلِ فِيهِ اشْتَدَّتْ مُخَالَفَتُهُ لِلسُّنَنِ، وَلَا نَرَى خِلَافَ السُّنَنِ وَالْأُثَّارِ إلَّا عِنْدَ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، فَلِلَّهِ كَمْ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ صَرِيحَةٍ قَدْ عُطِّلَتْ بِهِ؟ ، وَكَمْ مِنْ أَثَرٍ دُرِسَ حُكْمُهُ بِسَبَبِهِ؟
فَالسُّنَنُ وَالْآثَارُ عِنْدَ والأرائيين وَالْقِيَاسِيِّينَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، مُعَطَّلَةٌ أَحْكَامُهَا، مَعْزُولَةٌ عَنْ سُلْطَانِهَا وَوِلَايَتِهَا، لَهَا الِاسْمُ وَلِغَيْرِهَا الْحُكْمُ، مِنْهَا السِّكَّةُ وَالْخُطْبَةُ وَلِغَيْرِهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَإِلَّا فَلِمَاذَا تُرِكَ حَدِيثُ الْعَرَايَا، وَحَدِيثُ قَسْمِ الِابْتِدَاءِ وَأَنَّ لِلزَّوْجَةِ حَقَّ الْعَقْدِ سَبْعَ لَيَالٍ إنْ كَانَتْ بِكْرًا وَثَلَاثًا إنْ كَانَتْ ثَيِّبًا ثُمَّ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَحَدِيثُ تَغْرِيبِ الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ.
وَحَدِيثُ الِاشْتِرَاطِ فِي الْحَجِّ وَجَوَازِ التَّحَلُّلِ
بِالشَّرْطِ، وَحَدِيثُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ، وَحَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَنَّ كَلَامَ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَحَدِيثُ دَفْعِ اللُّقَطَةِ إلَى مَنْ جَاءَ فَوَصَفَ وِعَاءَهَا وَوِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، وَحَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ، وَحَدِيثُ الْقُرْعَةِ بَيْنَ الْعَبِيدِ إذَا أُعْتِقُوا فِي الْمَرَضِ وَلَمْ يَحْمِلْهُمْ الثُّلُثُ، وَحَدِيثُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَحَدِيثُ إتْمَامِ الصَّوْمِ لِمَنْ أَكَلَ نَاسِيًا، وَحَدِيثُ إتْمَامِ صَلَاةِ الصُّبْحِ لِمَنْ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَقَدْ صَلَّى مِنْهَا رَكْعَةً، وَحَدِيثُ الصَّوْمِ عَنْ الْمَيِّتِ، وَحَدِيثُ الْحَجِّ عَنْ الْمَرِيضِ الْمَأْيُوسِ مِنْ بُرْئِهِ، وَحَدِيثُ الْحُكْمِ بِالْقَافَةِ.
وَحَدِيثُ مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، وَحَدِيثُ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ، وَحَدِيثُ الْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ مَعَ الْيَمِينِ، وَحَدِيثُ الْوَلَدِ لِلْفِرَاشِ إذَا كَانَ مِنْ أَمَةٍ وَهُوَ سَبَبُ الْحَدِيثِ، وَحَدِيثُ تَخْيِيرِ الْغُلَامِ بَيْنَ أَبَوَيْهِ إذَا افْتَرَقَا، وَحَدِيثُ قَطْعِ السَّارِقِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ وَحَدِيثُ رَجْمِ الْكِتَابِيَّيْنِ فِي الزِّنَا، وَحَدِيثُ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ أُمِرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ وَأَخْذِ مَالِهِ، وَحَدِيثُ " لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ "، وَحَدِيثُ " لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ "، وَحَدِيثُ " لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ ".
وَحَدِيثُ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا لَا سُكْنَى لَهَا وَلَا نَفَقَةَ، وَحَدِيثُ " أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا " وَحَدِيثُ أَصْدِقْهَا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ "، وَحَدِيثُ إبَاحَةِ لُحُومِ الْخَيْلِ، وَحَدِيثُ " كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ "، وَحَدِيثُ " لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ "، وَحَدِيثُ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَحَدِيثُ " ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ "، وَحَدِيثُ الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ تَخْلِيلِ الْخَمْرِ، وَحَدِيثُ قِسْمَةُ الْغَنِيمَةِ لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَلِلْفَارِسِ ثَلَاثَةٌ، وَحَدِيثُ " لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ "، وَأَحَادِيثُ حُرْمَةِ الْمَدِينَةِ، وَحَدِيثُ إشْعَارِ الْهَدْيِ، وَحَدِيثُ " إذَا لَمْ يَجِدْ الْمُحْرِمُ الْإِزَارَ فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ "، وَحَدِيثُ مَنْعِ الرَّجُلِ مِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ وَلَدِهِ عَلَى بَعْضٍ وَأَنَّهُ جَوْرٌ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ، وَحَدِيثُ " أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ "، وَحَدِيثُ الْقَسَامَةِ، وَحَدِيثُ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، وَأَحَادِيثُ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ.
وَحَدِيثُ الْأَمْرِ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ لِمَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ، وَحَدِيثُ " مَنْ دَخَلَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يُصَلِّي تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ "، وَحَدِيثُ الصَّلَاةِ عَلَى الْغَائِبِ، وَحَدِيثُ الْجَهْرِ بِآمِينَ فِي الصَّلَاةِ، وَحَدِيثُ جَوَازِ رُجُوعِ الْأَبِ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ وَلَا يَرْجِعُ غَيْرُهُ، وَحَدِيثُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَحَدِيثُ الْخُرُوجِ إلَى الْعِيدِ مِنْ الْغَدِ إذَا عَلِمَ بِالْعِيدِ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَحَدِيثُ نَضْحِ بَوْلِ الْغُلَامِ الَّذِي لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ، وَحَدِيثُ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ، وَحَدِيثُ مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ شَيْءٌ وَلَهُ نَفَقَتُهُ.
وَحَدِيثُ بَيْعِ جَابِرٍ بَعِيرَهُ وَاشْتِرَاطِ ظَهْرِهِ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ، وَحَدِيثُ لَا يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ، وَحَدِيثُ أَنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوُفُّوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجُ، وَحَدِيثُ مَنْ بَاعَ عَبْدًا
وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، وَحَدِيثُ إذَا أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ اخْتَارَ أَيَّتَهمَا شَاءَ، وَحَدِيثُ الْوِتْرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَحَدِيثُ كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ حَرَامٌ، وَحَدِيثُ مِنْ السُّنَّةِ وَضْعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ، وَحَدِيثُ لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ فِيهَا صُلْبَهُ مِنْ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ، وَأَحَادِيثُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَأَحَادِيثُ الِاسْتِفْتَاحِ.
وَحَدِيثُ كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَكْتَتَانِ فِي الصَّلَاةِ وَحَدِيثُ تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ، وَحَدِيثُ حَمْلِ الصِّبْيَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَحَادِيثُ الْقُرْعَةِ، وَأَحَادِيثُ الْعَقِيقَةِ، وَحَدِيثُ لَوْ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إذْنِكَ، وَحَدِيثُ أَيَدَعُ يَدَهُ فِي فِيكَ تَقْضِمُهَا كَمَا يَقْضِمُ الْفَحْلُ، وَحَدِيثُ إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ الذَّبْحِ بِالسِّنِّ وَالظُّفْرِ، وَحَدِيثُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ، وَحَدِيثُ الْمُحْرِمُ إذَا مَاتَ لَمْ يُخَمَّرْ رَأْسُهُ وَلَمْ يُقَرَّبْ طِيبًا، إلَى أَضْعَافِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي كَانَ تَرْكُهَا مِنْ أَجْلِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ؟ .
فَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ أَهْلُهُ أَتْبَعَ الْأُمَّةِ لِلْأَحَادِيثِ وَلَا حُفِظَ لَهُمْ تَرْكُ حَدِيثٍ وَاحِدٍ إلَّا لِنَصٍّ نَاسِخٍ لَهُ، فَحَيْثُ رَأَيْنَا كُلَّ مَنْ كَانَ أَشَدَّ تَوَغُّلًا فِي الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ كَانَ أَشَدَّ مُخَالَفَةً لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ عَلِمْنَا أَنَّ الْقِيَاسَ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ، وَأَنَّ شَيْئًا تُتْرَكُ لَهُ السُّنَنُ لَأَبْيَنُ شَيْءٍ مُنَافَاةً لِلدِّينِ، فَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَطَابَقَ السُّنَّةَ أَعْظَمَ مُطَابَقَةٍ، وَلَمْ يُخَالِفْ أَصْحَابُهُ حَدِيثًا وَاحِدًا مِنْهَا، وَلَكَانُوا أَسْعَدَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، فَلْيُرُوا أَهْلَ الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ حَدِيثًا وَاحِدًا صَحِيحًا قَدْ خَالَفُوهُ كَمَا أَرَيْنَاهُمْ آنِفًا مَا خَالَفُوهُ مِنْ السُّنَّةِ بِجَرِيرَةِ الْقِيَاسِ.
قَالُوا: وَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَلَيْنَا بَعْدَهُمْ أَنْ لَا نَقُولَ عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَقْيِسَةُ الْمُتَعَارِضَةُ الْمُتَنَاقِضَةُ الَّتِي يَنْقُضُ بَعْضُهَا بَعْضًا بِحَيْثُ لَا يَدْرِي النَّاظِرُ فِيهَا أَيُّهَا الصَّوَابُ حَقًّا لَكَانَتْ مُتَّفِقَةً يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا كَالسُّنَّةِ الَّتِي يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَقَالَ - تَعَالَى -:{وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [يونس: 82] ، لَا بِآرَائِنَا وَلَا مَقَايِيسِنَا، وَقَالَ:{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4] ، فَمَا لَمْ يَقُلْهُ - سُبْحَانَهُ - وَلَا هَدَى إلَيْهِ فَلَيْسَ مِنْ الْحَقِّ، وَقَالَ - تَعَالَى -:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50]، فَقَسَّمَ الْأُمُورَ إلَى قِسْمَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا: إتْبَاعٌ لِمَا دَعَا إلَيْهِ الرَّسُولُ، وَاتِّبَاعُ الْهَوَى.