الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَوْجَبَهُ، وَكَلَامَهُ الطَّلَبِيَّ وَالْخَبَرِيَّ، وَجَعَلَ فِعْلَهُ سَبَبًا لِمَحَبَّتِهِ لِعَبْدِهِ وَرِضَاهُ عَنْهُ وَإِثَابَتِهِ عَلَيْهِ، وَتَرْكَهُ سَبَبًا لِضِدِّ ذَلِكَ، وَلَا سَبِيلَ لَنَا إلَى الْعِلْمِ بِهَذَا إلَّا مِنْ خَبَرِ اللَّهِ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ خَبَرِ رَسُولِهِ عَنْهُ، فَكَيْفَ يُعْلَمُ ذَلِكَ بِقِيَاسٍ أَوْ رَأْيٍ؟ هَذَا ظَاهِرُ الِامْتِنَاعِ.
[لَمْ يَكُنْ الْقِيَاسُ حُجَّةً فِي زَمَنِ الرَّسُولِ]
[لَمْ يَكُنْ الْقِيَاسِ حُجَّةً فِي زَمَنِ الرَّسُولِ] قَالُوا: وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ مِنْ حُجَجِ اللَّهِ وَأَدِلَّةِ أَحْكَامِهِ لَكَانَ حُجَّةً فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَسَائِرِ الْحُجَجِ، فَلِمَا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ حُجَّةً بَعْدَهُ.
وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الْحُجَّةِ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَقِيسُ عَلَى مَا سَمِعَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ يَسْمَعْ، وَلَوْ كَانَ هُوَ مَعْقُولَ النُّصُوصِ لَكَانَ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ بِهِ وَشُمُولُ الْمَعْنَى كَتَعْدِيَةِ الْحُكْمِ بِاللَّفْظِ وَشُمُولِهِ لِجَمِيعِ أَفْرَادِهِ وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، فَلَمَّا قُلْتُمْ لَا يَكُونُ الْقِيَاسُ فِي زَمَنِ النَّصِّ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَعَلُّقَ النُّصُوصِ بِالصَّحَابَةِ كَتَعَلُّقِهَا بِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَوُجُوبُ اتِّبَاعِهَا عَلَى الْجَمِيعِ وَاحِدٌ.
قَالُوا: وَلِأَنَّا لَسْنَا عَلَى ثِقَةٍ مِنْ عَدَمِ تَعْلِيقِ الشَّارِعِ الْحُكْمَ بِالْوَصْفِ الَّذِي يُبْدِ بِهِ الْقِيَاسِيُّونَ وَأَنَّهُ إنَّمَا عَلَّقَ الْحُكْمَ بِالِاسْمِ بِحَيْثُ يُوجَدُ بِوُجُودِهِ وَيَنْتَفِي بِانْتِفَائِهِ بَلْ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ تَعْلِيقٌ بِمَا لَنَا طَرِيقٌ إلَى الْعِلْمِ بِهِ طَرْدًا وَعَكْسًا، بِخِلَافِ تَعْلِيقِهِ بِالْوَصْفِ الشَّبَهِيِّ فَإِنَّهُ خَرْصٌ وَخَزْرٌ، وَمَا كَانَ هَكَذَا لَمْ تَرِدْ بِهِ الشَّرِيعَةُ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعَمَلِ بِالظُّنُونِ إلَّا فِيمَا تَيَقَّنَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ عَلَيْنَا الْعَمَلَ بِهِ؛ لِلْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ اتِّبَاعِ الظُّنُونِ، فَمَنْعُهُ مَنْعٌ يَقِينِيٌّ مِنْ اتِّبَاعِ الظَّنِّ، فَلَا تَتْرُكُهُ إلَّا بِيَقِينٍ يُوجِبُ اتِّبَاعَهُ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ تَشَابُهَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ يَقْتَضِي أَلَّا يَثْبُتَ الْفَرْعُ إلَّا بِمَا يَثْبُتَ بِهِ الْأَصْلُ، فَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَزِمَ تَوَقُّفُ الْفَرْعِ فِي ثُبُوتِهِ عَلَى النَّصِّ كَالْأَصْلِ؛ فَالْقَوْلُ بِالْقِيَاسِ مِنْ أَبْيَنِ الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ الْقِيَاسِ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالِاسْمِ وَحْدَهُ، أَوْ بِالْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ وَحْدَهُ، أَوْ بِهِمَا، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِالِاسْمِ وَحْدَهُ أَوْ بِهِمَا بَطَلَ الْقِيَاسُ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا لَزِمَ أَمْرَانِ مَحْذُورَانِ:
أَحَدُهُمَا: إلْغَاءُ الِاسْمِ الَّذِي اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ، فَإِنَّ الْوَصْفَ إذَا كَانَ أَعَمَّ مِنْهُ وَكَانَ هُوَ الْمُسْتَقِلَّ بِالْحُكْمِ كَانَ الْأَخَصُّ وَهُوَ الِاسْمُ عَدِيمَ التَّأْثِيرِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا كَانَ الِاسْمُ عَدِيمَ التَّأْثِيرِ لَمْ يَكُنْ جَعْلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَصْلًا لِمَا سَكَتَ عَنْهُ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ؛ إذْ التَّأْثِيرُ
لِلْوَصْفِ وَحْدَهُ، بَلْ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ فَرْعٌ وَأَصْلٌ، بَلْ تَكُونَ الصُّورَتَانِ فَرْدَيْنِ مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ، كَمَا يَكُونَ أَفْرَادُ الْعَامِّ لَفْظًا كَذَلِكَ لَيْسَ بَعْضُهَا أَصْلًا لِبَعْضٍ.
قَالُوا: وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْبَيَانَ بِالْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ أَعْلَى مِنْ الْبَيَانِ بِالْقِيَاسِ، فَكَيْفَ يَعْدِلُ الشَّارِعُ - مَعَ كَمَالِ حِكْمَتِهِ - عَنْ الْبَيَانِ الْجَلِيِّ إلَى الْبَيَانِ الْأَخْفَى؟ قَالُوا: وَنَسْأَلُ الْقِيَاسِيَّ عَنْ مَحَلِّ الْقِيَاسِ، أَيَجِبُ فِي الشَّيْئَيْنِ إذَا تَشَابَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أَمْ إذَا اشْتَبَهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي بَعْضِهَا؟ فَإِنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ تَرَكَ قَوْلَهُ وَادَّعَى مُحَالًا، إذْ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ إلَّا وَبَيْنَهُمَا جَامِعٌ وَفَارِقٌ، وَإِنْ قَالَ بِالثَّانِي قِيلَ لَهُ: فَهَلَّا حَكَمْتَ لِلْفَرْعِ بِضِدِّ حُكْمِ الْأَصْلِ مِنْ أَجْلِ الْوَجْهِ الَّذِي خَالَفَهُ فِيهِ؟ فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ جِهَةَ وِفَاقٍ تَدُلُّ عَلَى الِائْتِلَافِ فَهَذِهِ جِهَةُ افْتِرَاقٍ تَدُلُّ عَلَى الِاخْتِلَافِ؛ فَلَيْسَ إلْحَاقُ صُوَرِ النِّزَاعِ بِمُوجَبِ الْوِفَاقِ أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِ بِمُوجَبِ الِافْتِرَاقِ.
قَالُوا: وَلَا يَنْفَعُهُ الِاعْتِذَارُ بِأَنَّهُ مَتَى وَقَعَ الِاتِّفَاقُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي ثَبَتَ الْحُكْمُ مِنْ أَجْلِهِ عَدَّيْتُ - الْحُكْمَ، وَإِلَّا فَلَا.
قِيلَ لَهُ: إذَا كَانَ فِي الْأَصْلِ عِدَّةُ أَوْصَافٍ فَتَعْيِينُكَ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ شُرِعَ الْحُكْمُ قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ، وَقَدْ عَارَضَكَ فِيهِ مُنَازِعُوكَ فَادَّعَوْا أَنَّ الْحُكْمَ شُرِعَ لِغَيْرِ مَا ذَكَرْتَ.
مِثَالُهُ أَنَّ الشَّارِعَ لَمَّا نَصَّ عَلَى رِبَا الْفَضْلِ فِي الْأَعْيَانِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ فَقَالَ قَائِلٌ: إنَّ الْمَعْنَى الَّذِي حَرُمَ التَّفَاضُلُ لِأَجْلِهِ هُوَ الْكَيْلُ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْوَزْنُ فِي الْمَوْزُونَاتِ، قَالَ لَهُ مُنَازِعُهُ: لَا، بَلْ كَوْنُهَا مَطْعُومَةً فَقَالَ آخَرُ: لَا، بَلْ هُوَ كَوْنُهَا مُقْتَاتَةً وَمُدَّخَرَةً، فَقَالَ آخَرُ: لَا، بَلْ كَوْنُهَا تَجْرِي فِيهَا الزَّكَاةُ، فَقَالَ آخَرُ: لَا بَلْ كَوْنُهَا جِنْسًا وَاحِدًا، وَكُلُّ فَرِيقٍ يَزْعُمُ أَنَّ الصَّوَابَ مَا ادَّعَاهُ دُونَ مُنَازَعَةٍ، وَيَقْدَحُ فِيمَا ادَّعَاهُ الْآخَرُ، وَلَا يَتَهَيَّأُ لَهُ قَدَحٌ فِي قَوْلِ مُنَازِعِهِ، إلَّا وَيَتَهَيَّأُ لِمُنَازَعِهِ مِثْلُهُ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ أَوْ دُونُهُ، فَلَوْ ظَنَّ آخَرُونَ فَقَالُوا: الْعِلَّةُ كَوْنُهُ مِمَّا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - امْتَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا تُنْبِتُهُ لَهُمْ الْأَرْضُ، وَقَالَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] وَقَالَ: إنَّ مِنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ فِيهِ أَنْ لَا يُبَاعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا لَكَانَ قَوْلُهُ وَاحْتِجَاجُهُ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْآخَرِينَ وَاحْتِجَاجِهِمْ، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ الدِّينِ بِسَبِيلٍ؟ ،
قَالُوا: وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ النَّصُّ فِي الْأَصْلِ قَدْ دَلَّ عَلَى شَيْئَيْنِ: ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِيهِ نُطْقًا، وَتَعْدِيَتُهُ إلَى مَا فِي مَعْنَاهُ بِالْعِلَّةِ، فَإِذَا نُسِخَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ هَلْ يَبْقَى الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ أَوْ يَزُولُ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ " يَبْقَى " فَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ قُلْتُمْ " يَزُولُ " تَنَاقَضْتُمْ؛ إذْ مِنْ أَصْلِكُمْ أَنَّ نَسْخَ
بَعْضَ مَا يَتَنَاوَلُهُ النَّصُّ لَا يُوجِبُ نَسْخَ جَمِيعِ مَا يَتَنَاوَلُهُ كَالْعَامِّ إذَا خُصَّ بَعْضُ أَفْرَادِهِ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَخْصِيصَ غَيْرِهِ؛ فَإِذَا كَانَ حُكْمُ الْأَصْلِ قَدْ دَلَّ عَلَى شَيْئَيْنِ فَارْتَفَعَ أَحَدُهُمَا فَمَا الْمُوجِبُ لِارْتِفَاعِ الثَّانِي؟ وَإِنْ قُلْتُمْ " يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ وَيَرْتَفِعُ بِالْقِيَاسِ " قِيلَ: إنَّمَا أَثْبَتُّمُوهُ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ عِنْدَكُمْ، وَالْعِلَّةُ لَمْ تَزُلْ بِالنَّسْخِ، وَهِيَ سَبَبُ ثُبُوتِهِ، وَمَا دَامَ السَّبَبُ قَائِمًا فَالْمُسَبِّبُ كَذَلِكَ، وَلَوْ زَالَتْ الْعِلَّةُ بِالنَّسْخِ لَأَمْكَنَ تَصْحِيحُ قَوْلِكُمْ.
فَإِنْ قُلْتُمْ: نَسْخُ حُكْمِ الْأَصْلِ يَقْتَضِي نَسْخَ كَوْنِ الْعِلَّةِ عِلَّةً.
قِيلَ: هَذِهِ دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، فَإِنَّ النَّصَّ اقْتَضَى ثُبُوتَ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَكَوْنُ وَصْفِ كَذَا عِلَّةَ مُقْتَضَى التَّعْدِيَةِ عَلَى قَوْلِكُمْ، فَهُمَا حُكْمَانِ مُتَغَايِرَانِ؛ فَزَوَالُ أَحَدِهِمَا لَا يَسْتَلْزِمُ زَوَالَ الْآخَرِ.
قَالُوا: وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ مِنْ الدِّينِ لَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأُمَّتِهِ: " إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ أَوْ نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَقِيسُوا عَلَيْهِ مَا كَانَ مِثْلَهُ أَوْ شِبْهَهُ " وَلَكَانَ هَذَا أَكْثَرَ شَيْءٍ فِي كَلَامِهِ، وَطُرُقُ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ مُتَنَوِّعَةٌ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ غُلَاةِ الْقِيَاسِيِّينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ النُّصُوصَ لَا تَفِي بِعُشْرِ مِعْشَارِ الْحَوَادِثِ، وَعَلَى قَوْلِ هَذَا الْغَالِي الْجَافِي عَنْ النُّصُوصِ فَالْحَاجَةُ إلَى الْقِيَاسِ أَعْظَمُ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى النُّصُوصِ، فَهَلَّا جَاءَتْ الْوَصِيَّةُ بِاتِّبَاعِهِ وَمُرَاعَاتِهِ، وَالْوَصِيَّةُ بِحِفْظِ حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَأَنْ لَا تُتَعَدَّى.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - حَدَّ لِعِبَادِهِ حُدُودَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بِكَلَامِهِ، وَذَمَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَاَلَّذِي أَنْزَلَهُ هُوَ كَلَامُهُ، فَحُدُودُ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ هُوَ الْوُقُوفُ عِنْدَ حَدِّ الِاسْمِ الَّذِي عَلَّقَ عَلَيْهِ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمُنَزِّلُ عَلَى رَسُولِهِ وَحْدَهُ بِمَا وُضِعَ لَهُ لُغَةً أَوْ شَرْعًا، بِحَيْثُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُ مَوْضُوعِهِ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ مَوْضُوعِهِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ حَدَّ الْبُرِّ لَا يَتَنَاوَلُ الْخَرْدَلَ، وَحَدَّ التَّمْرِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْبَلُّوطُ، وَحَدَّ الذَّهَبِ لَا يَتَنَاوَلُ الْقُطْنَ؛ وَلَا يَخْتَلِفُ النَّاسُ أَنَّ حَدَّ الشَّيْءِ مَا يَمْنَعُ دُخُولَ غَيْرِهِ فِيهِ، وَيَمْنَعُ خُرُوجَ بَعْضِهِ مِنْهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذَا وَأَعَدْنَاهُ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، فَإِنَّ أَعْلَمَ الْخَلْقِ بِالدِّينِ أَعْلَمُهُمْ بِحُدُودِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي عُلِّقَ بِهَا الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ.
وَالْأَسْمَاءُ الَّتِي لَهَا حُدُودٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ لَهُ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَمَنْ حَمَلَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ عَلَى غَيْرِ مُسَمَّاهَا أَوْ خَصَّهَا بِبَعْضِهِ أَوْ أَخْرَجَ مِنْهَا بَعْضَهُ فَقَدْ تَعَدَّى حُدُودَهَا.
وَنَوْعٌ لَهُ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالتَّقْوَى وَنَظَائِرِهَا، فَحُكْمُهَا فِي تَنَاوُلِهَا لِمُسَمَّيَاتِهَا الشَّرْعِيَّةِ كَحُكْمِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ فِي تَنَاوُلِهِ لِمُسَمَّاهُ اللُّغَوِيِّ.
وَنَوْعٌ لَهُ حَدٌّ فِي الْعُرْفِ لَمْ يَحُدَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
بِحَدٍّ غَيْرِ الْمُتَعَارَفِ، وَلَا حَدَّ لَهُ فِي اللُّغَةِ كَالسَّفَرِ وَالْمَرَضِ الْمُبِيحِ لِلتَّرَخُّصِ وَالسَّفَهِ وَالْجُنُونِ الْمُوجِبِ لِلْحَجْرِ وَالشِّقَاقِ الْمُوجِبِ لِبَعْثِ الْحَكَمَيْنِ وَالنُّشُوزِ الْمُسَوِّغِ لِهَجْرِ الزَّوْجَةِ وَضَرْبِهَا وَالتَّرَاضِي الْمُسَوِّغِ لِحَلِّ التِّجَارَةِ وَالضِّرَارِ الْمُحَرَّمِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَهَذَا النَّوْعُ فِي تَنَاوُلِهِ لِمُسَمَّاهُ الْعُرْفِيِّ كَالنَّوْعَيْنِ الْآخَرَيْنِ فِي تَنَاوُلِهِمَا لِمُسَمَّاهُمَا.
وَمَعْرِفَةُ حُدُودِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَمُرَاعَاتُهَا مُغْنٍ عَنْ الْقِيَاسِ غَيْرُ مُحْوِجٍ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى الْقِيَاسِ مَنْ قَصَّرَ [فِي] هَذِهِ الْحُدُودِ، وَلَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمًا، وَلَمْ يُعْطِهَا حَقَّهَا مِنْ الدَّلَالَةِ.
مِثَالُهُ تَقْصِيرُ طَائِفَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي مَعْرِفَةِ حَدِّ الْخَمْرِ حَيْثُ خَصُّوهُ بِنَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ الْمُسْكِرَاتِ، فَلَمَّا احْتَاجُوا إلَى تَقْرِيرِ تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ سَلَكُوا طَرِيقَ الْقِيَاسِ، وَقَاسُوا مَا عَدَا ذَلِكَ النَّوْعِ فِي التَّحْرِيمِ عَلَيْهِ، فَنَازَعَهُمْ الْآخَرُونَ فِي هَذَا الْقِيَاسِ، وَقَالُوا: لَا يَجْرِي فِي الْأَسْبَابِ، وَطَالَ النِّزَاعُ بَيْنَهُمْ، وَكَثُرَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ تَقْصِيرِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ حَدِّ الْخَمْرِ؛ فَإِنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ قَدْ حَدَّهُ بِحَدٍّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسْكِرِ فَقَالَ:«كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» فَأَغْنَانَا هَذَا الْحَدُّ عَنْ بَابٍ طَوِيلٍ عَرِيضٍ كَثِيرِ التَّعَبِ مِنْ الْقِيَاسِ، وَأَثْبَتْنَا التَّحْرِيمَ بِنَصِّهِ لَا بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا تَقْصِيرُ طَائِفَةٍ فِي لَفْظِ الْمَيْسِرِ حَيْثُ خَصُّوهُ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ، ثُمَّ جَاءُوا إلَى الشِّطْرَنْجِ مَثَلًا فَرَامُوا تَحْرِيمَهُ قِيَاسًا عَلَيْهِ، فَنَازَعَهُمْ آخَرُونَ فِي هَذَا الْقِيَاسِ وَصِحَّتِهِ، وَطَالَ النِّزَاعُ، وَلَوْ أَعْطَوْا لَفْظَ الْمَيْسِرِ حَقَّهُ وَعَرَفُوا حَدَّهُ لَعَلِمُوا أَنَّ دُخُولَ الشِّطْرَنْجِ فِيهِ أَوْلَى مِنْ دُخُولِ غَيْرِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ مَنْ صَرَّحَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رضي الله عنهم، وَقَالُوا: الشِّطْرَنْجُ مِنْ الْمَيْسِرِ.
وَمِنْ ذَلِكَ تَقْصِيرُ طَائِفَةٍ فِي لَفْظِ السَّارِقِ حَيْثُ أَخْرَجُوا مِنْهُ نَبَّاشَ الْقُبُورِ، ثُمَّ رَامُوا قِيَاسَهُ فِي الْقَطْعِ عَلَى السَّارِقِ، فَقَالَ لَهُمْ مُنَازِعُوهُمْ: الْحُدُودُ وَالْأَسْمَاءُ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا، فَأَطَالُوا وَأَعْرَضُوا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ أَعْطَوْا لَفْظَ السَّارِقِ حَدَّهُ لَرَأَوْا أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي حَدِّهِ وَمُسَمَّاهُ بَيْنَ سَارِقِ الْأَثْمَانِ وَسَارِقِ الْأَكْفَانِ، وَأَنَّ إثْبَاتَ الْأَحْكَامِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ بِالنُّصُوصِ لَا بِمُجَرَّدِ الْقِيَاسِ.
وَنَحْنُ نَقُولُ قَوْلًا نَدِينُ اللَّهَ بِهِ وَنَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى تَوْفِيقِنَا لَهُ وَنَسْأَلُهُ الثَّبَاتَ عَلَيْهِ: إنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تُحْوِجْنَا إلَى قِيَاسٍ قَطُّ، وَإِنَّ فِيهَا غُنْيَةً وَكِفَايَةً عَنْ كُلِّ رَأْيٍ وَقِيَاسٍ وَسِيَاسَةٍ وَاسْتِحْسَانٍ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِفَهْمٍ يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدَهُ فِيهَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] .
وَقَالَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -: " إلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ "