الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَشْرَكَ بَيْنَهُمَا فِي الرَّأْيِ وَلَمْ يَرْضَ بِانْفِرَادِ أَحَدِهِمَا، وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَنْفِيذُ قَوْلِهِ وَامْتِثَالُ أَمْرِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَمَرَهُمَا بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وَهَذَا فَرْقٌ لَا تَأْثِيرَ لَهُ أَلْبَتَّةَ، بَلْ هُوَ بَاطِلٌ فَإِنَّ احْتِيَاجَ الطَّلَاقِ وَمُفَارَقَةَ الزَّوْجَةِ إلَى الرَّأْيِ وَالْخِبْرَةِ وَالْمُشَاوَرَةِ مِثْلُ احْتِيَاجِ الْخُلْعِ أَوْ أَعْظَمُ، وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - بِبَعْثِ الْحُكْمَيْنِ مَعًا، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالطَّلَاقِ، مَعَ أَنَّهُمَا وَكِيلَانِ عِنْدَ الْقِيَاسِيِّينَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمَا حُكْمَيْنِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدِهِمَا الِانْفِرَادَ، فَمَا بَالُ وَكِيلَيْ الزَّوْجِ لِأَحَدِهِمَا الِانْفِرَادُ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا خُرُوجٌ عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ وَمُوجَبِ النَّصِّ؟
وَقُلْتُمْ: لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ " طَلِّقِي نَفْسَكِ " ثُمَّ نَهَاهَا فِي الْمَجْلِسِ ثُمَّ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ ثُمَّ نَهَاهُ فِي الْمَجْلِسِ ثُمَّ طَلَّقَ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ: فَخَرَجْتُمْ عَنْ مُوجَبِ الْقِيَاسِ، وَفَرَّقْتُمْ بِأَنَّ قَوْلَهُ لَهَا تَمْلِيكٌ وَقَوْلَهُ لِلْأَجْنَبِيِّ تَوْكِيلٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بُطْلَانُ هَذَا الْفَرْقِ قَرِيبًا.
وَقُلْتُمْ: لَوْ وَصَّى إلَى عَبْدِ غَيْرِهِ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ وَإِنْ أَجَازَ سَيِّدُهُ، وَلَوْ وَكَّلَ عَبْدَ غَيْرِهِ فَالْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ وَإِنْ رَدَّهَا السَّيِّدُ وَلَكِنْ تُكْرَهُ بِدُونِ إذْنِهِ، وَقُلْتُمْ: إذَا أَوْصَى بِأَنْ يَعْتِقَ عَنْهُ عَبْدًا بِعَيْنِهِ فَأَعْتَقَهُ الْوَارِثُ عَنْ نَفْسِهِ وَقَعَ عَنْ الْمَيِّتِ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْوَصِيُّ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا عَنْ الْمَيِّتِ، وَفَرَّقْتُمْ بِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَارِثِ بِحَقِّ الْمِلْكِ فَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ وَإِنْ خَالَفَ الْمُوصِي، وَتَصَرَّفَ الْوَصِيُّ بِحَقِّ الْوَكَالَةِ فَلَا يَصِحُّ فِيمَا خَالَفَ الْمُوصِي، وَهَذَا فَرْقٌ لَا يَصِحُّ، فَإِنَّ تَعْيِينَ الْمُوصِي لِلْعِتْقِ فِي هَذَا الْعَبْدِ قَطَعَ مِلْكَ الْوَارِثِ لَهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَوْصَى إلَى أَجْنَبِيٍّ بِعِتْقِهِ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ مِنْ التَّرِكَةِ مَا زَادَ عَلَى الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ اللَّازِمَةِ.
وَقُلْتُمْ: لَوْ قَالَ: " ثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ " وَأَحَدُهُمَا مَيِّتٌ فَالثُّلُثُ كُلُّهُ لِلْحَيِّ وَلَوْ قَالَ: " بَيْنَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ " وَأَحَدُهُمَا مَيِّتٌ فَلِلْحَيِّ نِصْفُهُ، وَهَذَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ لَفْظًا وَمَعْنًى وَقَصْدًا، وَاقْتِضَاءُ الْوَاوِ لِلتَّشْرِيكِ كَاقْتِضَاءِ " بَيْنَ " وَلِهَذَا اسْتَوَيَا فِي الْإِقْرَارِ وَفِي اسْتِحْقَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ لَوْ كَانَا حَيَّيْنِ، وَقُلْتُمْ: لَوْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ الْمَالِ شَيْءٌ، ثُمَّ اكْتَسَبَ مَالًا فَالْوَصِيَّةُ لَازِمَةٌ فِي ثُلُثِهِ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ غَنَمِهِ وَلَا غَنَمَ لَهُ ثُمَّ اكْتَسَبَ غَنَمًا فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، فَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ، وَفَرَّقْتُمْ تَفْرِيقًا لَا تَأْثِيرَ لَهُ، وَلَا يَتَحَصَّلُ مِنْهُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ شَيْءٌ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ
[فَصْلٌ مَثَلٌ مِمَّا جَمَعَ فِيهِ الْقِيَاسِيُّونَ بَيْنَ الْمُتَفَرِّقَاتِ]
وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ مِنْ الْأَعْضَاءِ الطَّاهِرَةِ وَالْأَعْضَاءِ النَّجِسَةِ، فَنَجَّسْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي يُلَاقِي هَذِهِ وَهَذِهِ عِنْدَ رَفْعِ الْحَدَثِ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ مِنْ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ
فَقُلْتُمْ: يَصِحُّ أَحَدُهُمَا بِلَا نِيَّةٍ دُونَ الْآخَرِ، وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا مِنْ الشُّعُورِ وَالْأَعْضَاءِ فَنَجَّسْتُمْ كِلَيْهِمَا بِالْمَوْتِ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ فَنَجَّسْتُمْ مِنْهَا الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ دُونَ سَائِرِهَا، وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَهُوَ النَّاسِي وَالْعَامِدُ وَالْمُخْطِئُ وَالذَّاكِرُ وَالْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ، فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - فَرَّقَ بَيْنَهُمْ فِي الْإِثْمِ فَجَمَعْتُمْ بَيْنَهُمْ فِي الْحُكْمِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ، كَمَنْ صَلَّى بِالنَّجَاسَةِ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا.
وَكَمَنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا، وَكَمَنْ تَطَيَّبَ فِي إحْرَامِهِ أَوْ قَلَّمَ ظُفْرَهُ أَوْ حَلَقَ شَعْرَهُ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا فَسَوَّيْتُمْ بَيْنَهُمَا، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ مِنْ الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي فَأَوْجَبْتُمْ الْقَضَاءَ عَلَى مَنْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ جَاهِلًا بِبَقَاءِ النَّهَارِ دُونَ النَّاسِي، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ مِنْ عُقُودِ الْإِجَارَاتِ كَاسْتِئْجَارِ الرَّجُلِ لِطَحْنِ الْحَبِّ بِنِصْفِ كُرٍّ مِنْ دَقِيقٍ وَاسْتِئْجَارِهِ لِطَحْنِهِ بِنِصْفِ كُرٍّ مِنْهُ فَصَحَّحْتُمْ الْأَوَّلَ دُونَ الثَّانِيَ، مَعَ اسْتِوَائِهِمَا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ.
وَفَرَّقْتُمْ بِأَنَّ الْعَمَلَ فِي الْأَوَّلِ فِي الْعِوَضِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ بِهِ لَيْسَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ، وَفِي الثَّانِي الْعَمَلُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مُسْتَحَقًّا لَهُ وَعَلَيْهِ، وَهَذَا فَرْقٌ صُورِيٌّ لَا تَأْثِيرَ لَهُ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِوُجُودِهِ مَفْسَدَةٌ قَطُّ، لَا جَهَالَةَ وَلَا رِبَا وَلَا غَرَرَ وَلَا تَنَازُعَ وَلَا هِيَ مِمَّا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ بِوَجْهٍ، وَأَيُّ غَرَرٍ أَوْ مَفْسَدَةٍ أَوْ مَضَرَّةٍ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ غَزْلَهُ يَنْسِجُهُ ثَوْبًا بِرُبُعِهِ وَزَيْتُونَهُ يَعْصِرُهُ زَيْتًا بِرُبُعِهِ وَحَبَّهُ يَطْحَنُهُ بِرُبُعِهِ؟ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُمَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ إلَّا بِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ يَمْلِكُ عِوَضًا يَسْتَأْجِرُ بِهِ مَنْ يَعْمَلُ لَهُ ذَلِكَ، وَالْأَجِيرُ مُحْتَاجٌ إلَى جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَالْمُسْتَأْجِرُ مُحْتَاجٌ إلَى الْعَمَلِ، وَقَدْ تَرَاضَيَا بِذَلِكَ.
وَلَمْ يَأْتِ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ نَصٌّ يَمْنَعُهُ، وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ، وَلَا قَوْلُ صَاحِبٍ، وَلَا مَصْلَحَةٌ مُعْتَبَرَةٌ وَلَا مُرْسَلَةٌ، فَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ، وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ، فَقُلْتُمْ: لَوْ اشْتَرَى عِنَبًا لِيَعْصِرَهُ خَمْرًا أَوْ سِلَاحًا لِيَقْتُلَ بِهِ مُسْلِمًا وَنَحْوَ ذَلِكَ إنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ، وَهُوَ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ لِيَقْتُلَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَيُجَاهِدَ بِهِ فِي سَبِيلِهِ أَوْ اشْتَرَى عِنَبًا لِيَأْكُلَهُ، كِلَاهُمَا سَوَاءٌ فِي الصِّحَّةِ، وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ فَقُلْتُمْ: لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا لِيَتَّخِذَهَا كَنِيسَةً يُعْبَدَ فِيهَا الصَّلِيبُ وَالنَّارُ جَازَ لَهُ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَسْكُنَهَا، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ أَعْظَمَ مُنَاقَضَةٍ فَقُلْتُمْ: لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَتَّخِذَهَا مَسْجِدًا لَمْ تَصِحَّ الْإِجَارَةُ.
وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ فَقُلْتُمْ: لَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ لَمْ يَجُزْ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ اسْتِئْجَارِهِ بِطَعَامٍ مُسَمًّى وَثِيَابٍ مُعَيَّنَةٍ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يُؤَجِّرُ أَحَدُهُمْ نَفْسَهُ فِي السَّفَرِ وَالْغَزْوِ بِطَعَامِ بَطْنِهِ وَمَرْكُوبِهِ، وَهُمْ أَفْقَهُ الْأُمَّةِ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ مِنْ عَقْدَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَدْ صَرَّحَ الْمُتَعَاقِدَانِ فِيهِمَا بِالتَّرَاضِي، وَعَلِمَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - تَرَاضِيَهُمَا
وَالْحَاضِرُونَ.
فَقُلْتُمْ: هَذَا عَقْدٌ بَاطِلٌ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ وَلَا الْحِلَّ حَتَّى صَرَّحَا بِلَفْظِ بِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ، وَلَا يَكْفِيهِمَا أَنْ يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَا رَاضٍ بِهَذَا كُلَّ الرِّضَا، وَلَا قَدْ رَضِيتُ بِهَذَا عِوَضًا عَنْ هَذَا، مَعَ كَوْنِ هَذَا اللَّفْظِ أَدَلَّ عَلَى الرِّضَا الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - شَرْطًا لِلْحِلِّ مِنْ لَفْظِهِ بِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ، فَإِنَّهُ لَفْظٌ صَرِيحٌ فِيهِ، وَبِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِاللُّزُومِ، وَكَذَلِكَ عَقْدُ النِّكَاحِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَعَبَّدَنَا الشَّارِعُ فِيهَا بِأَلْفَاظٍ لَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا كَالْأَذَانِ وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ وَأَلْفَاظِ التَّشَهُّدِ وَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَغَيْرِهَا، بَلْ هَذِهِ الْعُقُودُ تَقَعُ مِنْ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَلَمْ يَتَعَبَّدْنَا الشَّارِعُ فِيهَا بِأَلْفَاظٍ مُعَيَّنَةٍ، فَلَا فَرْقَ أَصْلًا بَيْنَ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَبَيْنَ كُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهَا.
وَأَفْسَدُ مِنْ ذَلِكَ اشْتِرَاطُ الْعَرَبِيَّةِ مَعَ وُقُوعِ النِّكَاحِ مِنْ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَالتُّرْكِ وَالْبَرْبَرِ وَمَنْ لَا يَعْرِفُ كَلِمَةً عَرَبِيَّةً، وَالْعَجَبُ أَنَّكُمْ اشْتَرَطْتُمْ تَلَفُّظَهُ بِلَفْظٍ لَا يَدْرِي مَا مَعْنَاهُ أَلْبَتَّةَ وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ صَوْتٍ فِي الْهَوَاءِ فَارِغٍ لَا مَعْنَى تَحْتَهُ، فَعَقَدْتُمْ الْعَقْدَ بِهِ، وَأَبْطَلْتُمُوهُ بِتَلَفُّظِهِ بِاللَّفْظِ الَّذِي يَعْرِفُهُ وَيَفْهَمُ مَعْنَاهُ وَيُمَيِّزُ بَيْنَ مَعْنَاهُ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا مِنْ أَبْطَلْ الْقِيَاسِ، وَلَا يَقْتَضِي الْقِيَاسُ إلَّا ضِدَّ هَذَا، فَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ.
وَبِإِزَاءِ هَذَا الْقِيَاسِ مَنْ يُجَوِّزُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَيُجَوِّزُ انْعِقَادَ الصَّلَاةِ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ كَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَجَلَّ اللَّهُ، وَاَللَّهُ الْعَظِيمُ، وَنَحْوِهِ - عَرَبِيًّا كَانَ أَوْ فَارِسِيًّا وَيُجَوِّزُ إبْدَالَ لَفْظِ التَّشَهُّدِ بِمَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ جِنَايَاتِ الْآرَاءِ وَالْأَقْيِسَةِ، وَالصَّوَابُ اتِّبَاعُ أَلْفَاظِ الْعِبَادَاتِ، وَالْوُقُوفُ مَعَهَا، وَأَمَّا الْعُقُودُ وَالْمُعَامَلَاتُ فَإِنَّمَا يَتْبَعُ مَقَاصِدَهَا وَالْمُرَادُ مِنْهَا بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ، إذْ لَمْ يُشَرِّعْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَنَا التَّعَبُّدَ بِأَلْفَاظٍ مُعَيَّنَةٍ لَا نَتَعَدَّاهَا.
وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ مِنْ إيجَابِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لِلْمَبْتُوتَةِ وَجَعَلْتُمُوهَا كَالزَّوْجَةِ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَهُ مِنْ مُلَازَمَةِ الرَّجْعِيَّةِ الْمُعْتَدَّةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مَنْزِلَهُمَا حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى:{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] وَحَيْثُ «أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُتَوَفَّى عَنْهَا أَنْ تَمْكُثَ فِي بَيْتِهَا حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ» ، وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا مِنْ بَوْلِ الطِّفْلِ وَالطِّفْلَةِ الرَّضِيعَيْنِ فَقُلْتُمْ: يُغْسَلَانِ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَتْ السُّنَّةُ بَيْنَهُ مِنْ وُجُوبِ غَسْلِ قَلِيلِ الْبَوْلِ وَكَثِيرِهِ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَهُمَا مِنْ تَرْتِيبِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَتَرْتِيبِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، فَأَوْجَبْتُمْ الثَّانِيَ دُونَ الْأَوَّلِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا لَا فِي الْمَعْنَى وَلَا فِي النَّقْلِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمُبَيِّنُ عَنْ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ قَطُّ إلَّا مُرَتِّبًا وَلَا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمُرِهِ كَمَا لَمْ يُصَلِّ إلَّا مُرَتِّبًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِبَادَةَ الْمَنْكُوسَةَ لَيْسَتْ كَالْمُسْتَقِيمَةِ، وَيَكْفِي هَذَا الْوُضُوءَ اسْمُهُ وَهُوَ أَنَّهُ وُضُوءٌ مُنَكَّسٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ عِبَادَةً؟
وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ مِنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَرَفْعِ الْحَدَثِ فَسَوَّيْتُمْ بَيْنَهُمَا فِي صِحَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا مِنْ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ فَاشْتَرَطْتُمْ النِّيَّةَ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَتَفْرِيقُكُمْ بِأَنَّ الْمَاءَ يُطَهِّرُ بِطَبْعِهِ فَاسْتَغْنَى عَنْ النِّيَّةِ بِخِلَافِ التُّرَابِ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُطَهِّرًا إلَّا بِالنِّيَّةِ فَرْقٌ صَحِيحٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى إزَالَةِ النَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ مُزِيلٌ لَهَا بِطَبْعِهِ. وَأَمَّا رَفْعُ الْحَدَثِ فَإِنَّهُ لَيْسَ رَافِعًا لَهُ بِطَبْعِهِ، إذْ الْحَدَثُ لَيْسَ جِسْمًا مَحْسُوسًا يَرْفَعُهُ الْمَاءُ بِطَبْعِهِ بِخِلَافِ النَّجَاسَةِ، وَإِنَّمَا يَرْفَعُهُ بِالنِّيَّةِ، فَإِذَا لَمْ تُقَارِنْهُ النِّيَّةُ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ، فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْمَحْضُ.
وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ فَسَوَّيْتُمْ بَيْنَ بَدَنِ أَطْيَبِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُوَ وَلِيُّ اللَّهِ الْمُؤْمِنُ وَبَيْنَ بَدَنِ أَخْبَثِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُوَ عَدُوّهُ الْكَافِرُ، فَنَجَّسْتُمْ كِلَيْهِمَا بِالْمَوْتِ، ثُمَّ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ فَقُلْتُمْ: لَوْ غُسِّلَ الْمُسْلِمُ ثُمَّ وَقَعَ فِي مَاءٍ لَمْ يُنَجِّسْهُ، وَلَوْ غُسِّلَ الْكَافِرُ ثُمَّ وَقَعَ فِي مَاءٍ نَجَّسَهُ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ فِي الْفَرْقِ بِأَنَّ الْمُسْلِمَ إنَّمَا غُسِّلَ لِيُصَلَّى عَلَيْهِ فَطَهُرَ بِالْغُسْلِ لِاسْتِحَالَةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَهُوَ نَجِسٌ بِخِلَافِ الْكَافِرِ، وَهَذَا الْفَرْقُ يَنْقُضُ مَا أَصَّلْتُمُوهُ مِنْ أَنَّ النَّجَاسَةَ بِالْمَوْتِ نَجَاسَةٌ عَيْنِيَّةٌ فَلَا تَزُولُ بِالْغُسْلِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهَا قَائِمٌ وَهُوَ الْمَوْتُ، وَزَوَالُ الْحُكْمِ مَعَ بَقَاءِ سَبَبِهِ مُمْتَنِعٌ، فَأَيُّ الْقِيَاسَيْنِ هُوَ الْمُعْتَدُّ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَتْ السُّنَّةُ وَالْقِيَاسُ بَيْنَهُمَا فَقُلْتُمْ: لَوْ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَقَدْ صَلَّى مِنْ الصُّبْحِ رَكْعَةً بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَلَوْ غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَقَدْ صَلَّى مِنْ الْعَصْرِ رَكْعَةً صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَالسُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ قَدْ سَوَّتْ بَيْنَهُمَا، وَتَفْرِيقُكُمْ بِأَنَّهُ فِي الصُّبْحِ خَرَجَ مِنْ وَقْتٍ كَامِلٍ إلَى غَيْرِ وَقْتٍ كَامِلٍ فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَفِي الْعَصْرِ خَرَجَ مِنْ وَقْتٍ كَامِلٍ إلَى وَقْتٍ كَامِلٍ وَهُوَ وَقْتُ صَلَاةٍ فَافْتَرَقَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْقِيَاسِ إلَّا مُخَالَفَتُهُ لِصَرِيحِ السُّنَّةِ لَكَفَى فِي بُطْلَانِهِ، فَكَيْفَ وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ فِي نَفْسِهِ؟ ، فَإِنَّ الْوَقْتَ الَّذِي خَرَجَ إلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَيْسَ وَقْتَ الصَّلَاةِ الْأُولَى، فَهُوَ نَاقِصٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا، وَلَا يَنْفَعُ كَمَالُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّلَاةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا.
فَإِنْ قِيلَ: لَكِنَّهُ خَرَجَ إلَى وَقْتِ نَهْيٍ فِي الصُّبْحِ وَهُوَ وَقْتُ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلَمْ يَخْرُجْ إلَى وَقْتِ نَهْيٍ فِي الْمَغْرِبِ.
قِيلَ: هَذَا فَرْقٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَقْتِ نَهْيٍ عَنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا بَلْ هُوَ وَقْتُ أَمْرٍ بِإِتْمَامِهَا بِنَصِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ حَيْثُ يَقُولُ: «فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ» وَإِنْ كَانَ وَقْتَ نَهْيٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّطَوُّعِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمِيزَانَ الصَّحِيحَ مَعَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ فَقُلْتُمْ: الْمُخْتَلِعَةُ الْبَائِنَةُ الَّتِي قَدْ مَلَكَتْ نَفْسَهَا يَلْحَقُهَا
الطَّلَاقُ، فَسَوَّيْتُمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرَّجْعِيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ جَعَلَ هَذِهِ مُفْتَدِيَةً لِنَفْسِهَا مَالِكَةً لَهَا كَالْأَجْنَبِيَّةِ وَتِلْكَ زَوْجُهَا أَحَقُّ بِهَا، ثُمَّ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ، فَأَوْقَعْتُمْ عَلَيْهَا مُرْسَلَ الطَّلَاقِ دُونَ مُعَلَّقِهِ وَصَرِيحَهُ دُونَ كِنَايَتِهِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ مَلَّكَهُ اللَّهُ أَحَدَ الطَّلَاقَيْنِ مَلَّكَهُ الْآخَرَ، وَمَنْ لَمْ يُمَلِّكْهُ هَذَا لَمْ يُمَلِّكْهُ هَذَا.
وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ فَمَنَعْتُمْ مِنْ أَكْلِ الضَّبِّ وَقَدْ أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَنْظُرُ، وَقِيلَ لَهُ: أَحَرَامٌ هُوَ؟ فَقَالَ: لَا، فَقِسْتُمُوهُ عَلَى الْأَحْنَاشِ وَالْفِئْرَانِ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَتْ السُّنَّةُ بَيْنَهُ مِنْ لُحُومِ الْخَيْلِ الَّتِي أَكَلَهَا الصَّحَابَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ لُحُومِ الْإِبِلِ وَأَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا، فَجَمَعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَهُمَا فِي الْحِلِّ، وَفَرَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَ الضَّبِّ وَالْحَنَشِ فِي التَّحْرِيمِ، وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَتْ السُّنَّةُ بَيْنَهُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا حَيْثُ قَالَ:«تَوَضَّؤُا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ» فَقُلْتُمْ لَا نَتَوَضَّأُ لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَتْ الشَّرِيعَةُ بَيْنَهُ فَقُلْتُمْ فِي الْقَيْءِ: إنْ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ فَهُوَ حَدَثٌ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِحَدَثٍ، وَلَا يُعْرَفُ فِي الشَّرِيعَةِ شَيْءٌ يَكُونُ كَثِيرُهُ حَدَثًا دُونَ قَلِيلَةِ، وَأَمَّا النَّوْمُ فَلَيْسَ بِحَدَثٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مَظِنَّتُهُ، فَاعْتَبَرُوا مَا يَكُونُ مَظِنَّةً وَهُوَ الْكَثِيرُ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ فَقُلْتُمْ: لَوْ فَتَحَ عَلَى الْإِمَامِ فِي قِرَاءَتِهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَلَكِنْ تُكْرَهُ؛ لِأَنَّ فَتْحَهُ قِرَاءَةٌ مِنْهُ، وَالْقِرَاءَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ مَكْرُوهَةٌ، ثُمَّ قُلْتُمْ: فَلَوْ فَتَحَ عَلَى قَارِئٍ غَيْرِ إمَامِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ فَتْحَهُ عَلَيْهِ مُخَاطَبَةٌ لَهُ فَأَبْطَلَتْ الصَّلَاةَ، فَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْفَتْحَ إنْ كَانَ مُخَاطَبَةً فِي حَقِّ غَيْرِ الْإِمَامِ فَهُوَ مُخَاطَبَةٌ فِي حَقِّ الْإِمَامِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبَةً فِي حَقِّ الْإِمَامِ فَلَيْسَ بِمُخَاطَبَةٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَعْظَمَ مُنَاقَضَةً فَقُلْتُمْ: لَمَّا نَوَى الْفَتْحَ عَلَى غَيْرِ الْإِمَامِ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ قَارِئًا إلَى كَوْنِهِ مُخَاطِبًا بِالنِّيَّةِ، وَلَوْ نَوَى الرِّبَا الصَّرِيحَ وَالتَّحْلِيلَ الصَّرِيحَ وَإِسْقَاطَ الزَّكَاةِ بِالتَّمْلِيكِ الَّذِي اتَّخَذَهُ حِيلَةً لَمْ يَكُنْ مُرَابِيًا وَلَا مُسْقِطًا لِلزَّكَاةِ وَلَا مُحَلِّلًا بِهَذِهِ النِّيَّةِ.
فَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ، كَيْفَ أَثَّرَتْ نِيَّةُ الْفَتْحِ وَالْإِحْسَانِ عَلَى الْقَارِئِ وَأَخْرَجَتْهُ عَنْ كَوْنِهِ قَارِئًا إلَى كَوْنِهِ مُخَاطِبًا وَلَمْ تُؤَثِّرْ نِيَّةُ الرِّبَا وَالتَّحْلِيلِ مَعَ إسَاءَتِهِ بِهِمَا وَقَصْدِهِ نَفْسَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فَتَجْعَلُهُ مُرَابِيًا مُحَلِّلًا؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا خُرُوجٌ عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ وَجَمْعٌ بَيْنَ مَا فَرَّقَ الشَّارِعُ بَيْنَهُمَا وَتَفْرِيقٌ بَيْنً مَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا؟
وَقُلْتُمْ: لَوْ اقْتَدَى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ، وَلَوْ اقْتَدَى الْمُقِيمُ بِالْمُسَافِرِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ
وَهَذَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ، وَلَوْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إلَى عَكْسِهِ لَكَانَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِكُمْ سَوَاءٌ، وَلَأَمْكَنَهُ تَعْلِيلُهُ بِنَحْوِ مَا عَلَّلْتُمْ بِهِ.
وَوَجَّهْتُمْ الْفَرْقَ بِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ اقْتِدَاءِ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ أَنْ يَنْتَقِلَ فَرْضُهُ إلَى فَرْضِ إمَامِهِ، وَبِخُرُوجِ الْوَقْتِ اسْتَقَرَّ الْفَرْضُ عَلَيْهِ اسْتِقْرَارًا لَا يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ حَالِهِ فَبَقِيَ فَرْضُهُ رَكْعَتَيْنِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا لَهُ اقْتِدَاءَهُ بِالْمُقِيمِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ جَوَّزْنَا اقْتِدَاءَ مَنْ فَرْضُهُ رَكْعَتَانِ بِمَنْ فَرْضُهُ أَرْبَعٌ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ، كَمُصَلِّي الْفَجْرِ إذَا اقْتَدَى بِمُصَلِّي الظُّهْرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُقِيمُ إذَا اقْتَدَى بِالْمُسَافِرِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، إذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ اقْتِدَاءِ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ أَنْ يَنْتَقِلَ فَرْضُهُ إلَى فَرْضِ إمَامِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اقْتَدَى بِهِ فِي الْوَقْتِ لَمْ يَنْتَقِلْ فَرْضُهُ إلَى فَرْضِ إمَامِهِ، بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ، فَإِنَّهُ لَوْ اقْتَدَى بِالْمُقِيمِ فِي الْوَقْتِ انْتَقَلَ فَرْضُهُ إلَى فَرْضِ إمَامِهِ.
ثُمَّ نَاقَضْتُمْ وَقُلْتُمْ: إذَا كَانَ الْإِمَامُ مُسَافِرًا وَخَلْفُهُ مُسَافِرُونَ وَمُقِيمُونَ فَاسْتَخْلَفَ الْإِمَامُ مُقِيمًا فَإِنَّ فَرْضَ الْإِمَامِ لَا يَنْتَقِلُ إلَى فَرْضِ إمَامِهِ وَهُوَ فَرْضُ الْمُقِيمِينَ، مَعَ أَنَّ الْفَرْقَ فِي الْأَصْلِ مَدْخُولٌ. وَذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاتَيْنِ سَوَاءٌ فِي الِاسْمِ وَالْحُكْمِ وَالْوَضْعِ وَالْوُجُوبِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتَا فِي كَوْنِ الْإِمَامِ مُصَلِّيًا، فَإِذَا صَلَّى الْإِمَامُ أَرْبَعًا وَجَبَ عَلَى الْمَأْمُومِ أَنْ يُصَلِّيَ بِصَلَاتِهِ كَمَا لَوْ كَانَ فِي الْوَقْتِ، وَخُرُوجُ الْوَقْتِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْوَقْتِ هُوَ بِعَيْنِهِ فَرَضَهُ بَعْدَ الْوَقْتِ، وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَ نَائِمًا أَوْ نَاسِيًا، فَإِنَّ وَقْتَ الْيَقَظَةِ وَالذِّكْرَ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي شَرَعَ اللَّهُ لَهُ الصَّلَاةَ فِيهِ، وَعُذْرُ السَّفَرِ قَائِمٌ، وَارْتِبَاطُ صَلَاتِهِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ حَاصِلٌ، فَمَا الَّذِي فَرَّقَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ مَعَ اتِّحَادِ السَّبَبِ الْجَامِعِ وَقِيَامِ الْحِكْمَةِ الْمُجَوِّزَةِ لِلْقَصْرِ وَالْمُرَجِّحَةِ لِمَصْلَحَةِ الِاقْتِدَاءِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ؟ وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَتْ الشَّرِيعَةُ بَيْنَهُمَا - وَهُوَ الْحَيْضُ، وَالنِّفَاسُ، فَجَعَلْتُمْ أَقَلَّ الْحَيْضِ مَحْدُودًا إمَّا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَوْ بِيَوْمٍ، وَلَمْ تَجِدُوا أَقَلَّ النِّفَاسِ، وَكِلَاهُمَا دَمٌ خَارِجٌ مِنْ الْفَرْجِ يَمْنَعُ أَشْيَاءَ وَيُوجِبُ أَشْيَاءَ، وَلَيْسَا اسْمَيْنِ شَرْعِيَّيْنِ لَمْ يُعْرَفَا إلَّا بِالشَّرِيعَةِ، بَلْ هُمَا اسْمَانِ لُغَوِيَّانِ، رَدَّ الشَّارِعُ أُمَّتَهُ فِيهِمَا إلَى مَا يَتَعَارَفُهُ النِّسَاءُ حَيْضًا وَنِفَاسًا، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا. وَقَدْ ذَكَرْتُمْ هَذَا بِعَيْنِهِ فِي النِّفَاسِ، فَمَا الَّذِي فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَيْضِ؟ وَلَمْ يَأْتِ عَنْ اللَّهِ وَلَا عَنْ رَسُولِهِ وَلَا عَنْ الصَّحَابَةِ تَحْدِيدُ أَقَلِّ الْحَيْضِ بِحَدٍّ أَبَدًا، وَلَا فِي الْقِيَاسِ مَا يَقْتَضِيهِ.
وَالْعَجَبُ أَنَّكُمْ قُلْتُمْ: الْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى الْوُجُودِ حَيْثُ لَمْ يَحُدَّهُ الشَّارِعُ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ فَقُلْتُمْ: حَدُّ أَقَلِّهِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ.
وَأَمَّا أَصْحَابُ الثَّلَاثِ فَإِنَّمَا اعْتَمَدُوا عَلَى حَدِيثٍ تَوَهَّمُوهُ صَحِيحًا وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ
بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، فَهُمْ أَعْذَرُ مِنْ وَجْهٍ، قَالَ الْمُفَرِّقُونَ: بَلْ فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا بِالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، فَإِنَّ لِلْقِيَاسِ عَلَمًا ظَاهِرًا يَدُلُّ عَلَى خُرُوجِهِ مِنْ الرَّحِمِ وَهُوَ تَقَدُّمُ الْوَلَدِ عَلَيْهِ، فَاسْتَوَى قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، لِوُجُودِ عَلَمِهِ الدَّالِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ مَعَ الْحَيْضِ عَلَمٌ يَدُلُّ عَلَى خُرُوجِهِ مِنْ الرَّحِمِ، فَإِذَا امْتَدَّ زَمَنُهُ صَارَ امْتِدَادُهُ عَلَمًا وَدَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ حَيْضٌ مُعْتَادٌ، وَإِذَا لَمْ يَمْتَدَّ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَيْضٌ فَصَارَ كَدَمِ الرُّعَافِ.
ثُمَّ نَاقَضُوا فِي هَذَا الْفَرْقِ نَفْسَهُ أَبْيَنَ مُنَاقَضَةٍ، فَقَالَ أَصْحَابُ الثَّلَاثِ: لَوْ امْتَدَّ يَوْمَيْنِ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَائِمًا لَمْ يَكُنْ حَيْضًا حَتَّى يَمْتَدَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الْيَوْمِ: لَوْ امْتَدَّ مِنْ غَدْوَةٍ إلَى الْعَصْرِ دَائِمًا لَمْ يَكُنْ حَيْضًا حَتَّى يَمْتَدَّ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَخَرَجُوا بِالْقِيَاسِ عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ.
وَقُلْتُمْ: إذَا صَلَّى جَالِسًا ثُمَّ تَشَهَّدَ فِي حَالِ الْقِيَامِ سَهْوًا فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَرَأَ فِي حَالِ التَّشَهُّدِ فَعَلَيْهِ السُّجُودُ، وَهَذَا فَرْقٌ بَيْنَ مُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقُلْتُمْ: إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ فَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَانْصَرَفَ لِيَتَوَضَّأَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْهُ الْحَدَثُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ جَازَ لَهُ الْمُضِيُّ عَلَى صَلَاتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَتَمَّ صَلَاتَهُ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُتِمَّ، ثُمَّ قُلْتُمْ: لَوْ ظَنَّ أَنَّ عَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةً أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَوَضِّئًا فَانْصَرَفَ لِيَتَوَضَّأَ أَوْ يَغْسِلَ ثَوْبَهُ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مُتَوَضِّئًا أَوْ طَاهِرَ الثَّوْبِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى صَلَاتِهِ، فَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ، وَفَرَّقْتُمْ بِأَنَّهُ لَمَّا ظَنَّ سَبْقَ الْحَدَثِ فَقَدْ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ انْصِرَافَ اسْتِئْنَافٍ لَا انْصِرَافَ رَفْضٍ، فَإِنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ مَا ظَنَّهُ جَازَ لَهُ الْمُضِيُّ، فَلَمْ يَصِرْ قَاصِدًا لِلْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ الْبِنَاءُ، وَكَذَلِكَ لَوْ ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَتَمَّ صَلَاتَهُ فَلَمْ يَنْصَرِفْ انْصِرَافَ رَفْضٍ، وَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ الرَّفْضَ لَمْ تَصِرْ الصَّلَاةُ مَرْفُوضَةً كَمَا لَوْ سَلَّمَ سَاهِيًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا ظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَتَوَضَّأْ أَوْ أَنَّ عَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةً؛ لِأَنَّهُ انْصَرَفَ مِنْهَا انْصِرَافَ رَفْضٍ وَنَوَى الرَّفْضَ مُقَارِنًا لِانْصِرَافِهِ، فَبَطَلَتْ كَمَا لَوْ سَلَّمَ عَامِدًا، وَهَذَا الْفَرْقُ غَيْرُ مُجْدٍ شَيْئًا، بَلْ هُوَ فَرْقٌ بَيْنَ مَا جَمَعَتْ الشَّرِيعَةُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ انْصَرَفَ انْصِرَافًا مَأْذُونًا فِيهِ أَوْ مَأْمُورًا بِهِ، وَهُوَ مَعْذُورٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، بَلْ هَذَا الْفَرْقُ حَقِيقٌ بِاقْتِضَائِهِ ضِدَّ مَا ذَكَرْتُمْ، فَإِنَّهُ إذَا ظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَتَوَضَّأْ فَانْصِرَافُهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ بِتَرْكِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا ظَنَّ أَنَّهُ أَتَمَّ صَلَاتَهُ فَإِنَّ انْصِرَافَهُ مُبَاحٌ مَأْذُونٌ لَهُ فِيهِ، فَكَيْفَ تَصِحُّ الصَّلَاةُ مَعَ هَذَا الِانْصِرَافِ وَتَبْطُلُ بِالِانْصِرَافِ الْمَأْمُورِ بِهِ؟ ثُمَّ إنَّهُ أَيْضًا فِي انْصِرَافِهِ [حِينَ] ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَتَمَّ صَلَاتَهُ يَنْصَرِفُ انْصِرَافَ تَرْكٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ فَرَغَ مِنْهَا، فَتَرَكَهَا تَرْكَ مَنْ قَدْ أَكْمَلَهَا، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مُحْدِثٌ فَإِنَّمَا تَرَكَهَا تَرْكَ قَاصِدٍ لِتَكْمِلَتِهَا، فَهِيَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ
وَقُلْتُمْ: لَوْ قَالَ: " لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ " وَقَالَ آخَرُ: " وَأَنَا لِلَّهِ عَلَيَّ أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ " لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَأْتَمَّ بِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُمَا فَرْضَانِ بِسَبَبَيْنِ، وَهُوَ نَذْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا يُؤَدَّى فَرْضٌ خَلْفَ فَرْضٍ آخَرَ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ فَقُلْتُمْ: لَوْ قَالَ الْآخَرُ: " وَأَنَا لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَوْجَبْتَ عَلَى نَفْسِكَ " جَازَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَأْتَمَّ بِالْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ عَيْنَ مَا أَوْجَبَهُ الْآخَرُ عَلَى نَفْسِهِ، فَصَارَتَا كَالظُّهْرِ الْوَاحِدَةِ، وَهَذَا لَيْسَ يُجْدِي شَيْئًا، فَإِنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ مُخْتَلِفٌ كَمَا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى سَوَاءٌ، وَهُوَ نَذْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَفْسِهِ، وَلَيْسَ الْوَاجِبُ عَلَى أَحَدِهِمَا هُوَ عَيْنُ الْوَاجِبِ عَلَى الْآخَرِ، بَلْ هُوَ مِثْلُهُ، وَلِهَذَا لَا يَتَأَدَّى أَحَدُ الْوَاجِبَيْنِ بِأَدَاءِ الْآخَرِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجِبُ عَلَيْهِ رَكْعَتَانِ نَظِيرَ مَا وَجَبَ عَلَى الْآخَرِ بِنَذْرِهِ، فَالسَّبَبُ مُمَاثِلٌ، وَالْوَاجِبُ مُمَاثِلٌ، وَالتَّعَدُّدُ فِي الْجَانِبَيْنِ سَوَاءٌ، فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ، وَخُرُوجٌ عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ.
وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ النَّصُّ وَالْمِيزَانُ بَيْنَهُمَا، فَقُلْتُمْ: إذَا ظَفِرَ بِرِكَازٍ فَعَلَيْهِ فِيهِ الْخُمُسُ، ثُمَّ يَجُوزُ لَهُ صَرْفُهُ إلَى أَوْلَادِهِ وَإِلَى نَفْسِهِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ، وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ عُشْرُ الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَرْفُهُ إلَى وَلَدِهِ وَلَا إلَى نَفْسِهِ، وَكِلَاهُمَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ إخْرَاجُهُ لِحَقِّ اللَّهِ وَشُكْرِ النِّعْمَةِ بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَالِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الرِّكَازُ مَالًا مَجْمُوعًا لَمْ يَكُنْ نَمَاؤُهُ وَكَمَالُهُ بِفِعْلِهِ فَالْمُؤْنَةُ فِيهِ أَيْسَرُ كَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ أَكْثَرَ، وَلَمَّا كَانَ الزَّرْعُ فِيهِ مِنْ الْمُؤْنَةِ وَالْكُلْفَةِ وَالْعَمَلِ أَكْثَرَ مِمَّا فِي الرِّكَازِ كَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ نِصْفَهُ وَهُوَ الْعُشْرُ، فَإِنْ اشْتَدَّتْ الْمُؤْنَةُ بِالسَّقْيِ بِالْكُلْفَةِ حُطَّ الْوَاجِبُ إلَى نِصْفِهِ وَهُوَ نِصْفُ الْعُشْرِ، فَإِنْ اشْتَدَّتْ الْمُؤْنَةُ فِي الْمَالِ غَيْرُهُ بِالتِّجَارَةِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ كُلَّ وَقْتٍ وَحِفْظُهُ وَكِرَاءُ مَخْزَنِهِ وَنَقْلُهُ خُفِّفَ إلَى شَطْرِهِ وَهُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ، فَهَذَا مِنْ كَمَالِ حِكْمَةِ الشَّارِعِ فِي اعْتِبَارِ كَثْرَةِ الْوَاجِبِ وَقِلَّتِهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ الْوَاجِبَ الْأَكْثَرَ الَّذِي هُوَ أَقَلُّ مُؤْنَةً وَتَعَبًا وَكُلْفَةً لِأَوْلَادِهِ وَيَمْسِكَهُ لِنَفْسِهِ وَقَدْ أَضْعَفَهُ عَلَيْهِ الشَّارِعُ أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ وَاجِبٍ فِي الزَّكَاةِ وَمَخْرَجُ الْجَمِيعِ وَإِيجَابُهُ وَاحِدٌ نَصًّا وَاعْتِبَارًا؟ فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ مَا جَمَعَتْ الشَّرِيعَةُ بَيْنَهُمَا حَيْثُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ، وَفِي الرِّقَةِ رُبُعُ الْعُشْرِ» .
وَقُلْتُمْ: لَوْ أَوْدَعَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ مَالًا فَغَابَ عَنْهُ سِنِينَ ثُمَّ عَرَفَهُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ارْتِجَاعِهِ مِنْهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ دَفَنَهُ بِمَغَارَةٍ فَنَسِيَهُ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ فَقُلْتُمْ: لَوْ أَوْدَعَهُ مَنْ يَعْرِفُهُ فَنَسِيَهُ سِنِينَ ثُمَّ عَرَفَهُ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ تِلْكَ السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ كُلِّهَا، وَالْمَالُ خَارِجٌ عَنْ قَبْضَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ، وَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى ارْتِجَاعِهِ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ صَرَّحْتُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْمَغَارَةِ أَنَّهُ لَوْ دَفَنَهُ خَفِيَ مَوْضِعٌ مِنْهَا ثُمَّ نَسِيَهُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ إذَا عَرَفَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْمَغَارَةِ
وَبَيْنَ الْمُودَعِ بِوَجْهٍ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَقُلْتُمْ: لَوْ دَفَنَهُ فِي دَارِهِ وَخَفِيَ عَلَيْهِ مَوْضِعُهُ سِنِينَ ثُمَّ عَرَفَهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى.
وَقُلْتُمْ: لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَرْبَعُ شِيَاهٍ فَأَخْرَجَ ثِنْتَيْنِ سَمِينَتَيْنِ تُسَاوِي الْأَرْبَعَ جَازَ، فَطَرْدُ قِيَاسِكُمْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ عَشَرَةُ أَقْفِزَةِ بُرٍّ فَأَخْرَجَ خَمْسَةً مِنْ بُرٍّ مُرْتَفِعٍ يُسَاوِي قِيمَةَ الْعَشَرَةِ الَّتِي هِيَ عَلَيْهِ جَازَ، وَطَرْدُهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ فَأَخْرَجَ بَعِيرًا يُسَاوِي قِيمَةَ الْخَمْسَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ صَاعٌ فِي الْفِطْرَةِ فَأَخْرَجَ رُبُعَ صَاعٍ يُسَاوِي الصَّاعَ الَّذِي لَوْ أَخْرَجَهُ لَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ أَنَّهُ يَجُوزُ، فَإِنْ طَرَدْتُمْ هَذَا الْقِيَاسَ فَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ تَغْيِيرِ الْمَقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعُدُولِ عَنْهَا، وَلَزِمَكُمْ طَرْدُهُ فِي أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ فَأَعْتَقَ عُشْرَ رَقَبَةٍ تُسَاوِي قِيمَةَ رَقَبَةٍ غَيْرِهَا جَازَ، وَمَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِمِائَةِ شَاةٍ فَتَصَدَّقَ بِعِشْرِينَ تَسَاوِي قِيمَةَ الْمِائَةِ جَازَ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ فَقُلْتُمْ: لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ أُضْحِيَّتَانِ فَذَبَحَ وَاحِدًا سَمِينًا يُسَاوِي وَسَطَيْنِ لَمْ يَجُزْ، ثُمَّ فَرَّقْتُمْ بِأَنْ قُلْتُمْ: الْمَقْصُودُ فِي الْأُضْحِيَّةَ الذَّبْحُ وَإِرَاقَةُ الدَّمِ، وَإِرَاقَةُ دَمٍ وَاحِدٍ لَا تَقُومُ مَقَامَ إرَاقَةِ دَمَيْنِ، وَالْمَقْصُودُ فِي الزَّكَاةِ سَدُّ خَلَّةِ الْفَقِيرِ وَهُوَ يَحْصُلُ بِالْأَجْوَدِ الْأَقَلِّ كَمَا يَحْصُلُ بِالْأَكْثَرِ إذَا كَانَ دُونَهُ، وَهَذَا فَرْقٌ إنْ صَحَّ لَكُمْ فِي الْأُضْحِيَّةَ لَمْ يَصِحَّ لَكُمْ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الصُّوَرِ، فَكَيْفَ وَلَا يَصِحُّ فِي الْأُضْحِيَّةَ؟ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فِي الزَّكَاةِ أُمُورٌ عَدِيدَةٌ مِنْهَا سَدُّ خَلَّةِ الْفَقِيرِ، وَمِنْهَا إقَامَةُ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ بِفِعْلِ نَفْسِ مَا أَمَرَ بِهِ. وَمِنْهَا شُكْرُ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ. وَمِنْهَا إحْرَازُ الْمَالِ وَحِفْظُهُ بِإِخْرَاجِ هَذَا الْمِقْدَارِ مِنْهُ. وَمِنْهَا الْمُوَاسَاةُ بِهَذَا الْمِقْدَارِ لِمَا عَلِمَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةِ رَبِّ الْمَالِ وَمَصْلَحَةِ الْآخِذِ. وَمِنْهَا التَّعَبُّدُ بِالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ اللَّهِ وَأَنْ لَا يُنْقِصَ مِنْهَا وَلَا يُغَيِّرَ، وَهَذِهِ الْمَقَاصِدُ إنْ لَمْ تَكُنْ أَعْظَمَ مِنْ مَقْصُودِ إرَاقَةِ الدَّمِ فِي الْأُضْحِيَّةَ فَلَيْسَتْ بِدُونِهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ إلْغَاؤُهَا وَاعْتِبَارُ مُجَرَّدِ إرَاقَةِ الدَّمِ؟ ثُمَّ إنَّ هَذَا الْفَرْقَ يَنْعَكِسُ عَلَيْكُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ مِنْ إرَاقَةِ دَمِ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - بِأَجَلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ وَأَعْلَاهُ وَأَغْلَاهُ ثَمَنًا وَأَنْفَسُهُ عِنْدَ أَهْلِهِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَنَالَهُ - سُبْحَانَهُ - لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا، وَإِنَّمَا يَنَالُهُ تَقْوَى الْعَبْدِ مِنْهُ، وَمَحَبَّتُهُ لَهُ، وَإِيثَارُهُ بِالتَّقَرُّبِ إلَيْهِ بِأَحَبِّ شَيْءٍ إلَى الْعَبْدِ وَآثَرَهُ عِنْدَهُ وَأَنْفَسَهُ لَدَيْهِ، كَمَا يَتَقَرَّبُ الْمُحِبُّ إلَى مَحْبُوبِهِ بِأَنْفَسِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَأَفْضَلِهِ عِنْدَهُ.
وَلِهَذَا فَطَرَ اللَّهُ الْعِبَادَ عَلَى أَنَّ مَنْ تَقَرَّبَ إلَى مَحْبُوبِهِ بِأَفْضَلِ هَدِيَّةٍ يَقْدِرُ عَلَيْهَا وَأَجَلِّهَا وَأَعْلَاهَا كَانَ أَحْظَى لَدَيْهِ، وَأَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّنْ تَقَرَّبَ إلَيْهِ بِأَلْفِ وَاحِدٍ رَدِيءٍ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ.
وَقَدْ نَبَّهَ - سُبْحَانَهُ - عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177]
وَقَالَ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] وَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَفْضَلِ الرِّقَابِ فَقَالَ: «أَغْلَاهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا» وَنَذَرَ عُمَرُ أَنْ يَنْحَرَ نَجِيبَةً فَأُعْطِيَ بِهَا نَجِيبَتَيْنِ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْخُذَهُمَا بِهَا وَيَنْحَرَهُمَا، فَقَالَ:«لَا، بَلْ انْحَرْهَا إيَّاهَا» فَاعْتُبِرَ فِي الْأُضْحِيَّةَ عَيْنُ الْمَنْذُورِ دُونَ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ، فَلَأَنْ يُعْتَبَرَ فِي الزَّكَاةِ نَفْسُ الْوَاجِبِ دُونَ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَلَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْلَى وَأَحْرَى.
وَطَرْدُ قِيَاسِكُمْ أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَرْبَعُ شِيَاهٍ جِيَادٍ فَأَخْرَجَ عَشَرَةً مِنْ أَرْدَأِ الشِّيَاهِ وَأَهْزَلِهَا وَقِيمَتُهُنَّ قِيمَةُ الْأَرْبَعِ، أَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَرْبَعُ حِقَاقٍ جِيَادٍ فَأَخْرَجَ عِشْرِينَ ابْنَ لَبُونٍ مِنْ أَرْدَأِ الْإِبِلِ وَأَهْزَلِهَا أَنَّهُ يَجُوزُ، فَإِنْ مَنَعْتُمْ ذَلِكَ نَقَضْتُمْ الْقِيَاسَ، وَإِنْ طَرَدْتُمُوهُ تَيَمَّمْتُمْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ، وَسَلَّطْتُمْ رَبَّ الْمَالِ عَلَى إخْرَاجِ رَدِيئِهِ وَمَعَايِبِهِ عَنْ جَيِّدِهِ، وَالْمَرْجِعُ فِي التَّقْوِيمِ إلَى اجْتِهَادِهِ، وَفِي هَذَا مِنْ مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ مَا فِيهِ.
وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ الشَّارِعُ بَيْنَهُ وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ بَيْنَهُ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقُلْتُمْ: يَصِحُّ صَوْمُ رَمَضَانَ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَلَا يَصِحُّ صَوْمُ الظِّهَارِ وَكَفَّارَةِ الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ لَمَّا كَانَ مُعَيَّنًا بِالشَّرْعِ أَجْزَأَ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ، بِخِلَافِ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ، وَبَنَيْتُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ:" لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمٍ " فَصَامَهُ بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَلَوْ قَالَ:" لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا " فَصَامَهُ قَبْلَ الزَّوَالِ جَازَ، وَهَذَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ مَا جَمَعَ الشَّارِعُ بَيْنَهُ مِنْ صَوْمِ الْفَرْضِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْهُ مِنْ اللَّيْلِ، وَهَذَا فِي صَوْمِ الْفَرْضِ، وَأَمَّا النَّفَلُ فَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُنْشِئُهُ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ، فَسَوَّيْتُمْ بَيْنَهُمَا فِي إجْزَائِهِمَا بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ وَقَدْ فَرَّقَ الشَّارِعُ بَيْنَهُمَا. وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ بَعْضِ الصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ وَبَعْضٍ فِي اعْتِبَارِ النِّيَّةِ فِي اللَّيْلِ وَقَدْ سَوَّى الشَّارِعُ بَيْنَهُمَا. وَالْفَرْقُ بِالتَّعْيِينِ وَعَدَمِهِ عَدِيمُ التَّأْثِيرِ فَإِنَّهُ وَإِنْ تَعَيَّنَ لَمْ يَصِرْ عِبَادَةً إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَلِهَذَا لَوْ أَمْسَكَ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا، فَإِذَا لَمْ تُقَارِنْ النِّيَّةُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْيَوْمِ فَقَدْ خَرَجَ بَعْضُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً، فَلَمْ يُؤَدِّ مَا أُمِرَ بِهِ، وَتَعْيِينُهُ لَا يَزِيدُ وُجُوبَهُ إلَّا تَأْكِيدًا وَاقْتِضَاءً، فَلَوْ قِيلَ: إنَّ الْمُعَيَّنَ أَوْلَى بِوُجُوبِ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ مِنْ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ لَكَانَ أَصَحَّ فِي الْقِيَاسِ، وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ، فَلَا يَصِحُّ الْفَرْضُ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ، وَالنَّفَلُ يَصِحُّ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ؛ لِأَنَّهُ يُتَسَامَحُ فِيهِ مَا لَا يُتَسَامَحُ فِي الْفَرْضِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ النَّفَلَ قَاعِدًا وَرَاكِبًا عَلَى دَابَّتِهِ إلَى الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهَا.
وَفِي ذَلِكَ تَكْثِيرُ النَّفْلِ وَتَيْسِيرُ
الدُّخُولِ فِيهِ، وَالرَّجُلُ لَمَّا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الدُّخُولِ فِيهِ وَعَدَمِهِ وَيُخَيَّرُ بَيْنَ الْخُرُوجِ مِنْهُ وَإِتْمَامِهِ خُيِّرَ بَيْنَ التَّبْيِيتِ وَالنِّيَّةِ مِنْ النَّهَارِ، فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَمُوجَبُ السُّنَّةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِمَاعِ الصَّائِمِ وَالْمُعْتَكِفِ فَقُلْتُمْ: لَوْ جَامَعَ فِي الصَّوْمِ نَاسِيًا لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ، وَلَوْ جَامَعَ الْمُعْتَكِفُ نَاسِيًا فَسَدَ اعْتِكَافُهُ وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْجِمَاعَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ، وَلِهَذَا لَا يُبَاحُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، وَلَيْسَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لَيْلًا. وَهَذَا فَرْقٌ فَاسِدٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ فَلَمْ يَحْرُمْ فِيهِ الْجِمَاعُ، وَهُوَ مَحَلٌّ لِلِاعْتِكَافِ فَحَرُمَ فِيهِ الْجِمَاعُ، فَنَهَارُ الصَّائِمِ كَلَيْلِ الْمُعْتَكِفِ فِي ذَلِكَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَالْجِمَاعُ مَحْظُورٌ فِي الْوَقْتَيْنِ، وَوِزَانُ لَيْلِ الصَّائِمِ الْيَوْمُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ الْمُعْتَكِفُ مِنْ اعْتِكَافِهِ، فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْمَحْضُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَقُلْتُمْ: لَوْ دَخَلَ عَرَفَةَ فِي طَلَبِ بَعِيرٍ لَهُ أَوْ حَاجَةٍ وَلَمْ يَنْوِ الْوُقُوفَ أَجْزَأَهُ عَنْ الْوُقُوفِ، وَلَوْ دَارَ حَوْلَ الْبَيْتِ فِي طَلَبِ شَيْءٍ سَقَطَ مِنْهُ وَلَمْ يَنْوِ الطَّوَافَ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَهَذَا خُرُوجٌ عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ. وَفَرَّقْتُمْ تَفْرِيقًا فَاسِدًا فَقُلْتُمْ: الْمَقْصُودُ الْحُضُورُ بِعَرَفَةَ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَقَدْ حَصَلَ، بِخِلَافِ الطَّوَافِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الْعِبَادَةُ وَلَا تَحْصُلُ إلَّا بِالنِّيَّةِ، فَيُقَالُ: وَالْمَقْصُودُ بِعَرَفَةَ الْعِبَادَةُ أَيْضًا، فَكِلَاهُمَا رُكْنٌ مَأْمُورٌ بِهِ، وَلَمْ يَنْوِ الْمُكَلَّفُ امْتِثَالَ الْأَمْرِ لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا، فَمَا الَّذِي صَحَّحَ هَذَا وَأَبْطَلَ هَذَا؟ ، وَلَمَّا تَنَبَّهَ بَعْضُ الْقِيَاسِيِّينَ لِفَسَادِ هَذَا الْفَرْقِ عَدَلَ إلَى فَرْقٍ آخَرَ فَقَالَ: الْوُقُوفُ رُكْنٌ يَقَعُ فِي نَفْسِ الْإِحْرَامِ، فَنِيَّةُ الْحَجِّ مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْهِ، فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى تَجْدِيدِ نِيَّةٍ، كَأَجْزَاءِ الصَّلَاةِ مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يَنْسَحِبُ عَلَيْهَا نِيَّةُ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا الطَّوَافُ فَيَقَعُ خَارِجَ الْعِبَادَةِ فَلَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ نِيَّةُ الْإِحْرَامِ فَافْتَقَرَ إلَى النِّيَّةِ، وَنَحْنُ نَقُولُ لِأَصْحَابِ هَذَا الْفَرْقِ: رُدُّونَا إلَى الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ أَقَلُّ فَسَادًا وَتَنَاقُضًا مِنْ هَذَا، فَإِنَّ الطَّوَافَ وَالْوُقُوفَ كِلَاهُمَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْعِبَادَةِ، فَكَيْفَ تَضَمَّنَتْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْعِبَادَةِ لِهَذَا الرُّكْنِ دُونَ هَذَا؟ وَأَيْضًا فَإِنَّ طَوَافَ الْمُعْتَمِرِ يَقَعُ فِي الْإِحْرَامِ، وَأَيْضًا فَطَوَافُ الزِّيَارَةِ يَقَعُ فِي بَقِيَّةِ الْإِحْرَامِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ قَبْلَهُ تَحَلُّلًا أَوَّلَ نَاقِصًا، وَالتَّحَلُّلُ الْكَامِلُ مَوْقُوفٌ عَلَى الطَّوَافِ.
وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَتْ السُّنَّةُ وَالْقِيَاس بَيْنَهُمَا فَقُلْتُمْ: إذَا أَحْرَمَ الصَّبِيُّ ثُمَّ بَلَغَ فَجَدَّدَ إحْرَامَهُ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ أَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا أَحْرَمَ الْعَبْدُ ثُمَّ عَتَقَ فَجَدَّدَ إحْرَامَهُ لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالسُّنَّةُ قَدْ سَوَّتْ بَيْنَهُمَا، وَكَذَا الْقِيَاسُ، فَإِنَّ إحْرَامَهُمَا قَبْلَ
الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ صَحِيحٌ وَهُوَ سَبَبٌ لِلثَّوَابِ، وَقَدْ صَارَا مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْحَجِّ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَأَجْزَأَهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، كَمَا لَوْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا إحْرَامٌ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنَّ غَايَةَ مَا وُجِدَ مِنْهُمَا مِنْ الْإِحْرَامِ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، فَوُجُودُ الْإِحْرَامِ السَّابِقِ عَلَى الْعِتْقِ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْئًا بِحَيْثُ يَكُونُ عَدَمُهُ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ وُجُودِهِ، وَتَفْرِيقُكُمْ بِأَنَّ إحْرَامَ الصَّبِيِّ إحْرَامُ تَخَلُّقٍ وَعَادَةٍ وَبِالْبُلُوغِ انْعَدَمَ ذَلِكَ فَصَحَّ مِنْهُ الْإِحْرَامُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْعَبْدُ فَإِحْرَامُهُ إحْرَامُ عِبَادَةٍ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ فَصَحَّ إحْرَامُهُ مُوجَبًا فَلَا يَتَأَتَّى لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِمُوجَبِهِ فَرْقٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّ الصَّبِيَّ مُثَابٌ عَلَى إحْرَامِهِ بِالنَّصِّ، وَإِحْرَامُهُ إحْرَامُ عِبَادَةٍ - وَإِنْ كَانَتْ لَا تُسْقِطُ الْفَرْضَ - كَإِحْرَامِ الْعَبْدِ سَوَاءٌ.
وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ بَيْنَهُ فَقُلْتُمْ: لَوْ قَالَ: " أَحِجُّوا فُلَانًا حَجَّةً " فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ النَّفَقَةَ وَيَأْكُلَ بِهَا وَيَشْرَبَ وَلَا يَحُجَّ، وَلَوْ قَالَ:" أَحِجُّوهُ عَنِّي " لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ النَّفَقَةَ إلَّا بِشَرْطِ الْحَجِّ، وَفَرَّقْتُمْ بِأَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَخْرَجَ كَلَامَهُ مَخْرَجَ الْإِيصَاءِ بِالنَّفَقَةِ لَهُ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ عَلَيْهِ بِالْحَجِّ، وَلَا حَقَّ لِلْمُوصِي فِي الْحَجِّ الَّذِي يَأْتِي بِهِ، فَصَحَّحْنَا الْوَصِيَّةَ بِالْمَالِ، وَلَمْ نُلْزِمْ الْمُوصَى بِمَا لَا حَقَّ لِلْمُوصِي فِيهِ، وَأَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّمَا قَصَدَ أَنْ يَعُودَ نَفْعُهُ إلَيْهِ بِثَوَابِ النَّفَقَةِ فِي الْحَجِّ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ غَرَضُهُ لَمْ تَنْفُذْ الْوَصِيَّةُ، وَهَذَا الْفَرْقُ نَفْسُهُ هُوَ الْمُبْطِلُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَإِنَّهُ بِتَعَيُّنِ الْحَجِّ قَطَعَ مَا تَوَهَّمْتُمُوهُ مِنْ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ يَفْعَلُ بِهِ مَا يُرِيدُ، وَإِنَّمَا قَصَدَ إعَانَتَهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ لِيَكُونَ شَرِيكًا لَهُ فِي الثَّوَابِ، ذَاكَ بِالْبَدَنِ وَهَذَا بِالْمَالِ، وَلِهَذَا عَيَّنَ الْحَجَّ مَصْرِفًا لِلْوَصِيَّةِ، فَلَا يَجُوزُ إلْغَاءُ ذَلِكَ وَتَمْكِينُهُ مِنْ الْمَالِ يَصْرِفُهُ فِي مَلَاذِّهِ وَشَهَوَاتِهِ، هَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ:" أَعْطُوا فُلَانًا أَلْفًا لِيَبْنِيَ بِهَا مَسْجِدًا أَوْ سِقَايَةً أَوْ قَنْطَرَةً " لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ الْأَلْفَ وَلَا يَفْعَلَ مَا أُوصِيَ بِهِ، كَذَلِكَ الْحَجُّ سَوَاءٌ.
وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ مَحْضُ الْقِيَاسِ بَيْنَهُمَا فَقُلْتُمْ: إذَا اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ قَالَ لَهُ: " أَنْتَ حُرٌّ أَمْسِ " عَتَقَ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ قَالَ لَهَا:" أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ " لَمْ تَطْلُقْ، وَفَرَّقْتُمْ بِأَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا كَانَ حُرًّا أَمْسِ اقْتَضَى تَحْرِيمَ شِرَائِهِ وَاسْتِرْقَاقِهِ الْيَوْمَ، وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَكَوْنُهَا مُطَلَّقَةً أَمْسِ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ نِكَاحِهَا الْيَوْمَ، وَهَذَا فَرْقٌ صُورِيٌّ لَا تَأْثِيرَ لَهُ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّ الْحُكْمَ إنْ جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى سَبَبِهِ وَقَعَ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَإِنْ امْتَنَعَ تَقَدُّمُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى سَبَبِهِ لَمْ يَقَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَمَا بَالُ أَحَدِهِمَا وَقَعَ دُونَ الْآخَرِ؟ .
فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ لَمْ نُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا فِي الْإِنْشَاءِ، وَإِنَّمَا فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا فِي الْإِقْرَارِ وَالْإِخْبَارِ، فَإِذَا أَقَرَّ بِأَنَّ الْعَبْدَ حُرٌّ بِالْأَمْسِ فَقَدْ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا الْيَوْمَ، فَعَتَقَ بِاعْتِرَافِهِ، وَإِذَا أَقَرَّ بِأَنَّهَا
طَالِقٌ أَمْسِ لَمْ يَلْزَمْ بُطْلَانُ النِّكَاحِ الْيَوْمَ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُطَلِّقُ الْأَوَّلُ قَدْ طَلَّقَهَا أَمْسِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَتَزَوَّجَ هُوَ بِهَا الْيَوْمَ.
قُلْنَا: إذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ مِنْ غَيْرِي، أَوْ يَنْوِيَ ذَلِكَ، فَيَنْفَعَهُ حَيْثُ يَدِينُ، فَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ.
فَإِنْ قِيلَ: يُمْكِنُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بِالْأَمْسِ ثُمَّ يَتَزَوَّجَهَا الْيَوْمَ.
قِيلَ: هَذَا يُمْكِنُ فِي الطَّلَاقِ الَّذِي لَمْ يُسْتَوْفَ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ الْإِخْبَارَ، فَأَمَّا إذَا قَالَ:" أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ ثَلَاثًا " وَلَمْ يَقُلْ مِنْ زَوْجٍ كَانَ قَبْلِي وَلَا نَوَاهُ فَلَا فَرْقَ أَصْلًا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ لِلْعَبْدِ " أَنْتَ حُرٌّ أَمْسِ " فَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَتْ السُّنَّةُ بَيْنَهُمَا فَقُلْتُمْ: يَجِبُ عَلَى الْبَائِنِ الْإِحْدَادُ كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا، وَالْإِحْدَادُ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْعِدَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ مَوْتِ الزَّوْجِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَفَى وَأَثْبَتَ وَخَصَّ الْإِحْدَادَ بِالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَدْ فَارَقَتْ الْمَبْتُوتَةَ فِي وَصْفِ الْعِدَّةِ وَقَدْرِهَا وَسَبَبِهَا، فَإِنَّ سَبَبَهَا الْمَوْتُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ دَخَلَ بِهَا، وَسَبَبُ عِدَّةِ الْبَائِنِ الْفِرَاقُ وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ حَيًّا، ثُمَّ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَتْ السُّنَّةُ بَيْنَهُمْ فَقُلْتُمْ: إنْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ ذِمِّيَّةً أَوْ غَيْرَ بَالِغَةٍ فَلَا إحْدَادَ عَلَيْهَا، وَالسُّنَّةُ تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ كَمَا يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ.
وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ الْقِيَاسُ الْمَحْضُ بَيْنَهُمَا فَقُلْتُمْ: لَوْ ذَبَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فَهُوَ مَيْتَةٌ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَلَوْ ذَبَحَ الْحَلَالُ صَيْدًا حَرَمِيًّا فَلَيْسَ بِمَيْتَةٍ وَأَكْلُهُ حَلَالٌ، وَفَرَّقْتُمْ بِأَنَّ الْمَانِعَ فِي ذَبْحِ الْمُحْرِمِ فِيهِ، فَهُوَ كَذَبْحِ الْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ، فَالذَّابِحُ غَيْرُ أَهْلٍ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ الذَّابِحُ أَهْلٌ، وَالْمَذْبُوحُ مَحَلٌّ لِلذَّبْحِ إذَا كَانَ حَلَالًا، وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْهُ حُرْمَةُ الْمَكَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ حَلَّ ذَبْحُهُ، وَهَذَا مِنْ أَفْسَدِ فَرْقٍ، وَهُوَ بِاقْتِضَاءِ عَكْسِ الْحُكْمِ أَوْلَى، فَإِنَّ الْمَانِعَ فِي الصَّيْدِ الْحَرَمِيِّ فِي نَفْسِ الْمَذْبُوحِ، فَهُوَ كَذَبْحِ مَا لَا يُؤْكَلُ، وَالْمَانِعُ فِي ذَبْحِ الْمُحْرِمِ فِي الْفَاعِلِ، فَهُوَ كَذَبْحِ الْغَاصِبِ.
وَقُلْتُمْ: لَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَطَرَدَهُ حَتَّى أَدْخَلَهُ الْحَرَمَ فَأَصَابَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَلَوْ أَرْسَلَ سَهْمَهُ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَأَطَارَتْهُ الرِّيحُ حَتَّى قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ ضَمِنَهُ، وَكِلَاهُمَا تَوَلَّدَ الْقَتْلُ فِيهِ عَنْ فِعْلِهِ، وَفَرَّقْتُمْ بِأَنَّ الرَّمْيَ حَصَلَ بِمُبَاشَرَتِهِ وَقُوَّتِهِ الَّتِي أَمَدَّتْ السَّهْمَ فَهُوَ مَحْضُ فِعْلِهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكَلْبِ فَإِنَّ الصَّيْدَ فِيهِ يُضَافُ إلَى فِعْلِ الْكَلْبِ، وَهَذَا الْفَرْقُ لَا يَصِحُّ، فَإِنَّ إرْسَالَ السَّهْمِ وَالْكَلْبِ كِلَاهُمَا مِنْ فِعْلِهِ فَاَلَّذِي تَوَلَّدَ
مِنْهُمَا تَوَلَّدَ عَنْ فِعْلِهِ، وَجَرَيَانُ السَّهْمِ وَعَدْوُ الْكَلْبِ كِلَاهُمَا هُوَ السَّبَبُ فِيهِ، وَكَوْنُ الْكَلْبِ لَهُ اخْتِيَارٌ وَالسَّهْمِ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فَرْقٌ لَا تَأْثِيرَ لَهُ إذْ كَانَ اخْتِيَارُ الْكَلْبِ بِسَبَبِ إرْسَالِ صَاحِبِهِ لَهُ.
وَقُلْتُمْ: لَوْ رَهَنَ أَرْضًا مَزْرُوعَةً أَوْ شَجَرًا مُثْمِرًا دَخَلَ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ فِي الرَّهْنِ، وَلَوْ بَاعَهُمَا لَمْ يَدْخُلْ الزَّرْعُ وَالثَّمَرَةُ فِي الْبَيْعِ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الرَّهْنَ مُتَّصِلٌ بِغَيْرِهِ، وَاتِّصَالُ الرَّهْنِ بِغَيْرِهِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِشَاعَةِ، فَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الزَّرْعُ وَالثَّمَرَةُ لَبَطَلَ، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ، فَإِنَّ اتِّصَالَهُ بِغَيْرِهِ لَا يُبْطِلُهُ، إذْ الْإِشَاعَةُ لَا تُنَافِيهِ، وَهَذَا قِيَاسٌ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ؛ لِأَنَّ الِاتِّصَالَ هُنَا اتِّصَالُ مُجَاوَرَةٍ، لَا إشَاعَةٍ، فَهُوَ كَرَهْنِ زَيْتٍ فِي ظُرُوفِهِ وَقُمَاشٍ فِي أَعْدَالِهِ وَنَحْوِهِ.
وَقُلْتُمْ: لَوْ أُكْرِهَ عَلَى هِبَةِ جَارِيَتِهِ لِرَجُلٍ فَوَهَبَهَا لَهُ مَالِكُهَا فَأَعْتَقَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ نَفَذَ عِتْقُهُ، وَلَوْ بَاعَهَا لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ، وَهَذَا خُرُوجٌ عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ، وَتَفْرِيقُكُمْ - بِأَنَّ هَذَا عِتْقٌ صَدَرَ عَنْ إكْرَاهٍ وَالْإِكْرَاهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعِتْقِ، وَذَاكَ بَيْعٌ صَدَرَ عَنْ إكْرَاهٍ وَالْإِكْرَاهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ - لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أُكْرِهَ عَلَى التَّمْلِيكِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُكْرَهِ غَرَضٌ فِي الْإِعْتَاقِ، وَالتَّمْلِيكُ لَمْ يَصِحَّ، وَالْعِتْقُ لَمْ يُكْرَهْ عَلَيْهِ فَلَا يَنْفُذُ كَالْبَيْعِ سَوَاءٌ. هَذَا مَعَ أَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ الْقِيَاسَ فِي مَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْبَيْعِ وَالْعِتْقِ، فَصَحَّحْتُمْ الْعِتْقَ دُونَ الْبَيْعِ، وَفَرَّقْتُمْ بِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَدْخُلُهُ خِيَارٌ فَصَحَّ مَعَ الْإِكْرَاهِ كَالطَّلَاقِ، وَالْبَيْعُ يَدْخُلُهُ الْخِيَارُ فَلَمْ يَصِحَّ مَعَ الْإِكْرَاهِ، وَهَذَا فَرْقٌ لَا تَأْثِيرَ لَهُ، وَهُوَ فَاسِدٌ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّ الْإِقْرَارَ وَالشَّهَادَةَ وَالْإِسْلَامَ لَا يَدْخُلُهَا خِيَارٌ، وَلَا تَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَتْ عُقُودُ الْمُكْرَهِ مِنْ النُّفُوذِ لِعَدَمِ الرِّضَا الَّذِي هُوَ مُصَحِّحُ الْعَقْدِ، وَهُوَ أَمْرٌ تَسْتَوِي فِيهِ عُقُودُهُ كُلُّهَا مُعَاوَضَتُهَا وَتَبَرُّعَاتُهَا وَعِتْقُهُ وَطَلَاقُهُ وَخُلْعُهُ وَإِقْرَارُهُ، وَهَذَا هُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ وَالْمِيزَانِ، فَإِنَّ الْمُكْرَهَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ غَيْرُ مُخْتَارٍ لَهُ، فَأَقْوَالُهُ كَأَقْوَالِ النَّائِمِ وَالنَّاسِي، فَاعْتِبَارُ بَعْضِهَا وَإِلْغَاءُ بَعْضِهَا خُرُوجٌ عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَقُلْتُمْ: لَوْ وَقَعَ فِي الْغَدِيرِ الْعَظِيمِ الَّذِي إذَا تَحَرَّكَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ لَمْ يَتَحَرَّكْ الطَّرَفُ الْآخَرُ قَطْرَةَ دَمٍ أَوْ خَمْرٍ أَوْ بَوْلِ آدَمِيٍّ نَجَّسَهُ كُلَّهُ، وَإِذَا وَقَعَ فِي آبَارِ الْفَلَوَاتِ وَالْأَمْصَارِ الْبَعْرُ وَالرَّوْثُ وَالْأَخْبَاثُ لَا تُنَجِّسُهَا مَا لَمْ يَأْخُذْ وَجْهَ رُبُعِ الْمَاءِ أَوْ ثُلُثِهِ، وَقِيلَ: أَنْ لَا يَخْلُوَ دَلْوٌ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ أَقْرَبُ إلَى الطِّيبِ وَالطَّهَارَةِ حِسًّا وَشَرْعًا مِنْ هَذَا، وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّكُمْ نَجَّسْتُمْ الْأَدْهَانَ وَالْأَلْبَانَ وَالْخَلَّ وَالْمَائِعَاتِ بِأَسْرِهَا بِالْقَطْرَةِ مِنْ الْبَوْلِ وَالدَّمِ، وَعَفَوْتُمْ عَمَّا دُونَ رُبُعِ الثَّوْبِ مِنْ النَّجَاسَةِ الْمُخَفَّفَةِ، وَعَمَّا دُونَ قَدْرِ الْكَفِّ مِنْ الْمُغَلَّظَةِ.
وَقِسْتُمْ الْعَفْوَ عَنْ رُبُعِ الثَّوْبِ عَلَى وُجُوبِ مَسْحِ رُبُعِ الرَّأْسِ وَوُجُوبِ حَلْقِ رُبُعِهِ فِي الْإِحْرَامِ، وَأَيْنَ مَسْحُ الرَّأْسِ عَنْ غُسْلِ النَّجَاسَةِ؟ وَلَمْ يَقِيسُوا الْمَاءَ وَالْمَائِعَ عَلَى الثَّوْبِ مَعَ عَدَمِ ظُهُورِ أَثَرِ النَّجَاسَةِ فِيهِمَا
أَلْبَتَّةَ وَظُهُورُ عَيْنِهَا وَرَائِحَتِهَا فِي الثَّوْبِ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ حَيْثُ يَعْفُو عَنْ قَدْرِ ذِرَاعٍ فِي ذِرَاعٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَنْ قَدْرِ شِبْرٍ فِي شِبْرٍ، وَبِكُلِّ حَالٍ فَالْعَفْوُ عَمَّا هُوَ دُونَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ مِمَّا لَا نِسْبَةَ لَهُ إلَيْهِ فِي الْمَاءِ وَالْمَائِعِ الَّذِي لَا يَظْهَرُ أَثَرُ النَّجَاسَةِ فِيهِ بِوَجْهٍ بَلْ يُحِيلُهَا وَيُذْهِبُ عَيْنَهَا وَأَثَرَهَا أَوْلَى وَأَحْرَى.
وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ الشَّرْعُ وَالْحِسُّ بَيْنَهُمَا، فَقِسْتُمْ الْمَنِيَّ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْآدَمِيِّينَ عَلَى الْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ الشَّرْعُ وَالْحِسُّ بَيْنَهُمَا فَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ بَعْضِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ وَغَيْرِهَا مَعَ اسْتِوَائِهَا فِي الْإِسْكَارِ، فَجَعَلْتُمْ بَعْضَهَا نَجِسًا كَالْبَوْلِ وَبَعْضَهَا طَاهِرًا طَيِّبًا كَاللَّبَنِ وَالْمَاءِ، وَقُلْتُمْ: لَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ نَجَاسَةٌ تَنَجَّسَ مَاؤُهَا وَطِينُهَا، فَإِنْ نُزِحَ مِنْهَا دَلْوٌ فَتَرَشْرَشَ عَلَى حِيطَانِهَا تَنَجَّسَتْ حِيطَانُهَا، وَكُلَّمَا نُزِحَ مِنْهَا شَيْءٌ نَبَعَ مَكَانَهُ شَيْءٌ فَصَادَفَ مَاءً نَجِسًا وَطِينًا نَجِسًا، فَإِذَا وَجَبَ نَزْحُ أَرْبَعِينَ دَلْوًا مَثَلًا فَنُزِحَ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ كَانَ الْمَنْزُوحُ وَالْبَاقِي كُلُّهُ نَجِسًا، وَالْحِيطَانُ الَّتِي أَصَابَهَا الْمَاءُ وَالطِّينُ الَّذِي فِي قَرَارِ الْبِئْرِ، حَتَّى إذَا نُزِحَ الدَّلْوُ الْأَرْبَعُونَ قَشْقَشَ النَّجَاسَةَ كُلَّهَا، فَطَهُرَ الطِّينُ وَالْمَاءُ وَحِيطَانُ الْبِئْرِ وَطَهُرَ نَفْسُهُ، فَمَا رُئِيَ أَكْرَمُ مِنْ هَذَا الدَّلْوِ وَلَا أَعْقَلُ وَلَا أَخْيَرُ.
فَصْلٌ
وَقَالَتْ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَحُجَّ بِهَا لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ وَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَقَاسُوا هَذِهِ التَّسْمِيَةَ عَلَى مَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى شَيْءٍ لَا يَدْرِي مَا هُوَ، ثُمَّ قَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ تَزَوَّجَ الْكِتَابِيَّةَ عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهَا الْقُرْآنَ جَازَ، وَقَاسُوهُ عَلَى جَوَازِ إسْمَاعِهَا إيَّاهُ، فَقَاسُوا أَبْعَدَ قِيَاسٍ، وَتَرَكُوا مَحْضَ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَهَا إلَى الْحَجِّ جَازَ، وَنَزَلَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى الْعُرْفِ، فَكَيْفَ صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَوْرِدُ الْعَقْدِ الْإِجَارَةَ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا؟ ثُمَّ نَاقَضْتُمْ أَبْيَنَ مُنَاقَضَةٍ فَقُلْتُمْ: لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَبْدَهَا الْآبِقَ مِنْ مَكَانِ كَذَا وَكَذَا صَحَّ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ وَقَدْ يَعْجِزُ عَنْهُ؟ فَالْغَرَرُ الَّذِي فِي هَذَا الْأَمْرِ أَعْظَمُ مِنْ الْغَرَرِ الَّذِي فِي حَمْلِهَا إلَى الْحَجِّ بِكَثِيرٍ، وَقُلْتُمْ: لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهَا الْقُرْآنَ أَوْ بَعْضَهُ صَحَّ.
وَقَدْ تَقْبَلُ التَّعْلِيمَ وَقَدْ لَا تَقْبَلُهُ، وَقَدْ يُطَاوِعُهَا لِسَانُهَا وَقَدْ يَأْبَى عَلَيْهَا، وَقُلْتُمْ: لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ مَعَ اخْتِلَافِهِ لِامْتِنَاعِ مَنْ يُسَاوِيهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ لِقُرْبِهِ وَإِنْ اتَّفَقَ مَنْ يُسَاوِيهَا فِي النَّسَبِ فَنَادِرٌ جِدًّا مَنْ يُسَاوِيهَا فِي الصِّفَاتِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي يَقِلُّ الْمَهْرُ بِسَبَبِهَا وَيَكْثُرُ فَالْجَهَالَةُ الَّتِي فِي حَجِّهِ بِهَا دُونَ هَذَا بِكَثِيرٍ، وَقُلْتُمْ: لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ مُطْلَقٍ صَحَّ وَلَهَا الْوَسَطُ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي الْوَسَطِ مِنْ التَّفَاوُتِ مَا فِيهِ، وَقُلْتُمْ: لَوْ تَزَوَّجَهَا
عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا عَبْدَ زَيْدٍ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ، مَعَ أَنَّهُ غَرَرٌ ظَاهِرٌ، إذْ تَسْلِيمُ الْمَهْرِ مَوْقُوفٌ عَلَى أَمْرٍ غَيْرِ مَقْدُورٍ لَهُ، وَهُوَ رِضَى زَيْدٍ بِبَيْعِهِ، فَفِيهِ مِنْ الْخَطَرِ مَا فِي رَدِّ عَبْدِهَا الْآبِقِ، وَكِلَاهُمَا أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ الْحَجِّ بِهَا، وَقُلْتُمْ: لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَرْعَى غَنَمَهَا مُدَّةً صَحَّ، وَلَيْسَ جَهَالَةُ حُمْلَانِهَا إلَى الْحَجِّ بِأَعْظَمَ مِنْ جَهَالَةِ أَوْقَاتِ الرَّعْيِ وَمَكَانِهِ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بَعِيدَةٌ مِنْ أُصُولِ أَحْمَدَ وَنُصُوصِهِ وَلَا تُعْرَفُ مَنْصُوصَةً عَنْهُ، بَلْ نُصُوصُهُ عَلَى خِلَافِهَا، قَالَ فِي رِوَايَةٍ مِنْهَا، فِيمَنْ تَزَوَّجَ عَلَى عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ جَازَ، وَإِنْ كَانُوا عَشَرَةَ عَبِيدٍ يُعْطِي مِنْ أَوْسَطِهِمْ، فَإِنْ تَشَاحَّا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، قُلْتُ: وَتَسْتَقِيمُ الْقُرْعَةُ فِي هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَقُلْتُمْ: لَوْ خَالَعَهَا عَلَى كَفَالَةِ وَلَدِهَا عَشَرَ سِنِينَ صَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ قَدْرَ الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ وَالْكِسْوَةِ، فَيَا لَلْعَجَبِ، أَيْنَ جَهَالَةُ هَذَا مِنْ جَهَالَةِ حُمْلَانِهَا إلَى الْحَجِّ؟
فَصْلٌ
وَقَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ: لَهُ أَنْ يُجْبِرَ ابْنَتَهُ الْبَالِغَةَ الْمُفْتِيَةَ الْعَالِمَةَ بِدِينِ اللَّهِ الَّتِي تُفْتِي فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ عَلَى نِكَاحِهَا بِمَنْ هِيَ أَكْرَهُ النَّاسِ لَهُ، وَأَشَدُّ النَّاسِ عَنْهُ نُفْرَةً بِغَيْرِ رِضَاهَا حَتَّى لَوْ عَيَّنَتْ كُفُؤًا شَابًّا جَمِيلًا دَيِّنًا تُحِبُّهُ وَعَيَّنَ كُفُؤًا شَيْخًا مُشَوَّهًا دَمِيمًا كَانَ الْعِبْرَةُ بِتَعْيِينِهِ دُونَهَا، فَتَرَكُوا مَحْضَ الْقِيَاسِ وَالْمَصْلَحَةَ وَمَقْصُودَ النِّكَاحِ مِنْ الْوُدِّ وَالرَّحْمَةِ وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ. وَقَالُوا: لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ لَهَا حَبْلًا أَوْ عُودَ أَرَاكٍ مِنْ مَالِهَا لَمْ يَصِحَّ إلَّا بِرِضَاهَا، وَلَهُ أَنْ يَرِقَّهَا مُدَّةَ الْعُمُرِ عِنْدَ مَنْ هِيَ أَكْرَهُ شَيْءٍ فِيهِ بِغَيْرِ رِضَاهَا.
قَالُوا: وَكَمَا خَرَجْتُمْ عَنْ مَحْض الْقِيَاسِ خَرَجْتُمْ عَنْ صَرِيحِ السُّنَّةِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «خَيَّرَ جَارِيَةً بِكْرًا زَوَّجَهَا أَبُوهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ، وَخَيَّرَ أُخْرَى ثَيِّبًا» .
وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّكُمْ قُلْتُمْ: لَوْ تَصَرَّفَ فِي حَبْلٍ مِنْ مَالِهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْحَظِّ لَهَا كَانَ مَرْدُودًا، حَتَّى إذَا تَصَرَّفَ فِي بَعْضِهَا عَلَى خِلَافِ حَظِّهَا كَانَ لَازِمًا، ثُمَّ قُلْتُمْ: هُوَ أَخْبَرُ بِحَظِّهَا مِنْهَا، وَهَذَا يَرُدُّهُ الْحِسُّ، فَإِنَّهَا أَعْلَمُ بِمَيْلِهَا وَنُفْرَتِهَا وَحَظِّهَا مِمَّنْ تُحِبُّ أَنْ تُعَاشِرَهُ وَتَكْرَهُ عِشْرَتَهُ، وَتَعَلَّقْتُمْ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ:«الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صِمَاتُهَا» .
وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ، وَتَرَكْتُمْ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ:«لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ» وَفِيهِمَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ فِي أَبْضَاعِهِنَّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَإِنَّ الْبِكْرَ تُسْتَأْذَنُ فَتَسْتَحْيِي، قَالَ: إذْنُهَا صِمَاتُهَا» فَنَهَى أَنْ