الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حِفْظِهِ، فَلَمْ يَتَعَدَّوْا فِي اسْتِعْمَالِهِ قَدْرَ الضَّرُورَةِ، وَلَمْ يَبْغُوا الْعُدُولَ إلَيْهِ مَعَ تَمَكُّنِهِمْ مِنْ النُّصُوصِ وَالْآثَارِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمُضْطَرِّ إلَى الطَّعَامِ الْمُحَرَّمِ:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] فَالْبَاغِي: الَّذِي يَبْتَغِي الْمَيْتَةَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى التَّوَصُّلِ إلَى الْمُذَكَّى، وَالْعَادِي: الَّذِي يَتَعَدَّى قَدْرَ الْحَاجَةِ بِأَكْلِهَا.
[الرَّأْيُ الْبَاطِلُ وَأَنْوَاعُهُ]
فَالرَّأْيُ الْبَاطِلُ أَنْوَاعٌ: أَحَدُهَا: الرَّأْيُ الْمُخَالِفُ لِلنَّصِّ، وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ فَسَادُهُ وَبُطْلَانُهُ، وَلَا تَحِلُّ الْفُتْيَا بِهِ وَلَا الْقَضَاءُ، وَإِنْ وَقَعَ فِيهِ مَنْ وَقَعَ بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ وَتَقْلِيدٍ.
النَّوْعُ الثَّانِي: هُوَ الْكَلَامُ فِي الدِّينِ بِالْخَرْصِ وَالظَّنِّ، مَعَ التَّفْرِيطِ وَالتَّقْصِيرِ فِي مَعْرِفَةِ النُّصُوصِ وَفَهْمِهَا وَاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْهَا، فَإِنَّ مَنْ جَهِلَهَا وَقَاسَ بِرَأْيِهِ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ، بَلْ لِمُجَرَّدِ قَدْرٍ جَامِعٍ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَلْحَقَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ، أَوْ لِمُجَرَّدِ قَدْرِ فَارِقٍ يَرَاهُ بَيْنَهُمَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى النُّصُوصِ وَالْآثَارِ؛ فَقَدْ وَقَعَ فِي الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ الْبَاطِلِ.
فَصْلٌ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: الرَّأْيُ الْمُتَضَمِّنُ تَعْطِيلَ أَسْمَاءِ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ بِالْمَقَايِيسِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي وَضَعَهَا أَهْلُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ، حَيْثُ اسْتَعْمَلَ أَهْلُهُ قِيَاسَاتِهِمْ الْفَاسِدَةَ وَآرَاءَهُمْ الْبَاطِلَةَ وَشُبَهَهُمْ الدَّاحِضَةَ فِي رَدِّ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ؛ فَرَدُّوا لِأَجْلِهَا أَلْفَاظَ النُّصُوصِ الَّتِي وَجَدُوا السَّبِيلَ إلَى تَكْذِيبِ رُوَاتِهَا وَتَخْطِئَتِهِمْ، وَمَعَانِي النُّصُوصِ الَّتِي لَمْ يَجِدُوا إلَى رَدِّ أَلْفَاظِهَا سَبِيلًا، فَقَابَلُوا النَّوْعَ الْأَوَّلَ بِالتَّكْذِيبِ، وَالنَّوْعَ الثَّانِيَ بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ، فَأَنْكَرُوا لِذَلِكَ رُؤْيَةَ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنْكَرُوا كَلَامَهُ وَتَكْلِيمَهُ لِعِبَادِهِ، وَأَنْكَرُوا مُبَايَنَتَهُ لِلْعَالَمِ، وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ، وَعُلُوَّهُ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ، وَعُمُومَ قُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، بَلْ أَخْرَجُوا أَفْعَالَ عِبَادِهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ عَنْ تَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَتَكْوِينِهِ لَهَا، وَنَفَوْا لِأَجْلِهَا حَقَائِقَ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَخْبَرَ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ؛ وَحَرَّفُوا لِأَجْلِهَا النُّصُوصَ عَنْ مَوَاضِعِهَا، وَأَخْرَجُوهَا عَنْ مَعَانِيهَا وَحَقَائِقِهَا بِالرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي حَقِيقَتُهُ أَنَّهُ ذُبَالَةُ الْأَذْهَانِ وَنُخَالَةُ الْأَفْكَارِ وَعُفَارَةُ الْآرَاءِ وَوَسَاوِسُ الصُّدُورِ، فَمَلَئُوا بِهِ الْأَوْرَاقَ سَوَادًا، وَالْقُلُوبَ شُكُوكًا، وَالْعَالَمَ فَسَادًا، وَكُلُّ مَنْ لَهُ مَسْكَةٌ مِنْ عَقْلٍ يَعْلَمُ أَنَّ فَسَادَ الْعَالَمِ وَخَرَابِهِ إنَّمَا نَشَأَ
مِنْ تَقْدِيمِ الرَّأْيِ عَلَى الْوَحْيِ، وَالْهَوَى عَلَى الْعَقْلِ، وَمَا اسْتَحْكَمَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ الْفَاسِدَانِ فِي قَلْبٍ إلَّا اسْتَحْكَمَ هَلَاكُهُ، وَفِي أُمَّةٍ إلَّا فَسَدَ أَمْرُهَا أَتَمَّ فَسَادٍ، فَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَمْ نُفِيَ بِهَذِهِ الْآرَاءِ مِنْ حَقٍّ، وَأُثْبِتَ بِهَا مِنْ بَاطِلٍ، وَأُمِيتَ بِهَا مِنْ هُدًى، وَأُحْيِيَ بِهَا مِنْ ضَلَالَةٍ؟ وَكَمْ هُدِمَ بِهَا مِنْ مَعْقِلِ الْإِيمَانِ، وَعُمِّرَ بِهَا مِنْ دِينِ الشَّيْطَانِ؟ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ هُمْ أَهْلُ هَذِهِ الْآرَاءِ الَّذِينَ لَا سَمْعَ لَهُمْ وَلَا عَقْلَ، بَلْ هُمْ شَرٌّ مِنْ الْحُمُرِ، وَهُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] .
النَّوْعُ الرَّابِعُ: الرَّأْيُ الَّذِي أُحْدِثَتْ بِهِ الْبِدَعُ، وَغُيِّرَتْ بِهِ السُّنَنُ، وَعَمَّ بِهِ الْبَلَاءُ، وَتَرَبَّى عَلَيْهِ الصَّغِيرُ، وَهَرَمَ فِيهِ الْكَبِيرُ.
فَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ الرَّأْيِ الَّذِي اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى ذَمِّهِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ الدِّينِ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ: مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الرَّأْيَ الْمَذْمُومَ فِي هَذِهِ الْآثَارِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ أَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ رضي الله عنهم أَنَّهُ الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ شَرَائِعِ الدِّينِ بِالِاسْتِحْسَانِ وَالظُّنُونِ، وَالِاشْتِغَالُ بِحِفْظِ الْمُعْضِلَاتِ وَالْأُغْلُوطَاتِ وَرَدِّ الْفُرُوعِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ قِيَاسًا، دُونَ رَدِّهَا عَلَى أُصُولِهَا وَالنَّظَرِ فِي عِلَلِهَا وَاعْتِبَارِهَا، فَاسْتُعْمِلَ فِيهَا الرَّأْيُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ، وَفُرِّعَتْ وَشُقِّقَتْ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ، وَتُكُلِّمَ فِيهَا قَبْلَ أَنْ تَكُونَ بِالرَّأْيِ الْمُضَارِعِ لِلظَّنِّ، قَالُوا: وَفِي الِاشْتِغَالِ بِهَذَا وَالِاسْتِغْرَاقِ فِيهِ تَعْطِيلُ السُّنَنِ، وَالْبَعْثُ عَلَى جَهْلِهَا، وَتَرْكُ الْوُقُوفِ عَلَى مَا يَلْزَمُ الْوُقُوفَ عَلَيْهِ مِنْهَا وَمِنْ كِتَابِ اللَّهِ عز وجل وَمَعَانِيهِ، احْتَجُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ بِأَشْيَاءَ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ أَسَدِ بْنِ مُوسَى ثنا شَرِيكٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَا تَسْأَلُوا عَمَّا لَمْ يَكُنْ؛ فَإِنِّي سَمِعْت عُمَرَ يَلْعَنُ مَنْ يَسْأَلُ عَمَّا لَمْ يَكُنْ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد ثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيّ ثنا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ مُعَاوِيَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: نَهَى عَنْ الْأُغْلُوطَاتِ» .
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ثنا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ؛ وَقَالَ: فَسَّرَهُ الْأَوْزَاعِيُّ يَعْنِي صِعَابَ الْمَسَائِلِ وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ قَيْسٍ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ «أَنَّهُمْ ذَكَرُوا الْمَسَائِلَ عِنْدَهُ، فَقَالَ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ عَضْلِ الْمَسَائِلِ» .
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ سَهْلٍ وَغَيْرِهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا، وَبِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إنَّ اللَّهَ يَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ»
وَقَالَ ابْنُ خَيْثَمَةَ: ثنا أَبِي، ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ ثنا مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ:«لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَكَذَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَهُوَ خِلَافُ لَفْظِ الْمُوَطَّإِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَفِي سَمَاعِ أَشْهَبَ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنْهَاكُمْ عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ» فَقَالَ: أَمَّا كَثْرَةُ السُّؤَالِ فَلَا أَدْرِي أَهُوَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِمَّا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ كَثْرَةِ الْمَسَائِلِ؛ فَقَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا، وَقَالَ اللَّهُ عز وجل:{لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] فَلَا أَدْرِي أَهُوَ هَذَا أَمْ السُّؤَالُ فِي مَسْأَلَةِ النَّاسِ فِي الِاسْتِعْطَاءِ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ: وَدِدْت أَنَّ حَظِيَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ أَنْ لَا أَسْأَلَهُمْ عَنْ شَيْءٍ وَلَا يَسْأَلُونِي، يَتَكَاثَرُونَ بِالْمَسَائِلِ كَمَا يَتَكَاثَرُ أَهْلُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّرَاهِمِ.
قَالَ: وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ أَيْضًا قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَخُذُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» .
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: أُحَرِّجُ بِاَللَّهِ عَلَى كُلِّ امْرِئٍ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ مَا هُوَ كَائِنٌ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: وَرَوَى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَمُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْت قَوْمًا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَا سَأَلُوهُ إلَّا عَنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً حَتَّى قُبِضَ صلى الله عليه وسلم كُلُّهُنَّ فِي الْقُرْآنِ:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217] ، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة: 220] . مَا كَانُوا يَسْأَلُونَهُ إلَّا عَمَّا يَنْفَعُهُمْ قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَيْسَ الْحَدِيثُ مِنْ الثَّلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً إلَّا ثَلَاثً.
قُلْت: وَمُرَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ: " مَا سَأَلُوهُ إلَّا عَنْ ثَلَاثَ عَشَرَ مَسْأَلَةً " الْمَسَائِلُ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ عَنْهُمْ، وَإِلَّا فَالْمَسَائِلُ الَّتِي سَأَلُوهُ عَنْهَا وَبَيَّنَ لَهُمْ أَحْكَامَهَا بِالسُّنَّةِ لَا تَكَادُ تُحْصَى وَلَكِنْ إنَّمَا كَانُوا يَسْأَلُونَهُ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ مِنْ الْوَاقِعَاتِ وَلَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَهُ عَنْ الْمُقَدَّرَاتِ وَالْأُغْلُوطَاتِ وَعَضْلِ الْمَسَائِلِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَشْتَغِلُونَ بِتَفْرِيعِ الْمَسَائِلِ وَتَوْلِيدِهَا، بَلْ
كَانَتْ هِمَمُهُمْ مَقْصُورَةً عَلَى تَنْفِيذِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، فَإِذَا وَقَعَ بِهِمْ أَمْرٌ سَأَلُوا عَنْهُ فَأَجَابَهُمْ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة: 101]{قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة: 102] .
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا: هَلْ هِيَ أَحْكَامٌ قَدَرِيَّةٌ أَوْ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَقِيلَ: إنَّهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا، أَيْ سَكَتَ عَنْ تَحْرِيمِهَا فَيَكُونُ سُؤَالُهُمْ عَنْهَا سَبَبُ تَحْرِيمِهَا، وَلَوْ لَمْ يَسْأَلُوا لَكَانَتْ عَفْوًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الْحَجِّ أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَقَالَ: لَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ، ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» ؛ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْمَذْكُورُ «إنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا» الْحَدِيثَ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ:«إنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُّوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» وَفُسِّرَتْ بِسُؤَالِهِمْ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْقَدَرِيَّةِ؛ «كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ» ؟ وَقَوْلِ آخَرَ: «أَيْنَ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فِي النَّارِ» .
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ النَّهْيَ عَنْ النَّوْعَيْنِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] أَمَّا فِي أَحْكَامِ الْخَلْقِ وَالْقَدَرِ فَإِنَّهُ يَسُوءُهُمْ أَنْ يَبْدُوَ لَهُمْ مَا يَكْرَهُونَهُ مِمَّا سَأَلُوا عَنْهُ، وَأَمَّا فِي أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ فَإِنَّهُ يَسُوءُهُمْ أَنْ يَبْدُوَ لَهُمْ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ تَكْلِيفُهُ مِمَّا سَأَلُوا عَنْهُ، وقَوْله تَعَالَى:{وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة: 101] فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقُرْآنَ إذَا نَزَلَ بِهَا ابْتِدَاءً بِغَيْرِ سُؤَالٍ فَسَأَلْتُمْ عَنْ تَفْصِيلِهَا وَعِلْمِهَا أَبْدَى لَكُمْ وَبَيَّنَ لَكُمْ، وَالْمُرَادُ بِحِينِ النُّزُولِ زَمَنُهُ الْمُتَّصِلُ بِهِ، لَا الْوَقْتُ الْمُقَارِنُ لِلنُّزُولِ، وَكَأَنَّ فِي هَذَا إذْنًا لَهُمْ فِي السُّؤَالِ عَنْ تَفْصِيلٍ الْمُنَزَّلِ وَمَعْرِفَتِهِ بَعْدَ إنْزَالِهِ؛ فَفِيهِ رَفْعٌ لِتَوَهُّمِ الْمَنْعِ مِنْ السُّؤَالِ عَنْ الْأَشْيَاءِ مُطْلَقًا، وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّهْدِيدِ وَالتَّحْذِيرِ، أَيْ مَا سَأَلْتُمْ عَنْهَا فِي وَقْتِ نُزُولِ الْوَحْيِ جَاءَكُمْ بَيَانُ مَا سَأَلْتُمْ عَنْهُ بِمَا يَسُوءُكُمْ، وَالْمَعْنَى لَا تَتَعَرَّضُوا لِلسُّؤَالِ عَمَّا يَسُوءُكُمْ بَيَانُهُ، وَإِنْ تَعَرَّضْتُمْ لَهُ فِي زَمَنِ الْوَحْيِ أَبْدَى لَكُمْ.
وَقَوْلُهُ: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} [المائدة: 101] أَيْ عَنْ بَيَانِهَا خَبَرًا وَأَمْرًا، بَلْ طُوِيَ بَيَانُهَا عَنْكُمْ رَحْمَةً وَمَغْفِرَةً وَحِلْمًا وَاَللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ؛ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَفَا اللَّهُ عَنْ التَّكْلِيفِ بِهَا تَوْسِعَةً عَلَيْكُمْ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي عَفَا اللَّهُ عَنْ بَيَانِهَا لِئَلَّا يَسُوءَكُمْ بَيَانُهَا.
وَقَوْلُهُ: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة: 102] أَرَادَ نَوْعَ تِلْكَ الْمَسَائِلِ، لَا
أَعْيَانَهَا، أَيْ قَدْ تَعَرَّضَ قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ لِأَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، فَلَمَّا بُيِّنَتْ لَهُمْ كَفَرُوا بِهَا، فَاحْذَرُوا مُشَابَهَتَهُمْ وَالتَّعَرُّضَ لِمَا تَعْرِضُوا لَهُ.
وَلَمْ يَنْقَطِعْ حُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ، بَلْ لَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلسُّؤَالِ عَمَّا إنْ بَدَا لَهُ سَاءَهُ، بَلْ يَسْتَعْفِي مَا أَمْكَنَهُ، وَيَأْخُذُ بِعَفْوِ اللَّهِ. وَمِنْ هَهُنَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ، لَا تُخْبِرْنَا، لَمَّا سَأَلَهُ رَفِيقُهُ عَنْ مَائِهِ أَطَاهِرٌ أَمْ لَا، وَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُبْدِيَ لَهُ مِنْ أَحْوَالِهِ وَعَاقِبَتِهِ مَا طَوَاهُ عَنْهُ وَسَتَرَهُ، فَلَعَلَّهُ يَسُوءُهُ إنْ أُبْدِيَ لَهُ، فَالسُّؤَالُ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ تَعَرُّضٌ لِمَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَكْرَهَ إبْدَاءَهَا، وَلِذَلِكَ سَكَتَ عَنْهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ.
قَالُوا: وَمَنْ تَدَبَّرَ الْآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ وَجَدَهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْمَذْمُومَةِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ آثَارَ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بِذَلِكَ؛ لِيَتَبَيَّنَ مُرَادُهُمْ: قَالَ الْخُشَنِيُّ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ أَرَأَيْت
قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: وَثَنًا صَالِحُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْت الشَّعْبِيَّ عَنْ مَسْأَلَةٍ مِنْ النِّكَاحِ فَقَالَ: إنْ أَخْبَرْتُك بِرَأْيِي فَبُلْ عَلَيْهِ.
قَالُوا: فَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ فِي رَأْيِهِ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَقَدْ لَقِيَ مِائَةً وَعِشْرِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَأَخَذَ عَنْ جُمْهُورِهِمْ.
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ شُعَيْبٍ ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ ثنا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: مَا جَاءَكُمْ بِهِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخُذُوهُ وَمَا كَانَ مِنْ رَأْيِهِمْ فَاطْرَحُوهُ فِي الْحُشِّ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا سُنَيْدُ بْنُ دَاوُد ثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: قِيلَ لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: إنَّهُمْ يَكْتُبُونَ مَا يَسْمَعُونَ مِنْك، قَالَ: إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، يَكْتُبُونَهُ وَأَنَا أَرْجِعُ عَنْهُ غَدًا.
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: اجْتِهَادُ الرَّأْيِ هُوَ مُشَاوَرَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَا أَنْ يَقُولَ هُوَ بِرَأْيِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثنا الْحَوْطِيُّ ثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ سَوَادَةَ بْنِ زِيَادٍ
وَعَمْرِو بْنِ الْمُهَاجِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى النَّاسِ: أَنَّهُ لَا رَأْيَ لِأَحَدٍ مَعَ سُنَّةٍ سِنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ أَبُو بَصِيرَةَ: سَمِعْت أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: بَلَغَنِي أَنَّك تُفْتِي بِرَأْيِك، فَلَا تُفْتِ بِرَأْيِك إلَّا أَنْ يَكُونَ سُنَّةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ ثنا عَبْدُ الْوَاحِدِ ثنا ابْنُ الزِّبْرِقَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأُسَيْدِيُّ أَنَّ أَبَا وَائِلٍ شَقِيقَ بْنَ سَلَمَةَ قَالَ: إيَّاكَ وَمُجَالَسَةَ مَنْ يَقُولُ: أَرَأَيْت أَرَأَيْت.
وَقَالَ أَبَانُ بْنُ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: دَعُوا السُّنَّةَ تَمْضِي، لَا تَعْرِضُوا لَهَا بِالرَّأْيِ.
وَقَالَ يُونُسُ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ - سَمِعْت عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: مَا زَالَ أَمْرُ بَنْيِ إسْرَائِيلَ مُعْتَدِلًا حَتَّى نَشَأَ فِيهِمْ الْمُوَلَّدُونَ أَبْنَاءُ سَبَايَا الْأُمَمِ، فَأَخَذُوا فِيهِمْ بِالرَّأْيِ، فَأَضَلُّوهُمْ.
وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ، وَهُوَ يَذْكُرُ مَا وَقَعَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ هَذَا الرَّأْيِ وَتَرْكِهِمْ السُّنَنَ، فَقَالَ: إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى إنَّمَا انْسَلَخُوا مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ حِينَ اتَّبَعُوا الرَّأْيَ وَأَخَذُوا فِيهِ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: لَمْ أَسْمَعْ فِي هَذَا شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: فَأَخْبِرْنِي أَصْلَحَك اللَّهُ بِرَأْيِك، فَقَالَ: لَا، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إنِّي أَرْضَى بِرَأْيِك، فَقَالَ سَالِمٌ: إنِّي لَعَلِيُّ إنْ أَخْبَرْتُك بِرَأْيِي ثُمَّ تَذْهَبُ فَأَرَى بَعْدَ ذَلِكَ رَأْيًا غَيْرَهُ فَلَا أَجِدُك.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأُوَيْسِيُّ ثنا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَبِيعَةُ يَقُولُ لِابْنِ شِهَابٍ: إنَّ حَالِي لَيْسَ بِشَبَهِ حَالِك، أَنَا أَقُولُ بِرَأْيِي مَنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَعَمِلَ بِهِ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ.
وَقَالَ الْفِرْيَابِيُّ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ يَقُولُ: سَمِعْت حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ: قِيلَ لِأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ: مَا لَك لَا تَنْظُرُ فِي الرَّأْيِ؟ فَقَالَ أَيُّوبُ: قِيلَ لِلْحِمَارِ مَا لَك لَا تَجْتَرُّ؟ قَالَ: أَكْرَهُ مَضْغَ الْبَاطِلِ.
وَقَالَ الْفِرْيَابِيُّ: ثنا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنُ مَزِيدٍ أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ: سَمِعْت الْأَوْزَاعِيَّ يَقُولُ: عَلَيْك بِآثَارِ مَنْ سَلَفَ وَإِنْ رَفَضَك النَّاسُ، وَإِيَّاكَ وَآرَاءَ الرِّجَالِ وَإِنْ زَخْرَفُوا لَك الْقَوْلَ
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: ثنا أَبُو مُسْهِرٍ قَالَ: كَانَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إذَا سُئِلَ لَا يُجِيبُ حَتَّى يَقُولَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، هَذَا الرَّأْيُ، وَالرَّأْيُ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: عِلْمُنَا هَذَا رَأْيٌ، وَهُوَ أَحْسَنُ مَا قَدَرْنَا عَلَيْهِ، وَمَنْ جَاءَنَا بِأَحْسَنَ مِنْهُ قَبِلْنَاهُ مِنْهُ.
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ ثنا أَشْهَبُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: كُنْت عِنْدَ مَالِكٍ فَسُئِلَ عَنْ الْبَتَّةِ، فَأَخَذْت أَلْوَاحِي لِأَكْتُبَ مَا قَالَ، فَقَالَ لِي مَالِكٌ: لَا تَفْعَلْ، فَعَسَى فِي الْعَشِيِّ أَقُولُ إنَّهَا وَاحِدَةٌ.
وَقَالَ مَعْنُ بْنُ عِيسَى الْقَزَّازَ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أُخْطِئُ وَأُصِيبُ، فَانْظُرُوا فِي قَوْلِي، فَكُلُّ مَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَخُذُوا بِهِ، وَمَا لَمْ يُوَافِقْ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَاتْرُكُوهُ فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَجَزَاهُمْ عَنْ نَصِيحَتِهِمْ خَيْرًا، وَلَقَدْ امْتَثَلَ وَصِيَّتَهُمْ وَسَلَكَ سَبِيلَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ.
[الْمُتَعَصِّبُونَ عَكَسُوا الْقَضِيَّةَ]
وَأَمَّا الْمُتَعَصِّبُونَ فَإِنَّهُمْ عَكَسُوا الْقَضِيَّةَ، وَنَظَرُوا فِي السُّنَّةِ فَمَا وَافَقَ أَقْوَالَهُمْ مِنْهَا قَبِلُوهُ، وَمَا خَالَفَهَا تَحَيَّلُوا فِي رَدِّهِ أَوْ رَدِّ دَلَالَتِهِ، وَإِذَا جَاءَ نَظِيرُ ذَلِكَ أَوْ أَضْعَفُ مِنْهُ سَنَدًا وَدَلَالَةً وَكَانَ يُوَافِقُ قَوْلَهُمْ قَبِلُوهُ، وَلَمْ يَسْتَجِيزُوا رَدَّهُ، وَاعْتَرَضُوا بِهِ عَلَى مُنَازِعِيهِمْ، وَأَشَاحُوا وَقَرَّرُوا الِاحْتِجَاجَ بِذَلِكَ السَّنَدِ وَدَلَالَتِهِ، فَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ السَّنَدُ بِعَيْنِهِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، وَدَلَالَتُهُ كَدَلَالَةِ ذَلِكَ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ فِي خِلَافِ قَوْلِهِمْ؛ دَفَعُوهُ وَلَمْ يَقْبَلُوهُ، وَسَنَذْكُرُ مِنْ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ طَرَفًا عِنْدَ ذِكْرِ غَائِلَةِ التَّقْلِيدِ وَفَسَادِهِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاتِّبَاعِ.
وَقَالَ بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ: ثنا سَحْنُونٌ وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: {إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32] .
وَقَالَ الْقَعْنَبِيُّ: دَخَلْت عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَسَلَّمْت عَلَيْهِ، ثُمَّ جَلَسْت، فَرَأَيْتُهُ يَبْكِي، فَقُلْت لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا الَّذِي يُبْكِيك؟ فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ قَعْنَبٍ، وَمَالِي لَا أَبْكِي؟ وَمَنْ أَحَقُّ بِالْبُكَاءِ مِنِّي؟ وَاَللَّهِ لَوَدِدْت أَنِّي ضُرِبْت بِكُلِّ مَسْأَلَةٍ أَفْتَيْت فِيهَا بِالرَّأْيِ سَوْطًا، وَقَدْ كَانَتْ لِي السَّعَةُ فِيمَا قَدْ سُبِقْت إلَيْهِ، وَلَيْتَنِي لَمْ أُفْتِ بِالرَّأْيِ
وَقَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُد: ثنا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ: سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: مِثْلُ الَّذِي يَنْظُرُ فِي الرَّأْيِ ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهُ مِثْلُ الْمَجْنُونِ الَّذِي عُولِجَ حَتَّى بَرِئَ فَأَعْقَلَ مَا يَكُونُ قَدْ هَاجَ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُد: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: سَمِعْت أَبِي يَقُولُ: لَا تَكَادُ تَرَى أَحَدًا نَظَرَ فِي الرَّأْيِ إلَّا وَفِي قَلْبِهِ دَغَلٌ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ أَيْضًا: سَمِعْت أَبِي يَقُولُ: الْحَدِيثُ الضَّعِيفُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الرَّأْيِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَأَلْت أَبِي عَنْ الرَّجُلِ يَكُونُ بِبَلَدٍ لَا يَجِدُ فِيهِ إلَّا صَاحِبَ حَدِيثٍ لَا يَعْرِفُ صَحِيحَهُ مِنْ سَقِيمِهِ وَأَصْحَابَ رَأْيٍ، فَتَنْزِلُ بِهِ النَّازِلَةُ، فَقَالَ أَبِي: يَسْأَلُ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ، وَلَا يَسْأَلُ أَصْحَابَ الرَّأْيِ، ضَعِيفُ الْحَدِيثِ أَقْوَى مِنْ الرَّأْيِ.
[أَبُو حَنِيفَةَ يُقَدِّمُ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ عَلَى الرَّأْيِ]
وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ضَعِيفَ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ، وَعَلَى ذَلِكَ بَنَى مَذْهَبَهُ، كَمَا قَدَّمَ حَدِيثَ الْقَهْقَهَةِ مَعَ ضَعْفِهِ عَلَى الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ، وَقَدَّمَ حَدِيثَ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ فِي السَّفَرِ مَعَ ضَعْفِهِ عَلَى الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، وَمَنَعَ قَطْعَ السَّارِقِ بِسَرِقَةٍ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَالْحَدِيثُ فِيهِ ضَعِيفٌ، وَجَعَلَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَالْحَدِيثُ فِيهِ ضَعِيفٌ، وَشَرَطَ فِي إقَامَةِ الْجُمُعَةِ الْمِصْرَ وَالْحَدِيثُ فِيهِ كَذَلِكَ، وَتَرَكَ الْقِيَاسَ الْمَحْضَ فِي مَسَائِلِ الْآبَارِ لِآثَارٍ فِيهَا غَيْرُ مَرْفُوعَةٍ؛ فَتَقْدِيمُ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ عَلَى الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ قَوْلُهُ وَقَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي اصْطِلَاحِ السَّلَفِ هُوَ الضَّعِيفُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ، بَلْ مَا يُسَمِّيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ حَسَنًا قَدْ يُسَمِّيهِ الْمُتَقَدِّمُونَ ضَعِيفًا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ السَّلَفَ جَمِيعَهُمْ عَلَى ذَمِّ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ الْمُخَالِفِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْعَمَلُ بِهِ لَا فُتْيَا وَلَا قَضَاءً، وَأَنَّ الرَّأْيَ الَّذِي لَا يُعْلَمُ مُخَالَفَتُهُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا مُوَافَقَتُهُ فَغَايَتُهُ أَنْ يَسُوغَ الْعَمَلُ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إلْزَامٍ وَلَا إنْكَارٍ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى ثنا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَزْمٍ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي ابْنَ وَهْبٍ فَيَقُولُ لَهُ: مِنْ أَيْنَ؟ فَيَقُولُ لَهُ: مِنْ عِنْدِ ابْنِ الْقَاسِمِ، فَيَقُولُ لَهُ ابْنُ وَهْبٍ: اتَّقِ اللَّهَ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ رَأْيٌ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَمَةَ ثنا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ثنا خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كِنَانَةَ ثنا أَبَانُ بْنُ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ قَالَ: كَانَ أَبِي قَدْ أَجْمَعَ عَلَى تَرْكِ الْفُتْيَا بِالرَّأْيِ، وَأَحَبَّ الْفُتْيَا بِمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ، فَأَعْجَلَتْهُ الْمُنْيَةُ عَنْ ذَلِكَ
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ وَاصِلٍ أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حِينَ تَشَعَّبَتْ بِهِمْ السُّبُلُ، وَحَادُوا عَنْ الطَّرِيقِ، وَتَرَكُوا الْآثَارَ، وَقَالُوا فِي الدِّينِ بِرَأْيِهِمْ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَذَكَرَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ: مَنْ يَرْغَبُ بِرَأْيِهِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ يَضِلُّ.
وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي بَكْرُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ وَهُوَ يَذْكُرُ مَا وَقَعَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ هَذَا الرَّأْيِ وَتَرْكِهِمْ السُّنَنَ، فَقَالَ: إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى إنَّمَا انْسَلَخُوا مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي كَانَ بِأَيْدِيهِمْ حِينَ اشْتَقُّوا الرَّأْيَ وَأَخَذُوا فِيهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي كِتَابِ " تَهْذِيبِ الْآثَارِ " لَهُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ تَمَّ هَذَا الْأَمْرُ وَاسْتُكْمِلَ؛ فَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ تَتَّبِعَ آثَارَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا تَتَّبِعَ الرَّأْيَ؛ فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ الرَّأْيَ جَاءَ رَجُلٌ آخَرُ أَقْوَى مِنْهُ فِي الرَّأْيِ فَاتَّبَعَهُ، فَأَنْتَ كُلَّمَا جَاءَ رَجُلٌ غَلَبَك اتَّبَعَتْهُ.
وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ: ثنا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، فَأَجَابَهُ، فَلَمَّا وَلَّى الرَّجُلُ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: لَا تَقُلْ إنَّ الْقَاسِمَ زَعَمَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَلَكِنْ إذَا اُضْطُرِرْت إلَيْهِ عَمِلْت بِهِ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ لِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَهُوَ يُنْكِرُ كَثْرَةَ الْجَوَابِ لِلْمَسَائِلِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا عَلِمْتَهُ فَقُلْ بِهِ وَدُلَّ عَلَيْهِ، وَمَا لَمْ تَعْلَمْ فَاسْكُتْ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَتَقَلَّدَ لِلنَّاسِ قِلَادَةَ سُوءٍ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ حَارِثِ بْنِ أَسَدٍ الْخُشَنِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّاسٍ النَّحَّاسُ قَالَ: سَمِعْت أَبَا عُثْمَانَ سَعِيدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْحَدَّادَ يَقُولُ: سَمِعْت سَحْنُونَ بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: مَا أَدْرِي مَا هَذَا الرَّأْيُ، سُفِكَتْ بِهِ الدِّمَاءُ، وَاسْتُحِلَّتْ بِهِ الْفُرُوجُ، وَاسْتُحِقَّتْ بِهِ الْحُقُوقُ، غَيْرَ أَنَّا رَأَيْنَا رَجُلًا صَالِحًا فَقَلَّدْنَاهُ.
وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ: سَمِعْت أَحْمَدَ يَقُولُ: رَأْيُ الشَّافِعِيِّ وَرَأْيُ مَالِكٍ وَرَأْيُ أَبِي حَنِيفَةَ كُلُّهُ عِنْدِي رَأْيٌ وَهُوَ عِنْدِي سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ فِي الْآثَارِ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَنْشَدَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى أَنْشَدَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ الْخَضِرِ الْأَسْيُوطِيُّ بِمَكَّةَ أَنْشَدَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَنْشَدَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ أَبِيهِ: