الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصَلِّ الْقَرْضُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]
وَأَمَّا الْقَرْضُ فَمَنْ قَالَ " إنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ " فَشُبْهَتُهُ أَنَّهُ بَيْعٌ رِبَوِيٌّ بِجِنْسِهِ مَعَ تَأَخُّرِ الْقَبْضِ، وَهَذَا غَلَطٌ، فَإِنَّ الْقَرْضَ مِنْ جِنْسِ التَّبَرُّعِ بِالْمَنَافِعِ كَالْعَارِيَّةِ، وَلِهَذَا سَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنِيحَةً فَقَالَ «أَوْ مَنِيحَةَ ذَهَبٍ أَوْ مَنِيحَةَ وَرِقٍ» وَهَذَا مِنْ بَابِ الْإِرْفَاقِ، لَا مِنْ بَابِ الْمُعَاوَضَاتِ، فَإِنَّ بَابَ الْمُعَاوَضَاتِ يُعْطِي كُلٌّ مِنْهُمَا أَصْلَ الْمَالِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَعُودُ إلَيْهِ، وَبَابُ الْقَرْضِ مِنْ جِنْسِ بَابِ الْعَارِيَّةِ وَالْمَنِيحَةِ وَإِفْقَارِ الظَّهْرِ مِمَّا يُعْطِي فِيهِ أَصْلَ الْمَالِ لِيَنْتَفِعَ بِمَا يَسْتَخْلِفُ مِنْهُ ثُمَّ يُعِيدُهُ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَنَظِيرُهُ وَمِثْلُهُ، فَتَارَةً يَنْتَفِعُ بِالْمَنَافِعِ كَمَا فِي عَارِيَّةِ الْعَقَارِ وَتَارَةً يَمْنَحُهُ مَاشِيَةً لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا ثُمَّ يُعِيدَهَا أَوْ شَجَرَةً لِيَأْكُلَ ثَمَرَهَا ثُمَّ يُعِيدَهَا، وَتُسَمَّى الْعَرِيَّةَ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَعْرَاهُ الشَّجَرَةَ، وَأَعَارَهُ الْمَتَاعَ، وَمَنَحَهُ الشَّاةَ، وَأَفْقَرَهُ الظَّهْرَ، وَأَقْرَضَهُ الدَّرَاهِمَ.
وَاللَّبَنُ وَالثَّمَرُ لَمَّا كَانَ يُسْتَخْلَفُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَنَافِعِ، وَلِهَذَا كَانَ فِي الْوَقْفِ يَجْرِي مَجْرَى الْمَنَافِعِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْبَيْعِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِرْفَاقِ وَالتَّبَرُّعِ وَالصَّدَقَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُقْرِضُ قَدْ يَنْتَفِعُ أَيْضًا بِالْقَرْضِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ السَّفْتَجَةِ، وَلِهَذَا كَرِهَهَا مَنْ كَرِهَهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا تَخُصُّ الْمُقْرِضَ، بَلْ يَنْتَفِعَانِ بِهَا جَمِيعًا.
[فَصَلِّ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]
وَأَمَّا إزَالَةُ النَّجَاسَةِ فَمَنْ قَالَ " إنَّهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ " فَقَوْلُهُ مِنْ أَبْطَلْ الْأَقْوَالِ وَأَفْسَدِهَا، وَشُبْهَتُهُ أَنَّ الْمَاءَ إذَا لَاقَى نَجَاسَةً تَنَجَّسَ بِهَا، ثُمَّ لَاقَى الثَّانِي وَالثَّالِثَ كَذَلِكَ، وَهَلُمَّ جَرًّا، وَالنَّجَسُ لَا يُزِيلُ نَجَاسَةً، وَهَذَا غَلَطٌ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: فَلِمَ قُلْتُمْ: إنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَاءَ إذَا لَاقَى نَجَاسَةً نَجُسَ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: الْحُكْمُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَذَلِكَ، قِيلَ: هَذَا مَمْنُوعٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَيُقَاسَ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ عَلَى " مَا تَغَيَّرَ.
قِيلَ: هَذَا مِنْ أَبْطَلْ الْقِيَاسِ حِسًّا وَشَرْعًا، وَلَيْسَ جَعْلُ الْإِزَالَةِ مُخَالِفَةً لِلْقِيَاسِ بِأَوْلَى مِنْ جَعْلِ تَنْجِيسِ الْمَاءِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ " بَلْ يُقَالُ: إنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَاءَ إذَا لَاقَى نَجَاسَةً لَا يَنْجُسُ، كَمَا أَنَّهُ إذَا لَاقَاهَا حَالَ الْإِزَالَةِ لَا يَنْجُسُ، فَهَذَا الْقِيَاسُ أَصَحُّ مِنْ ذَلِكَ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَزُولُ بِالْمَاءِ حِسًّا وَشَرْعًا، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الدِّينِ بِالنَّصِّ
وَالْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا تَنْجِيسُ الْمَاءِ بِالْمُلَاقَاةِ فَمَوْرِدُ نِزَاعٍ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ مَوْرِدُ النِّزَاعِ حُجَّةً عَلَى مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ؟ وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي رَدَّ مَوَارِدِ النِّزَاعِ إلَى مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ، وَأَيْضًا فَاَلَّذِي تَقْتَضِيهِ الْعُقُولُ أَنَّ الْمَاءَ إذَا لَمْ تُغَيِّرْهُ النَّجَاسَةُ لَا يَنْجُسُ، فَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَى أَصْلِ خِلْقَتِهِ، وَهُوَ طَيِّبٌ، فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي الْمَائِعَاتِ جَمِيعِهَا إذَا وَقَعَ فِيهَا نَجَاسَةٌ فَاسْتَحَالَتْ بِحَيْثُ لَمْ يَظْهَرْ لَهَا لَوْنٌ وَلَا طَعْمٌ وَلَا رِيحٌ.
وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ: هَلْ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي نَجَاسَةَ الْمَاءِ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الدَّلِيلُ، أَوْ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَالثَّانِي قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ مِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ هَذَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ هَذَا.
وَقَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُصُولُ وَالنُّصُوصُ وَالْمَعْقُولُ، فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - أَبَاحَ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ، وَالطَّيِّبُ وَالْخَبِيثُ يَثْبُتُ لِلْمَحَلِّ بِاعْتِبَارِ صِفَاتٍ قَائِمَةٍ بِهِ، فَمَا دَامَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ فَالْحُكْمُ تَابِعٌ لَهَا، فَإِذَا زَالَتْ وَخَلَفَتْهَا الصِّفَةُ الْأُخْرَى زَالَ الْحُكْمُ وَخَلَفَهُ ضِدُّهُ، فَهَذَا هُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ وَالْمَعْقُولِ، فَهَذَا الْمَاءُ وَالطَّعَامُ كَانَ طَيِّبًا لِقِيَامِ الصِّفَةِ الْمُوجِبَةِ لِطِيبِهِ، فَإِذَا زَالَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ وَخَلَفَتْهَا صِفَةُ الْخُبْثِ عَادَ خَبِيثًا، فَإِذَا زَالَتْ صِفَةُ الْخُبْثِ عَادَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَهَذَا كَالْعَصِيرِ الطَّيِّبِ إذَا تَخَمَّرَ صَارَ خَبِيثًا فَإِذَا عَادَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ عَادَ طَيِّبًا، وَالْمَاءُ الْكَثِيرُ إذَا تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ صَارَ خَبِيثًا فَإِذَا زَالَ التَّغَيُّرُ عَادَ طَيِّبًا، وَالرَّجُلُ الْمُسْلِمُ إذَا ارْتَدَّ صَارَ خَبِيثًا فَإِذَا عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ عَادَ طَيِّبًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ طَيِّبٌ الْحِسُّ وَالشَّرْعُ: أَمَّا الْحِسُّ فَلِأَنَّ الْخُبْثَ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ فِيهِ أَثَرٌ بِوَجْهٍ مَا، لَا فِي لَوْنٍ وَلَا طَعْمٍ وَلَا رَائِحَةٍ، وَمُحَالٌ صِدْقُ الْمُشْتَقِّ بِدُونِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ. وَأَمَّا الشَّرْعُ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ كَانَ طَيِّبًا قَبْلَ مُلَاقَاتِهِ لِمَا يَتَأَثَّرُ بِهِ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ حَتَّى يَثْبُتَ رَفْعُهُ وَهَذَا يَتَضَمَّنُ أَنْوَاعَ الِاسْتِصْحَابِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: اسْتِصْحَابُ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْ الْإِثْمِ بِتَنَاوُلِهِ شُرْبًا أَوْ طَبْخًا أَوْ عَجْنًا، وَمُلَابَسَةُ اسْتِصْحَابِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ، وَاسْتِصْحَابُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ شَرِبَ هَذَا الْمَاءَ الَّذِي قُطِرَتْ فِيهِ قَطْرَةٌ مِنْ خَمْرٍ مِثْلُ رَأْسِ الذُّبَابَةِ لَمْ يُحَدَّ اتِّفَاقًا، وَلَوْ شَرِبَهُ صَبِيٌّ وَقَدْ قُطِرَتْ فِيهِ قَطْرَةٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ تَنْشُرْ الْحُرْمَةُ، فَلَا وَجْهَ لِلْحُكْمِ بِنَجَاسَتِهِ لَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا مِنْ سُنَّةٍ وَلَا قِيَاسٍ.
وَاَلَّذِينَ قَالُوا: " إنَّ الْأَصْلَ نَجَاسَةُ الْمَاءِ بِالْمُلَاقَاةِ " تَنَاقَضُوا أَعْظَمَ تَنَاقُضٍ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ طَرْدُ هَذَا الْأَصْلِ: فَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَثْنَى مِقْدَارَ الْقُلَّتَيْنِ عَلَى خِلَافِهِمْ فِيهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَثْنَى مَا لَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَثْنَى مَا إذَا حُرِّكَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ لَمْ يَتَحَرَّكْ الطَّرَفُ الْآخَرُ، وَمِنْهُمْ