الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَوَازِمِهَا، وَذَلِكَ أَمَارَةُ التَّخْلِيدِ عَلَى ذَلِكَ السِّنِّ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ.
وَقَوْلُهُ: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف: 176] قَالَ الْكَلْبِيُّ: اتَّبَعَ مَسَافِلَ الْأُمُورِ وَتَرَكَ مَعَالِيَهَا، وَقَالَ أَبُو وَرَقٍ: اخْتَارَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: أَرَادَ الدُّنْيَا وَأَطَاعَ شَيْطَانَهُ، وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: كَانَ هَوَاهُ مَعَ الْقَوْمِ يَعْنِي الَّذِينَ حَارَبُوا مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَقَالَ يَمَانٌ: اتَّبَعَ امْرَأَتَهُ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي حَمَلَتْهُ عَلَى مَا فَعَلَ.
فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِدْرَاكُ بِلَكِنَّ يَقْتَضِي أَنْ يُثْبِتَ بَعْدَهَا مَا نَفَى قَبْلَهَا، أَوْ يَنْفِيَ مَا أَثْبَتَ، كَمَا تَقُولُ: لَوْ شِئْت لَأَعْطَيْتُهُ لَكِنِّي لَمْ أُعْطِهِ، وَلَوْ شِئْت لَمَا فَعَلْت كَذَا لَكِنِّي فَعَلْتُهُ؛ فَالِاسْتِدْرَاكُ يَقْتَضِي وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّا لَمْ نَشَأْ أَوْ لَمْ نَرْفَعْ، فَكَيْفَ اسْتَدْرَكَ بِقَوْلِهِ:{وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} [الأعراف: 176] بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} [الأعراف: 176] ؟ قِيلَ: هَذَا مِنْ الْكَلَامِ الْمَلْحُوظِ فِيهِ جَانِبُ الْمَعْنَى الْمَعْدُولِ فِيهِ عَنْ مُرَاعَاةِ الْأَلْفَاظِ إلَى الْمَعَانِي، وَذَلِكَ أَنَّ مَضْمُونَ قَوْلِهِ:{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} [الأعراف: 176] أَنَّهُ لَمْ يَتَعَاطَ الْأَسْبَابَ الَّتِي تَقْتَضِي رَفْعَهُ بِالْآيَاتِ مِنْ إيثَارِ اللَّهِ وَمَرْضَاتِهِ عَلَى هَوَاهُ، وَلَكِنَّهُ آثَرَ الدُّنْيَا وَأَخْلَدَ إلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَعْنَى وَلَوْ لَزِمَ آيَاتِنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا، فَذَكَرَ الْمَشِيئَةَ وَالْمُرَادُ مَا هِيَ تَابِعَةٌ لَهُ وَمُسَبَّبَةٌ عَنْهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَوْ لَزِمَهَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا، قَالَ: أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ} [الأعراف: 176] فَاسْتَدْرَكَ الْمَشِيئَةَ بِإِخْلَادِهِ الَّذِي هُوَ فِعْلُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ {وَلَوْ شِئْنَا} [الأعراف: 176] فِي مَعْنَى مَا هُوَ فِعْلُهُ، وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ، وَلَكِنَّا لَمْ نَشَأْ، فَهَذَا مِنْهُ شِنْشِنَةٌ نَعْرِفُهَا مِنْ قَدَرِيٍّ نَافٍ لِلْمَشِيئَةِ الْعَامَّةِ مُبْعِدٍ لِلنُّجْعَةِ فِي جَعْلِ كَلَامِ اللَّهِ مُعْتَزِلِيًّا قَدَرِيًّا، فَأَيْنَ قَوْلُهُ:{وَلَوْ شِئْنَا} [الأعراف: 176] مِنْ قَوْلِهِ: " وَلَوْ لَزِمَهَا " ثُمَّ إذَا كَانَ اللُّزُومُ لَهَا مَوْقُوفًا عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ وَهُوَ الْحَقُّ بَطَلَ أَصْلُهُ.
وَقَوْلُهُ: " إنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَابِعَةٌ لِلُزُومِهِ الْآيَاتِ " مِنْ أَفْسَدِ الْكَلَامِ وَأَبْطَلَهُ، بَلْ لُزُومُهُ لِآيَاتِهِ تَابِعٌ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ، فَمَشِيئَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَتْبُوعَةٌ، لَا تَابِعَةٌ، وَسَبَبٌ لَا مُسَبَّبٌ، وَمُوجِبٌ مُقْتَضٍ لَا مُقْتَضًى، فَمَا شَاءَ اللَّهُ وَجَبَ وُجُودُهُ، وَمَا لَمْ يَشَأْ امْتَنَعَ وُجُودُهُ
[فَصْلٌ مِثْل مِنْ الْقِيَاسِ التَّمْثِيلِيِّ]
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12] وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْقِيَاسِ التَّمْثِيلِيِّ فَإِنَّهُ شَبَّهَ تَمْزِيقَ عِرْضِ الْأَخِ بِتَمْزِيقِ لَحْمِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُغْتَابُ يُمَزِّقُ عِرْضَ أَخِيهِ فِي غِيبَتِهِ كَانَ
بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقْطَعُ لَحْمَهُ فِي حَالِ غِيبَةِ رُوحِهِ عَنْهُ بِالْمَوْتِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُغْتَابُ عَاجِزًا عَنْ دَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِكَوْنِهِ غَائِبًا عَنْ ذَمِّهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ الَّذِي يُقَطَّعُ لَحْمُهُ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَمَّا كَانَ مُقْتَضَى الْأُخُوَّةِ التَّرَاحُمَ وَالتَّوَاصُلَ وَالتَّنَاصُرَ فَعَلَّقَ عَلَيْهَا الْمُغْتَابُ ضِدَّ مُقْتَضَاهَا مِنْ الذَّمِّ وَالْعَيْبِ وَالطَّعْنِ كَانَ ذَلِكَ نَظِيرَ تَقْطِيعِ لَحْمِ أَخِيهِ، وَالْأُخُوَّةُ تَقْتَضِي حِفْظَهُ وَصِيَانَتَهُ وَالذَّبَّ عَنْهُ، وَلَمَّا كَانَ الْمُغْتَابُ مُتَمَتِّعًا بِعَرْضِ أَخِيهِ مُتَفَكِّهًا بِغِيبَتِهِ وَذَمِّهِ مُتَحَلِّيًا بِذَلِكَ شُبِّهَ بِآكِلِ لَحْمِ أَخِيهِ بَعْدَ تَقْطِيعِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُغْتَابُ مُحِبًّا لِذَلِكَ مُعْجَبًا بِهِ شُبِّهَ بِمَنْ يُحِبُّ أَكْلَ لَحْمِ أَخِيهِ مَيْتًا، وَمَحَبَّتُهُ لِذَلِكَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ أَكْلِهِ، كَمَا أَنَّ أَكْلَهُ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى تَمْزِيقِهِ.
فَتَأَمَّلْ هَذَا التَّشْبِيهَ وَالتَّمْثِيلَ وَحُسْنَ مَوْقِعِهِ وَمُطَابِقَةَ الْمَعْقُولِ فِيهِ الْمَحْسُوسَ، وَتَأَمَّلْ إخْبَارَهُ عَنْهُمْ بِكَرَاهَةِ أَكْلِ لَحْمِ الْأَخِ مَيْتًا، وَوَصْفَهُمْ بِذَلِكَ فِي آخَرِ الْآيَةِ، وَالْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ فِي أَوَّلِهَا أَنْ يُحِبَّ أَحَدُهُمْ ذَلِكَ، فَكَمَا أَنَّ هَذَا مَكْرُوهٌ فِي طِبَاعِهِمْ فَكَيْفَ يُحِبُّونَ مَا هُوَ مِثْلُهُ وَنَظِيرُهُ: فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا كَرِهُوهُ عَلَى مَا أَحَبُّوهُ، وَشَبَّهَ لَهُمْ مَا يُحِبُّونَهُ بِمَا هُوَ أَكْرَهُ شَيْءٍ إلَيْهِمْ، وَهُمْ أَشَدُّ شَيْءٍ نُفْرَةً عَنْهُ؛ فَلِهَذَا يُوجِبُ الْعَقْلُ وَالْفِطْرَةُ وَالْحِكْمَةُ أَنْ يَكُونُوا أَشَدَّ شَيْءٍ نُفْرَةً عَمَّا هُوَ نَظِيرُهُ وَمُشْبِهُهُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَصْلٌ
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18] .
فَشَبَّهَ تَعَالَى أَعْمَالَ الْكُفَّارِ فِي بُطْلَانِهَا وَعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِرَمَادٍ مَرَّتْ عَلَيْهِ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ؛ فَشَبَّهَ سُبْحَانَهُ أَعْمَالَهُمْ فِي حُبُوطِهَا وَذَهَابِهَا بَاطِلًا كَالْهَبَاءِ الْمَنْثُورِ لِكَوْنِهَا عَلَى غَيْرِ أَسَاس مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ وَكَوْنِهَا لِغَيْرِ اللَّهِ عز وجل وَعَلَى غَيْرِ أَمْرِهِ بِرَمَادٍ طَيَّرَتْهُ الرِّيحُ الْعَاصِفُ فَلَا يَقْدِرُ صَاحِبُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ وَقْتَ شِدَّةِ حَاجَتِهِ إلَيْهِ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ: {لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إبراهيم: 18] لَا يَقْدِرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِمَّا كَسَبُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ عَلَى شَيْءٍ، فَلَا يَرَوْنَ لَهُ أَثَرًا مِنْ ثَوَابٍ وَلَا فَائِدَةٍ نَافِعَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ، مُوَافِقًا لِشَرْعِهِ، وَالْأَعْمَالُ أَرْبَعَةٌ، فَوَاحِدٌ مَقْبُولٌ وَثَلَاثُهُ مَرْدُودَةٌ؛ فَالْمَقْبُولُ الْخَالِصُ الصَّوَابُ، فَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا شَرَعَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَالثَّلَاثَةُ الْمَرْدُودَةُ مَا خَالَفَ ذَلِكَ.
وَفِي تَشْبِيهِهَا بِالرَّمَادِ سِرٌّ بَدِيعٌ، وَذَلِكَ لِلتَّشَابُهِ الَّذِي بَيْنَ أَعْمَالِهِمْ وَبَيْنَ الرَّمَادِ فِي إحْرَاقِ النَّارِ وَإِذْهَابِهَا لِأَصْلِ هَذَا وَهَذَا، فَكَانَتْ الْأَعْمَالُ الَّتِي لِغَيْرِ اللَّهِ وَعَلَى غَيْرِ مُرَادِهِ طُعْمَةً
لِلنَّارِ، وَبِهَا تُسْعَرُ النَّارُ عَلَى أَصْحَابِهَا، وَيُنْشِئُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ الْبَاطِلَةِ نَارًا وَعَذَابًا، كَمَا يُنْشِئُ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ الْمُوَافِقَةِ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ الَّتِي هِيَ خَالِصَةٌ لِوَجْهِهِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ نَعِيمًا وَرُوحًا، فَأَثَّرَتْ النَّارُ فِي أَعْمَالِ أُولَئِكَ حَتَّى جَعَلَتْهَا رَمَادًا، فَهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وُقُودُ النَّارِ.
فَصْلٌ.
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24]{تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 25] فَشَبَّهَ سبحانه وتعالى الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ بِالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ؛ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ تُثْمِرُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَالشَّجَرَةَ الطَّيِّبَةَ تُثْمِرُ الثَّمَرَ النَّافِعَ.
وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ " الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ هِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " فَإِنَّهَا تُثْمِرُ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، فَكُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ مَرَضِيٍّ لِلَّهِ ثَمَرَةُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ.
وَفِي تَفْسِيرِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ وَهُوَ الْمُؤْمِنُ، أَصْلُهَا ثَابِتٌ قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ يَقُولُ يُرْفَعُ بِهَا عَمَلُ الْمُؤْمِنِ إلَى السَّمَاءِ ".
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: " كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ هَذَا مَثَلُ الْإِيمَانِ؛ فَالْإِيمَانُ الشَّجَرَةُ الطَّيِّبَةُ. وَأَصْلُهَا الثَّابِتُ الَّذِي لَا يَزُولُ الْإِخْلَاصُ فِيهِ، وَفَرْعُهُ فِي السَّمَاءِ خَشْيَةُ اللَّهِ " وَالتَّشْبِيهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ وَأَحْسَنُ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ شَبَّهَ شَجَرَةَ التَّوْحِيدِ فِي الْقَلْبِ بِالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ الثَّابِتَةِ الْأَصْلِ الْبَاسِقَةِ الْفَرْعِ فِي السَّمَاءِ عُلُوًّا، الَّتِي لَا تَزَالُ تُؤْتِي ثَمَرَتَهَا كُلَّ حِينٍ، وَإِذَا تَأَمَّلْت هَذَا التَّشْبِيهَ رَأَيْتَهُ مُطَابِقًا لِشَجَرَةِ التَّوْحِيدِ الثَّابِتَةِ الرَّاسِخَةِ فِي الْقَلْبِ، الَّتِي فُرُوعُهَا مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ صَاعِدَةٌ إلَى السَّمَاءِ، وَلَا تُزَال هَذِهِ الشَّجَرَةُ تُثْمِرُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ كُلَّ وَقْتٍ؛ بِحَسْبِ ثَبَاتِهَا فِي الْقَلْبِ، وَمَحَبَّةِ الْقَلْبِ لَهَا، وَإِخْلَاصِهِ فِيهَا، وَمَعْرِفَتِهِ بِحَقِيقَتِهَا، وَقِيَامِهِ بِحُقُوقِهَا، وَمُرَاعَاتِهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، فَمَنْ رَسَخَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي قَلْبِهِ بِحَقِيقَتِهَا الَّتِي هِيَ حَقِيقَتُهَا وَاتَّصَفَ قَلْبُهُ بِهَا وَانْصَبَغَ بِهَا بِصِبْغَةِ اللَّهِ الَّتِي لَا أَحْسَنَ صِبْغَةً مِنْهَا فَعَرَفَ حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي يُثْبِتُهَا قَلْبُهُ لِلَّهِ وَيَشْهَدُ بِهَا لِسَانُهُ وَتُصَدِّقُهَا جَوَارِحُهُ، وَنَفَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ وَلَوَازِمَهَا عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ، وَوَاطَأَ قَلْبُهُ لِسَانَهُ فِي هَذَا النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَانْقَادَتْ جَوَارِحُهُ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ طَائِعَةً سَالِكَةً سُبُلَ رَبِّهِ ذُلُلًا غَيْرَ نَاكِبَةٍ عَنْهَا وَلَا بَاغِيَةٍ سِوَاهَا بَدَلًا كَمَا لَا يَبْتَغِي الْقَلْبُ سِوَى مَعْبُودِهِ الْحَقِّ بَدَلًا.
فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْ هَذَا الْقَلْبِ عَلَى هَذَا اللِّسَانِ لَا تَزَالُ تُؤْتِي ثَمَرَتَهَا مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ الصَّاعِدِ إلَى اللَّهِ كُلَّ وَقْتٍ؛ فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ هِيَ الَّتِي رَفَعَتْ هَذَا الْعَمَلَ الصَّالِحَ إلَى الرَّبِّ تَعَالَى، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ
تُثْمِرُ كَلِمًا كَثِيرًا طَيِّبًا يُقَارِنُهُ عَمَلٌ صَالِحٌ فَيَرْفَعُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ يَرْفَعُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ تُثْمِرُ لِقَائِلِهَا عَمَلًا صَالِحًا كُلَّ وَقْتٍ.
[أَثَرُ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ]
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ إذَا شَهِدَ بِهَا الْمُؤْمِنُ عَارِفًا بِمَعْنَاهَا وَحَقِيقَتِهَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا مُتَّصِفًا بِمُوجِبِهَا قَائِمًا قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ وَجَوَارِحُهُ بِشَهَادَتِهِ، فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ هِيَ الَّتِي رَفَعَتْ هَذَا الْعَمَلَ مِنْ هَذَا الشَّاهِدِ، أَصْلُهَا ثَابِتٌ رَاسِخٌ فِي قَلْبِهِ، وَفُرُوعُهَا مُتَّصِلَةٌ بِالسَّمَاءِ، وَهِيَ مُخْرِجَةٌ لِثَمَرَتِهَا كُلَّ وَقْتٍ.
وَمِنْ السَّلَفِ مَنْ قَالَ: إنَّ الشَّجَرَةَ الطَّيِّبَةَ هِيَ النَّخْلَةُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الصَّحِيحُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ الْمُؤْمِنُ نَفْسُهُ كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنِي عَمِّي حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24] يَعْنِي بِالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ الْمُؤْمِنَ، وَيَعْنِي بِالْأَصْلِ الثَّابِتِ فِي الْأَرْضِ وَالْفَرْعِ فِي السَّمَاءِ يَكُونُ الْمُؤْمِنُ يَعْمَلُ فِي الْأَرْضِ وَيَتَكَلَّمُ فَيَبْلُغُ عَمَلُهُ وَقَوْلُهُ السَّمَاءَ وَهُوَ فِي الْأَرْضِ.
وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ فِي قَوْلِهِ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24] قَالَ: ذَلِكَ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ، لَا يَزَالُ يَخْرُجُ مِنْهُ كَلَامٌ طَيِّبٌ وَعَمَلٌ صَالِحٌ يَصْعَدُ إلَى اللَّهِ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24] قَالَ: ذَلِكَ الْمُؤْمِنُ، ضَرَبَ مَثَلَهُ فِي الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَعِبَادَتَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، أَصْلُهَا ثَابِتٌ، قَالَ: أَصْلُ عَمَلِهِ ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ، وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، قَالَ: ذِكْرُهُ فِي السَّمَاءِ، وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَالْمَقْصُودُ بِالْمَثَلِ الْمُؤْمِنُ، وَالنَّخْلَةُ مُشَبَّهَةٌ بِهِ وَهُوَ مُشَبَّهٌ بِهَا، وَإِذَا كَانَتْ النَّخْلَةُ شَجَرَةً طَيِّبَةً فَالْمُؤْمِنُ الْمُشَبَّهُ بِهَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَمَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ إنَّهَا شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ فَالنَّخْلَةُ مِنْ أَشْرَفِ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ.
[بَعْضُ أَسْرَارِ تَشْبِيهِ الْمُؤْمِنِ بِالشَّجَرَةِ]
وَفِي هَذَا الْمَثَلِ مِنْ الْأَسْرَارِ وَالْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ مَا يَلِيقُ بِهِ، وَيَقْتَضِيه عِلْمُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ وَحِكْمَتُهُ.
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الشَّجَرَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ عُرُوقٍ وَسَاقٍ وَفُرُوعٍ وَوَرَقٍ وَثَمَرٍ، فَكَذَلِكَ شَجَرَةُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ؛ لِيُطَابِقَ الْمُشَبَّهُ الْمُشَبَّهَ بِهِ، فَعُرُوقُهَا الْعِلْمُ وَالْمَعْرِفَةُ وَالْيَقِينُ، وَسَاقُهَا الْإِخْلَاصُ، وَفُرُوعُهَا الْأَعْمَالُ، وَثَمَرَتُهَا مَا تُوجِبُهُ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ مِنْ الْآثَارِ الْحَمِيدَةِ وَالصِّفَاتِ
الْمَمْدُوحَةِ وَالْأَخْلَاقِ الزَّكِيَّةِ وَالسَّمْتِ الصَّالِحِ وَالْهَدْيِ وَالدَّلِّ الْمَرْضِيِّ، فَيُسْتَدَلُّ عَلَى غَرْسِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فِي الْقَلْبِ وَثُبُوتِهَا فِيهِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، فَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ صَحِيحًا مُطَابِقًا لِمَعْلُومِهِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ كِتَابَهُ بِهِ وَالِاعْتِقَادُ مُطَابِقًا لِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَخْبَرَتْ بِهِ عَنْهُ رُسُلُهُ وَالْإِخْلَاصُ قَائِمٌ فِي الْقَلْبِ وَالْأَعْمَالُ مُوَافِقَةٌ لِلْأَمْرِ، وَالْهَدْيُ وَالدَّلُّ وَالسَّمْتُ مُشَابِهٌ لِهَذِهِ الْأُصُولِ مُنَاسِبٌ لَهَا، عُلِمَ أَنَّ شَجَرَةَ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ عُلِمَ أَنَّ الْقَائِمَ بِالْقَلْبِ إنَّمَا هُوَ الشَّجَرَةُ الْخَبِيثَةُ الَّتِي اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الشَّجَرَةَ لَا تَبْقَى حَيَّةً إلَّا بِمَادَّةٍ تُسْقِيهَا وَتُنَمِّيهَا، فَإِذَا قُطِعَ عَنْهَا السَّقْيُ أَوْشَكَ أَنْ تَيْبَسَ، فَهَكَذَا شَجَرَةُ الْإِسْلَامِ فِي الْقَلْبِ إنْ لَمْ يَتَعَاهَدْهَا صَاحِبُهَا بِسَقْيِهَا كُلَّ وَقْتٍ بِالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْعَوْدِ بِالتَّذَكُّرِ عَلَى التَّفْكِيرِ وَالتَّفَكُّرِ عَلَى التَّذَكُّرِ، وَإِلَّا أَوْشَكَ أَنْ تَيْبَسَ، وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الْإِيمَانَ يَخْلَقُ فِي الْقَلْبِ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ فَجَدِّدُوا إيمَانَكُمْ» وَبِالْجُمْلَةِ فَالْغَرْسُ إنْ لَمْ يَتَعَاهَدْهُ صَاحِبُهُ أَوْشَكَ أَنْ يَهْلَكَ، وَمِنْ هُنَا تَعْلَمُ شِدَّةَ حَاجَةِ الْعِبَادِ إلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ عَلَى تَعَاقُبِ الْأَوْقَاتِ وَعَظِيمِ رَحْمَتِهِ وَتَمَامِ نِعْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إلَى عِبَادِهِ بِأَنْ وَظَّفَهَا عَلَيْهَا وَجَعَلَهَا مَادَّةً لِسَقْيِ غِرَاسِ التَّوْحِيدِ الَّذِي غَرَسَهُ فِي قُلُوبِهِمْ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْغَرْسَ وَالزَّرْعَ النَّافِعَ قَدْ أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَادَةَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُخَالِطَهُ دَغَلٌ وَنَبْتٌ غَرِيبٌ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ، فَإِنْ تَعَاهَدَهُ رَبُّهُ وَنَقَّاهُ وَقَلَعَهُ كَمُلَ الْغَرْسُ وَالزَّرْعُ، وَاسْتَوَى، وَتَمَّ نَبَاتُهُ، وَكَانَ أَوْفَرَ لِثَمَرَتِهِ، وَأَطْيَبَ وَأَزْكَى، وَإِنْ تَرَكَهُ أَوْشَكَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ لَهُ، أَوْ يُضْعِفَ الْأَصْلَ وَيَجْعَلَ الثَّمَرَةَ ذَمِيمَةً نَاقِصَةً بِحَسْبِ كَثْرَتِهِ وَقِلَّتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِقْهُ نَفْسٍ فِي هَذَا وَمَعْرِفَةٌ بِهِ فَإِنَّهُ يَفُوتُهُ رِبْحٌ كَبِيرٌ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ؛ فَالْمُؤْمِنُ دَائِمًا سَعْيُهُ فِي شَيْئَيْنِ: سَقْيِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، وَتَنْقِيَةِ مَا حَوْلَهَا، فَبِسَقْيِهَا تَبْقَى وَتَدُومُ وَبِتَنْقِيَةِ مَا حَوْلَهَا تَكْمُلُ وَتَتِمُّ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
فَهَذَا بَعْضُ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْمَثَلُ الْعَظِيمُ الْجَلِيلُ مِنْ الْأَسْرَارِ وَالْحِكَمِ، وَلَعَلَّهَا قَطْرَةٌ مِنْ بَحْرٍ بِحَسَبِ أَذْهَانِنَا الْوَاقِفَةِ، وَقُلُوبِنَا الْمُخْطِئَةِ، وَعُلُومِنَا الْقَاصِرَةِ، وَأَعْمَالِنَا الَّتِي تُوجِبُ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ، وَإِلَّا فَلَوْ طَهُرَتْ مِنَّا الْقُلُوبُ، وَصَفَتْ الْأَذْهَانُ وَزَكَتْ النُّفُوسُ، وَخَلَصَتْ الْأَعْمَالُ، وَتَجَرَّدَتْ لَهُمْ لِلتَّلَقِّي عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ لَشَاهَدْنَا مِنْ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ وَأَسْرَارِهِ وَحِكَمِهِ مَا تَضْمَحِلُّ عِنْدَهُ الْعُلُومُ، وَتَتَلَاشَى عِنْدَهُ مَعَارِفُ الْخَلْقِ، وَبِهَذَا تَعْرِفُ قَدْرَ عُلُومِ
الصَّحَابَةِ وَمَعَارِفِهِمْ، وَأَنَّ التَّفَاوُتَ الَّذِي بَيْنَ عُلُومِهِمْ وَعُلُومِ مَنْ بَعْدَهُمْ كَالتَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَهُمْ فِي الْفَضْلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ مَوَاقِعَ فَضْلِهِ وَمَنْ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ.
فَصْلٌ.
[مَثَلُ الْكَافِرِ]
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَثَلَ الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ فَشَبَّهَهَا بِالشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ، فَلَا عِرْقَ ثَابِتٌ، وَلَا فَرْعَ عَالٍ، وَلَا ثَمَرَةَ زَاكِيَةٌ، فَلَا ظِلَّ، وَلَا جَنًى، وَلَا سَاقَ قَائِمٌ، وَلَا عِرْقَ فِي الْأَرْضِ ثَابِتٌ، فَلَا أَسْفَلَهَا مُغْدِقٌ وَلَا أَعْلَاهَا مُونِقٌ، وَلَا جَنَى لَهَا، وَلَا تَعْلُو بَلْ تُعْلَى.
وَإِذَا تَأَمَّلَ اللَّبِيبُ أَكْثَرَ كَلَامِ هَذَا الْخَلْقِ فِي خِطَابِهِمْ وَكَسْبِهِمْ وَجَدَهُ كَذَلِكَ؛ فَالْخُسْرَانُ الْوُقُوفُ مَعَهُ وَالِاشْتِغَالُ بِهِ عَنْ أَفْضَلِ الْكَلَامِ وَأَنْفَعِهِ.
قَالَ الضَّحَّاكُ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلْكَافِرِ بِشَجَرَةٍ اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ، يَقُولُ: لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ وَلَا فَرْعٌ، وَلَيْسَ لَهَا ثَمَرَةٌ، وَلَا فِيهَا مَنْفَعَةٌ، كَذَلِكَ الْكَافِرُ لَا يَعْمَلُ خَيْرًا وَلَا يَقُولُهُ، وَلَا يَجْعَلُ اللَّهَ فِيهِ بَرَكَةً وَلَا مَنْفَعَةً.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم: 26]- وَهِيَ الشِّرْكُ - {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم: 26] يَعْنِي الْكَافِرَ، {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم: 26] ، يَقُولُ: الشِّرْكُ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يَأْخُذُ بِهِ الْكَافِرُ وَلَا بُرْهَانٌ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ مَعَ الشِّرْكِ عَمَلًا، فَلَا يُقْبَلُ عَمَلُ الْمُشْرِكِ، وَلَا يَصْعَدُ إلَى اللَّهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فَرْعٌ فِي السَّمَاءِ؛ يَقُولُ: لَيْسَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: مَثَلُ الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ مَثَلُ الْكَافِرِ، لَيْسَ لِقَوْلِهِ وَلَا لِعَمَلِهِ أَصْلٌ وَلَا فَرْعٌ، وَلَا يَسْتَقِرُّ قَوْلُهُ وَلَا عَمَلُهُ عَلَى الْأَرْضِ، وَلَا يَصْعَدُ إلَى السَّمَاءِ.
وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ رَجُلًا لَقِيَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَالَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُ لَهَا فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرًّا وَلَا فِي السَّمَاءِ مِصْعَدًا، إلَّا أَنْ تَلْزَمَ عُنُقَ صَاحِبِهَا حَتَّى يُوَافَى بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَوْلُهُ: {اجْتُثَّتْ} [إبراهيم: 26] أَيْ اُسْتُؤْصِلَتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ فِي الْفَرِيقَيْنِ أَصْحَابِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْكَلِمِ الْخَبِيثِ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُثَبِّتُ الَّذِينَ آمَنُوا بِإِيمَانِهِمْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ أَحْوَجَ مَا يَكُونُونَ إلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ يُضِلُّ الظَّالِمِينَ وَهُمْ الْمُشْرِكُونَ عَنْ الْقَوْلِ الثَّابِتِ، فَأَضَلَّ هَؤُلَاءِ بِعَدْلِهِ لِظُلْمِهِمْ، وَثَبَّتَ الْمُؤْمِنِينَ بِفَضْلِهِ لِإِيمَانِهِمْ
وَتَحْتَ قَوْلِهِ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] كَنْزٌ عَظِيمٌ مَنْ وُفِّقَ لِمَظِنَّتِهِ وَأَحْسَنَ اسْتِخْرَاجَهُ وَاقْتِنَاءَهُ وَأَنْفَقَ مِنْهُ فَقَدْ غَنِمَ، وَمَنْ حُرِمَهُ فَقَدْ حُرِمَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ تَثْبِيتِ اللَّهِ لَهُ طُرْفَةَ عَيْنٍ فَإِنْ لَمْ يُثَبِّتْهُ وَإِلَّا زَالَتْ سَمَاءُ إيمَانِهِ وَأَرْضِهِ عَنْ مَكَانِهِمَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِأَكْرَمِ خَلْقِهِ عَلَيْهِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ:{وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا} [الإسراء: 74] وَقَالَ تَعَالَى لِأَكْرَمِ خَلْقِهِ: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الْبَجَلِيِّ قَالَ: «وَهُوَ يَسْأَلُهُمْ وَيُثَبِّتُهُمْ» وَقَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ: {وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] فَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ قِسْمَانِ: مُوَفَّقٌ بِالتَّثْبِيتِ، وَمَخْذُولٌ بِتَرْكِ التَّثْبِيتِ، وَمَادَّةُ التَّثْبِيتِ أَصْلُهُ وَمَنْشَؤُهُ مِنْ الْقَوْلِ الثَّابِتِ وَفِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ الْعَبْدُ، فَبِهِمَا يُثَبِّتُ اللَّهُ عَبْدَهُ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَثْبَتَ قَوْلًا وَأَحْسَنَ فِعْلًا كَانَ أَعْظَمَ تَثْبِيتًا، قَالَ تَعَالَى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66] فَأَثْبَتُ النَّاسِ قَلْبًا أَثْبَتُهُمْ قَوْلًا، وَالْقَوْلُ الثَّابِتُ هُوَ الْقَوْلُ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ، وَهُوَ ضِدُّ الْقَوْلِ الْبَاطِلِ الْكَذِبِ؛ فَالْقَوْلُ نَوْعَانِ: ثَابِتٌ لَهُ حَقِيقَةٌ، وَبَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَأَثْبَتُ الْقَوْلِ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ وَلَوَازِمُهَا، فَهِيَ أَعْظَمُ مَا يُثَبِّتُ اللَّهُ بِهَا عَبْدَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ وَلِهَذَا تَرَى الصَّادِقَ مِنْ أَثْبَتِ النَّاسِ وَأَشْجَعِهِمْ قَلْبًا، وَالْكَاذِبَ مِنْ أَمْهَنِ النَّاسِ وَأَخْبَثِهِمْ وَأَكْثَرِهِمْ تَلَوُّثًا وَأَقَلِّهِمْ ثَبَاتًا، وَأَهْلُ الْفِرَاسَةِ يَعْرِفُونَ صِدْقَ الصَّادِقِ مِنْ ثَبَاتِ قَلْبِهِ وَقْتَ الْإِخْبَارِ وَشَجَاعَتِهِ وَمَهَابَتِهِ، وَيَعْرِفُونَ كَذِبَ الْكَاذِبِ بِضِدِّ ذَلِكَ؛ وَلَا يَخْفَى ذَلِكَ إلَّا عَلَى ضَعِيفِ الْبَصِيرَةِ.
وَسُئِلَ بَعْضُهُمْ عَنْ كَلَامٍ سَمِعَهُ مِنْ مُتَكَلِّمٍ بِهِ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا فَهِمْت مِنْهُ شَيْئًا، إلَّا أَنِّي رَأَيْت لِكَلَامِهِ صَوْلَةً لَيْسَتْ بِصَوْلَةِ مُبْطِلٍ، فَمَا مُنِحَ الْعَبْدُ مِنْحَةً أَفْضَلَ مِنْ مِنْحَةِ الْقَوْلِ الثَّابِتِ، وَيَجِدُ أَهْلُ الْقَوْلِ الثَّابِتِ ثَمَرَتَهُ أَحْوَجَ مَا يَكُونُونَ إلَيْهِ فِي قُبُورِهِمْ وَيَوْمَ مَعَادِهِمْ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ «عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ» .
[سُؤَالُ الْقَبْرِ وَالتَّثْبِيتُ فِيهِ] وَقَدْ جَاءَ هَذَا مُبَيَّنًا فِي أَحَادِيثَ صِحَاحٍ؛ فَمِنْهَا مَا فِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جِنَازَةٍ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَإِذَا الْإِنْسَانُ دُفِنَ وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ جَاءَهُ مَلَكٌ بِيَدِهِ مِطْرَاقٌ فَأَقْعَدَهُ فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ لَهُ: صَدَقْت، فَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى النَّارِ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا
مَنْزِلُك لَوْ كَفَرْت بِرَبِّك، فَأَمَّا إذْ آمَنْت فَإِنَّ اللَّهَ أَبْدَلَك بِهِ هَذَا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى الْجَنَّةِ، فَيُرِيدُ أَنْ يَنْهَضَ لَهُ، فَيُقَالُ لَهُ: اُسْكُنْ، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ فَيُقَالُ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، فَيُقَالُ لَهُ: لَا دَرَيْت وَلَا اهْتَدَيْت، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَنْزِلُك لَوْ آمَنَتْ بِرَبِّك، فَأَمَّا إذْ كَفَرْت فَإِنَّ اللَّهَ أَبْدَلَك بِهِ هَذَا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى النَّارِ، ثُمَّ يَقْمَعُهُ الْمَلَكُ بِالْمِطْرَاقِ قَمْعَةً يَسْمَعُهُ خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ إلَّا الثَّقَلَيْنِ، قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنَّا مِنْ أَحَدٍ يَقُومُ عَلَى رَأْسِهِ مَلَكٌ بِيَدِهِ مِطْرَاقٌ إلَّا هُبِلَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27] » . وَفِي الْمُسْنَدِ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ
، وَرَوَى الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ زَاذَانَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ:«قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ قَبْضَ رُوحِ الْمُؤْمِنِ فَقَالَ: يَأْتِيهِ آتِ، يَعْنِي فِي قَبْرِهِ، فَيَقُولُ: مَنْ رَبُّك؟ وَمَا دِينُك؟ وَمَنْ نَبِيُّك؟ فَيَقُولُ: رَبِّي اللَّهُ، وَدِينِي الْإِسْلَامُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَيَنْتَهِرُهُ فَيَقُولُ: مَا رَبُّك؟ وَمَا دِينُك؟ وَهِيَ آخَرُ فِتْنَةٍ تَعْرِضُ عَلَى الْمُؤْمِنِ، فَذَلِكَ حَيْثُ يَقُولُ اللَّهُ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] . فَيَقُولُ: رَبِّي اللَّهُ، وَدِينِي الْإِسْلَامُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ، فَيُقَالُ لَهُ: صَدَقْت» وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ
؛ وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27] قَالَ: إذَا قِيلَ لَهُ فِي الْقَبْرِ: مَنْ رَبُّك؟ وَمَا دِينُك؟ فَيَقُولُ رَبِّي اللَّهُ، وَدِينِي الْإِسْلَامُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَآمَنْت بِهِ وَصَدَّقْت، فَيُقَالُ لَهُ: صَدَقْت، عَلَى هَذَا عِشْت، وَعَلَيْهِ مِتَّ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ» .
وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَنْ زَاذَانَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ:«قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَذَكَرَ قَبْضَ رُوحِ الْمُؤْمِنِ، قَالَ: فَتَرْجِعُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيُبْعَثُ إلَيْهِ مَلَكَانِ شَدِيدَا الِانْتِهَارِ، فَيُجْلِسَانِهِ وَيَنْتَهِرَانِهِ وَيَقُولَانِ: مَنْ رَبُّك؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ، وَمَا دِينُك: فَيَقُولُ: الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ أَوْ النَّبِيُّ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا يُدْرِيَك؟ قَالَ: فَيَقُولُ: قَرَأْت كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْت بِهِ وَصَدَّقْت، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تبارك وتعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] » . وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَفِي صَحِيحِهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ قَالَ: «إنَّ الْمَيِّتَ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ مُدْبِرِينَ، فَإِذَا كَانَ مُؤْمِنًا كَانَتْ الصَّلَاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَالزَّكَاةُ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَانَ الصِّيَامُ عَنْ يَسَارِهِ، وَكَانَ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنْ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ
عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَيُؤْتَى مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ فَتَقُولُ الصَّلَاةُ: مَا قَبْلِي مَدْخَلٌ، فَيُؤْتَى عَنْ يَمِينِهِ فَتَقُولُ الزَّكَاةُ: مَا قَبْلِي مَدْخَلٌ، فَيُؤْتَى عَنْ يَسَارِهِ فَيَقُولُ الصِّيَامُ: مَا قَبْلِي مَدْخَلٌ، فَيُؤْتَى مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ فَيَقُولُ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنْ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ: مَا قَبْلِي مَدْخَلٌ، فَيُقَالُ لَهُ: اجْلِسْ، فَيَجْلِسُ قَدْ مُثِّلَتْ لَهُ الشَّمْسُ قَدْ دَنَتْ لِلْغُرُوبِ فَيَقُولُ لَهُ: أَخْبِرْنَا عَنْ مَا نَسْأَلُك عَنْهُ، فَيَقُولُ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ، فَيُقَالُ: إنَّك سَتَفْعَلُ، فَأَخْبِرْنَا عَمَّا نَسْأَلُك، فَيَقُولُ: وَعَمَّ تَسْأَلُونِي؟ فَيُقَالُ لَهُ: أَرَأَيْت هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ، مَاذَا تَقُولُ فِيهِ؟ وَمَاذَا تَشْهَدُ بِهِ عَلَيْهِ؟ فَيَقُولُ: أَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَصَدَّقْنَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ: عَلَى ذَلِكَ حَيِيت، وَعَلَى ذَلِكَ مِتَّ، وَعَلَى ذَلِكَ تُبْعَثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَيُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: اُنْظُرْ إلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَك فِيهَا، فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا، ثُمَّ تُجْعَلُ نِسْمَتُهُ فِي النَّسَمِ الطَّيِّبِ، وَهِيَ طَيْرٌ خُضْرٌ تَعَلَّقَ بِشَجَرِ الْجَنَّةِ، وَيُعَادُ الْجَسَدُ إلَى مَا بَدَأَ مِنْهُ مِنْ التُّرَابِ. وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] » وَلَا تَسْتَطِيلُ هَذَا الْفَصْلَ الْمُعْتَرِضَ فِي الْمُفْتِي وَالشَّاهِدِ وَالْحَاكِمِ، بَلْ وَكُلُّ مُسْلِمٍ أَشَدُّ ضَرُورَةً إلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنَّفَسِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
فَصْلٌ.
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ - حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 30 - 31] فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَثَلَ وَمُطَابَقَتَهُ لِحَالِ مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ وَتَعَلَّقَ بِغَيْرِهِ، وَيَجُوزُ لَك فِي هَذَا التَّشْبِيهِ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَجْعَلَهُ تَشْبِيهًا مُرَكَّبًا، وَيَكُونُ قَدْ شَبَّهَ مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ وَعَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ بِرَجُلٍ قَدْ تَسَبَّبَ إلَى هَلَاكِ نَفْسِهِ هَلَاكًا لَا يُرْجَى مَعَهُ نَجَاةٌ، فَصَوَّرَ بِصُورَةِ حَالِ مَنْ خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَطَفَتْهُ الطَّيْرُ فِي الْهُوِيِّ فَتَمَزَّقَ مِزَقًا فِي حَوَاصِلِهَا، أَوْ عَصَفَتْ بِهِ الرِّيحُ حَتَّى هَوَتْ بِهِ فِي بَعْضِ الْمَطَارِحِ الْبَعِيدَةِ، وَعَلَى هَذَا لَا تَنْظُرُ إلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُشَبَّهِ وَمُقَابِلِهِ مِنْ الْمُشَبَّهِ بِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ التَّشْبِيهِ الْمُفَرَّقِ، فَيُقَابِلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمُمَثَّلِ بِالْمُمَثَّلِ بِهِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَدْ شَبَّهَ الْإِيمَانَ وَالتَّوْحِيدَ فِي عُلُوِّهِ وَسَعَتِهِ وَشَرَفِهِ بِالسَّمَاءِ الَّتِي هِيَ مِصْعَدَهُ وَمَهْبِطَهُ، فَمِنْهَا هَبَطَ إلَى الْأَرْضِ، وَإِلَيْهَا يَصْعَدُ مِنْهَا، وَشَبَّهَ تَارِكَ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ بِالسَّاقِطِ مِنْ السَّمَاءِ إلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ مِنْ حَيْثُ التَّضْيِيقِ الشَّدِيدِ وَالْآلَامِ الْمُتَرَاكِمَةِ وَالطَّيْرِ الَّذِي تَخْطَفُ أَعْضَاءَهُ وَتُمَزِّقُهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ بِالشَّيَاطِينِ الَّتِي يُرْسِلُهَا اللَّهُ سبحانه وتعالى عَلَيْهِ وَتَؤُزُّهُ أَزًّا وَتُزْعِجُهُ وَتُقْلِقُهُ إلَى مَظَانِّ هَلَاكِهِ؛ فَكُلُّ شَيْطَانٍ لَهُ
مُزْعَةٌ مِنْ دِينِهِ وَقَلْبِهِ، كَمَا أَنَّ لِكُلِّ طَيْرٍ مُزْعَةً مِنْ لَحْمِهِ وَأَعْضَائِهِ، وَالرِّيحُ الَّتِي تَهْوِي بِهِ فِي مَكَان سَحِيقٍ هُوَ هَوَاهُ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى إلْقَاءِ نَفْسِهِ فِي أَسْفَلِ مَكَان وَأَبْعَدِهِ مِنْ السَّمَاءِ.
فَصْلٌ.
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73]{مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 74] حَقِيقٌ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَنْ يَسْتَمِعَ قَلْبُهُ لِهَذَا الْمَثَلِ، وَيَتَدَبَّرَهُ حَقَّ تَدَبُّرِهِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ مَوَادَّ الشِّرْكِ مِنْ قَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْبُودَ أَقَلُّ دَرَجَاتِهِ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى إيجَادِ مَا يَنْفَعُ عَابِدُهُ وَإِعْدَامِ مَا يَضُرُّهُ، وَالْآلِهَةُ الَّتِي يَعْبُدُهَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ تَقْدِرَ عَلَى خَلْقِ الذُّبَابِ وَلَوْ اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ لِخَلْقِهِ، فَكَيْفَ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ؟ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِانْتِصَارِ مِنْ الذُّبَابِ إذَا سَلَبَهُمْ شَيْئًا مِمَّا عَلَيْهِمْ مِنْ طِيبٍ وَنَحْوِهِ فَيَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، فَلَا هُمْ قَادِرُونَ عَلَى خَلْقِ الذُّبَابِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَضْعَفِ الْحَيَوَانَاتِ وَلَا عَلَى الِانْتِصَارِ مِنْهُ وَاسْتِرْجَاعِ مَا سَلَبَهُمْ إيَّاهُ، فَلَا أَعْجِزَ مِنْ هَذِهِ الْآلِهَةِ، وَلَا أَضْعَفَ مِنْهَا، فَكَيْفَ يَسْتَحْسِنُ عَاقِلٌ عِبَادَتَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ؟
وَهَذَا الْمَثَلُ مِنْ أَبْلَغِ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي بُطْلَانِ الشِّرْكِ، وَتَجْهِيلِ أَهْلِهِ، وَتَقْبِيحِ عُقُولِهِمْ، وَالشَّهَادَةِ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ تَلَاعَبَ بِهِمْ أَعْظَمَ مِنْ تَلَاعُبِ الصِّبْيَانِ بِالْكُرَةِ حَيْثُ أَعْطَوْا الْإِلَهِيَّةَ الَّتِي مِنْ بَعْضِ لَوَازِمِهَا الْقُدْرَةُ عَلَى جَمِيعِ الْمَقْدُورَاتِ وَالْإِحَاطَةُ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَالْغِنَى عَنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَنْ يُصْعَدَ إلَى الرَّبِّ فِي جَمِيعِ الْحَاجَاتِ وَتَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ وَإِغَاثَةِ اللَّهَفَاتِ وَإِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ، فَأَعْطَوْهَا صُوَرًا وَتَمَاثِيلَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهَا الْقُدْرَةُ عَلَى أَقَلِّ مَخْلُوقَاتٍ لِآلِهَةِ الْحَقِّ وَأَذَلِّهَا وَأَصْغَرِهَا وَأَحْقَرِهَا، وَلَوْ اجْتَمَعُوا لِذَلِكَ وَتَعَاوَنُوا عَلَيْهِ.
وَأَدَلُّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عَجْزِهِمْ وَانْتِفَاءِ إلَهِيَّتِهِمْ أَنَّ هَذَا الْخَلْقَ الْأَقَلَّ الْأَذَلَّ الْعَاجِزَ الضَّعِيفَ لَوْ اخْتَطَفَ مِنْهُمْ شَيْئًا وَاسْتَلَبَهُ فَاجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ لَعَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ سَوَّى بَيْنَ الْعَابِدِ وَالْمَعْبُودِ فِي الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ بِقَوْلِهِ:{ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73] قِيلَ: الطَّالِبُ الْعَابِدُ وَالْمَطْلُوبُ الْمَعْبُودُ، فَهُوَ عَاجِزٌ مُتَعَلِّقٌ بِعَاجِزٍ، وَقِيلَ: هُوَ تَسْوِيَةٌ بَيْنَ السَّالِبِ وَالْمَسْلُوبِ، وَهُوَ تَسْوِيَةٌ بَيْنَ الْإِلَهِ وَالذُّبَابِ فِي الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ؛ وَعَلَى هَذَا فَقِيلَ: الطَّالِبُ الْإِلَهُ الْبَاطِلُ، وَالْمَطْلُوبُ الذُّبَابُ يَطْلُبُ مِنْهُ مَا اسْتَلَبَهُ مِنْهُ، وَقِيلَ: الطَّالِبُ الذُّبَابُ، وَالْمَطْلُوبُ الْإِلَهُ، فَالذُّبَابُ يَطْلُبُ مِنْهُ مَا يَأْخُذُهُ مِمَّا عَلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ، فَضَعْفُ الْعَابِدِ وَالْمَعْبُودِ وَالْمُسْتَلِبِ وَالْمُسْتَلَبِ؛ فَمَنْ
جَعَلَ هَذَا إلَهًا مَعَ الْقَوِيِّ الْعَزِيزِ فَمَا قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ، وَلَا عَرَفَهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَلَا عَظَّمَهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ.
فَصْلٌ.
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171] فَتَضَمَّنَ هَذَا الْمَثَلَ نَاعِقًا أَيْ مُصَوِّتًا بِالْغَنَمِ وَغَيْرِهَا، وَمَنْعُوقًا بِهِ وَهُوَ الدَّوَابُّ، فَقِيلَ: النَّاعِقُ الْعَابِدُ وَهُوَ الدَّاعِي لِلصَّنَمِ، وَالصَّنَمُ هُوَ الْمَنْعُوقُ بِهِ الْمَدْعُوُّ، وَإِنَّ حَالَ الْكَافِرِ فِي دُعَائِهِ كَحَالِ مَنْ يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُهُ، هَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ.
وَاسْتَشْكَلَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ هَذَا الْقَوْلَ، وَقَالُوا: قَوْلُهُ: {إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة: 171] لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَسْمَعُ دُعَاءً وَلَا نِدَاءً.
وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذَا الِاسْتِشْكَالِ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ " إلَّا " زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى بِمَا لَا يَسْمَعُ دُعَاءً وَنِدَاءً، قَالُوا: وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْأَصْمَعِيُّ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
حَرَاجِيجُ مَا تَنْفَكُّ إلَّا مُنَاخَةً
أَيْ مَا تَنْفَكُّ مُنَاخَةً، وَهَذَا جَوَابٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّ " إلَّا " لَا تُزَادُ فِي الْكَلَامِ.
الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ التَّشْبِيهَ وَقَعَ فِي مُطْلَقِ الدُّعَاءِ لَا فِي خُصُوصِيَّاتِ الْمَدْعُوِّ.
الْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ مَثَلَ هَؤُلَاءِ فِي دُعَائِهِمْ آلِهَتَهُمْ الَّتِي لَا تَفْقَهُ دُعَاءَهُمْ كَمَثَلِ النَّاعِقِ بِغَنَمِهِ، فَلَا يَنْتَفِعُ مِنْ نَعِيقِهِ بِشَيْءٍ، غَيْرَ أَنَّهُ هُوَ فِي دُعَاءٍ وَنِدَاءٍ، وَكَذَلِكَ الْمُشْرِكُ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُعَائِهِ وَعِبَادَتِهِ إلَّا الْعَنَاءُ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَالْبَهَائِمِ الَّتِي لَا تَفْقَهُ مِمَّا يَقُولُ الرَّاعِي أَكْثَرَ مِنْ الصَّوْتِ؛ فَالرَّاعِي هُوَ دَاعِي الْكُفَّارِ، وَالْكُفَّارُ هُمْ الْبَهَائِمُ الْمَنْعُوقُ بِهَا.
قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْمَعْنَى وَمَثَلُك يَا مُحَمَّدُ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ النَّاعِقِ وَالْمَنْعُوقِ بِهِ؛ وَعَلَى قَوْلِهِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَدَاعِيهمْ كَمَثَلِ الْغَنَمِ وَالنَّاعِقِ بِهَا
وَلَك أَنْ تَجْعَلَ هَذَا مِنْ التَّشْبِيهِ الْمُرَكَّبِ، وَأَنْ تَجْعَلَهُ مِنْ التَّشْبِيهِ الْمُفَرَّقِ، فَإِنْ جَعَلْتَهُ مِنْ الْمُرَكَّبِ كَانَ تَشْبِيهًا لِلْكُفَّارِ فِي عَدَمِ فِقْهِهِمْ وَانْتِفَاعِهِمْ بِالْغَنَمِ الَّتِي يَنْعَقُ بِهَا الرَّاعِي فَلَا تَفْقَهُ مِنْ قَوْلِهِ شَيْئًا غَيْرَ الصَّوْتِ الْمُجَرَّدِ هُوَ الدُّعَاءُ وَالنِّدَاءُ، وَإِنْ جَعَلْتَهُ مِنْ التَّشْبِيهِ الْمُفَرَّقِ فَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بِمَنْزِلَةِ الْبَهَائِمِ، وَدُعَاءُ دَاعِيهمْ إلَى الطَّرِيقِ وَالْهُدَى بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يَنْعِقُ بِهَا، وَدُعَاؤُهُمْ إلَى الْهُدَى بِمَنْزِلَةِ النَّعْقِ، وَإِدْرَاكُهُمْ مُجَرَّدَ الدُّعَاءِ وَالنِّدَاءِ كَإِدْرَاكِ الْبَهَائِمِ مُجَرَّدَ صَوْتِ النَّاعِقِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ.
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261] شَبَّهَ سُبْحَانَهُ نَفَقَةَ الْمُنْفِقِ فِي سَبِيلِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْجِهَادُ أَوْ جَمِيعُ سُبُلِ الْخَيْرِ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، بِمَنْ بَذَرَ بَذْرًا فَأَنْبَتَتْ كُلُّ حَبَّةٍ مِنْهُ سَبْعَ سَنَابِلَ اشْتَمَلَتْ كُلُّ سُنْبُلَةٍ عَلَى مِائَةِ حَبَّةٍ، وَاَللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ فَوْقَ ذَلِكَ بِحَسْبِ حَالِ الْمُنْفِقِ وَإِيمَانِهِ وَإِخْلَاصِهِ وَإِحْسَانِهِ وَنَفْعِ نَفَقَتِهِ وَقَدْرِهَا وَوُقُوعِهَا مَوْقِعَهَا؛ فَإِنَّ ثَوَابَ الْإِنْفَاقِ يَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ وَالتَّثْبِيتِ عِنْدَ النَّفَقَةِ، وَهُوَ إخْرَاجُ الْمَالِ بِقَلْبٍ ثَابِتٍ قَدْ انْشَرَحَ صَدْرُهُ بِإِخْرَاجِهِ، وَسَمَحَتْ بِهِ نَفْسُهُ، وَخَرَجَ مِنْ قَلْبِهِ خُرُوجَهُ مِنْ يَدِهِ، فَهُوَ ثَابِتُ الْقَلْبِ عِنْدَ إخْرَاجِهِ، غَيْرُ جَزِعٍ وَلَا هَلِعٍ وَلَا مُتْبِعِهِ نَفْسَهُ تَرْجُفُ يَدُهُ وَفُؤَادُهُ، وَيَتَفَاوَتُ بِحَسْبِ نَفْعِ الْإِنْفَاقِ وَمَصَارِفِهِ بِمَوَاقِعِهِ، وَبِحَسْبِ طِيبِ الْمُنْفِقِ وَزَكَاتِهِ وَتَحْتَ هَذَا الْمَثَلِ مِنْ الْفِقْهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ شَبَّهَ الْإِنْفَاقَ بِالْبَذْرِ.
فَالْمُنْفِقُ مَالَهُ الطَّيِّبَ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ بَاذِرٌ مَالَهُ فِي أَرْضٍ زَكِيَّةِ، فَمُغِلُّهُ بِحَسْبِ بَذْرِهِ وَطِيبِ أَرْضِهِ وَتَعَاهُدِ الْبَذْرِ بِالسَّقْيِ وَنَفْيِ الدَّغَلِ وَالنَّبَاتِ الْغَرِيبِ عَنْهُ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ وَلَمْ تُحْرِقْ الزَّرْعَ نَارٌ وَلَا لَحِقَتْهُ جَائِحَةٌ جَاءَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، وَكَانَ مَثَلُهُ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ وَهِيَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ الَّذِي تَكُونُ الْجَنَّةُ فِيهِ نُصْبَ الشَّمْسِ وَالرِّيَاحِ فَتَتَرَبَّى الْأَشْجَارُ هُنَاكَ أَتَمَّ تَرْبِيَةٍ فَنَزَلَ عَلَيْهَا مِنْ السَّمَاءِ مَطَرٌ عَظِيمُ الْقَطْرِ مُتَتَابِعٌ فَرَوَاهَا وَنَمَّاهَا فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْ مَا يُؤْتِيهِ غَيْرُهَا بِسَبَبِ ذَلِكَ الْوَابِلِ، فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ: مَطَرٌ صَغِيرُ الْقَطْرِ، يَكْفِيهَا لِكَرَمِ مَنْبَتِهَا؛ يَزْكُو عَلَى الظِّلِّ وَيَنْمِي عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّ فِي ذِكْرِ نَوْعَيْ الْوَابِلِ وَالطَّلِّ إشَارَةً إلَى نَوْعَيْ الْإِنْفَاقِ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ.
فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ إنْفَاقُهُ وَابِلًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إنْفَاقُهُ طَلًّا، وَاَللَّهُ لَا يُضِيعُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، فَإِنْ عَرَضَ لِهَذَا الْعَامِلِ مَا يُغْرِقُ أَعْمَالَهُ وَيُبْطِلُ حَسَنَاتِهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ اسْتِيفَاءِ الْأَعْمَالِ وَإِحْرَازِ الْأُجُورِ وَجَدَ هَذَا الْعَامِلُ عَمَلَهُ قَدْ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ صَاحِبَ هَذِهِ الْجَنَّةِ، فَحَسْرَتُهُ حِينَئِذٍ أَشَدُّ مِنْ حَسْرَةِ هَذَا عَلَى جَنَّتِهِ.
فَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْحَسْرَةِ لِسَلْبِ النِّعْمَةِ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا مَعَ عِظَمِ قَدْرِهَا وَمَنْفَعَتِهَا، وَاَلَّذِي ذَهَبَتْ عَنْهُ قَدْ أَصَابَهُ الْكِبَرُ وَالضَّعْفُ فَهُوَ أَحْوَجُ مَا كَانَ إلَى نِعْمَتِهِ، وَمَعَ هَذَا فَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَفْعِهِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ، بَلْ هُمْ فِي عِيَالِهِ فَحَاجَتُهُ إلَى نِعْمَتِهِ حِينَئِذٍ أَشَدُّ مَا كَانَتْ لِضَعْفِهِ وَضَعْفِ ذُرِّيَّتِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ هَذَا إذَا كَانَ لَهُ بُسْتَانٌ عَظِيمٌ فِيهِ مِنْ جَمِيعِ الْفَوَاكِهِ وَالثَّمَرِ، وَسُلْطَانُ ثَمَرِهِ أَجَلُّ الْفَوَاكِهِ وَأَنْفَعُهَا، وَهُوَ ثَمَرُ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ، فَمُغَلَّهُ يَقُومُ بِكِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ ذُرِّيَّتِهِ، فَأَصْبَحَ يَوْمًا وَقَدْ وَجَدَهُ مُحْتَرِقًا كُلَّهُ كَالصَّرِيمِ، فَأَيُّ حَسْرَةٍ أَعْظَمُ مِنْ حَسْرَتِهِ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا مَثَلُ الَّذِي يُخْتَمُ لَهُ بِالْفَسَادِ فِي آخَرِ عُمْرِهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا مَثَلُ الْمُفَرِّطِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ حَتَّى يَمُوتَ، وَقَالَ السُّدِّيَّ: هَذَا مَثَلُ الْمُرَائِي فِي نَفَقَتِهِ الَّذِي يُنْفِقُ لِغَيْرِ اللَّهِ، يَنْقَطِعُ عَنْهُ نَفْعُهَا أَحْوَجُ مَا يَكُونُ إلَيْهِ، وَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الصَّحَابَةَ يَوْمًا عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالُوا: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَغَضِبَ عُمَرُ، وَقَالَ: قُولُوا نَعْلَمُ أَوْ لَا نَعْلَمُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: قُلْ يَا ابْنَ أَخِي وَلَا تُحَقِّرْ نَفْسَك، قَالَ: ضَرَبَ مَثَلًا لِعَمَلٍ، قَالَ: لِأَيِّ عَمَلٍ؟ لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِالْحَسَنَاتِ ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطَانَ فَعَمِلَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ أَعْمَالَهُ كُلَّهَا؛ قَالَ الْحَسَنُ: هَذَا مَثَلٌ قَلَّ وَاَللَّهِ مَنْ يَعْقِلُهُ مِنْ النَّاسِ، شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَعُفَ جِسْمُهُ وَكَثُرَ صِبْيَانُهُ أَفْقَرُ مَا كَانَ إلَى جَنَّتِهِ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ وَاَللَّهِ أَفْقَرُ مَا يَكُونُ إلَى عَمَلِهِ إذَا انْقَطَعَتْ عَنْهُ الدُّنْيَا.
فَصْلٌ.
[الرِّيَاءُ وَالْمَنُّ وَالْأَذَى تُبْطِلُ الْأَعْمَالَ]
فَإِنْ عَرَضَ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ مِنْ الصَّدَقَاتِ مَا يُبْطِلُهَا مِنْ الْمَنِّ وَالْأَذَى وَالرِّيَاءِ؛ فَالرِّيَاءُ يَمْنَعُ انْعِقَادَهَا سَبَبًا لِلثَّوَابِ، وَالْمَنُّ وَالْأَذَى يُبْطِلُ الثَّوَابَ الَّذِي كَانَتْ سَبَبًا لَهُ، فَمَثَلُ صَاحِبِهَا وَبُطْلَانِ عَمَلِهِ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ - وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَمْلَسُ - عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ - وَهُوَ الْمَطَرُ الشَّدِيدُ - فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَتَأَمَّلْ أَجْزَاءَ هَذَا الْمَثَلِ الْبَلِيغِ، وَانْطِبَاقِهَا عَلَى أَجْزَاءِ الْمُمَثَّلِ بِهِ، تَعْرِفْ عَظَمَةَ الْقُرْآنِ وَجَلَالَتَهُ، فَإِنَّ الْحَجَرَ فِي مُقَابِلَةِ قَلْبِ هَذَا الْمُرَائِي وَالْمَانِّ وَالْمُؤْذِي، فَقَلْبُهُ فِي قَسْوَتِهِ عَنْ الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْإِحْسَانِ بِمَنْزِلَةِ الْحَجَرِ، وَالْعَمَلُ الَّذِي عَمِلَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ التُّرَابِ الَّذِي عَلَى ذَلِكَ الْحَجَرِ؛ فَقَسْوَةُ مَا تَحْتَهُ وَصَلَابَتُهُ تَمْنَعُهُ مِنْ النَّبَاتِ وَالثَّبَاتِ عِنْدَ نُزُولِ الْوَابِلِ؛ فَلَيْسَ لَهُ مَادَّةٌ مُتَّصِلَةٌ بِاَلَّذِي يَقْبَلُ الْمَاءَ وَيُنْبِتُ الْكَلَأَ،
وَكَذَلِكَ قَلْبُ الْمُرَائِي لَيْسَ لَهُ ثَبَاتٌ عِنْدَ وَابِلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْقَضَاءِ وَالْقَدْرِ، فَإِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ وَابِلُ الْوَحْيِ انْكَشَفَ عَنْهُ ذَلِكَ التُّرَابِ الْيَسِيرِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، فَبَرَزَ مَا تَحْتَهُ حَجَرًا صَلْدًا لَا نَبَاتَ فِيهِ؛ وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِعَمَلِ الْمُرَائِي وَنَفَقَتِهِ، لَا يَقْدِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى ثَوَابِ شَيْءٍ مِنْهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إلَيْهِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
فَصْلٌ.
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 116]{مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران: 117] هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ فِي غَيْرِ طَاعَتِهِ وَمَرْضَاتِهِ، فَشَبَّهَ سُبْحَانَهُ مَا يُنْفِقُهُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي الْمَكَارِمِ وَالْمَفَاخِرِ وَكَسْبِ الثَّنَاءِ وَحُسْنِ الذِّكْرِ لَا يَبْتَغُونَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، وَمَا يُنْفِقُونَهُ لِيَصُدُّوا بِهِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ رُسُلِهِ، بِالزَّرْعِ الَّذِي زَرَعَهُ صَاحِبُهُ يَرْجُو نَفْعَهُ وَخَيْرَهُ فَأَصَابَتْهُ رِيحٌ شَدِيدَةُ الْبَرْدِ جِدًّا، يُحْرِقُ بَرْدُهَا مَا يَمُرُّ عَلَيْهِ مِنْ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، فَأَهْلَكَتْ ذَلِكَ الزَّرْعَ وَأَيْبَسَتْهُ.
وَاخْتُلِفَ فِي الصِّرِّ؛ فَقِيلَ: الْبَرْدُ الشَّدِيدُ، وَقِيلَ: النَّارُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَإِنَّمَا وُصِفَتْ النَّارُ بِأَنَّهَا صِرٌّ لِتَصْرِيَتِهَا عِنْدَ الِالْتِهَابِ، وَقِيلَ: الصِّرُّ الصَّوْتُ الَّذِي يَصْحَبُ الرِّيحَ مِنْ شِدَّةِ هُبُوبِهَا، وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ مُتَلَازِمَةٌ؛ فَهُوَ بَرْدٌ شَدِيدٌ مُحْرِقٌ بِيَبْسِهِ لِلْحَرْثِ كَمَا تُحْرِقُهُ النَّارُ، وَفِيهِ صَوْتٌ شَدِيدٌ.
وَفِي قَوْلِهِ: {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 117] تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ سَبَبَ إصَابَتِهَا لِحَرْثِهِمْ هُوَ ظُلْمُهُمْ؛ فَهُوَ الَّذِي سَلَّطَ عَلَيْهِمْ الرِّيحَ الْمَذْكُورَةَ حَتَّى أَهْلَكَتْ زَرْعَهُمْ وَأَيْبَسَتْهُ، فَظُلْمُهُمْ هُوَ الرِّيحُ الَّتِي أَهْلَكَتْ أَعْمَالَهُمْ وَنَفَقَاتِهِمْ وَأَتْلَفَتْهَا.
فَصْلٌ.
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29] هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلْمُشْرِكِ وَالْمُوَحِّدِ؛ فَالْمُشْرِكُ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ يَمْلِكُهُ جَمَاعَةٌ مُتَنَازِعُونَ مُخْتَلِفُونَ مُتَشَاحُّونَ، وَالرَّجُلُ الْمُتَشَاكِسُ: الضَّيِّقُ الْخُلُقِ، فَالْمُشْرِكُ، لَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آلِهَةً شَتَّى شُبِّهَ بِعَبْدٍ يَمْلِكُهُ جَمَاعَةٌ مُتَنَافِسُونَ فِي خِدْمَتِهِ، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبْلُغَ رِضَاهُمْ أَجْمَعِينَ، وَالْمُوَحِّدُ لَمَّا كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ عَبْدٍ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، قَدْ سَلَمَ لَهُ، وَعَلِمَ مَقَاصِدَهُ، وَعَرَفَ
الطَّرِيقَ إلَى رِضَاهُ، فَهُوَ فِي رَاحَةٍ مِنْ تَشَاحُنِ الْخُلَطَاءِ فِيهِ، بَلْ هُوَ سَالِمٌ لِمَالِكِهِ مِنْ غَيْرِ تَنَازُعٍ فِيهِ، مَعَ رَأْفَةِ مَالِكِهِ بِهِ، وَرَحْمَتِهِ لَهُ، وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهِ، وَإِحْسَانِهِ إلَيْهِ، وَتَوَلِّيهِ لِمَصَالِحِهِ، فَهَلْ يَسْتَوِي هَذَانِ الْعَبْدَانِ؟ وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْأَمْثَالِ؛ فَإِنَّ الْخَالِصَ لِمَالِكٍ وَاحِدٍ يَسْتَحِقُّ مِنْ مَعُونَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَالْتِفَاتِهِ إلَيْهِ وَقِيَامِهِ بِمَصَالِحِهِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الشُّرَكَاءِ الْمُتَشَاكِسِينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
فَصْلٌ.
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ - وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ - وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 10 - 12] فَاشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْثَالٍ: مَثَلٌ لِلْكُفَّارِ، وَمِثْلَيْنِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَتَضَمَّنَ مَثَلُ الْكُفَّارِ أَنَّ الْكَافِرَ يُعَاقَبُ عَلَى كُفْرِهِ وَعَدَاوَتِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَلَا يَنْفَعُهُ مَعَ كُفْرِهِ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ لُحْمَةِ نَسَبٍ أَوْ صِلَةِ صِهْرٍ أَوْ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الِاتِّصَالِ.
فَإِنَّ الْأَسْبَابَ كُلَّهَا تَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا مَا كَانَ مِنْهَا مُتَّصِلًا بِاَللَّهِ وَحْدَهُ عَلَى أَيْدِي رُسُلِهِ، فَلَوْ نَفَعَتْ وَصْلَةُ الْقَرَابَةِ وَالْمُصَاهَرَةِ أَوْ النِّكَاحِ مَعَ عَدَمِ الْإِيمَانِ لَنَفَعَتْ الْوَصْلَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ لُوطٍ وَنُوحٍ وَامْرَأَتَيْهِمَا، فَلَمَّا لَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا {وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10] قَطَعَتْ الْآيَةُ حِينَئِذٍ طَمَعَ مَنْ رَكِبَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ وَخَالَفَ أَمْرَهُ، وَرَجَا أَنْ يَنْفَعَهُ صَلَاحُ غَيْرِهِ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ أَجْنَبِيٍّ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا فِي الدُّنْيَا أَشَدَّ الِاتِّصَالِ، فَلَا اتِّصَالَ فَوْقَ اتِّصَالِ الْبُنُوَّةِ وَالْأُبُوَّةِ وَالزَّوْجِيَّةِ، وَلَمْ يُغْنِ نُوحٌ عَنْ ابْنِهِ، وَلَا إبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِيهِ، وَلَا نُوحٌ وَلَا لُوطٌ عَنْ امْرَأَتَيْهِمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 3] وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار: 19] .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] وَقَالَ: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [لقمان: 33] وَهَذَا كُلُّهُ تَكْذِيبٌ لِأَطْمَاعِ الْمُشْرِكِينَ الْبَاطِلَةِ أَنَّ مَنْ تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ قَرَابَةٍ أَوْ صِهْرٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ صُحْبَةٍ يَنْفَعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ يُجِيرُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، أَوْ
هُوَ يَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَهَذَا أَصْلُ ضَلَالِ بَنِي آدَمَ وَشِرْكِهِمْ، وَهُوَ الشِّرْكُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ، وَهُوَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ جَمِيعَ رُسُلِهِ وَأَنْزَلَ جَمِيعَ كُتُبِهِ بِإِبْطَالِهِ، وَمُحَارَبَةِ أَهْلِهِ وَمُعَادَاتِهِمْ.
فَصْلٌ.
وَأَمَّا الْمَثَلَانِ اللَّذَانِ لِلْمُؤْمِنِينَ فَأَحَدُهُمَا امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَوَجْهُ الْمَثَلِ أَنَّ اتِّصَالَ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ لَا يَضُرُّهُ شَيْئًا إذَا فَارَقَهُ فِي كُفْرِهِ وَعَمَلِهِ، فَمَعْصِيَةُ الْغَيْرِ لَا تَضُرُّ الْمُؤْمِنَ الْمُطِيعَ شَيْئًا فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ تَضَرَّرَ بِهَا فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ الْعُقُوبَةِ الَّتِي تَحِلُّ بِأَهْلِ الْأَرْضِ إذَا أَضَاعُوا أَمْرَ اللَّهِ فَتَأْتِي عَامَّةً، فَلَمْ يَضُرَّ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ اتِّصَالُهَا بِهِ وَهُوَ مِنْ أَكْفَرِ الْكَافِرِينَ، وَلَمْ يَنْفَعْ امْرَأَةَ نُوحٍ وَلُوطٍ اتِّصَالُهُمَا بِهِمَا وَهُمَا رَسُولَا رَبِّ الْعَالَمِينَ.
الْمَثَلُ الثَّانِي لِلْمُؤْمِنِينَ مَرْيَمَ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا، لَا مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ، فَذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ مِنْ النِّسَاءِ: الْمَرْأَةَ الْكَافِرَةَ الَّتِي لَهَا وَصْلَةٌ بِالرَّجُلِ الصَّالِحِ وَالْمَرْأَةَ الصَّالِحَةَ الَّتِي لَهَا وَصْلَةٌ بِالرَّجُلِ الْكَافِرِ، وَالْمَرْأَةَ الْعَزَبَ الَّتِي لَا وَصْلَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَحَدٍ: فَالْأَوْلَى لَا تَنْفَعُهَا وَصْلَتُهَا وَسَبَبُهَا، وَالثَّانِيَةُ لَا تَضُرُّهَا وَصْلَتُهَا وَسَبَبُهَا، وَالثَّالِثَةُ لَا يَضُرُّهَا عَدَمُ الْوَصْلَةِ شَيْئًا.
ثُمَّ فِي هَذِهِ الْأَمْثَالِ مِنْ الْأَسْرَارِ الْبَدِيعَةِ مَا يُنَاسِبُ سِيَاقَ السُّورَةِ؛ فَإِنَّهَا سِيقَتْ فِي ذِكْرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالتَّحْذِيرِ مِنْ تَظَاهُرِهِنَّ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُنَّ إنْ لَمْ يُطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُرِدْنَ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَمْ يَنْفَعْهُنَّ اتِّصَالُهُنَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا لَمْ يَنْفَعْ امْرَأَة نُوحٍ وَلُوط اتِّصَالهمَا بِهِمَا، وَلِهَذَا إنَّمَا ضَرْب فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَثَلَ اتِّصَالَ النِّكَاحِ دُونَ الْقَرَابَةِ.
قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: ضَرَبَ اللَّهُ الْمَثَلَ الْأَوَّلَ يُحَذِّرُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمَا الْمَثَلَ الثَّانِيَ يُحَرِّضُهُمَا عَلَى التَّمَسُّكِ بِالطَّاعَةِ.
وَفِي ضَرْبِ الْمَثَلِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْيَمَ أَيْضًا اعْتِبَارٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهَا لَمْ يَضُرَّهَا عِنْدَ اللَّهِ شَيْئًا قَذْفُ أَعْدَاءِ اللَّهِ الْيَهُودَ لَهَا، وَنِسْبَتُهُمْ إيَّاهَا وَابْنَهَا إلَى مَا بَرَّأَهُمَا اللَّهُ عَنْهُ، مَعَ كَوْنِهَا الصِّدِّيقَةُ الْكُبْرَى الْمُصْطَفَاةُ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ؛ فَلَا يَضُرُّ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قَدْحُ الْفُجَّارِ وَالْفُسَّاقِ فِيهِ.
وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لِعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ إنْ كَانَتْ السُّورَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ قِصَّةِ الْإِفْكِ، وَتَوْطِينِ نَفْسِهَا عَلَى مَا قَالَ فِيهَا الْكَاذِبُونَ إنْ كَانَتْ قَبْلَهَا، كَمَا فِي ذِكْرِ التَّمْثِيلِ بِامْرَأَةِ نُوحٍ وَلُوطٍ تَحْذِيرٌ لَهَا وَلِحَفْصَةَ مِمَّا اعْتَمَدَتَاهُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْأَمْثَالُ التَّحْذِيرَ لَهُنَّ وَالتَّخْوِيفَ، وَالتَّحْرِيضَ لَهُنَّ عَلَى الطَّاعَةِ وَالتَّوْحِيدِ، وَالتَّسْلِيَةِ وَتَوْطِينِ النَّفْسِ لِمَنْ أُوذِيَ مِنْهُنَّ وَكُذِبَ عَلَيْهِ، وَأَسْرَارُ التَّنْزِيلِ فَوْقَ هَذَا وَأَجَلُّ مِنْهُ، وَلَا سِيَّمَا أَسْرَارُ الْأَمْثَالِ الَّتِي لَا يَعْقِلُهَا إلَّا الْعَالِمُونَ.