المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل شهادة المجلود في حد القذف] - إعلام الموقعين عن رب العالمين - ط العلمية - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌[مُقَدِّمَة الْكتاب]

- ‌[فَصْلٌ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ مَا يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُوَقِّعُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ]

- ‌[فَصْلٌ أَوَّلُ مَنْ وَقَّعَ عَنْ اللَّهِ]

- ‌[فَصْلٌ عَمَّنْ انْتَشَرَ الدِّينُ وَالْفِقْهُ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْ صَارَتْ إلَيْهِ الْفَتْوَى مِنْ التَّابِعِينَ]

- ‌[فَصْلٌ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فُقَهَاءُ مَكَّةَ]

- ‌[فَصْلٌ فُقَهَاءُ الْبَصْرَةِ]

- ‌[أُصُولُ فَتَاوَى أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ]

- ‌[فَصْلٌ كَرَاهَةُ الْعُلَمَاءِ التَّسَرُّعَ فِي الْفَتْوَى]

- ‌[الْمُرَادُ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ]

- ‌[خَطَرُ تَوَلِّي الْقَضَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمُحَرَّمَاتُ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ]

- ‌[النَّهْيُ عَنْ أَنْ يُقَالَ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ]

- ‌[لَفْظُ الْكَرَاهَةِ يُطْلَقُ عَلَى الْمُحَرَّمِ]

- ‌[مَا يَقُولُهُ الْمُفْتِي فِيمَا اجْتَهَدَ فِيهِ]

- ‌[فَصْلٌ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ فِي الْفُتْيَا]

- ‌[أَدَوَاتُ الْفُتْيَا]

- ‌[الْفَتْوَى بِالتَّقْلِيدِ]

- ‌[شُرُوطُ الْإِفْتَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ الْإِفْتَاءِ فِي دِينِ اللَّهِ بِالرَّأْيِ]

- ‌[الْأَمْرُ بِالرَّدِّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يَشْتَمِلَانِ عَلَى حُكْمِ كُلِّ شَيْءٍ]

- ‌[الْوَعِيدُ عَلَى الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ]

- ‌[فَصْلٌ تَأْوِيلُ مَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ مِنْ الْأَخْذِ بِالرَّأْيِ]

- ‌[فَصْلٌ الرَّأْيُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ]

- ‌[الرَّأْيُ الْبَاطِلُ وَأَنْوَاعُهُ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ]

- ‌[النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ]

- ‌[فَصْلٌ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ]

- ‌[فَصْلٌ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ]

- ‌[فَصْلٌ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ]

- ‌[كِتَابِ عُمَرَ فِي الْقَضَاءِ وشرحه]

- ‌[صِحَّةُ الْفَهْمِ وَحُسْنُ الْقَصْدِ]

- ‌[وَاجِبُ الْحَاكِمِ]

- ‌[نِصَابُ الشَّهَادَةِ]

- ‌[فَصْل تُشْرَعُ الْيَمِينُ مِنْ جِهَةِ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ]

- ‌[صِفَاتُ الْحَاكِمِ وَمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ]

- ‌[فَصْلٌ الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ]

- ‌[فَصْلٌ يُؤَجِّلُ الْقَاضِي الْحُكْمَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ]

- ‌[تَغَيُّرُ الْحُكْم بِتَغَيُّرِ الِاجْتِهَادِ]

- ‌[مَنْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ]

- ‌[فَصْلٌ شَاهِدُ الزُّورِ]

- ‌[الْكَذِبِ فِي غَيْرِ الشَّهَادَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الْحِكْمَةُ فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْكَذَّابِ]

- ‌[فَصْلٌ شَهَادَةِ الْمَجْلُودِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ]

- ‌[فَصْلٌ رَدُّ الشَّهَادَةِ بِالتُّهْمَةِ]

- ‌[فَصْلٌ شَهَادَةُ مَسْتُورِ الْحَالِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي الْقِيَاسِ]

- ‌[أَنْوَاعُ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصْلٌ قِيَاسُ الدَّلَالَةِ]

- ‌[فَصْلٌ قِيَاسُ الشَّبَهِ]

- ‌[فَصْلٌ قِيَاسِ الْعَكْسِ]

- ‌[فَصْلٌ مِثْل مِنْ الْقِيَاسِ التَّمْثِيلِيِّ]

- ‌[السِّرُّ فِي ضَرْبِ الْأَمْثَالِ]

- ‌[تَسْوِيَة الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ جَاءَ الْقُرْآنُ بِتَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ]

- ‌[مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ تَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ]

- ‌[فَصْلٌ حَدِيثُ مُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ الرَّسُولُ إلَى الْيَمَنِ]

- ‌[فَصْلٌ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ يَجْتَهِدُونَ وَيَقِيسُونَ]

- ‌[مَا أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَيْهِ مِنْ مَسَائِلِ الْقِيَاسِ]

- ‌[قِيَاسُ الصَّحَابَةِ حَدَّ الشُّرْبِ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ]

- ‌[قِيَاسُ الصَّحَابَةِ فِي الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ]

- ‌[اخْتِلَافُ الصَّحَابَة فِي الْمَرْأَةِ الْمُخَيَّرَةِ]

- ‌[الصَّحَابَةُ فَتَحُوا بَابَ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ]

- ‌[الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ مَرْكُوزٌ فِي فِطَرِ النَّاسِ]

- ‌[الْقَيَّاسُونَ وَالظَّاهِرِيَّةُ مُفْرِطُونَ]

- ‌[فَصْلٌ قَوْلُ نُفَاةِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصْلٌ فَائِدَةُ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ]

- ‌[فَصْلٌ لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ بِالْقِيَاسِ بَلْ نَهَى عَنْهُ]

- ‌[فَصْلٌ نهى الصَّحَابَةُ عَنْ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصْلٌ ذَمِّ التَّابِعُونَ لِلْقِيَاسِ]

- ‌[فَصْلٌ الْقِيَاسُ يُعَارِضُ بَعْضُهُ بَعْضًا]

- ‌[إذَا اخْتَلَفَتْ الْأَقْيِسَةُ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِينَ]

- ‌[لَمْ يَكُنْ الْقِيَاسُ حُجَّةً فِي زَمَنِ الرَّسُولِ]

- ‌[فَصْلٌ تَنَاقُضُ أَهْلِ الْقِيَاسِ دَلِيلُ فَسَادِهِ]

- ‌[فَصْلٌ مَثَلٌ مِمَّا جَمَعَ فِيهِ الْقِيَاسِيُّونَ بَيْنَ الْمُتَفَرِّقَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ مِنْ تَنَاقُضِ الْقِيَاسِيِّينَ مُرَاعَاةُ بَعْضِ الشُّرُوطِ دُونَ بَعْضِهَا الْآخَرِ]

- ‌[فَصْلٌ هَلْ فِي اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ قِصَاصٌ]

- ‌[فَصْلٌ حُكُومَةُ النَّبِيَّيْنِ الْكَرِيمَيْنِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ]

- ‌[الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي قُوَّة أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ]

- ‌[إحَاطَةُ الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ]

- ‌[فَصْلٌ هَلْ تُحِيطُ النُّصُوصُ بِحُكْمِ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ]

- ‌[أخطاء المختلفين فِي إحاطة النُّصُوص بِأَحْكَام الحوادث]

- ‌[الْخَطَأ الْأَوَّل والثانى]

- ‌[الْخَطَأُ الثَّالِثُ تَحْمِيلُ الِاسْتِصْحَابِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّهُ]

- ‌[الِاسْتِصْحَابُ وَأَقْسَامُهُ]

- ‌[الْخَطَأُ الرَّابِعُ اعْتِقَاد أَنَّ عُقُودَ الْمُسْلِمِينَ وَشُرُوطَهُمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ كُلَّهَا عَلَى الْبُطْلَانِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الصِّحَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ أَخْطَاءُ الْقِيَاسِيِّينَ]

- ‌[فَصْلُ فِي شُمُولُ النُّصُوصِ وَإِغْنَاؤُهَا عَنْ الْقِيَاسِ]

- ‌[الْمَسْأَلَةُ الْمُشْتَرَكَةُ فِي الْفَرَائِضِ]

- ‌[الْمَسْأَلَةُ الْعُمَرِيَّةُ]

- ‌[فَصَلِّ مِيرَاثُ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ]

- ‌[فَصَلِّ مِيرَاثُ الْبَنَاتِ]

- ‌[فَصَلِّ مِيرَاثُ بِنْتِ الِابْنِ]

- ‌[فَصَلِّ مِيرَاثُ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ]

- ‌[فَصْلُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ شَيْءٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ الْحَوَالَةُ مُوَافِقَةٌ لِلْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ الْقَرْضُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ طَهَارَةُ الْخَمْرِ بِالِاسْتِحَالَةِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ الْوُضُوءُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ الْفِطْرُ بِالْحِجَامَةِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ التَّيَمُّمُ جَارٍ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ السَّلَمُ جَارٍ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ الْكِتَابَةُ تَجْرِي عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصَلِّ بَيَانُ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

الفصل: ‌[فصل شهادة المجلود في حد القذف]

[فَصْلٌ الْحِكْمَةُ فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْكَذَّابِ]

فَصْلٌ:

[الْحِكْمَةُ فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْكَذَّابِ]

وَأَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ وَالْفُتْيَا وَالرِّوَايَةِ الْكَذِبُ؛ لِأَنَّهُ فَسَادٌ فِي نَفْسِ آلَةِ الشَّهَادَةِ وَالْفُتْيَا وَالرِّوَايَةِ، فَهُوَ بِمَثَابَةِ شَهَادَةِ الْأَعْمَى عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَشَهَادَةِ الْأَصَمِّ الَّذِي لَا يَسْمَعُ عَلَى إقْرَارِ الْمُقِرِّ؛ فَإِنَّ اللِّسَانَ الْكَذُوبَ بِمَنْزِلَةِ الْعُضْوِ الَّذِي قَدْ تَعَطَّلَ نَفْعُهُ، بَلْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، فَشَرُّ مَا فِي الْمَرْءِ لِسَانٌ كَذُوبٌ؛ وَلِهَذَا يَجْعَلُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ شِعَارَ الْكَاذِبِ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِعَارَ الْكَاذِبِ عَلَى رَسُولِهِ سَوَادَ وُجُوهِهِمْ، وَالْكَذِبُ لَهُ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ فِي سَوَادِ الْوَجْهِ، وَيَكْسُوهُ بُرْقُعًا مِنْ الْمَقْتِ يَرَاهُ كُلُّ صَادِقٍ؛ فَسِيَّمَا الْكَاذِبُ فِي وَجْهِهِ يُنَادَى عَلَيْهِ لِمَنْ لَهُ عَيْنَانِ، وَالصَّادِقُ يَرْزُقُهُ اللَّهُ مَهَابَةً وَجَلَالَةً، فَمَنْ رَآهُ هَابَهُ وَأَحَبَّهُ، وَالْكَاذِبُ يَرْزُقُهُ إهَانَةً وَمَقْتًا، فَمَنْ رَآهُ مَقَتَهُ وَاحْتَقَرَهُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

[فَصْلٌ شَهَادَةِ الْمَجْلُودِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ]

. فَصْلٌ

[رَدُّ شَهَادَةِ الْمَجْلُودِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ]

وَقَوْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنه فِي كِتَابِهِ " أَوْ مَجْلُودًا فِي حَدٍّ " الْمُرَادُ بِهِ الْقَاذِفُ إذَا حُدَّ لِلْقَذْفِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَالْقُرْآنُ نَصٌّ فِيهِ؛ وَأَمَّا إذَا تَابَ فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ:

أَحَدُهُمَا: لَا تُقْبَلُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ.

وَالثَّانِي: تُقْبَلُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ.

وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: شَهَادَةُ الْفَاسِقِ لَا تَجُوزُ وَإِنْ تَابَ، وَقَالَ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ: ثنا أَبُو الْوَلِيدِ ثنا قَيْسٌ عَنْ سَالِمٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرَةَ إذَا أَتَاهُ رَجُلٌ يُشْهِدُهُ قَالَ: أَشْهِدْ غَيْرِي، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ فَسَّقُونِي، وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَمَسْرُوقٍ وَالشَّعْبِيِّ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ.

وَاحْتَجَّ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَبَّدَ الْمَنْعَ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] ، وَحَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْفِسْقِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى التَّائِبِينَ مِنْ الْفَاسِقِينَ، وَبَقِيَ الْمَنْعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ عَلَى إطْلَاقِهِ وَتَأْبِيدِهِ. قَالُوا: وَقَدْ رَوَى أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيّ عَنْ آدَمَ بْنِ فَائِدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا مَحْدُودٍ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا مَحْدُودَةٍ، وَلَا ذِي غَمْرٍ عَلَى أَخِيهِ» وَلَهُ طُرُقٌ إلَى عَمْرٍو.

وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ

ص: 95

عَمْرٍو، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ عَنْ عَمْرٍو قَالُوا: وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ الدِّمَشْقِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ تَرْفَعُهُ «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا مَجْلُودٍ فِي حَدٍّ، وَلَا ذِي غَمْرٍ لِأَخِيهِ، وَلَا مُجَرَّبٍ عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ، وَلَا ظَنِينٍ فِي وَلَاءٍ أَوْ قَرَابَةٍ» .

وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتَهُ جُعِلَ مِنْ تَمَامِ عُقُوبَتِهِ، وَلِهَذَا لَا يَتَرَتَّبُ الْمَنْعُ إلَّا بَعْدَ الْحَدِّ، فَلَوْ قَذَفَ وَلَمْ يُحَدَّ لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا زَادَهُ طُهْرَةً وَخَفَّفَ عَنْهُ إثْمَ الْقَذْفِ أَوْ رَفَعَهُ، فَهُوَ بَعْدَ الْحَدِّ خَيْرٌ مِنْهُ قَبْلَهُ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّمَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ بَعْدَ الْحَدِّ، فَرَدُّهَا مِنْ تَمَامِ عُقُوبَتِهِ وَحَدُّهُ وَمَا كَانَ مِنْ الْحُدُودِ وَلَوَازِمِهَا فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، وَلِهَذَا لَوْ تَابَ الْقَاذِفُ لَمْ تَمْنَعْ تَوْبَتُهُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ شَهَادَتُهُ.

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ مِنْ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ وَقَالَ شُرَيْحٌ: لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا، وَتَوْبَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ. وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ رَدَّ شَهَادَتِهِ جُعِلَ عُقُوبَةً لِهَذَا الذَّنْبِ؛ فَلَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ كَالْحَدِّ.

قَالَ الْآخَرُونَ، وَاللَّفْظُ لِلشَّافِعِيِّ: وَالثُّنْيَا فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ وَآخِرِهِ فِي جَمِيعِ مَا يَذْهَبُ إلَيْهِ أَهْلُ الْفِقْهِ إلَّا أَنْ يَفْرُقَ بَيْنَ ذَلِكَ خَبَرٌ، وَأَنْبَأَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ: سَمِعْت الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: زَعَمَ أَهْلُ الْعِرَاقِ أَنَّ شَهَادَةَ الْمَحْدُودِ لَا تَجُوزُ، وَأَشْهَدُ لَأَخْبَرَنِي فُلَانٌ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِأَبِي بَكْرَةَ: تُبْ أَقْبَلُ شَهَادَتَك، قَالَ سُفْيَانُ: نَسِيتُ اسْمَ الَّذِي حَدَّثَ الزُّهْرِيَّ، فَلَمَّا قُمْنَا سَأَلْت مَنْ حَضَرَ، فَقَالَ لِي عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ: هُوَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، فَقُلْت لِسُفْيَانَ: فَهَلْ شَكَكْت فِيمَا قَالَ لَك؟ قَالَ: لَا هُوَ سَعِيدٌ غَيْرُ شَكٍّ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَكَثِيرًا مَا سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ فَيُسَمَّى سَعِيدًا، وَكَثِيرًا مَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: عَنْ سَعِيدٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَأَخْبَرَنِي بِهِ مِنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا جَلَدَ الثَّلَاثَةَ اسْتَتَابَهُمْ، فَرَجَعَ اثْنَانِ فَقَبِلَ شَهَادَتَهُمَا، وَأَبَى أَبُو بَكْرَةَ أَنْ يَرْجِعَ فَرَدَّ شَهَادَتَهُ، وَرَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِأَبِي بَكْرَةَ وَشِبْلٍ وَنَافِعٍ: مَنْ تَابَ مِنْكُمْ قَبِلْت شَهَادَتَهُ.

وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: ثنا مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِلَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ: تُوبُوا تُقْبَلْ شَهَادَتُكُمْ، فَتَابَ مِنْهُمْ اثْنَانِ وَأَبَى أَبُو بَكْرَةَ أَنْ يَتُوبَ، فَكَانَ عُمَرُ لَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ.

قَالُوا: وَالِاسْتِثْنَاءُ عَائِدٌ عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَهُ سِوَى الْحَدِّ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْ الْقَاذِفِ بِالتَّوْبَةِ، وَقَدْ قَالَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ: إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إلَى مَا تَقَدَّمَ كُلِّهِ؛ قَالَ ابْنُ عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ: وَجَمَاعَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَمَكَّةَ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ، وَأَمَّا

ص: 96

أَهْلُ الْعِرَاقِ فَيَأْخُذُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنْ لَا تُقْبَلَ أَبَدًا، وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ إنَّمَا تَأَوَّلُوا الْقُرْآنَ فِيمَا نَرَى، وَاَلَّذِينَ لَا يَقْبَلُونَهَا يَذْهَبُونَ إلَى أَنَّ الْمَعْنَى انْقَطَعَ مِنْ عِنْدِ قَوْلِهِ:{وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4]{إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] فَجَعَلُوا الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الْفِسْقِ خَاصَّةً دُونَ الشَّهَادَةِ، وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَتَأَوَّلُوا أَنَّ الْكَلَامَ تَبِعَ بَعْضُهُ بَعْضًا عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ فَقَالَ:{وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4]{إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] فَانْتَظَمَ الِاسْتِثْنَاءُ كُلَّ مَا كَانَ قَبْلَهُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَهَذَا عِنْدِي هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْمُولُ بِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَالَ بِهِ أَكْثَرُ وَهُوَ أَصَحُّ فِي النَّظَرِ، وَلَا يَكُونُ الْقَوْلُ بِالشَّيْءِ أَكْثَرَ مِنْ الْفِعْلِ، وَلَيْسَ يَخْتَلِفُ الْمُسْلِمُونَ فِي الزَّانِي الْمَجْلُودِ أَنَّ شَهَادَتَهُ مَقْبُولَةٌ إذَا تَابَ. قَالُوا: وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: بَلَغَنِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُجِيزُ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ إذَا تَابَ.

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] ثُمَّ قَالَ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] فَمَنْ تَابَ وَأَصْلَحَ فَشَهَادَتُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تُقْبَلُ، وَقَالَ شَرِيكٌ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ: يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَتَهُ وَلَا يَقْبَلُونَ شَهَادَتَهُ؟ ، وَقَالَ مُطَرِّفٌ عَنْهُ: إذَا فَرَغَ مِنْ ضَرْبِهِ فَأَكْذَبَ نَفْسَهُ وَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ.

قَالُوا: وَأَمَّا تِلْكَ الْآثَارُ الَّتِي رَوَيْتُمُوهَا فَفِيهَا ضَعْفٌ؛ فَإِنَّ آدَمَ بْنَ فَائِدٍ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَرُوَاتَهُ عَنْ عُمَرَ قِسْمَانِ: ثِقَاتٌ، وَضُعَفَاءُ، فَالثِّقَاتُ لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ " أَوْ مَجْلُودًا فِي حَدٍّ " وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الضُّعَفَاءُ كَالْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ وَآدَمَ وَالْحَجَّاجِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِيهِ يَزِيدُ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَوْ صَحَّتْ الْأَحَادِيثُ لَحُمِلَتْ عَلَى غَيْرِ التَّائِبِ، فَإِنَّ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَقَدْ قُبِلَ شَهَادَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَلَا يُعْلَمُ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ.

قَالُوا: وَأَعْظَمُ مَوَانِعِ الشَّهَادَةِ الْكُفْرُ وَالسَّحَرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَالزِّنَا، وَلَوْ تَابَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ اتِّفَاقًا؛ فَالتَّائِبُ مِنْ الْقَذْفِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ. قَالُوا: وَأَيْنَ جِنَايَةُ قَتْلِهِ مِنْ قَذْفِهِ؟ قَالُوا: وَالْحَدُّ يَدْرَأُ عَنْهُ عُقُوبَةَ الْآخِرَةِ، وَهُوَ طُهْرَةٌ لَهُ؛ فَإِنَّ الْحُدُودَ طُهْرَةٌ لِأَهْلِهَا، فَكَيْفَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا لَمْ يَتَطَهَّرْ بِالْحَدِّ وَيُرَدُّ أَطْهَرَ مَا يَكُونُ؟ فَإِنَّهُ بِالْحَدِّ وَالتَّوْبَةِ قَدْ يَطْهُرُ طُهْرًا كَامِلًا. قَالُوا: وَرَدُّ الشَّهَادَةِ بِالْقَذْفِ إنَّمَا هُوَ مُسْتَنِدٌ إلَى الْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ عَقِيبَ هَذَا الْحُكْمِ، وَهِيَ الْفِسْقُ، وَقَدْ ارْتَفَعَ الْفِسْقُ بِالتَّوْبَةِ، وَهُوَ سَبَبُ الرَّدِّ؛ فَيَجِبُ ارْتِفَاعُ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْعُ

ص: 97

قَالُوا: وَالْقَاذِفُ فَاسِقٌ بِقَذْفِهِ، حُدَّ أَوْ لَمْ يُحَدَّ، فَكَيْفَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي حَالِ فِسْقِهِ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ بَعْدَ زَوَالِ فِسْقِهِ؟ قَالُوا: وَلَا عَهْدَ لَنَا فِي الشَّرِيعَةِ بِذَنْبٍ وَاحِدٍ أَصْلًا يُتَابُ مِنْهُ وَيَبْقَى أَثَرُهُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ مِنْ رَدِّ الشَّهَادَةِ، وَهَلْ هَذَا إلَّا خِلَافُ الْمَعْهُودِ مِنْهَا، وَخِلَافُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» ؟ وَعِنْدَ هَذَا فَيُقَالُ: تَوْبَتُهُ مِنْ الْقَذْفِ تُنْزِلُهُ مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يَقْذِفْ، فَيَجِبُ قَبُولُ شَهَادَتِهِ، أَوْ كَمَا قَالُوا. قَالَ الْمَانِعُونَ: الْقَذْفُ مُتَضَمِّنٌ لِلْجِنَايَةِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْآدَمِيِّ، وَهُوَ مِنْ أَوْفَى الْجَرَائِمَ، فَنَاسَبَ تَغْلِيظَ الزَّجْرِ، وَرَدُّ الشَّهَادَةِ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الزَّجْرِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إيلَامِ الْقَلْبِ وَالنِّكَايَةِ فِي النَّفْسِ؛ إذْ هُوَ عَزْلٌ لِوِلَايَةِ لِسَانِهِ الَّذِي اسْتَطَالَ بِهِ عَلَى عِرْضِ أَخِيهِ، وَإِبْطَالٌ لَهَا، ثُمَّ هُوَ عُقُوبَةٌ فِي مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، فَإِنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ بِلِسَانِهِ، فَكَانَ أَوْلَى بِالْعُقُوبَةِ فِيهِ، وَقَدْ رَأَيْنَا الشَّارِعَ قَدْ اعْتَبَرَ هَذَا حَيْثُ قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ، فَإِنَّهُ حَدٌّ مَشْرُوعٌ فِي مَحَلِّ الْجِنَايَةِ؛ وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا بِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ عُقُوبَةَ الزَّانِي بِقَطْعِ الْعُضْوِ الَّذِي جَنَى بِهِ لِوُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ عُضْوٌ خَفِيٌّ مَسْتُورٌ لَا تَرَاهُ الْعُيُونُ، فَلَا يَحْصُلُ الِاعْتِبَارُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْحَدِّ بِقَطْعِهِ.

الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى إبْطَالِ آلَاتِ التَّنَاسُلِ وَانْقِطَاعِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ.

الثَّالِثُ: أَنَّ لَذَّةَ الْبَدَنِ جَمِيعَهُ بِالزِّنَا كَلَذَّةِ الْعُضْوِ الْمَخْصُوصِ، فَاَلَّذِي نَالَ الْبَدَنَ مِنْ اللَّذَّةِ الْمُحَرَّمَةِ مِثْلُ مَا نَالَ الْفَرْجَ، وَلِهَذَا كَانَ حَدُّ الْخَمْرِ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ.

الرَّابِعُ: أَنَّ قَطْعَ هَذَا الْعُضْوِ مُفْضٍ إلَى الْهَلَاكِ، وَغَيْرُ الْمُحْصَنِ لَا تَسْتَوْجِبُ جَرِيمَتُهُ الْهَلَاكَ، وَالْمُحْصَنُ إنَّمَا يُنَاسِبُ جَرِيمَتَهُ أَشْنَعُ الْقِتْلَاتِ، وَلَا يُنَاسِبُهَا قَطْعُ بَعْضِ أَعْضَائِهِ فَافْتَرَقَا.

قَالُوا: وَأَمَّا قَبُولُ شَهَادَتِهِ قَبْلَ الْحَدِّ وَرَدِّهَا بَعْدَهُ فَلِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ جُعِلَ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ وَتَكْمِلَتِهِ؛ فَهُوَ كَالصِّفَةِ وَالتَّتِمَّةِ لِلْحَدِّ؛ فَلَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ يُنْقِصُ عِنْدَ النَّاسِ، وَتَقِلُّ حُرْمَتُهُ، وَهُوَ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ قَائِمٌ الْحُرْمَةَ غَيْرُ مُنْتَهِكِهَا.

قَالُوا: وَأَمَّا التَّائِبُ مِنْ الزِّنَا وَالْكُفْرِ وَالْقَتْلِ فَإِنَّمَا قَبِلْنَا شَهَادَتَهُ لِأَنَّ رَدَّهَا كَانَ نَتِيجَةَ الْفِسْقِ، وَقَدْ زَالَ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ رَدَّهَا مِنْ تَتِمَّةِ الْحَدِّ، فَافْتَرَقَا. قَالَ الْقَابِلُونَ: تَغْلِيظُ الزَّجْرِ لَا ضَابِطَ لَهُ، وَقَدْ حَصَلَتْ مَصْلَحَةُ الزَّجْرِ بِالْحَدِّ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْجَرَائِمِ جَعَلَ الشَّارِعُ مَصْلَحَةَ الزَّجْرِ عَلَيْهَا بِالْحَدِّ، وَإِلَّا فَلَا تَطْلُقُ نِسَاؤُهُ، وَلَا يُؤْخَذُ مَالُهُ، وَلَا يُعْزَلُ عَنْ مَنْصِبِهِ، وَلَا تَسْقُطُ رِوَايَتُهُ، لِأَنَّهُ أَغْلَظُ فِي الزَّجْرِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَبُولِ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه؛ وَتَغْلِيظُ الزَّجْرِ مِنْ الْأَوْصَافِ الْمُنْتَشِرَةِ الَّتِي لَا

ص: 98