المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل تناقض أهل القياس دليل فساده] - إعلام الموقعين عن رب العالمين - ط العلمية - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌[مُقَدِّمَة الْكتاب]

- ‌[فَصْلٌ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ مَا يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُوَقِّعُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ]

- ‌[فَصْلٌ أَوَّلُ مَنْ وَقَّعَ عَنْ اللَّهِ]

- ‌[فَصْلٌ عَمَّنْ انْتَشَرَ الدِّينُ وَالْفِقْهُ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْ صَارَتْ إلَيْهِ الْفَتْوَى مِنْ التَّابِعِينَ]

- ‌[فَصْلٌ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فُقَهَاءُ مَكَّةَ]

- ‌[فَصْلٌ فُقَهَاءُ الْبَصْرَةِ]

- ‌[أُصُولُ فَتَاوَى أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ]

- ‌[فَصْلٌ كَرَاهَةُ الْعُلَمَاءِ التَّسَرُّعَ فِي الْفَتْوَى]

- ‌[الْمُرَادُ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ]

- ‌[خَطَرُ تَوَلِّي الْقَضَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمُحَرَّمَاتُ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ]

- ‌[النَّهْيُ عَنْ أَنْ يُقَالَ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ]

- ‌[لَفْظُ الْكَرَاهَةِ يُطْلَقُ عَلَى الْمُحَرَّمِ]

- ‌[مَا يَقُولُهُ الْمُفْتِي فِيمَا اجْتَهَدَ فِيهِ]

- ‌[فَصْلٌ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ فِي الْفُتْيَا]

- ‌[أَدَوَاتُ الْفُتْيَا]

- ‌[الْفَتْوَى بِالتَّقْلِيدِ]

- ‌[شُرُوطُ الْإِفْتَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ الْإِفْتَاءِ فِي دِينِ اللَّهِ بِالرَّأْيِ]

- ‌[الْأَمْرُ بِالرَّدِّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يَشْتَمِلَانِ عَلَى حُكْمِ كُلِّ شَيْءٍ]

- ‌[الْوَعِيدُ عَلَى الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ]

- ‌[فَصْلٌ تَأْوِيلُ مَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ مِنْ الْأَخْذِ بِالرَّأْيِ]

- ‌[فَصْلٌ الرَّأْيُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ]

- ‌[الرَّأْيُ الْبَاطِلُ وَأَنْوَاعُهُ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ]

- ‌[النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ]

- ‌[فَصْلٌ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ]

- ‌[فَصْلٌ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ]

- ‌[فَصْلٌ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ]

- ‌[كِتَابِ عُمَرَ فِي الْقَضَاءِ وشرحه]

- ‌[صِحَّةُ الْفَهْمِ وَحُسْنُ الْقَصْدِ]

- ‌[وَاجِبُ الْحَاكِمِ]

- ‌[نِصَابُ الشَّهَادَةِ]

- ‌[فَصْل تُشْرَعُ الْيَمِينُ مِنْ جِهَةِ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ]

- ‌[صِفَاتُ الْحَاكِمِ وَمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ]

- ‌[فَصْلٌ الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ]

- ‌[فَصْلٌ يُؤَجِّلُ الْقَاضِي الْحُكْمَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ]

- ‌[تَغَيُّرُ الْحُكْم بِتَغَيُّرِ الِاجْتِهَادِ]

- ‌[مَنْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ]

- ‌[فَصْلٌ شَاهِدُ الزُّورِ]

- ‌[الْكَذِبِ فِي غَيْرِ الشَّهَادَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الْحِكْمَةُ فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْكَذَّابِ]

- ‌[فَصْلٌ شَهَادَةِ الْمَجْلُودِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ]

- ‌[فَصْلٌ رَدُّ الشَّهَادَةِ بِالتُّهْمَةِ]

- ‌[فَصْلٌ شَهَادَةُ مَسْتُورِ الْحَالِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي الْقِيَاسِ]

- ‌[أَنْوَاعُ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصْلٌ قِيَاسُ الدَّلَالَةِ]

- ‌[فَصْلٌ قِيَاسُ الشَّبَهِ]

- ‌[فَصْلٌ قِيَاسِ الْعَكْسِ]

- ‌[فَصْلٌ مِثْل مِنْ الْقِيَاسِ التَّمْثِيلِيِّ]

- ‌[السِّرُّ فِي ضَرْبِ الْأَمْثَالِ]

- ‌[تَسْوِيَة الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ جَاءَ الْقُرْآنُ بِتَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ]

- ‌[مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ تَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ]

- ‌[فَصْلٌ حَدِيثُ مُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ الرَّسُولُ إلَى الْيَمَنِ]

- ‌[فَصْلٌ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ يَجْتَهِدُونَ وَيَقِيسُونَ]

- ‌[مَا أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَيْهِ مِنْ مَسَائِلِ الْقِيَاسِ]

- ‌[قِيَاسُ الصَّحَابَةِ حَدَّ الشُّرْبِ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ]

- ‌[قِيَاسُ الصَّحَابَةِ فِي الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ]

- ‌[اخْتِلَافُ الصَّحَابَة فِي الْمَرْأَةِ الْمُخَيَّرَةِ]

- ‌[الصَّحَابَةُ فَتَحُوا بَابَ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ]

- ‌[الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ مَرْكُوزٌ فِي فِطَرِ النَّاسِ]

- ‌[الْقَيَّاسُونَ وَالظَّاهِرِيَّةُ مُفْرِطُونَ]

- ‌[فَصْلٌ قَوْلُ نُفَاةِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصْلٌ فَائِدَةُ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ]

- ‌[فَصْلٌ لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ بِالْقِيَاسِ بَلْ نَهَى عَنْهُ]

- ‌[فَصْلٌ نهى الصَّحَابَةُ عَنْ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصْلٌ ذَمِّ التَّابِعُونَ لِلْقِيَاسِ]

- ‌[فَصْلٌ الْقِيَاسُ يُعَارِضُ بَعْضُهُ بَعْضًا]

- ‌[إذَا اخْتَلَفَتْ الْأَقْيِسَةُ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِينَ]

- ‌[لَمْ يَكُنْ الْقِيَاسُ حُجَّةً فِي زَمَنِ الرَّسُولِ]

- ‌[فَصْلٌ تَنَاقُضُ أَهْلِ الْقِيَاسِ دَلِيلُ فَسَادِهِ]

- ‌[فَصْلٌ مَثَلٌ مِمَّا جَمَعَ فِيهِ الْقِيَاسِيُّونَ بَيْنَ الْمُتَفَرِّقَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ مِنْ تَنَاقُضِ الْقِيَاسِيِّينَ مُرَاعَاةُ بَعْضِ الشُّرُوطِ دُونَ بَعْضِهَا الْآخَرِ]

- ‌[فَصْلٌ هَلْ فِي اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ قِصَاصٌ]

- ‌[فَصْلٌ حُكُومَةُ النَّبِيَّيْنِ الْكَرِيمَيْنِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ]

- ‌[الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي قُوَّة أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ]

- ‌[إحَاطَةُ الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ]

- ‌[فَصْلٌ هَلْ تُحِيطُ النُّصُوصُ بِحُكْمِ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ]

- ‌[أخطاء المختلفين فِي إحاطة النُّصُوص بِأَحْكَام الحوادث]

- ‌[الْخَطَأ الْأَوَّل والثانى]

- ‌[الْخَطَأُ الثَّالِثُ تَحْمِيلُ الِاسْتِصْحَابِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّهُ]

- ‌[الِاسْتِصْحَابُ وَأَقْسَامُهُ]

- ‌[الْخَطَأُ الرَّابِعُ اعْتِقَاد أَنَّ عُقُودَ الْمُسْلِمِينَ وَشُرُوطَهُمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ كُلَّهَا عَلَى الْبُطْلَانِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الصِّحَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ أَخْطَاءُ الْقِيَاسِيِّينَ]

- ‌[فَصْلُ فِي شُمُولُ النُّصُوصِ وَإِغْنَاؤُهَا عَنْ الْقِيَاسِ]

- ‌[الْمَسْأَلَةُ الْمُشْتَرَكَةُ فِي الْفَرَائِضِ]

- ‌[الْمَسْأَلَةُ الْعُمَرِيَّةُ]

- ‌[فَصَلِّ مِيرَاثُ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ]

- ‌[فَصَلِّ مِيرَاثُ الْبَنَاتِ]

- ‌[فَصَلِّ مِيرَاثُ بِنْتِ الِابْنِ]

- ‌[فَصَلِّ مِيرَاثُ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ]

- ‌[فَصْلُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ شَيْءٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ الْحَوَالَةُ مُوَافِقَةٌ لِلْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ الْقَرْضُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ طَهَارَةُ الْخَمْرِ بِالِاسْتِحَالَةِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ الْوُضُوءُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ الْفِطْرُ بِالْحِجَامَةِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ التَّيَمُّمُ جَارٍ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ السَّلَمُ جَارٍ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ الْكِتَابَةُ تَجْرِي عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ بَيَانُ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

الفصل: ‌[فصل تناقض أهل القياس دليل فساده]

«وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ عُمَرُ لِأَبِي مُوسَى " الْفَهْمَ الْفَهْمَ ".

[فَصْلٌ تَنَاقُضُ أَهْلِ الْقِيَاسِ دَلِيلُ فَسَادِهِ]

قَالُوا: وَمِمَّا يُبَيِّنُ فَسَادَ الْقِيَاسِ وَبُطْلَانَهُ تَنَاقُضُ أَهْلِهِ فِيهِ، وَاضْطِرَابُهُمْ تَأْصِيلًا وَتَفْصِيلًا.

أَمَّا التَّأْصِيلُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَجُّ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ، وَهِيَ: قِيَاسُ الْعِلَّةِ، وَالدَّلَالَةِ، وَالشَّبَهِ، وَالطَّرْدِ، وَهُمْ غُلَاتُهُمْ كَفُقَهَاء مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَغَيْرِهِمْ، فَيَحْتَجُّونَ فِي طَرَائِفِهِمْ عَلَى مُنَازِعِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الْمَنْعِ مِنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْمَائِعَاتِ بِأَنَّهُ مَائِعٌ لَا تُبْنَى عَلَيْهِ الْقَنَاطِرُ وَلَا تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ؛ فَلَا تَجُوزُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِهِ كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْيِسَةِ الَّتِي هِيَ إلَى التَّلَاعُبِ بِالدِّينِ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى تَعْظِيمِهِ.

وَطَائِفَةٌ يَحْتَجُّونَ بِالْأَقْيِسَةِ الثَّلَاثَةِ دُونَهُ، وَتَقُولُ: قِيَاسُ الْعِلَّةِ أَنْ يَكُونَ الْجَامِعُ هُوَ الْعِلَّةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا شُرِعَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ، وَقِيَاسُ الدَّلَالَةِ: أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِدَلِيلِ الْعِلَّةِ، وَقِيَاسُ الشَّبَهِ: أَنْ يَتَجَاذَبَ الْحَادِثَةَ أَصْلَانِ حَاظِرٌ وَمُبِيحٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْلَيْنِ أَوْصَافٌ، فَتَلْحَقُ الْحَادِثَةُ بِأَكْثَرِ الْأَصْلَيْنِ شَبَهًا بِهَا، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ بِالْإِبَاحَةِ أَشْبَهَ بِأَرْبَعَةِ أَوْصَافٍ وَبِالْحَظْرِ بِثَلَاثَةٍ؛ فَيَلْحَقُ بِالْإِبَاحَةِ.

وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي هَذَا النَّوْعِ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ: الْقِيَاسُ أَنْ يُقَاسَ الشَّيْءُ عَلَى الشَّيْءِ إذَا كَانَ مِثْلَهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ، فَأَمَّا إذَا أَشْبَهَهُ فِي حَالٍ وَخَالَفَهُ فِي حَالٍ فَأَرَدْتَ أَنْ تَقِيسَ عَلَيْهِ فَهَذَا خَطَأٌ، وَقَدْ خَالَفَهُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ وَوَافَقَهُ فِي بَعْضِهَا، فَإِذَا كَانَ مِثْلَهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ فَمَا أَقْبَلْتَ بِهِ وَأَدْبَرْتَ بِهِ فَلَيْسَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ؛ وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا قِيَاسَ إلَّا قِيَاسُ الْعِلَّةِ فَقَطْ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً. .

ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقِيَاسِيُّونَ فِي مَحَلِّ الْقِيَاسِ، فَقَالَ جُمْهُورُهُمْ: يَجْرِي فِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لَا بَلْ لَا تُثْبِتُ الْأَسْمَاءُ قِيَاسًا، وَإِنَّمَا مَحَلُّ الْقِيَاسِ الْأَحْكَامُ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَأَجْرَاهُ جُمْهُورُهُمْ فِي الْعِبَادَاتِ وَاللُّغَاتِ وَالْحُدُودِ وَالْأَسْبَابِ وَغَيْرِهَا، وَمَنَعَهُ طَائِفَةٌ فِي ذَلِكَ، وَاسْتَثْنَتْ طَائِفَةٌ الْحُدُودَ وَالْكَفَّارَاتِ فَقَطْ، وَاسْتَثْنَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مَعَهَا الْأَسْبَابَ.

ص: 204

وَكُلُّ هَؤُلَاءِ قَسَّمُوهُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِيَاسٌ أَوْلَى، وَقِيَاسُ مِثْلٍ، وَقِيَاسٌ أَدْنَى، ثُمَّ اضْطَرَبُوا فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى الْعُمُومِ أَوْ بِالْعَكْسِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَاضْطَرَبُوا فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى خَبَرِ الْآحَادِ الصَّحِيحِ، فَجُمْهُورُهُمْ قَدَّمَ الْخَبَرَ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْفَرَجِ الْقَاضِي وَأَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ الْمَالِكِيَّانِ: هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ طَرْدُ هَذَا الْقَوْلِ أَلْبَتَّةَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَنَاقُضِهِمْ، وَاضْطَرَبُوا فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى الْخَبَرِ الْمُرْسَلِ، وَعَلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّمَ الْقِيَاسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّمَ الْمُرْسَلَ وَقَوْلَ الصَّحَابِيِّ، وَأَكْثَرُهُمْ - بَلْ كُلُّهُمْ - يُقَدِّمُونَ هَذَا تَارَةً، وَهَذَا تَارَةً، فَهَذَا تَنَاقُضُهُمْ فِي التَّأْصِيلِ.

وَأَمَّا تَنَاقُضُهُمْ فِي التَّفْصِيلِ فَنَذْكُرُ مِنْهُ طَرَفًا يَسِيرًا يَدُلُّ عَلَى مَا وَرَاءَهُ مِنْ قِيَاسِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ قِيَاسًا وَتَرْكِهِمْ فِيهَا مِثْلَهُ أَوْ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، أَوْ تَرْكِهِمْ نَظِيرَ ذَلِكَ الْقِيَاسِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا أَلْبَتَّةَ.

[أَمْثِلَةٌ مِنْ تَنَاقُضِ الْقِيَاسِيِّينَ] فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَجَازُوا الْوُضُوءَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ وَقَاسُوا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَلَيْهِ سَائِرَ الْأَنْبِذَةِ، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ لَمْ يَقِيسُوا عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْقِيَاسُ حَقًّا فَقَدْ تَرَكُوهُ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فَقَدْ اسْتَعْمَلُوهُ، وَلَمْ يَقِيسُوا عَلَيْهِ الْخَلَّ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَكَيْفَ كَانَ نَبِيذُ التَّمْرِ تَمْرَةً طَيِّبَةً وَمَاءً طَهُورًا، وَلَمْ يَكُنْ الْخَلُّ عِنَبَةً طَيِّبَةً وَمَاءً طَهُورًا، وَالْمَرَقُ لَحْمًا طَيِّبًا وَمَاءً طَهُورًا، وَنَقِيعُ الْمِشْمِشِ وَالزَّبِيبِ كَذَلِكَ؟ فَإِنْ ادَّعَوْا الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ الْوُضُوءِ بِذَلِكَ فَلَيْسَ فِيهِ إجْمَاعٌ.

فَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِالْخَلِّ، وَإِنْ كَانَ الْإِجْمَاعُ كَمَا ذَكَرْتُمْ فَهَلَّا قِسْتُمْ الْمَنْعَ مِنْ الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ عَلَى مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ الْمَنْعِ مِنْ الْوُضُوءِ بِالْخَلِّ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: اقْتَصَرْنَا عَلَى مَوْضِعِ النَّصِّ وَلَمْ نَقِسْ عَلَيْهِ، قِيلَ لَكُمْ: فَهَلَّا سَلَكْتُمْ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ نُصُوصِهِ، وَاقْتَصَرْتُمْ عَلَى مَحَالِّهَا الْخَاصَّةِ، وَلَمْ تَقِيسُوا عَلَيْهَا؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: لِأَنَّ هَذَا خِلَافُ الْقِيَاسِ، قِيلَ لَكُمْ: فَقَدْ صَرَّحْتُمْ أَنَّ مَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ، ثُمَّ هَذَا يُبْطِلُ أَصْلَ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ إذَا جَازَ وُرُودُ الشَّرِيعَةِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ عُلِمَ أَنَّ الْقِيَاسَ لَيْسَ مِنْ الْحَقِّ، وَأَنَّهُ عَيْنُ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تَرِدُ بِخِلَافِ الْحَقِّ أَصْلًا، ثُمَّ مِنْ قَاعِدَتِكُمْ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا خَالَفَ الْأُصُولَ لَمْ يُقْبَلْ، وَفِي أَيِّ الْأُصُولِ وَجَدْتُمْ مَا يَجُوزُ التَّطْهِيرُ بِهِ خَارِجَ الْمِصْرِ وَالْقَرْيَةِ وَلَا يَجُوزُ التَّطْهِيرُ بِهِ دَاخِلَهُمَا؟ فَإِنْ قَالُوا: اقْتَصَرْنَا فِي ذَلِكَ عَلَى مَوْضِعِ النَّصِّ، قِيلَ: فَهَلَّا اقْتَصَرْتُمْ بِهِ عَلَى خَارِجِ مَكَّةَ فَقَطْ حَيْثُ جَاءَ الْحَدِيثُ؟ وَكَيْفَ

ص: 205

سَاغَ لَكُمْ قِيَاسُ الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْوُضُوءِ دُونَ قِيَاسِ دَاخِلِ الْمِصْرِ عَلَى خَارِجِهِ؟ وَقِيَاسُ الْعِنَبَةِ الطَّيِّبَةِ وَالْمَاءِ الطَّهُورِ وَاللَّحْمِ الطَّيِّبِ وَالْمَاءِ الطَّهُورِ وَالدِّبْسِ الطَّيِّبِ وَالْمَاءِ الطَّهُورِ عَلَى الثَّمَرَةِ الطَّيِّبَةِ وَالْمَاءِ الطَّهُورِ، فَقِسْتُمْ قِيَاسًا، وَتَرَكْتُمْ مِثْلَهُ، وَمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ، فَهَلَّا اقْتَصَرْتُمْ عَلَى مَوْرِدِ الْحَدِيثِ وَلَا عَدَّيْتُمُوهُ إلَى أَشْبَاهِهِ وَنَظَائِرِهِ؟

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّكُمْ قِسْتُمْ عَلَى خَبَرٍ مَرْوِيٍّ «يَا بَنِي الْمُطَّلِبِ إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ» فَقِسْتُمْ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءَ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ، وَأَبَحْتُمْ لِبَنِي الْمُطَّلِبِ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الْخَبَرُ، وَقِسْتُمْ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ وَهُوَ طَاهِرٌ لَاقَى أَعْضَاءً طَاهِرَةً عَلَى الْمَاءِ الَّذِي لَاقَى الْعَذِرَةَ وَالدَّمَ وَالْمَيْتَاتِ، وَهَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ، وَتَرَكْتُمْ قِيَاسًا أَصَحَّ مِنْهُ وَهُوَ قِيَاسُهُ عَلَى الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي مَحَلِّ التَّطْهِيرِ مِنْ عُضْوٍ إلَى عُضْوٍ وَمِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ انْتِقَالِهِ مِنْ عُضْوِ الْمُتَطَهِّرِ الْوَاحِدِ إلَى عُضْوِهِ الْآخَرِ وَبَيْنَ انْتِقَالِهِ إلَى عُضْوِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ؟ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ» ، وَلَا رَيْبَ عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ أَنَّ قِيَاسَ جَسَدِ الْمُسْلِمِ عَلَى جَسَدِ أَخِيهِ أَصَحُّ مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْعَذِرَةِ وَالْجِيَفِ وَالْمَيْتَاتِ وَالدَّمِ.

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّكُمْ قِسْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ الرَّجُلُ عَلَى الْعَبْدِ الَّذِي أَعْتَقَهُ فِي كَفَّارَتِهِ وَالْمَالِ الَّذِي أَخْرَجَهُ فِي زَكَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ، وَقَدْ تَرَكْتُمْ قِيَاسًا أَصَحَّ فِي الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ مِنْهُ، وَهُوَ قِيَاسُ هَذَا الْمَاءِ الَّذِي قَدْ أَدَّى بِهِ عِبَادَةً عَلَى الثَّوْبِ الَّذِي قَدْ صَلَّى فِيهِ، وَعَلَى الْحَصَى الَّذِي رَمَى بِهِ الْجِمَارَ مَرَّةً عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ مِنْكُمْ الرَّمْيَ بِهَا ثَانِيَةً، وَعَلَى الْحَجَرِ الَّذِي اسْتَجْمَرَ بِهِ مَرَّةً إذَا غَسَلَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِهِ نَجَاسَةٌ.

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّكُمْ قِسْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي وَرَدَتْ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ فَلَمْ تُغَيِّرْ لَهُ لَوْنًا وَلَا طَعْمًا وَلَا رِيحًا عَلَى الْمَاءِ الَّذِي غَيَّرَتْ النَّجَاسَةُ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ، وَهَذَا مِنْ أَبْعَدِ الْقِيَاسِ عَنْ الشَّرْعِ وَالْحُسْنِ. وَتَرَكْتُمْ قِيَاسًا أَصَحَّ مِنْهُ، وَهُوَ قِيَاسُهُ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي وَرَدَ عَلَى النَّجَاسَةِ، فَقِيَاسُ الْوَارِدِ عَلَى الْمَوْرُودِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ وَالْأَوْصَافِ أَصَحُّ مِنْ قِيَاسِ مِائَةِ رِطْلٍ مَاءً وَقَعَ فِيهِ شَعْرَةُ كَلْبٍ عَلَى مِائَةِ رِطْلٍ خَالَطَهَا مِثْلُهَا بَوْلًا وَعَذِرَةً حَتَّى غَيَّرَهَا.

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّكُمْ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَاءٍ جَارٍ بِقَدْرِ طَرَفِ الْخِنْصَرِ تَقَعُ فِيهِ النَّجَاسَةُ فَلَمْ تُغَيِّرْهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ الْعَظِيمِ الْمُسْتَبْحَرِ إذَا وَقَعَ فِيهِ مِثْلُ رَأْسِ الْإِبْرَةِ مِنْ الْبَوْلِ، فَنَجَّسْتُمْ الثَّانِيَ دُونَ الْأَوَّلِ،

ص: 206

وَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ فَلَمْ تَقِيسُوا الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ مِنْ غَدِيرٍ كَبِيرٍ فِي غَرْبِيِّهِ نَجَاسَةٌ عَلَى الْجَانِبِ الشَّمَالِيِّ وَالْجَنُوبِيِّ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُمَاسٌّ لِمَا قَدْ تَنَجَّسَ عِنْدَكُمْ مُمَاسَّةً مُسْتَوِيَةً.

وَقَاسُوا بَاطِنَ الْأَنْفِ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ، فَأَوْجَبُوا الِاسْتِنْشَاقَ، وَلَمْ يَقِيسُوهُ عَلَيْهِ فِي الْوُضُوءِ الَّذِي أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ بِالِاسْتِنْشَاقِ نَصًّا، فَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا، وَأَسْقَطُوا الْوُجُوبَ فِي مَحَلِّ الْأَمْرِ بِهِ، وَأَوْجَبُوهُ فِي غَيْرِهِ، وَالْأَمْرُ بِغُسْلِ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ كَالْأَمْرِ بِغُسْلِ الْبَدَنِ فِي الْجَنَابَةِ سَوَاءٌ.

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّكُمْ قِسْتُمْ النِّسْيَانَ عَلَى الْعَمْدِ فِي الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَفِي فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ نَاسِيًا، وَفِيمَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ وَالْحَلْقِ وَالصَّيْدِ، وَفِي حَمْلِ النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ النِّسْيَانِ وَالْعَمْدِ فِي السَّلَامِ قَبْلَ تَمَامِ الصَّلَاةِ، وَفِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي الصَّوْمِ، وَفِي تَرْكِ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَقِسْتُمْ الْجَاهِلَ عَلَى النَّاسِي فِي عِدَّةِ مَسَائِلَ وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَهُمَا فِي مَسَائِلَ أُخَرَ، فَفَرَّقْتُمْ بَيْنَهُمَا فِيمَنْ نَسِيَ أَنَّهُ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ وَلَوْ جَهِلَ فَظَنَّ وُجُودَ اللَّيْلِ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَسَدَ صَوْمُهُ، مَعَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ تَعْذُرُ الْجَاهِلَ كَمَا تَعْذُرُ النَّاسِيَ أَوْ أَعْظَمَ؟ كَمَا عَذَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ بِجَهْلِهِ بِوُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ مَا مَضَى، وَعَذَرَ الْحَامِلَ الْمُسْتَحَاضَةَ بِجَهْلِهَا بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ عَلَيْهَا مَعَ الِاسْتِحَاضَةِ وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِإِعَادَةِ مَا مَضَى، وَعَذَرَ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ بِأَكْلِهِ فِي رَمَضَانَ حِينَ تَبَيَّنَّ لَهُ الْخَيْطَانِ اللَّذَانِ جَعَلَهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِهِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ، وَعَذَرَ أَبَا ذَرٍّ بِجَهْلِهِ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ فَأَمَرَهُ بِالتَّيَمُّمِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ، وَعَذَرَ الَّذِينَ تَمَعَّكُوا فِي التُّرَابِ كَتَمَعُّكِ الدَّابَّةِ لَمَّا سَمِعُوا فَرْضَ التَّيَمُّمِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ، وَعَذَرَ مُعَاوِيَةَ بْنَ الْحَكَمِ بِكَلَامِهِ فِي الصَّلَاةِ عَامِدًا لِجَهْلِهِ بِالتَّحْرِيمِ، وَعَذَرَ أَهْلَ قُبَاءَ بِصَلَاتِهِمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ نَسْخِ اسْتِقْبَالِهِ بِجَهْلِهِمْ بِالنَّاسِخِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ، وَعَذَرَ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ بَعْدَهُمْ مَنْ ارْتَكَبَ مُحَرَّمًا جَاهِلًا بِتَحْرِيمِهِ فَلَمْ يَحُدُّوهُ.

وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ قَلِيلِ النَّجَاسَةِ فِي الْمَاءِ وَقَلِيلِهَا فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ، وَطَهَارَةُ الْجَمِيعِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَتَرَكَ الْجَمِيعُ صَرِيحَ الْقِيَاسِ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلْبِ، فَطَائِفَةٌ لَمْ تَقِسْ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، وَطَائِفَةٌ قَاسَتْ عَلَيْهِ الْخِنْزِيرَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ كَالذِّئْبِ الَّذِي هُوَ مِثْلُهُ أَوْ شَرٌّ مِنْهُ، وَقِيَاسُ الْخِنْزِيرِ عَلَى الذِّئْبِ أَصَحُّ مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْكَلْبِ، وَطَائِفَةٌ قَاسَتْ عَلَيْهِ الْبَغْلَ وَالْحِمَارَ، وَقِيَاسُهُمَا عَلَى الْخَيْلِ الَّتِي هِيَ قَرِينَتُهُمَا فِي الذِّكْرِ وَامْتِنَانُ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - عَلَى عِبَادِهِ لَهَا بِرُكُوبِهَا وَاِتِّخَاذِهَا زِينَةً وَمُلَامَسَةُ النَّاسِ لَهَا أَصَحُّ مِنْ قِيَاسِ الْبَغْلِ عَلَى الْكَلْبِ، فَقَدْ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ

ص: 207

الشَّبَهَ بَيْنَ الْبَغْلِ وَالْفَرَسِ أَظْهَرُ وَأَقْوَى مِنْ الشَّبَهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلْبِ. وَقِيَاسُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ عَلَى السِّنَّوْرِ بِشِدَّةِ مُلَامَسَتِهِمَا وَالْحَاجَةِ إلَيْهِمَا وَشُرْبِهِمَا مِنْ آنِيَةِ الْبَيْتِ أَصَحُّ مِنْ قِيَاسِهِمَا عَلَى الْكَلْبِ.

وَقِسْتُمْ الْخَنَافِسَ وَالزَّنَابِيرَ وَالْعَقَارِبَ وَالصَّرْدَانِ عَلَى الذُّبَابِ فِي أَنَّهَا لَا تُنَجِّسُ بِالْمَوْتِ بِعَدَمِ النَّفْسِ السَّائِلَةِ لَهَا وَقِلَّةِ الرُّطُوبَاتِ وَالْفَضَلَاتِ الَّتِي تُوجِبُ التَّنْجِيسَ فِيهَا، وَنَجَّسَ مَنْ نَجَّسَ مِنْكُمْ الْعِظَامَ بِالْمَوْتِ مَعَ تَعَرِّيهَا مِنْ الرُّطُوبَاتِ وَالْفَضَلَاتِ جُمْلَةً، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّفْسَ السَّائِلَةَ الَّتِي فِي تِلْكَ الْحَيَوَانَاتِ الْمَقِيسَةِ أَعْظَمُ مِنْ النَّفْسِ السَّائِلَةِ الَّتِي فِي الْعِظَامِ.

وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا شَرِبَ مِنْهُ الصَّقْرُ وَالْبَازِي وَالْحَدَأَةُ وَالْعُقَابُ وَالْأَحْنَاشُ وَسِبَاعُ الطَّيْرِ وَمَا شَرِبَ مِنْهُ سِبَاعُ الْبَهَائِمِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الْفَرْقِ فِي هَذَا بَيْنَ سِبَاعِ الطُّيُورِ وَسِبَاعِ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، فَقَالَ: أَمَّا فِي الْقِيَاسِ فَهُمَا سَوَاءٌ، وَلَكِنِّي أَسْتَحْسِنُ فِي هَذَا.

وَتَرَكْتُمْ صَرِيحَ الْقِيَاسِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ نَبِيذِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَنَبِيذِ الْعِنَبِ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا أَلْبَتَّةَ، مَعَ أَنَّ النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ قَدْ سَوَّتْ بَيْنَ الْجَمِيعِ.

وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَنْ مَعَهُ إنَاءَانِ طَاهِرٌ وَنَجَسٌ فَقُلْتُمْ: يُرِيقُهُمَا وَيَتَيَمَّمُ، وَلَا يَتَحَرَّى فِيهِمَا، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبَانِ كَذَلِكَ يَتَحَرَّى فِيهِمَا، وَالْوُضُوءُ بِالْمَاءِ النَّجَسِ كَالصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ النَّجَسِ، ثُمَّ قُلْتُمْ: فَلَوْ كَانَتْ الْآنِيَةُ ثَلَاثَةً تَحَرَّى، فَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ، وَهُوَ فَرْقٌ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ، وَهَذَا عَلَى أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَأَمَّا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فَفَرَّقُوا بَيْنَ الْإِنَاءِ الَّذِي كُلُّهُ بَوْلٌ وَبَيْنَ الْإِنَاءِ الَّذِي نِصْفُهُ فَأَكْثَرُ بَوْلٌ، فَجَوَّزُوا الِاجْتِهَادَ بَيْنَ الثَّانِي وَالْإِنَاءِ الطَّاهِرِ، دُونَ الْأَوَّلِ، وَتَرَكُوا مَحْضَ الْقِيَاسِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا.

وَقِسْتُمْ الْقَيْءَ عَلَى الْبَوْلِ، وَقُلْتُمْ: كِلَاهُمَا طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ خَرَجَ مِنْ الْجَوْفِ، وَلَمْ تَقِيسُوا الْجَشْوَةَ الْخَبِيثَةَ عَلَى الْفَسْوَةِ، وَلَمْ تَقُولُوا: كِلَاهُمَا رِيحٌ خَارِجَةٌ مِنْ الْجَوْفِ. وَقِسْتُمْ الْوُضُوءَ وَغُسْلَ الْجَنَابَةِ عَلَى الِاسْتِنْجَاءِ وَغَسْلِ النَّجَاسَةِ فِي صِحَّتِهِ بِلَا نِيَّةٍ، وَلَمْ تَقِيسُوهُمَا عَلَى التَّيَمُّمِ وَهُمَا أَشْبَهُ بِهِ مِنْ الِاسْتِنْجَاءِ، ثُمَّ تَنَاقَضْتُمْ فَقُلْتُمْ: لَوْ انْغَمَسَ جُنُبٌ فِي الْبِئْرِ لَأَخْذِ الدَّلْوِ وَلَمْ يَنْوِ الْغُسْلَ لَمْ يَرْتَفِعْ حَدَثُهُ، كَمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ وَنَقَضَ أَصْلَهُ فِي أَنَّ مَسَّ

ص: 208

الْمَاءِ لِبَدَنِ الْجُنُبِ يَرْفَعُ حَدَثَهُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: بَلْ يَرْتَفِعُ حَدَثُهُ وَلَا يَفْسُدُ الْمَاءُ، فَنَقَضَ أَصْلَهُ فِي فَسَادِ الْمَاءِ الَّذِي يَرْفَعُ الْحَدَثَ.

وَقِسْتُمْ التَّيَمُّمَ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ عَلَى غَسْل الْيَدَيْنِ إلَيْهِمَا، وَلَمْ تَقِيسُوا الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ إلَى الْكَعْبَيْنِ عَلَى غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إلَيْهِمَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا أَلْبَتَّةَ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ أَسْعَدُ بِالْقِيَاسِ مِنْكُمْ كَمَا هُمْ أَسْعَدُ بِالنَّصِّ.

وَقِسْتُمْ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ عَنْ الثِّيَابِ بِالْمَائِعَاتِ عَلَى إزَالَتِهَا بِالْمَاءِ، وَلَمْ تَقِيسُوا إزَالَتَهَا مِنْ الْقَذَرِ بِهَا عَلَى الْمَاءِ، فَمَا الْفَرْقُ؟ ثُمَّ قُلْتُمْ: تُزَالُ مِنْ الْمَخْرَجَيْنِ بِكُلِّ مُزِيلٍ جَامِدٍ، وَلَا تُزَالُ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ إلَّا بِالْمَاءِ، وَقُلْتُمْ: تُزَالُ مِنْ الْمَخْرَجَيْنِ بِالرَّوْثِ الْيَابِسِ، وَلَا تُزَالُ بِالرَّجِيعِ الْيَابِسِ، مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي النَّجَاسَةِ.

وَقِسْتُمْ قَلِيلَ الْقَيْءِ عَلَى كَثِيرِهِ فِي النَّجَاسَةِ، وَلَمْ تَقِيسُوهُ عَلَيْهِ فِي كَوْنِهِ حَدَثًا، وَقِسْتُمْ نَوْمَ الْمُتَوَرِّكِ عَلَى الْمُضْطَجِعِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ، وَلَمْ تَقِيسُوا عَلَيْهِ نَوْمَ السَّاجِدِ.

وَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ الْمُؤَيَّدِ بِالسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ فِي مَسْحِ الْعِمَامَةِ - وَهِيَ مَلْبُوسٌ مُعْتَادٌ سَاتِرٌ لِمَحَلِّ الْفَرْضِ وَيَشُقُّ نَزْعُهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ إمَّا لِحَنَكٍ أَوْ لِكِلَابٍ أَوْ لِبَرْدٍ - عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَالسُّنَّةُ قَدْ سَوَّتْ بَيْنَهُمَا فِي الْمَسْحِ كَمَا هُمَا سَوَاءٌ فِي الْقِيَاسِ وَيَسْقُطُ فَرْضُهُمَا فِي التَّيَمُّمِ.

وَقِسْتُمْ مَسْحَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ عَلَى الْوُضُوءِ فِي وُجُوبِ الِاسْتِيعَابِ، وَلَمْ تَقِيسُوا مَسْحَ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ عَلَى الْوَجْهِ فِي وُجُوبِ الِاسْتِيعَابِ، وَالْفِعْلُ وَالْبَاءُ وَالْأَمْرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ سَوَاءٌ.

وَقِسْتُمْ وُجُودَ الْمَاءِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى وُجُودِهِ خَارِجَهَا فِي بُطْلَانِ صَلَاةِ الْمُتَيَمِّمِ بِهِ، وَلَمْ تَقِيسُوا الْقَهْقَهَةَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْقَهْقَهَةِ فِي خَارِجِهَا، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ تَقْدِيمِ الزَّكَاةِ قَبْلَ وُجُوبِهَا فَأَخْرَجْتُمُوهُ وَبَيْنَ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ وُجُوبِهَا فَمَنَعْتُمُوهُ.

وَقِسْتُمْ وَجْهَ الْمَرْأَةِ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى رَأْسِ الرَّجُلِ وَتَرَكْتُمْ قِيَاسَ وَجْهِهَا عَلَى يَدَيْهَا أَوْ عَلَى بَدَنِ الرَّجُلِ، وَهُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ وَمُوجَبُ السُّنَّةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَوَّى بَيْنَ يَدَيْهَا وَوَجْهِهَا وَبَيْنَ يَدَيْ الرَّجُلِ وَوَجْهِهِ حَيْثُ قَالَ «لَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ وَلَا النِّقَابَ» وَكَذَلِكَ قَالَ «لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْقَمِيصَ وَلَا السَّرَاوِيلَ وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ» فَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ وَمُوجَبَ السُّنَّةِ.

وَقِسْتُمْ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ عَلَى الْإِجَارَةِ الْبَاطِلَةِ فَأَبْطَلْتُمُوهُمَا، وَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ وَمُوجَبَ السُّنَّةِ وَهُوَ قِيَاسُهُمَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَالْمُشَارَكَةِ فَإِنَّهُمَا أَشْبَهُ بِهِمَا مِنْهُمَا بِالْإِجَارَةِ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ يَدْفَعُ أَرْضَهُ وَشَجَرَهُ لِمَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهِمَا وَمَا رَزَقَ اللَّهُ مِنْ نَمَاءٍ فَهُوَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَامِلِ، وَهَذَا كَالْمُضَارَبَةِ سَوَاءٌ، فَلَوْ لَمْ تَأْتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ بِجَوَازِهَا لَكَانَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي جَوَازَهَا عِنْدَ الْقِيَاسِيِّينَ

ص: 209

وَاشْتَرَطَ أَكْثَرُ مَنْ جَوَّزَهَا كَوْنَ الْبَذْرِ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، وَقَاسَهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ فِي كَوْنِ الْمَالِ مِنْ وَاحِدٍ وَالْعَمَلُ مِنْ وَاحِدٍ، وَتَرَكُوا مَحْضَ الْقِيَاسِ وَمُوجَبَ السُّنَّةِ، فَإِنَّ الْأَرْضَ كَالْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ، وَالْبَذْرُ يَجْرِي مَجْرَى الْمَاءِ وَالْعَمَلِ فَإِنَّهُ يَمُوتُ فِي الْأَرْضِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى رَبِّهِ مِثْلُ بَذْرِهِ وَيَقْتَسِمَا الْبَاقِيَ، وَلَوْ كَانَ كَرَأْسِ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ لَجَازَ، بَلْ اشْتَرَطَ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ مِثْلُ بَذْرِهِ كَمَا يَرْجِعَ إلَى رَبِّ الْمَالِ مِثْلُ مَالِهِ، فَتَرَكُوا الْقِيَاسَ كَمَا تَرَكُوا مُوجَبَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ وَعَمَلَ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ.

وَقِسْتُمْ إجَارَةَ الْحَيَوَانِ لِلِانْتِفَاعِ بِلَبَنِهِ عَلَى إجَارَةِ الْخُبْزِ لِلْأَكْلِ، وَهَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ، وَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ وَمُوجَبَ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - قَالَ:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] فَقِيَاسُ الشَّاةِ وَالْبَقَرَةِ وَالنَّاقَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِلَبَنِهَا عَلَى الظِّئْرِ أَصَحُّ وَأَقْرَبُ إلَى الْعَقْلِ مِنْ قِيَاسِ ذَلِكَ عَلَى إجَارَةِ الْخُبْزِ لِلْأَكْلِ، فَإِنَّ الْأَعْيَانَ الْمُسْتَخْلَفَةَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ تَجْرِي مَجْرَى الْمَنَافِعِ كَمَا جَرَتْ مَجْرَاهَا فِي الْمَنِيحَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ، فَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ.

وَقِسْتُمْ عَلَى مَا لَا خَفَاءَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَهُوَ أَنَّ الْخُبْزَ وَالطَّعَامَ تَذْهَبُ جُمْلَتُهُ بِالْأَكْلِ وَلَا يَخْلُفُهُ غَيْرُهُ، بِخِلَافِ اللَّبَنِ وَنَقْعِ الْبِئْرِ، وَهَذَا مِنْ أَجَلِّ الْقِيَاسِ.

وَقِسْتُمْ الصَّدَاقَ عَلَى مَا يُقْطَعُ فِيهِ يَدُ السَّارِقِ، وَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ وَمُوجَبَ السُّنَّةِ، فَإِنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَجُوزُ بِمَا يَتَرَاضَى عَلَيْهِ الْمُتَعَاوِضَانِ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ.

وَقِسْتُمْ الرَّجُلَ يَسْرِقُ الْعَيْنَ ثُمَّ يَمْلِكُهَا بَعْدَ ثُبُوتِ الْقَطْعِ عَلَى مَا إذَا مَلَكَهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ وَمُوجَبَ السُّنَّةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُسْقِطْ الْقَطْعَ عَنْ سَارِقِ الرِّدَاءِ بَعْدَمَا وَهَبَهُ إيَّاهُ صَفْوَانُ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الرَّجُلِ يَزْنِي بِالْأَمَةِ ثُمَّ يَمْلِكُهَا فَلَمْ تَرَوْا ذَلِكَ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ، مَعَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.

وَقِسْتُمْ قِيَاسًا أَبْعَدَ مِنْ هَذَا فَقُلْتُمْ: إذَا قُطِعَ بِسَرِقَتِهَا مَرَّةً ثُمَّ عَادَ فَسَرَقَهَا لَمْ يُقْطَعْ بِهَا ثَانِيًا، وَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ عَلَى مَا إذَا زَنَى بِامْرَأَةٍ فَحُدَّ بِهَا ثُمَّ زَنَى بِهَا ثَانِيَةً فَإِنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ، وَلَوْ قَذَفَهُ فَحُدَّ ثُمَّ قَذَفَهُ ثَانِيًا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ.

وَقِسْتُمْ نَذْرَ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ فِي الِانْعِقَادِ وَوُجُوبِ الْوَفَاءِ عَلَى نَذْرِ صَوْمِ الْيَوْمِ الْقَابِلِ لَهُ شَرْعًا، وَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ وَمُوجَبَ السُّنَّةِ، وَلَمْ تَقِيسُوهُ عَلَى صَوْمِ يَوْمِ الْحَيْضِ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مَحَلٍّ لِلصَّوْمِ شَرْعًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللَّيْلِ

ص: 210

وَقِسْتُمْ وَجَعَلْتُمْ الْمُحْتَقِنَ بِالْخَمْرِ كَشَارِبِهَا فِي الْفِطْرِ بِالْقِيَاسِ، وَلَمْ تَجْعَلُوهُ كَشَارِبِهَا فِي الْحَدِّ.

وَقِسْتُمْ الْكَافِرَ الذِّمِّيَّ وَالْمُعَاهَدَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي قَتْلِهِ بِهِ، وَلَمْ تَقِيسُوهُ عَلَى الْحَرْبِيِّ فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ قَطْعًا أَنَّ الشَّبَهَ الَّذِي بَيْنَ الْمُعَاهَدِ وَالْحَرْبِيِّ أَعْظَمُ مِنْ الشَّبَهِ الَّذِي بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى قَدْ سَوَّى بَيْنَ الْكُفَّارِ كُلِّهِمْ فِي إدْخَالِهِمْ نَارَ جَهَنَّمَ، وَفِي قَطْعِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي عَدَمِ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي مَنْعِ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَطْعِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ، فَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ - وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ مَا سَوَّى اللَّهُ بَيْنَهُ - وَسَوَّيْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ.

وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّكُمْ قِسْتُمْ الْمُؤْمِنَ عَلَى الْكَافِرِ فِي جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْسِ وَالطَّرَفِ، وَلَمْ تَقِيسُوا الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ عَلَى الْحُرِّ فِي جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا فِي الْأَطْرَافِ، فَجَعَلْتُمْ حُرْمَةَ عَدُوِّ اللَّهِ الْكَافِرِ فِي أَطْرَافِهِ أَعْظَمَ مِنْ حُرْمَةِ وَلِيِّهِ الْمُؤْمِنِ، وَكَأَنَّ نَقْصَ الْمُؤْمِنِ الْعُبُودِيَّةُ الْمُوجِبَ لِلْأَجْرَيْنِ عِنْدَ اللَّهِ أَنْقُصُ عِنْدَكُمْ مِنْ نَقْصِ الْكُفْرِ، وَقُلْتُمْ: يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ فَقُلْتُمْ: لَا يُؤْخَذُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهَا، وَقُلْتُمْ: يُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا مِائَةَ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ الْآخَرِ مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ فَقُلْتُمْ: لَا يُؤْخَذُ طَرَفُهَا بِطَرَفِهِ، إلَّا أَنْ تَتَسَاوَى قِيمَتُهُمَا، فَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - أَلْغَى التَّفَاوُتَ بَيْنَ النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ فِي الْفَضْلِ لِمَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِينَ، وَلِعَدَمِ ضَبْطِ التَّسَاوِي، فَأَلْغَيْتُمْ مَا اعْتَبَرَهُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - مِنْ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَاعْتَبَرْتُمْ مَا أَلْغَاهُ مِنْ التَّفَاوُتِ.

وَقِسْتُمْ قَوْلَهُ " إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا أَوْ بَايَعْتُهُ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ " عَلَى مَا إذَا قَالَ " إنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ " ثُمَّ عَدَّيْتُمْ ذَلِكَ إلَى قَوْلِهِ " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا " ثُمَّ كَلَّمَهُ، وَلَمْ تَقِيسُوهُ عَلَى قَوْلِهِ " إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَعَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ، أَوْ حَجٌّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ، أَوْ فَمَالِي صَدَقَةٌ " وَقُلْتُمْ: هَذَا يَمِينٌ لَا تَعْلِيقُ مَقْصُودٍ، فَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا " يَمِينٌ لَا تَعْلِيقٌ، وَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى أَنَّ قَصْدَ الْيَمِينِ فِي الْعِتْقِ يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِهِ، وَحَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ إذَا حَنِثَ، وَمِمَّنْ حَكَاهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ، وَحَكَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بَزِيزَةَ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِمَصَالِحِ الْأَفْهَامِ فِي شَرْحِ كِتَابِ الْأَحْكَامِ فِي بَابِ تَرْجَمَتِهِ الْبَابِ الثَّالِثِ فِي حُكْمِ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ أَوْ الشَّكِّ فِيهِ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالشَّرْطِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: هَلْ يَلْزَمُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَشُرَيْحٌ وَطَاوُسٌ: لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَلَا

ص: 211

يُقْضَى بِالطَّلَاقِ عَلَى مَنْ حَلَفَ بِهِ فَحَنِثَ، وَلَمْ يُعْرَفْ لِعَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ - فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، قَالَ: وَصَحَّ عَنْ عَطَاءٍ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْكَ " قَالَ: إنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا حَتَّى يَمُوتَ أَوْ تَمُوتَ فَإِنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَكَمِ بْنِ عُتْبَةَ، ثُمَّ حُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ فِيمَنْ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ لَيَضْرِبَنَّ زَيْدًا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ مَاتَا مَعًا فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَيَتَوَارَثَانِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ يَمِينَ الطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُ، وَلَا تَطْلُقُ الزَّوْجَةُ بِالْحِنْثِ فِيهَا، وَلَوْ حَنِثَ قَبْلَ مَوْتِهِ لَمْ يَتَوَارَثَا، فَحَيْثُ أَثْبَتَ التَّوَارُثَ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا زَوْجَةٌ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ عِكْرِمَةُ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا عِنْدَهُ يَمِينُ الطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُ، كَمَا ذَكَرَهُ عَنْهُ سُنَيْدُ بْنُ دَاوُد فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ النُّورِ عِنْدَ قَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور: 21] وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّكُمْ قُلْتُمْ: إذَا قَالَ " إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ، أَوْ صَدَقَةٌ، أَوْ حَجَّةٌ " لَزِمَهُ؛ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ لِلنَّذْرِ، فَإِذَا قَالَ:" إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَعَلَيَّ صَوْمٌ، أَوْ صَدَقَةٌ " لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّهُ لَجَاجٌ وَغَضَبٌ، فَهُوَ يَمِينٌ فِيهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، فَجَعَلْتُمْ قَصْدَهُ لِعَدَمِ الْوُقُوعِ مَانِعًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: إيجَابُ مَا الْتَزَمَ، وَوُجُوبُهُ عَلَيْهِ، وَوُقُوعُهُ.

وَقُلْتُمْ: لَوْ قَالَ: " إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ الطَّلَاقُ " وَفَعَلَهُ لَزِمَهُ، وَلَمْ يَمْنَعْ قَصْدُ الْحَلِفِ مِنْ وُقُوعِهِ، وَهُوَ أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ، وَمَنَعَ مِنْ وُجُوبِ الْقُرُبَاتِ الَّتِي هِيَ أَحَبُّ شَيْءٍ إلَى اللَّهِ، فَخَالَفْتُمْ صَرِيحَ الْقِيَاسِ وَالْمَنْقُولِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِأَصَحِّ إسْنَادٍ يَكُونُ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ الْقِيَاسَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقُلْتُمْ: إذَا قَالَ " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ " ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ» فَجَعَلْتُمُوهُ يَمِينًا، ثُمَّ قُلْتُمْ: يَلْزَمُهُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقُلْتُمْ: لَوْ قَالَ: " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أُجَامِعُهَا سَنَةً " فَهُوَ مُولٍ فَيَدْخُلُ فِي قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] وَالْأَلِيَّةُ وَالْإِيلَاءُ وَالِائْتِلَاءُ هُوَ الْحَلِفُ بِعَيْنِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «تَأَلَّى عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ خَيْرًا» وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} [النور: 22] .

وَقَالَ الشَّاعِرُ:

قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ

وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتْ

ثُمَّ قُلْتُمْ: وَلَيْسَ بِيَمِينٍ فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] فَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ، مَا الَّذِي أَحَلَّهُ عَامًا وَحَرَّمَهُ عَامًا، وَجَعَلَهُ يَمِينًا وَلَيْسَ بِيَمِينٍ؟ ثُمَّ نَاقَضْتُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقُلْتُمْ: إنْ قَالَ: " إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا كَافِرٌ " وَفَعَلَهُ لَمْ يَكْفُرْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْكُفْرَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ مَنْعَ نَفْسِهِ مِنْ الْفِعْلِ بِمَنْعِهَا مِنْ الْكُفْرِ، وَهَذَا حَقٌّ، لَكِنْ نَقَضْتُمُوهُ

ص: 212

فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مَعَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا أَلْبَتَّةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي مَنَعَ مِنْ وُقُوعِ الْكُفْرِ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقُلْتُمْ: لَوْ قَالَ: " إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي " فَحَنِثَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، وَلَوْ قَالَ:" إنْ فَعَلْتُهُ فَالطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي ": فَحَنِثَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، وَلَوْ قَالَ:" إنْ فَعَلْتُهُ فَالطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي " فَحَنِثَ وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ، وَلَا تُفَرِّقُ اللُّغَةُ وَلَا الشَّرِيعَةُ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَأَنْ وَالْفِعْلِ.

فَإِنْ قُلْتُمْ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ الْتَزَمَ فِي الْأَوَّلِ التَّطْلِيقَ وَهُوَ فِعْلُهُ، وَفِي الثَّانِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَهُوَ أَثَرُ فِعْلِهِ.

قِيلَ: هَذَا الْفَرْقُ الَّذِي تَخَيَّلْتُمُوهُ لَا يُجْدِي شَيْئًا، فَإِنَّ الطَّلَاقَ هُوَ التَّطْلِيقُ بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا أَثَرُهُ كَوْنُهَا طَالِقًا، وَهَذَا غَيْرُ الطَّلَاقِ، فَهَهُنَا ثَلَاثَةُ أُمُورٍ مُرَتَّبَةٍ:

الْتِزَامُ التَّطْلِيقِ، وَهَذَا غَيْرُ الطَّلَاقِ بِلَا شَكٍّ.

وَالثَّانِي: إيقَاعُ التَّطْلِيقِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ بِعَيْنِهِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ:{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ» .

الثَّالِثُ: صَيْرُورَةُ الْمَرْأَةِ طَالِقًا وَبَيْنُونَتُهَا، فَالْقَائِلُ " إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ الطَّلَاقُ " لَمْ يُرِدْ هَذَا الثَّالِثَ قَطْعًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ إلَيْهِ وَلَا مِنْ فِعْلِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ إلَى الشَّارِعِ، وَالْمُكَلَّفُ إنَّمَا يَلْزَمُ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَقْدِرَتِهِ وَهُوَ إنْشَاءُ الطَّلَاقِ، فَلَا فَرْقَ أَصْلًا بَيْنَ هَذَا اللَّفْظِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ:" فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ " فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ مُتَسَاوِيَيْنِ، وَهُوَ عُدُولٌ عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قَوْلِ صَاحِبٍ.

يُوَضِّحُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: " فَالطَّلَاقُ لَازِمٌ لِي " إنَّمَا هُوَ فِعْلُهُ الَّذِي يَلْزَمُهُ بِالْتِزَامِهِ، وَأَمَّا كَوْنُهَا طَالِقًا فَهَذَا وَصْفُهَا، فَلَيْسَ هُوَ لَازِمًا لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ لَازِمٌ لَهَا. فَلْيَنْظُرْ اللَّبِيبُ الْمُنْصِفُ الَّذِي الْعِلْمُ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ التَّقْلِيدِ إلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ الْمَحْضِ وَاتِّبَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ لِيَخْتَرْ لِنَفْسِهِ مَا شَاءَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

ثُمَّ نَاقَضْتُمْ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقُلْتُمْ: لَوْ قَالَ: " إنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِكِ أَوْ وَقَعَ مِنِّي يَمِينٌ بِطَلَاقِكِ " أَوْ لَمْ يَقُلْ بِطَلَاقِكِ بَلْ قَالَ: " مَتَى حَلَفْتُ أَوْ أَوْقَعْتُ يَمِينًا فَأَنْتِ طَالِقٌ " ثُمَّ قَالَ: " إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ " حَنِثَ وَقَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَلَفَ وَأَوْقَعَ الْيَمِينَ، فَأَدْخَلْتُمْ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ فِي اسْمِ الْيَمِينِ وَالْحَلِفِ فِي كَلَامِ الْمُكَلَّفِ، وَلَمْ تُدْخِلُوهُ فِي اسْمِ الْيَمِينِ وَالْحَلِفِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَزَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ اتَّبَعْتُمْ فِي ذَلِكَ الْقِيَاسَ وَالْإِجْمَاعَ، وَقَدْ أَرَيْنَاكُمْ مُخَالَفَتَكُمْ لِصَرِيحِ الْقِيَاسِ مُخَالَفَةً لَا يُمْكِنُكُمْ الِانْفِكَاكُ عَنْهَا بِوَجْهٍ. وَمُخَالَفَتُكُمْ لِلْمَنْقُولِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَأَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَظَهَرَ عِنْدَ الْمُنْصِفِينَ أَنَّا أَوْلَى بِالْقِيَاسِ وَالِاتِّبَاعِ مِنْكُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

ص: 213

وَقُلْتُمْ: لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا فَصَدَّقَ الشُّهُودَ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ، وَإِنْ كَذَّبَهُمْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهَذَا مِنْ أَفْسَدِ قِيَاسٍ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ تَصْدِيقَهُمْ إنَّمَا زَادَهُمْ قُوَّةً، وَزَادَ الْإِمَامَ يَقِينًا وَعِلْمًا أَعْظَمَ مِنْ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِالشَّهَادَةِ وَتَكْذِيبِهِ. وَتَفْرِيقُكُمْ - بِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا يُعْمَلُ بِهَا إلَّا مَعَ الْإِنْكَارِ فَإِذَا أَقَرَّ فَلَا عَمَلَ لِلْبَيِّنَةِ، وَالْإِقْرَارُ مَرَّةً لَا يَكْفِي فَيَسْقُطُ الْحَدُّ - تَفْرِيقٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْعَمَلَ هَاهُنَا بِالْبَيِّنَةِ لَا بِالْإِقْرَارِ، وَهُوَ إنَّمَا صَدَرَ مِنْهُ تَصْدِيقُ الْبَيِّنَةِ الَّتِي وَجَبَ الْحُكْمُ بِهَا بَعْدَ الشَّهَادَةِ، فَسَوَاءٌ أَقَرَّ أَمْ لَمْ يُقِرَّ، فَالْعَمَلُ إنَّمَا هُوَ بِالْبَيِّنَةِ.

وَقُلْتُمْ: لَوْ وَجَدَ الرَّجُلُ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ فَظَنَّ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فَوَطِئَهَا حُدَّ حَدَّ الزِّنَا، وَلَا يَكُونُ هَذَا شُبْهَةً مُسْقِطَةً لِلْحَدِّ، وَلَوْ عَقَدَ عَلَى ابْنَتِهِ أَوْ أُمِّهِ وَوَطِئَهَا كَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً مُسْقِطَةً لِلْحَدِّ، وَلَوْ حَبِلَتْ امْرَأَةٌ لَا زَوْجَ لَهَا وَلَا سَيِّدَ وَوَلَدَتْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لَمْ تُحَدَّ، وَلَوْ تَقَايَأَ الْخَمْرَ كُلَّ يَوْمٍ لَمْ يُحَدَّ، فَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ وَالثَّابِتَ عَنْ الصَّحَابَةِ ثُبُوتًا لَا شَكَّ فِيهِ مِنْ الْحَدِّ بِالْحَبَلِ وَرَائِحَةِ الْخَمْرِ.

وَقُلْتُمْ: لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا فَطَعَنَ فِي عَدَالَتِهِمْ حُبِسَ إلَّا أَنْ تُزَكَّى الشُّهُودُ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ اثْنَانِ بِمَالٍ فَطَعَنَ فِي عَدَالَتِهِمَا لَمْ يُحْبَسْ قَبْلَ التَّزْكِيَةِ، فَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ، وَقِسْتُمْ دَعْوَى الْمَرْأَتَيْنِ الْوَلَدَ وَإِلْحَاقَهُ بِهِمَا وَجَعْلَهُمَا أُمَّيْنِ لَهُ عَلَى دَعْوَى الرَّجُلَيْنِ، وَهَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ خُرُوجَ الْوَلَدِ مِنْ أُمَّيْنِ مَعْلُومُ الِاسْتِحَالَةِ، وَتَخْلِيقُهُ مِنْ مَاءِ الرَّجُلَيْنِ مُمْكِنٌ بَلْ وَاقِعٌ، كَمَا شَهِدَ بِهِ الْقَائِفُ عِنْدَ عُمَرَ وَصَدَّقَهُ.

وَقُلْتُمْ: لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ " طَلِّقْ امْرَأَتِي " فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَهُ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ:" طَلِّقِي نَفْسَكِ " فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا مَا دَامَتْ فِي الْمَجْلِسِ، ثُمَّ فَرَّقْتُمْ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ " طَلِّقِي نَفْسَكِ " تَمْلِيكٌ لَا تَوْكِيلٌ، لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي التَّصَرُّفِ لِنَفْسِهِ فَيُقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَجْنَبِيِّ فَتَوْكِيلٌ فَلَا يَتَقَيَّدُ، وَهَذَا الْفَرْقُ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ وَلَمْ تَذْكُرُوا حُجَّةً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ:" طَلِّقِي نَفْسَكِ " تَمْلِيكٌ، وَقَوْلَكُمْ " الْوَكِيلُ لَا يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ " جَوَابُهُ: لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ لِنَفْسِهِ وَلِمُوَكِّلِهِ، وَلِهَذَا كَانَ الشَّرِيكُ وَكِيلًا بَعْدَ قَبْضِ الْمَالِ وَالتَّصَرُّفِ وَإِنْ كَانَ مُتَصَرِّفًا لِنَفْسِهِ، فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ لَا يَخْتَصُّ بِهِ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ هَذَا الْفَرْقَ فَقُلْتُمْ: لَوْ قَالَ " أَبْرِئْ نَفْسَكَ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْكَ " فَإِنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ، وَيَكُونُ تَوْكِيلًا، مَعَ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَعَ نَفْسِهِ، فَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ " طَلِّقِي نَفْسَكِ " وَ " أَبْرِئْ نَفْسَكَ مِمَّا عَلَيْكَ مِنْ الدَّيْنِ " وَهُوَ تَفْرِيقٌ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ، فَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ.

وَقَالُوا: مَنْ أَقَامَ شُهُودَ زُورٍ عَلَى أَنَّ زَيْدًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِذَلِكَ فَهِيَ حَلَالٌ

ص: 214

لِمَنْ تَزَوَّجَهَا مِنْ الشُّهُودِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ شُهُودَ زُورٍ عَلَى أَنَّ فُلَانَةَ تَزَوَّجَتْهُ بِوَلِيٍّ وَرِضًا فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ فَهِيَ لَهُ حَلَالٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَعْتَقَ جَارِيَتَهُ هَذِهِ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ فَهِيَ حَلَالٌ لِمَنْ تَزَوَّجَهَا مِمَّنْ يَدْرِي بَاطِنَ الْأَمْرِ، فَتَرَكُوا مَحْضَ الْقِيَاسِ وَقَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ، ثُمَّ نَاقَضُوا فَقَالُوا: لَوْ شَهِدُوا لَهُ زُورًا بِأَنَّهُ وَهَبَ لَهُ مَمْلُوكَتَهُ هَذِهِ أَوْ بَاعَهَا مِنْهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا بِذَلِكَ، ثُمَّ نَاقَضُوا بِذَلِكَ أَعْظَمَ مُنَاقَضَةٍ فَقَالُوا: لَوْ شَهِدَا بِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مِنْ الْمُطَلِّقِ وَكَانَا كَاذِبَيْنِ فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ وَحَبْسُهَا عَلَى زَوْجِهَا أَعْظَمُ مِنْ حَبْسِهَا عَلَى عِدَّتِهِ، فَأَحَلُّوهَا فِي أَعْظَمِ الْعِصْمَتَيْنِ، وَحَرَّمُوهَا فِي أَدْنَاهُمَا، وَحُرْمَةُ النِّكَاحِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْعِدَّةِ.

وَقُلْتُمْ: لَا يُحَدُّ الذِّمِّيُّ إذَا زَنَا بِالْمُسْلِمَةِ وَلَوْ كَانَتْ قُرَشِيَّةً عَلَوِيَّةً أَوْ عَبَّاسِيَّةً وَلَا بِسَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ وَدِينِهِ جَهْرَةً فِي أَسْوَاقِنَا وَمَجَامِعِنَا، وَلَا بِتَخْرِيبِ مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ الثَّلَاثَةُ، وَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ بِذَلِكَ، وَهُوَ مَعْصُومُ الْمَالِ وَالدَّمِ، حَتَّى إذَا مَنَعَ دِينَارًا وَاحِدًا مِمَّا عَلَيْهِ مِنْ الْجِزْيَةِ وَقَالَ:" لَا أُعْطِيكُمُوهُ " انْتَقَضَ بِذَلِكَ عَهْدُهُ، وَحَلَّ مَالُهُ وَدَمُهُ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقُلْتُمْ: لَوْ سَرَقَ لِمُسْلِمٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لَقُطِعَتْ يَدُهُ، وَلَوْ قَذَفَهُ حُدَّ بِقَذْفِهِ، فَيَا لِلْقِيَاسِ الْفَاسِدِ الْبَاطِلِ الْمُنَاقِضِ لِلدِّينِ وَالْعَقْلِ الْمُوجِبِ لِهَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَكْفِي فِي رَدِّهَا تَصَوُّرُهَا، كَيْفَ اسْتَجَازَ الْمُسْتَجِيزُ تَقْدِيمَهَا عَلَى السُّنَنِ وَالْآثَارِ؟ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَأَجَزْتُمْ شَهَادَةَ الْفَاسِقَيْنِ وَالْمَحْدُودَيْنِ فِي الْقَذْفِ وَالْأَعْمَيَيْنِ فِي النِّكَاحِ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ فَقُلْتُمْ: لَوْ شَهِدَ فِيهِ عَبْدَانِ صَالِحَانِ عَالِمَانِ يُفْتِيَانِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ وَلَمْ يَنْعَقِدْ بِشَهَادَتِهِمَا، فَمَنَعْتُمْ انْعِقَادَهُ بِشَهَادَةِ مَنْ عَدَّلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم وَعَقَدْتُمُوهُ بِشَهَادَةِ مَنْ فَسَّقَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَنَعَ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ.

وَقُلْتُمْ: لَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ عَلَى زَيْدٍ أَنَّهُ غَصَبَ عَمْرًا مَالًا أَوْ شَجَّهُ أَوْ قَذَفَهُ وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَلَمْ يَتِمَّ النِّصَابُ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ بِأَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ أَوْ بَاعَهُ وَشَهِدَ آخَرُ بِإِقْرَارِهِ بِذَلِكَ تَمَّتْ الشَّهَادَةُ وَقُضِيَ عَلَيْهِ.

وَقُلْتُمْ: لَوْ قَالَ لَهُ: " بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ " فَإِذَا هُوَ جَارِيَةٌ أَوْ بِالْعَكْسِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، فَلَوْ قَالَ:" بِعْتُكَ هَذِهِ النَّعْجَةَ بِعَشَرَةٍ " فَإِذَا هِيَ كَبْشٌ أَوْ بِالْعَكْسِ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، ثُمَّ فَرَّقْتُمْ بِأَنْ قُلْتُمْ: الْمَقْصُودُ مِنْ الْجَارِيَةِ وَالْعَبْدِ مُخْتَلِفٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ النَّعْجَةِ وَالْكَبْشِ مُتَقَارِبٌ وَهُوَ اللَّحْمُ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ الدَّرَّ وَالنَّسْلَ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأُنْثَى لَا يُوجَدُ فِي الذَّكَرِ، وَعَسْبُ الْفَحْلِ وَضِرَابُهُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ لَا يُوجَدُ فِي الْأُنْثَى، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ أَبْيَنَ مُنَاقَضَةٍ بِأَنْ قُلْتُمْ: لَوْ قَالَ:

ص: 215

بِعْتُكَ هَذَا الْقَمْحَ " فَإِذَا هُوَ شَعِيرٌ أَوْ " هَذِهِ الْأَلْيَةَ " فَإِذَا هِيَ شَحْمٌ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ مَعَ تَقَارُبِ الْقَصْدِ.

وَقُلْتُمْ: لَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا مِنْ ثَوْبَيْنِ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ، فَلَوْ كَانَتْ ثَلَاثَةَ أَثْوَابٍ فَقَالَ:" بِعْتُكَ وَاحِدًا مِنْهَا " صَحَّ الْبَيْعُ، فَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ، كَيْفَ أَبْطَلْتُمُوهُ مَعَ قِلَّةِ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ وَصَحَّحْتُمُوهُ مَعَ زِيَادَتِهِمَا؟ أَفَتَرَى زِيَادَةَ الثَّوْبِ الثَّالِثِ خَفَّفَتْ الْغَرَرَ وَرَفَعَتْ الْجَهَالَةَ؟ ، وَتَفْرِيقُكُمْ بِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ اثْنَيْنِ يَتَضَمَّنُ الْجَهَالَةَ وَالتَّغْرِيرَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُرْتَفِعًا وَالْآخَرُ رَدِيئًا فَيُفْضِي إلَى التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ، فَإِذَا كَانَتْ ثَلَاثَةً فَالثَّلَاثَةُ تَتَضَمَّنُ الْجَيِّدَ وَالرَّدِيءَ وَالْوَسَطَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ:" بِعْتُكَ أَوْسَطَهَا " وَذَلِكَ أَقَلُّ غَرَرًا مِنْ بَيْعِهِ وَاحِدًا مِنْ اثْنَيْنِ رَدِيءٍ وَجَيِّدٍ، وَإِذَا أَمْكَنَ حَمْلُ كَلَامِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَلَى الصِّحَّةِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ إلْغَائِهِ، وَهَذَا الْفَرْقُ مَا زَادَ الْمَسْأَلَةَ إلَّا غَرَرًا وَجَهَالَةً، فَإِنَّ النِّزَاعَ كَانَ يَكُونُ فِي ثَوْبَيْنِ فَقَطْ وَأَمَّا الْآنَ فَصَارَ فِي ثَلَاثَةٍ، وَإِذَا قَالَ:" إنَّمَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى الْوَسَطِ " قَالَ الْآخَرُ " بَلْ عَلَى الْأَدْنَى، أَوْ عَلَى الْأَعْلَى ".

وَقُلْتُمْ: لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً ثُمَّ أَرَادَ وَطْأَهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ تَيَقَّنَّا فَرَاغَ رَحِمِهَا بِأَنْ كَانَتْ بِكْرًا أَوْ كَانَتْ بَائِعَتُهَا امْرَأَةً مَعَهُ فِي الدَّارِ بِحَيْثُ تَيَقَّنَ أَنَّهَا غَيْرُ مَشْغُولَةِ الرَّحِمِ، أَوْ بَاعَهَا وَقَدْ ابْتَدَأَتْ فِي الْحَيْضَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، ثُمَّ قُلْتُمْ: لَوْ وَطِئَهَا السَّيِّدُ الْبَارِحَةَ ثُمَّ زَوَّجَهَا مِنْهُ الْغَدَ جَازَ لَهُ وَطْؤُهَا وَرَحِمُهَا مُشْتَغِلٌ عَلَى مَاءِ الْوَطْءِ، فَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ وَالْمَصْلَحَةَ وَحِكْمَةَ الشَّارِعِ لِفَرْقٍ مُتَخَيَّلٍ لَا يُجْدِي شَيْئًا، وَهُوَ أَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا صَحَّ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا بِفَرَاغِ الرَّحِمِ، فَإِذَا حُكِمَ بِفَرَاغِ رَحِمِهَا جَازَ لَهُ وَطْؤُهَا، فَيُقَالُ: يَالِلَّهِ الْعَجَبُ، كَيْفَ يَحْكُمُ بِفَرَاغِ رَحِمِهَا وَهُوَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِوَطْئِهَا؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا حُكْمٌ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ؟ نَعَمْ لَوْ أَنَّكُمْ قُلْتُمْ:" لَا يَحِلُّ لَهُ تَزَوُّجُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا وَيَحْكُمَ بِفَرَاغِ رَحِمِهَا " لَكَانَ هَذَا فَرْقًا صَحِيحًا وَكَلَامًا مُتَوَجِّهًا، وَيُقَالُ حِينَئِذٍ: لَا مَعْنَى لِاسْتِبْرَاءِ الزَّوْجِ، فَلَهُ أَنْ يَطَأَهَا عَقِيبَ الْعَقْدِ فَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

وَقُلْتُمْ: مَنْ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ السَّبْعِ فَلَمْ يُكْمِلْهُ حَتَّى رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ إنَّهُ يَجْبُرُهُ بِدَمٍ وَصَحَّ حَجُّهُ، إقَامَةً لِلْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ، فَخَرَجْتُمْ عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْأَرْكَانَ لَا مَدْخَلَ لِلدَّمِ فِي تَرْكِهَا، وَمَا أَمَرَ بِهِ الشَّارِعُ لَا يَكُونُ الْمُكَلَّفُ مُمْتَثِلًا بِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِجَمِيعِهِ، وَلَا يَقُومُ أَكْثَرُهُ مَقَامَ كُلِّهِ، كَمَا لَا يَقُومُ الْأَكْثَرُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْوُضُوءِ وَغُسْلِ الْجَنَابَةِ، فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ، وَالْمَأْمُورُ مَا لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ فَالْخِطَابُ مُتَوَجِّهٌ إلَيْهِ بَعْدُ، وَهُوَ فِي عُهْدَتِهِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُسَامِحْ الْمُتَوَضِّئَ بِتَرْكِ لُمْعَةٍ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ لَمْ

ص: 216

يُصِبْهَا الْمَاءُ، وَلَا أَقَامَ الْأَكْثَرَ مَقَامَ الْكُلِّ، وَاَلَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ هُوَ الْمِيزَانُ الْعَادِلُ، لَا هَذَا الْمِيزَانُ الْعَائِلُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

وَقِسْتُمْ الِادِّهَانَ بِالْخَلِّ وَالزَّيْتِ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى الِادِّهَانِ بِالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ، وَيَا بُعْدَ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَمْ تَقِيسُوا نَبِيذَ التَّمْرِ عَلَى نَبِيذِ الْعِنَبِ مَعَ قُرْبِ الْأُخُوَّةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا.

وَقُلْتُمْ: لَوْ أَفْطَرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ثُمَّ سَافَرَ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ؛ لِأَنَّ سَفَرَهُ قَدْ يُتَّخَذُ وَسِيلَةً وَحِيلَةً إلَى إسْقَاطِ مَا أَوْجَبَ الشَّرْعُ، فَلَا تَسْقُطُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا مَرِضَ أَوْ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ تَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ وَالْمَرَضَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ أَعْظَمَ مُنَاقَضَةٍ فَقُلْتُمْ: لَوْ احْتَالَ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ عِنْدَ آخِرِ الْحَوْلِ فَمَلَّكَ مَالَهُ لِزَوْجَتِهِ لَحْظَةً فَلَمَّا انْقَضَى الْحَوْلُ اسْتَرَدَّهُ مِنْهَا، وَاعْتِذَارُكُمْ بِالْفَرْقِ - بِأَنَّ هَذَا تَحَيُّلٌ عَلَى مَنْعِ الْوُجُوبِ، وَذَاكَ تَحَايُلٌ عَلَى إسْقَاطِ الْوَاجِبِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ - اعْتِذَارًا لَا يُجْدِي شَيْئًا، فَإِنَّهُ كَمَا لَا يَجُوزُ التَّحَيُّلُ لِإِسْقَاطِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَا يَجُوزُ التَّحَيُّلُ لِإِسْقَاطِ أَحْكَامِهِ بَعْدَ انْعِقَادِ أَسْبَابِهَا وَلَا تَسْقُطُ بِذَلِكَ.

وَإِذَا انْعَقَدَ سَبَبُ الْوُجُودِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُكَلَّفِ لِإِسْقَاطِهِ بَعْدَ ذَلِكَ سَبِيلٌ، وَسَبَبُ الْوُجُوبِ هُنَا قَائِمٌ وَهُوَ الْغِنَى بِمِلْكِ النِّصَابِ، وَهُوَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْغِنَى بِهَذَا التَّحَيُّلِ. وَلَا يَعُدُّهُ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا نَفْسُهُ فَقِيرًا مِسْكِينًا بِهَذَا التَّحَيُّلِ يَسْتَحِقُّ أَخْذَ الزَّكَاةِ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ.

هَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْخِدَاعِ وَالْمَكْرِ، فَكَيْفَ يَرُوجُ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ خَفَايَا الْأُمُورِ وَخَبَايَا الصُّدُورِ؟ وَأَيْنَ الْقِيَاسُ وَالْمِيزَانُ وَالْعَدْلُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ مِنْ التَّحَيُّلِ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ وَإِسْقَاطِ الْوَاجِبَاتِ؟ وَكَيْفَ تَخْرُجُ الْحِيلَةُ الْمُفْسِدَةُ الَّتِي فِي الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ فِي كَوْنِهَا مُفْسِدَةً؟ أَمْ كَيْفَ يُقَلِّلُ بِهَا مَصْلَحَةً مَحْضَةً وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ تَزِيدُ بِالْحِيلَةِ وَلَا تَزُولُ وَتُضَاعَفُ وَلَا تَضْعُفُ؟ فَكَيْفَ تَزُولُ الْمَفْسَدَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي اقْتَضَتْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِلْمُحَلِّلِ وَالْمُحَلَّلِ لَهُ بِأَنْ يَشْتَرِطَا ذَلِكَ قَبْلَ الْعَقْدِ ثُمَّ يَعْقِدَا بِنِيَّةِ ذَلِكَ الشَّرْطِ وَلَا يَشْرِطَاهُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ؟ فَإِذَا أَخْلَيَا صُلْبَ الْعَقْدِ مِنْ التَّلَفُّظِ بِشَرْطِهِ حَسْبُ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالنَّاسُ وَهُمَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْعَقْدَ إنَّمَا عُقِدَ عَلَى ذَلِكَ، فَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ، أَكَانَتْ هَذِهِ اللَّعْنَةُ عَلَى مُجَرَّدِ ذِكْرِ الشَّرْطِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، فَإِذَا تَقَدَّمَ عَلَى الْعَقْدِ انْقَلَبَتْ اللَّعْنَةُ رَحْمَةً وَثَوَابًا؟ وَهَلْ الِاعْتِبَارُ فِي الْعُقُودِ إلَّا بِحَقَائِقِهَا وَمَقَاصِدِهَا؟ وَهَلْ الْأَلْفَاظُ إلَّا مَقْصُودَةٌ لِغَيْرِهَا قَصْدَ الْوَسَائِلِ؟ فَكَيْفَ يُضَاعُ الْمَقْصُودُ وَيُعْدَلُ عَنْهُ فِي عَقْدٍ مُسَاوٍ لِغَيْرِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِأَجْلِ تَقْدِيمِ لَفْظٍ أَوْ تَأْخِيرِهِ أَوْ إبْدَالِهِ

ص: 217

بِغَيْرِهِ وَالْحَقِيقَةُ وَاحِدَةٌ؟ هَذَا مِمَّا تُنَزَّهُ عَنْهُ الشَّرِيعَةُ الْكَامِلَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَأَصْحَابُ الْحِيَلِ تَرَكُوا مَحْضَ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ مَا احْتَالُوا عَلَيْهِ مِنْ الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ مُسَاوٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَهَا فِي الْقَصْدِ وَالْحَقِيقَةِ وَالْمَفْسَدَةِ وَالْفَارِقُ أَمْرٌ صُورِيٌّ أَوْ لَفْظِيٌّ لَا تَأْثِيرَ لَهُ أَلْبَتَّةَ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَهُ تِسْعَةَ دَرَاهِمَ بِعَشَرَةٍ وَلَا شَيْءَ مَعَهَا وَبَيْنَ أَنْ يَضُمَّ إلَى أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ خِرْقَةً تُسَاوِي فَلْسًا أَوْ عُودَ حَطَبٍ أَوْ أُذُنَ شَاةٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ؟ فَسُبْحَانَ اللَّهِ، مَا أَعْجَبَ حَالَ هَذِهِ الضَّمِيمَةِ الْحَقِيرَةِ الَّتِي لَا تُقْصَدُ، كَيْفَ جَاءَتْ إلَى الْمَفْسَدَةِ الَّتِي أَذِنَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِحَرْبِ مَنْ تَوَسَّلَ إلَيْهَا بِعَقْدِ الرِّبَا فَأَزَالَتْهَا وَمَحَتْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ قَلَبَتْهَا مَصْلَحَةً، وَجَعَلَتْ حَرْبَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ سِلْمًا وَرِضًا؟ وَكَيْفَ جَاءَ مُحَلِّلُ الرِّبَا الْمُسْتَعَارُ الَّذِي هُوَ أَخُو مُحَلِّلِ النِّكَاحِ إلَى تِلْكَ الْمَفَاسِدِ الْعَظِيمَةِ فَكَشَطَهَا كَشْطَ الْجِلْدِ عَنْ اللَّحْمِ بَلْ قَلَبَهَا مَصَالِحَ بِإِدْخَالِ سِلْعَةٍ بَيْنَ الْمُرَابِيَيْنِ تَعَاقَدَا عَلَيْهَا صُورَةً ثُمَّ أُعِيدَتْ إلَى مَالِكِهَا؟ وَلِلَّهِ مَا أَفْقَهَ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي الدِّينِ وَأَعْلَمهُ بِالْقِيَاسِ وَالْمِيزَانِ، حَيْثُ سُئِلَ عَمَّا هُوَ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ فَقَالَ: دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ دَخَلَتْ بَيْنَهُمَا جَرِيرَةٌ، فَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ، كَيْفَ اهْتَدَتْ هَذِهِ الْجَرِيرَةُ لِقَلْبِ مَفْسَدَةِ الرِّبَا مَصْلَحَةً وَلَعْنَةَ آكِلِهِ رَحْمَةً وَتَحْرِيمَهُ إذْنًا وَإِبَاحَةً؟

ثُمَّ أَيْنَ الْقِيَاسُ وَالْمِيزَانُ فِي إبَاحَةِ الْعِينَةِ الَّتِي لَا غَرَضَ لِلْمُرَابِيَيْنِ فِي السِّلْعَةِ قَطُّ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُمَا مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهُمَا وَالْحَاضِرُونَ مِنْ أَخْذِ مِائَةٍ حَالَّةً وَبَذْلِ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ مُؤَجَّلَةً، لَيْسَ لَهُمَا غَرَضٌ وَرَاءَ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، فَكَيْفَ يَقُولُ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ: إذَا أَرَدْتُمْ حِلَّ هَذَا فَتَحَيَّلُوا عَلَيْهِ بِإِحْضَارِ سِلْعَةٍ يَشْتَرِيهَا آكِلُ الرِّبَا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ يَبِيعُهَا لِلْمُرَابِي بِنَقْدٍ حَاضِرٍ فَيَنْصَرِفَانِ عَلَى مِائَةٍ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَالسِّلْعَةُ حَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ؟

وَهَلْ هَذَا إلَّا عُدُولٌ عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ وَتَفْرِيقٌ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْقَصْدِ وَالْمَفْسَدَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؟ بَلْ مَفْسَدَةُ الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ الرِّبَا الْخَالِي عَنْ الْحِيلَةِ، فَلَوْ لَمْ تَأْتِ الشَّرِيعَةُ بِتَحْرِيمِ هَذِهِ الْحِيَلِ لَكَانَ مَحْضُ الْقِيَاسِ وَالْمِيزَانِ الْعَادِلِ يُوجِبُ تَحْرِيمَهَا، وَلِهَذَا عَاقَبَ اللَّهُ سبحانه وتعالى مَنْ احْتَالَ عَلَى اسْتِبَاحَةِ مَا حَرَّمَهُ بِمَا لَمْ يُعَاقِبْ بِهِ مَنْ ارْتَكَبَ ذَلِكَ الْمُحَرَّمَ عَاصِيًا، فَهَذَا مِنْ جِنْسِ الذُّنُوبِ الَّتِي يُتَابُ مِنْهَا، وَذَاكَ مِنْ جِنْسِ الْبِدَعِ الَّتِي يَظُنُّ صَاحِبُهَا أَنَّهُ مِنْ الْمُحْسِنِينَ.

وَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ تَنَاقُضِ أَصْحَابِ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ فِيهِ، وَأَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، كَمَا فَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا لَوْ وَكَّلَ رَجُلَيْنِ مَعًا فِي الطَّلَاقِ فَقُلْتُمْ: لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِإِيقَاعِهِ، وَلَوْ وَكَّلَهُمَا مَعًا فِي الْخُلْعِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ، وَفُرْقَتُهُمْ بَيْنَ [الْأَمْرَيْنِ] بِمَا لَا يُجْدِي شَيْئًا، وَهُوَ أَنَّ الْخَلْع كَالْبَيْعِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ الْوَكِيلَيْنِ الِانْفِرَادُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ

ص: 218