الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإما القتل وسفك الدماء.
وخلاصة ذلك: أنهم بلغوا من الفساد واتباع الأهواء أخشنها مركبًا، وأشدها عتوًا وضلالًا، حتى لم يكن يؤثر في قلوبهم وعظ الرسل ولا هديهم، بل صار ذلك مغريًا لهم بزيادة الكفر والتكذيب، وقتل أولئك الهداة البررة والسادة الأخيار.
71
- ثم ذكر ما سولته لهم أنفسهم على سوء أفعالهم فاتال: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} الفتنة الاختبار بشدائد الأمور على ما فعلوه من المعاصي، كتسلط الأمم القوية عليهم بالقتل والتخريب؛ أي: وظن بنو إسرائيل ظنًّا قويًّا تمكن من نفوسهم، وأيقنوا أنَّه لا تقع لهم فتنة من الله بسبب ما فعلوه من الفساد من قتل الأنبياء وتكذيبهم، أو حسبوا أن لا يوجد بهم بلاء وعذاب من الله بقتل الأنبياء وتكذيبهم، لأنهم كانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه ويعتقدون أن كل رسول جاءهم بشرع آخر غير شرعهم، يجب عليهم تكذيبه وقتله، لأنَّهم اعتقدوا أن النسخ ممتنع على شرع موسى، وكانوا يعتقدون أن نبوة أسلافهم تدفع عنهما العقاب الذي يستحقونه بسبب ذلك القتل والتكذيب. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي:{تَكَونُ} بالرفع على أن أن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن، وحسب بمعنى علم، لأن أن معناها التحقيق، وتكون تامة كما أشرنا إليه في الحل بقولنا: إنه لا تقع فتنةً. وقرأ نافع وابن كثير وعاصم وابن عامر بنصب نون {تَكُونَ} على أنَّ أنْ هي الناصبة، وحَسِبَ بمعنى الظَّنّ كما أشرنا إليه بقولنا. وحسبوا أن لا يوجد.
ثم بين نتائج ذلك الظن والحسبان فقال: {فَعَمُوا} عن إبصار الهدى، وعن آيات الله التي أنزلها في كتبه مرشدة إلى عقابه للأمم المفسدة الظالمة، وعما وضعه من السنن في خلقه، مصدقًا لذلك {وَصَمُّوا} عن سماع المواعظ التي جاءهم بها أولئك الرسل، وأنذروهم بالعقاب إذا هم خالفوها، ونقضوا الميثاق، وخرجوا عن هدي الدين، وظلموا أنفسهم، واتبعوا أهواءهم، وساروا في غيّهم، وانهمكوا في ضلالهم، وخالفوا أحكام التوراة، فقتلوا شعياء، وحبسوا أرمياء،
عليهما السلام، فسلط الله عليهم من سامهم الخسف وأوقع بهم البوار والدمار، فجاس البابليون بختنصر وأعوانه خلال ديارهم، وأحرقوا المسجد الأقصى، ونهبوا أموالهم، وسبوا أولادهم ونساءهم، وسلبوهم أموالهم وثلوا عروش ملكهم، وقتلوا منهم أربعين ألفًا ممن يقرأ التوراة، وذهبوا بالبقية إلى أرضهم بابل، فبقوا هناك دهرًا طويلًا على أقصى الذل، إلى أن أحدثوا توبة صحيحة {ثُمَّ} رحمهم الله تعالى فتابوا و {تَابَ اللَّهُ} تعالى {عَلَيْهِمْ}؛ أي: على بني إسرائيل حين تابوا وأقلعوا عن الفساد، وأعاد إليهم ملكهم وعزهم على يد ملك من ملوك الفرس، إذ جاء إلى بيت المقدس وعمره؛ ورد من بقي من بني إسرائيل في أسر بختنصر إلى وطنهم، ورجع من تفرق في الأقطار، فاستقروا وكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا أولًا.
{ثُمَّ عَمُوا} عن إبصار الحق {وَصَمُّوا} عن سماعه مرة أخرى، وعادوا إلى ظلمهم وفسادهم في الأرض، وقتلوا الأنبياء بغير حق، فقتلوا زكريا ويحيى، وأرادوا قتل عيسى عليه السلام، فسلط الله عليهم الفرس، ثم الروم، فأزالوا ملكهم واستقلالهم، ففعلوا بهم ما فعلوا. وفي قوله:{كَثِيرٌ مِنْهُمْ} إشارة إلى أن عمى البصيرة والصمم عن المواعظ لم يكن للجميع بل كان للكثير منهم، والله تعالى يعاقب الأمم بذنوبها إذا كثرت وشاعت فيها، إذ العبرة بالغالب لا بالأقل النادر الذي لا يؤثر في صلاح ولا فساد ومن ثُمّ قال تعالى {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} . وقرأ (1) النخعي وابن وثاب بضم العين والصاد في (عموا وصموا) وتخفيف الميم من عموا، إجراءًا لهما مجرى زكم الرجل ونحوه من الأفعال المبنية للمفعول لفظًا لا معنى، أو على أنَّ المعنى: إنَّ الله عماهم وصمهم؛ أي: رماهم بالعمى والصمم، وهو قليل، واللغة الفاشية أعمى وأصم ذكره "البيضاوي". وقرأ ابن أبي عبلة:(كثيرًا منهم) بالنصب، وقرأ الجمهور بالرفع على أنَّه بدل من فاعل (عموا وصموا).
(1) البحر المحيط.
{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} لنبيه وخاتم أنبيائه من الكيد والمكر وتدبير الإيقاع به، وتأليب القبائل والشعوب المختلفة، لتكون يدًا واحدة للفتك به، وما سبب ذلك إلا اتباعهم للهوى، وأنهم عموا وصموا مرة أخرى، فصاروا لا يبصرون ما جاء به من النور والهدى، ولا يسمعون ما يتلوه عليهم من الآيات، وسيعاقبهم الله تعالى على ذلك بمثل ما عاقبهم به من قبل، وينكل بهم أشد النكال، ويذيقهم أنواع الوبال. وفي هذه (1) الجملة تهديد شديد، وناسب ختم الآية بهذه الجملة المشتملة على بصير إذ تقدم قبله فعموا، والتعبير بصيغة المضارع في {يَعْمَلُونَ} لحكاية الحال الماضية، ولرعاية الفواصل؛ أي: والله بصير بما عملوا.
الإعراب
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ} : (الواو): استئنافية، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول قال. {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ}: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية دعائية لا محل لها من الإعراب. {وَلُعِنُوا}: فعل ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملت {غُلَّتْ} أو مستأنفة. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ (لعنوا). {قَالُوا} : فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: بما قالوه، ويجوز أن تكون (ما) مصدرية، والتقدير: ولعنوا بقولهم المذكور. {بَلْ} : حرف عطف وإضراب. {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} : مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على مقدر يقتضيه المقام تقديره: ليس الأمر كما قالوا بل يداه مبسوطتان، وهو في غاية الجود. {يُنْفِقُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} والجملة مستأنفة. {كَيْفَ}: اسم شرط غير جازم، لأنَّ شرط الجزم بها عند الكوفيين اتصال ما بها في محل النصب على
(1) البحر المحيط.
التشبيه بالمفعول به مبني على الفتح. {يَشَاءُ} : فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} ومفعول المشيئة محذوف تقديره، كيف يشاء أن ينفق، وجواب الشرط محذوف أيضًا تقديره: كيف يشاء أن ينفق ينفق، وجملة الشرط مستأنفة وعبارة "الفتوحات" هنا قوله:{يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} في (1) هذه الجملة وجهان:
أحدهما: وهو الظاهر أنه لا محل لها من الإعراب؛ لأنَّها مستأنفة.
والثاني: أنَّها في محل رفع؛ لأنَّها خبر ثانٍ ليداه، و {كَيْفَ} في مثل هذا التركيب شرطية، نحو كيف تكون .. أكون، ومفعول المشيئة محذوف، وكذلك جواب الشرط أيضًا محذوف، مدلول عليه بالفعل المتقدم على {كَيْفَ}. والمعنى: ينفق كيف يشاء أن ينفق ينفق، نظير قوله: ويبسطه في السماء كيف يشاء أن يبسطه يبسط، فحذف مفعول يشاء، وهو أن وما بعدها، وقد تقدم أن مفعول يشاء ويريد، لا يذكران إلا لغرابتهما، ولا جائز أن يكون ينفق المتقدم عاملًا في كيف؛ لأنَّ لها صدر الكلام، وماله صدر الكلام لا يعمل فيه إلا حرف الجر أو المضاف. اهـ. "سمين".
{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} .
{وَلَيَزِيدَنَّ} : (الواو): استئنافية. (اللام): موطئة للقسم. (يزيدن): فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد الثقيلة حرف لا محل لها من الإعراب. {كَثِيرًا}: مفعول أول. {مِنْهُمْ} : جار ومجرور صفة لـ {كَثِيرًا} . {مَا} موصولة أو موصوفة في محل الرفع فاعل. {أُنْزِلَ} : فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَا}. {إِلَيْكَ}: جار ومجرور متعلق بـ {أُنْزِلَ} وكذلك متعلق به الجار والمجرور في قوله: {مِنْ رَبِّكَ} وجملة {أُنْزِلَ} صلة لـ {مَا} أو صفة لها. {طُغْيَانًا} مفعول ثان (ليزيدن). {وَكُفْرًا} : معطوف عليه، وجملة (يزيدن) جواب للقسم المحذوف، وجملة القسم مستأنفة.
(1) الجمل.
{وَأَلْقَيْنَا} : فعل وفاعل والجملة مستأنفة. {بَيْنَهُمُ} : ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {وَأَلْقَيْنَا}. {الْعَدَاوَةَ}: مفعول به. {وَالْبَغْضَاءَ} : معطوف عليه. {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} : جار ومجرور ومضاف إليه حال من {الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} ؛ أي: حالة كونهما مستمرين إلى يوم القيامة. {كُلَّمَا} : اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية مبني على السكون، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {أَوْقَدُوا نَارًا}: فعل وفاعل ومفعول. {لِلْحَرْبِ} : صفة لـ {نَارًا} أو متعلق بـ {أَوْقَدُوا} ، والجملة الفعلية فعل شرط لكلما لا محل لها من الإعراب. {أَطْفَأَهَا اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة جواب (كلما) لا محل لها من الإعراب، وجملة (كلما): من فعل شرطها وجوابها مستأنفة. {وَيَسْعَوْنَ} فعل وفاعل {فِي الْأَرْضِ} متعلق به {فَسَادًا} إما مفعول لأجله؛ أي: لأجل الإفساد، أو مفعول مطلق؛ أي: سعي فساد أو حال؛ أي: يسعون مفسدين والجملة الفعلية مستأنفة. {وَاللَّهُ} مبتدأ وجملة {لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} خبره، والجملة الإسمية مستأنفة.
{وَلَوْ} : (الواو): استئنافية. (لو): حرف شرط غير جازم. {أنَّ} : حرف نصب وتوكيد. {أَهْلَ الْكِتَابِ} : اسمها ومضاف إليه. {آمَنُوا} : فعل وفاعل. {وَاتَّقَوْا} : فعل وفاعل معطوف على {آمَنُوا} وجملة {آمَنُوا} : في محل الرفع خبر أن تقديره: ولو أن أهل الكتاب مؤمنون ومتقون، وجملة أنَّ في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لفعل محذوف تقديره: ولو ثبت إيمان أهل الكتاب واتقاؤهم لله، وجملة الفعل المحذوف مع فاعله فعل شرط لـ (لو) لا محل لها من الإعراب. {لَكَفَّرْنَا}:(اللام): رابطة لجواب (لو). (كفرنا): فعل وفاعل. {عَنْهُمْ} متعلق به. {سَيِّئَاتِهِمْ} : مفعول به مضاف إليه، والجملة الفعلية جواب {لَوْ} لا محل لها من الإعراب، وجملة (لو) الشرطية مستأنفة. {وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ}:
الواو عاطفة. (أدخلناهم): فعل وفاعل ومفعول أول. {جَنَّاتِ النَّعِيمِ} : مفعول ثانٍ ومضاف إليه، وجملة (أدخلناهم): معطوفة على جملة (كفرنا) على كونها جوابًا لـ (لو) الشرطية، لا محل لها من الإعراب.
{وَلَوْ} : (الواو): استئنافية أو عاطفة. (لو): حرف شرط. {أَنَّهُمْ} (أنَّ): حرف نصب، والهاء: في محل النصب اسمها. {أَقَامُوا} : فعل وفاعل. {التَّوْرَاةَ} : مفعول به. {وَالْإِنْجِيلَ} : معطوف عليه. {وَمَا} الواو: عاطفة. (ما): موصولة أو موصوفة في محل النصب معطوف على {التَّوْرَاةَ} . {أُنْزِلَ} : فعل ماضٍ مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على (ما). {إِلَيْهِمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {أُنْزِلَ} . {مِنْ رَبِّهِمْ} : جار ومجرور ومضاف إليه، حال من (ما) الموصولة، أو من الضمير في {أُنْزِلَ} وجملة (أُنزِلَ) صلة لـ (ما) أو صفة لها، وجملة {أَقَامُوا}: في محل الرفع خبر أن تقديره: ولو أنَّهم مقيمون التوراة وما عطف عليه، وجملة (أنَّ) في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لفعل محذوف تقديره: ولو ثبت إقامتهم التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم، وجملة الفعل المحذوف فعل شرط لـ (لو) لا محل لها من الإعراب. {لَأَكَلُوا} (اللام): رابطة لجواب (لو). (أكلوا): فعل وفاعل، والجملة جواب (لو) لا محل لها من الإعراب، وجملة (لو) من فعل شرطها وجوابها مستأنفة، أو معطوفة على جملة (لو) الأولى. {مِنْ فَوْقِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ (أكلوا) أو صفة لمحذوف مفعول {لَأَكَلُوا} تقديره: لأكلوا رزقًا كائنًا من فوقهم، أو مأخوذًا من فوقهم. ذكره أبو البقاء. {وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على الجار والمجرور قبله. {مِنْهُمْ} : جار ومجرور خبر مقدم. {أُمَّة} : مبتدأ مؤخر. {مُقْتَصِدَةٌ} : صفة لـ {أُمَّةٌ} ، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {وَكَثِيرٌ}: مبتدأ. {مِنْهُمْ} : جار ومجرور صفة له. {سَاءَ} : فعل ماض بمعنى بئس من أفعال الذم. {مَا} : موصولة في محل الرفع فاعل. وجملة
{يَعْمَلُونَ} : صلة لما والعائد محذوف تقديره: ما يعملونه، وجملة {سَاءَ}: من الفعل والفاعل في محل الرفع خبر المبتدأ، ويجوز أن تكون {مَا}: مصدرية والتقدير: ساء عملهم؛ والجملة الإسمية معطوفة على جملة {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} . قال أبو حيان (1): واختار الزمخشري في ساء: أن تكون التي لا تتصرف، فإنَّ فيه التعجب، كأنّه قيل: ما أسوأ عملهم، ولم يذكر غير هذا الوجه، واختار ابن عطية أن تكون المتصرفة، تقول: ساء الأمر يسوء، وأجاز أن تكون غير المتصرفة، فتستعمل استعمال نعم وبئس كقوله:{سَاءَ مَثَلًا} : فالمتصرفة تحتاج إلى تقدير مفعول؛ أي: ساء ما يعملون بالمؤمنين وغير المتصرفة تحتاج إلى تمييز؛ أي: ساء عملًا ما يعملون. انتهى.
{يَا أَيُّهَا} : (ياء): حرف نداء. (أي): منادى نكرة مقصودة، (ها): حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات؛ أي: من الإضافة. {الرَّسُولُ} : صفة لأي، وجملة النداء مستأنفة. {بَلِّغْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول {بَلِّغْ} . {أُنْزِلَ} : فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَا}. {إِلَيْكَ}: جار ومجرور متعلق بـ {أُنْزِلَ} . {مِنْ رَبِّكَ} : حال من {مَا} أو من نائب فاعل {أُنْزِلَ} وجملة {أُنْزِلَ} : صلة لـ {مَا} أو صفة لها. {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ} : (الواو): استئنافية. (إن): حرف شرط جازم. {لَم} : حرف جزم. {تَفْعَلْ} : مجزوم بلم وفاعل وفاعله ضمير يعود على محمَّد، ومفعول تفعل محذوف تقديره: وإن لم تفعل ما أمرت به من تبليغ جميع ما أنزل إليك من ربك .. فما بلغت رسالته، والجملة الفعلية في محل الجزم {بإن} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {فَمَا}:(الفاء): رابطة لجواب (إن) الشرطية وجوبًا.
(1) البحر المحيط.
{ما} : نافية. {بَلَّغْتَ} : فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه جوابًا لها. {رِسَالَتَهُ} : مفعول به ومضاف إليه، وجملة (إن) الشرطية مستأنفة. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. وجملة {يَعْصِمُكَ} خبره. {مِنَ النَّاسِ} : متعلق به، والجملة الإسمية مستأنفة. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {لَا} . نافية. {يَهْدِي} : فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}. {الْقَوْمَ} مفعول به. {الْكَافِرِينَ}: صفة له، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
{قُلْ} : فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} إلى قوله:{وَلَيَزِيدَنَّ} : مقول محكي لـ {قُلْ} ، وإنْ شئت قلت:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} : منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قُلْ}. {لَسْتُمْ}: فعل ناقص واسمه. {عَلَى شَيْءٍ} : جار ومجرور خبر ليس، وجملة ليس جواب النداء في محل النصب مقول {قُلْ}. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ} : فعل وفاعل ومفعول منصوب بأن مضمرة بعد حتى بمعنى: إلى، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بحتى تقديره: إلى إقامة التوراة، الجار والمجرور متعلق بليس. {وَالْإِنْجِيلَ}: معطوف على {التَّوْرَاةَ} {وَمَا أُنْزِلَ} : معطوف على التوراة أيضًا. {إِلَيْكُمْ} متعلق بـ {أُنْزِلَ} . {مِنْ رَبِّكُمْ} : متعلق بـ {أُنْزِلَ} أو حال من (ما) أو من ضمير {أُنْزِلَ} .
{وَلَيَزِيدَنَّ} : (الواو): استئنافية. (اللام): موطئة للقسم. (يزيدن): فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. {كَثِيرًا} : مفعول أول. {مِنْهُمْ} : صفة له. {مَا} : موصولة أو موصوفة في محل الرفع
فاعل (يزيدن). {أُنزِلَ} : صلة لما أو صفة لها. {إِلَيْكَ} : متعلق به. {مِنْ رَبِّكَ} : حال من {مَا} أو من ضمير {أُنْزِلَ} {طُغْيَانًا} مفعول ثانٍ {وَكُفْرًا} معطوف عليه، وجملة (يزيدن) جواب لقسم محذوف لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف مستأنفة، {فَلَا تَأسَ} (الفاء) فاء الفصيحة، لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أنَّه يزيد ما أنزل إليك من ربك كثيرًا منهم طغيانًا وكفرًا، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك. (لا تأس):(لا): ناهية وجازمة. {تَأسَ} : فعل مضارع مجزوم بـ (لا) الناهية، وفاعله ضمير يعود على محمَّد {عَلَى الْقَوْمِ} متعلق به {الْكَافِرِينَ} صفة له، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
{إِنَّ} : حرف نصب. {الَّذِينَ} : في محل النصب اسمها. {آمَنُوا} : فعل وفاعل والجملة صلة الموصول. {وَالَّذِينَ} : في محل النصب معطوف على {الَّذِينَ} الأول. {هَادُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {وَالصَّابِئُونَ} مبتدأ. {وَالنَّصَارَى}: معطوف عليه، والخبر محذوف تقديره: كائنان كهؤلاء المذكورين قبلهم، والجملة الإسمية معترضة لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين اسم (إن) وخبرها، أو بين البدل والمبدل منه. {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب بدل من اسم {إنَّ} وما عطف عليه بدل بعض من كل، والرابط محذوف وتقديره: من آمن منهم. {آمَنَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} والجملة صلة الموصول، {بِاللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {آمَنَ} . {وَالْيَوْمِ} : معطوف على الجلالة. {الْآخِرِ} : صفة لـ {وَالْيَوْمِ} . {وَعَمِلَ} : معطوف على {آمَنَ} . {صَالِحًا} : مفعول به لـ {وَعَمِلَ} أو مفعول مطلق له. {فَلَا خَوْفٌ} (الفاء): رابطة لخبر إنَّ باسمها، لما في اسمها من العموم. (لا): نافية تعمل عمل ليس. {خَوْفٌ} : اسمها مرفوع. {عَلَيْهِمْ} : جار ومجرور متعلق
بمحذوف خبر (لا) تقديره: فلا خوف كائنًا عليهم. {وَلَا هُمْ} (الواو): عاطفة. (لا): نافية ملغاة. (هُمْ): مبتدأ. وجملة {يَحْزَنُونَ} : خبره، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع معطوفة على جملة قوله:{فَلَا خَوْفٌ} على كونها خبرًا لـ {إِنَّ} وجملة (إنَّ) من اسمها وخبرها مستأنفة. وفي المقام تسعة أوجه من الإعراب ذكرها "السمين"، فلتراجعه إن شئت منها {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا}: خبر {إِنَّ} فيه محذوف معلوم مما بعده تقديره: إنَّ الذين آمنوا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَالَّذِينَ هَادُوا} مبتدأ. {وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى}: معطوفان عليه. {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} : بدل من المبتدأت الثلاث. {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} : خبر للمبتدأت الثلاث، والجملة الإسمية معطوفة على جملة {إِنَّ} .
{لَقَدْ} : (اللام): موطئة للقسم، (قد): حرف تحقيق. {أَخَذْنَا} : فعل وفاعل. {مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} : مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. {وَأَرْسَلْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {أَخَذْنَا} . {إِلَيْهِمْ} : جار ومجرور متعلق به. {رُسُلًا} : مفعول (أرسلنا). {كُلَّمَا} : اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بالجواب. {جَاءَهُمْ رَسُولٌ} فعل ومفعول وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {كُلَّمَا} وجواب {كُلَّمَا} محذوف جوازًا دل عليه ما بعده تقديره: كلما جاءهم رسول منهم بما لا تهوى أنفسهم .. عصوه وعادوه، وجملة {كُلَّمَا} من فعل شرطها وجوابها في محل النصب صفة لـ {رُسُلًا} والرابط ضمير منهم الذي قدرناه. {بِمَا}: جار ومجرور صفة لـ {رَسُولٌ} تقديره: رسول متلبس بما. {لَا} : نافية. {تَهْوَى} فعل مضارع. {أَنْفُسُهُمْ} : فاعل ومضاف إليه، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما لا تهواه أنفسهم. {فَرِيقًا} : مفعول مقدم جوازًا لـ {كَذَّبُوا} . {كَذَّبُوا} : فعل
وفاعل، والجملة من الفعل والفاعل مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر كأنه قيل: كيف فعلوا برسلهم؟ فأجاب بقوله: فريقًا كذبوا. {وَفَرِيقًا} : مفعول مقدم ليقتلون. {يَقْتُلُونَ} : فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {فَرِيقًا كَذَّبُوا}. ونص عبارة أبي السعود هنا (1):{كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ} : جملة شرطية مستأنفة، وقعت جوابًا عن سؤال نشأ من الإخبار بأخذ الميثاق، وإرسال الرسل، وجواب الشرط محذوف كأنَّه قيل: فماذا فعلوا بالرسل؟. فقيل: كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما لا تحبه أنفسهم المنهمكة في الغي والفساد - من الأحكام الحقة والشرائع .. عصوه وعادوه. وقوله: {فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} : جواب مستأنف عن استفسار كيفية ما أظهروه من آثار المخالفة المفهومة من الشرطية على طريقة الإجمال، كأنَّه قيل: كيف فعلوا بهم؟ فقيل: فريقًا منهم كذبوا من غير أن يتعرضوا لهم بشيء آخر من المضار، وفريقًا آخر منهم لم يكتفوا بتكذيبهم، بل قتلوهم أيضًا. اهـ.
{وَحَسِبُوا} (الواو): استئنافية، (حسبوا): فعل وفاعل. {أَلَّا} (أن): مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن تقديره: وحسبوا أنَّه لا تكون فتنة، إنْ كان حسب بمعنى علم، أو مصدرية ناصبة للمضارع، إنْ كان حسب بمعنى ظن، (لا): نافية. {تَكُونَ} : فعل مضارع تام بمعنى تقع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم على التقدير الأول، ومنصوب بأن المصدرية على التقدير الثاني. {فِتْنَةٌ}: فاعل، وجملة (لا تكون) من الفعل والفاعل في محل الرفع خبر (إن) المخففة، وجملة (إنْ) المخففة في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي حسب على التقدير الأول؛ أي: وعلموا عدم. وقوع فتنة، وجملة (حسبوا) من الفعل والفاعل مستأنفة، وكذلك على التقدير الثاني تكون جملة (لا تكون فتنة) صلة
(1) أبو السعود.
(أنْ) المصدرية (أن) مع صلتها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي (حسبوا)؛ أي: وظنوا عدم وقوع فتنة.
فائدة: وحاصل (1) استعمال (أن): أنها إن وقعت بعد مادة العلم وما في معناه كاليقين .. تعليق الرفع بعدها، وتعين أنها مخففة من الثقيلة، وإن وقعت بعد مادة غيره مما لا يحتمله كالشك والظن .. تعين النصب بعدها، وتعين أنها المصدرية، وإن وقعت بعد ما يحتمل العلم وغيره كالحسبان كما هنا .. جاز فيما بعدها الوجهان، فالرفع على جعل الحسبان بمعنى العلم، والنصب على جعله بمعنى الظن. وعبارة السمين هنا: والحاصل: أنَّه متى وقعت أن بعد علم .. وجب أن تكون المخففة، وإذا وقعت بعد ما ليس بعلم ولا شك .. وجب أن تكون الناصبة، وإن وقعت بعد فعل يحتمل اليقين والشك .. جاز فيه وجهان باعتبارين، إن جعلناه يقينًا .. جعلناها المخففة ورفعنا ما بعدها، وإنْ جعلناه شكًّا .. جعلناها الناصبة ونصبنا ما بعدها. والآية الكريمة من هذا الباب، وأن مع صلتها على كلا التقديرين المخففة الناصبة سادة مسد المفعولين عند جمهور البصريين، وسادة مسد الأول فقط عند أبي الحسن. والثاني محذوف والتقدير: حسبوا عدم الفتنة كائنًا أو حاصلًا. وحكى بعض النحويين أنَّه ينبغي لمن رفع أن يفصل أن من لا في الكتابة، لأن هناك الضمير فاصلة في المعنى، ومن نصب لم يفصل لعدم الحائل بينهما. {فَعَمُوا} الفاء: حرف عطف وتعقيب. {عَمُوا} : فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جمله (حسبوا). {وَصَمُّوا}: فعل وفاعل معطوف على {عَمُوا} . {ثُمَّ} : حرف عطف وتراخ، وعطف بثم الدالة على التراخي دلالة على أنهم تمادوا في الضلال إلى وقت التوبة. {تَابَ اللَّهُ}: فعل وفاعل. {عَلَيْهِمْ} : جار ومجرور متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {عَمُوا} {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخي {عَمُوا} : فعل وفاعل معطوف على {تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} {وَصَمُّوا} : فعل وفاعل معطوف على {عَمُوا} . {كَثِيرٌ} : بدل من الواو في {عَمُوا وَصَمُّوا} بدل بعض من كل. {مِنْهُمْ} : جار ومجرور صفة لـ {كَثِير} .
(1) الفتوحات.
وفي "الكرخي": وهذا الإبدال في غاية البلاغة، فإنه لما قال:{ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا} .. أوهم ذلك أن كلهم صاروا كذلك، فلما قال:{كَثِيرٌ مِنْهُمْ} علم أن هذا الحكم حاصل للكثير منهم لا للكل. {وَاللَّهُ} : مبتدأ. {بَصِيرٌ} : خبره. {بِمَا يَعْمَلُونَ} : جار ومجرور وصلة الموصول متعلق ببصير والجملة الإسمية مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
{يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} اليد مؤنثة أصله يَدْيٌ حذفت لامه اعتباطًا؛ أي: من غير صلة تصريفية طلبًا للتخفيف بدليل جمعه على الأيدى. {مَغْلُولَةٌ} : اسم مفعول غله يغله، من باب شد إذا وضع في يده أو عنقه الغلّ، والغل بضم الغين طوق من حديد أو جامد يجعل في اليد أو في العنق، يجمع على أغلال وغلول، وكونها مغلولة كناية عن كونها محبوسة مقبوضة ممسوكة عن البذل والرزق والعطاء، فنسبوا إلى الله البخل والقبض تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، فمراد اليهود لعنة الله عليهم بقولهم:{يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} : أن الله تعالى بخيل، فأجابهم بقوله:{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} : دعاء عليهم بالبخل؛ أي: أمسكت وانقبضت عن العطاء {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} يقال: بسط اليد يبسط بسطًا، من باب نصر إذا مدها، وبسط السيف إذا سله، وبسط الثوب نشره، ويده بسط بضم أوله وسكون ثانيه وبسط بضمهما ويد مبسوطة؛ أي: مفتوحة مطلقة، وبسط اليد هنا كناية عن كثرة العطاء والبذل والإحسان.
{طُغْيَانًا وَكُفْرًا} والطغيان مصدر طغا الكافر يطغى، من باب سعى يسعى، أو طغي يطغى، من باب رضي يرضى إذا غلا في الكفر. والطغيان الغلو والتمرد في الكفر والغي والضلال، والعامة تقول طغاه الشيطان، أي: صرفه عن طريق الخير، وطغا الرجل إذا أسرف في الظلم والمعاصي. ويقال: كفر الرجل بالخلق يكفر من باب نصر، كَفْرًا كُفْرًا وكُفورًا وكُفرانًا إذا نفاه وعطَّله، وكفر نعم الله وبنعم الله إذا جحدها وتناساها، وذلك ضد الشكر فعطف الكفر على الطغيان من عطف العام على الخاص، لأن الطغيان الغلو في الكفر.
{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} ؛ أي: أوقعنا بينهم العداوة، والعداوة: الخصومة والمباعدة، والعدو: الخصم، وهو ضد الصديق، وهو من يفرح لحزنك ويحزن لفرحك، ويقال: عدا عليه يعدو من باب دعا، عَدْوًا وعُدْوانًا وعداوة إذا ظلمه، والبغضاء وكذا البَغاضةُ البُغْضُ الشديد، والبغض ضد الحب. {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ} والحرب ضد السلم فهي تصدق بالإخلال بالأمن والسلب والنهب، ولو بغير قتل وبتهييج الفتن والإغراء بالقتل، والكثير من الحرب التأنيث. وفي "المختار" الحرب مؤنثة وقد تذكر {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ} يقال: أقام الشيء إقامة وقامة إذا أدامه، وأقام بالمكان دام فيه واتخذه وطنًا، وأقام الحق إذا أظهره، وإقامة التوراة العمل بما فيها على أتم الوجوه، سواء في ذلك عمل النفس بالإيمان والإذعان، وعمل الجوارح والقوى البدنية {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}؛ أي: لوسع الله عليهم موارد الرزق.
{مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} : والمقتصدة المعتدلة في أمر الدين، فلا تغلوا بالإفراط، ولا تهملوا بالتقصير. وفي "الفتوحات" قوله: مقتصدة؛ أي: عادلة لا غالية ولا مقصرة، فالاقتصاد في الشيء هو الاعتدال فيه، وقوله:{مُقْتَصِدَةٌ} اسم فاعل من اقتصد الخماسي، يقال: اقتصد في الأمر ضد أفرط، وفي النفقة توسط بين الإفراط والتقتير، واقتصد في أمره استقام {فَلَا تَأسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} يقال: أسى يأسى أسًا من باب رضي يرضى إذا حزن، فهو آس وأسيان، وهي آسية وأسيانة {وَالصَّابِئُونَ} جمع صابىء يقال: صبؤ يصبؤ من باب فعل المضموم، صبأ وصبؤًا إذا خرج عن دين إلى دين آخر، أو تدين بدين الصابئين فهو صابىء، يجمع على صائبين وصابئة.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {مَغْلُولَةٌ} لأنه استعار الغل للبخل، فاشتق من الغل بمعنى البخل مغلولة بمعنى بخيلة على طريقة الاستعارة
التصريحية التبعية، لأنها جرت في المشتقات بعد جريانها في المصادر، وفي قوله:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} . لأنه استعار البسط للجود، فاشتق من البسط بمعنى الجود، مبسوطتان بمعنى منفقتان.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} . و {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ، لأن اليد لما كانت آلة لكل الأعمال لا سيما لدفع المال وإنفاقه وإمساكه .. أسندوا البخل والجود إليها مجازًا، إسنادًا للشيء إلى سببه.
وقال أبو حيان (1): والذي يظهر أن قولهم {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} استعارة عن إمساك الإحسان الصادر عن المقهور، على الإمساك، ولذلك جاؤوا بلفظ مغلولة، ولا يغل إلا المقهور فجاء قوله:{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} دعاء بغل الأيدي، فهم في كل بلد مع كل أمة مقهورون مغلوبون لا يستطيع أحد منهم أن يستطيل ولا أن يستعلي، فهي استعارة عن ذلهم وقهرهم، وأن أيديهم لا تنبسط إلى دفع ضرر ينزل بهم.
ومنها: المقابلة في قوله: {غُلَّتْ} فإنَّه في مقابلة ما تضمنه قولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} . وليست هذه المقابلة بدعا منهم فقد قالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} لعائن الله عليهم وعلى سائر الكفرة.
ومنها: الاستعارة في قوله: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} لأنَّ الإلقاء حقيقة في الأجسام، وفي قوله:{كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ} ، استعير فيه إيقاد النار الحسية لاختلاط الحرب، لأن الحرب لا نار لها، وإنَّما شبهت بالنار؛ لأنَّها تأكل أهلها كما تأكل النار حطبها، وفي قوله:{أَطْفَأَهَا اللَّهُ} . لأنَّه استعارة لإلقاء الرعب في قلوبهم.
وقال الجمهور: هو استعارة، وإيقاد النار عبارة عن إظهار الحقد والكيد والمكر بالمؤمنين، والاغتيال والقتال، وإطفاؤها صرف الله عنهم ذلك، وتفرق
(1) البحر المحيط.
آرائهم، وحل عزائمهم، وتفرق كلمتهم، وإلقاء الرعب في قلوبهم، فهم لا يريدون محاربة أحد إلا غلبوا وقهروا، ولم يقم لهم نصر من الله تعالى على أحد، وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس، ومنها الإظهار في مقام الإضمار في قوله:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} . لإفادة العموم. وفي قوله {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . للتسجيل عليهم بالرسوخ في الكفر.
ومنها: التعميم بعد التخصيص في قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} . ليعم سائر الكتب الإلهية.
ومنها: الاستعارة في قوله: {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} لأنه (1) استعارة عن سبوغ النعم عليهم، وتوسعة الرزق عليهم، كما يقال: قد عمه الرزق من فرقه إلى قدمه، ولا فوق ولا تحت، حكاه الطبري والزجاج.
ومنها: المقابلة في قوله: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} لأنَّ المراد بالأمة الجماعة القليلة للمقابلة لها بقوله: {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ} .
ومنها: التشريف في قوله: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ} : لأنَّه ناداه بالصفة الشريفة التي هي أشرف أوصاف الجنس الإنساني.
ومنها: التحقير في قوله: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} لأنَّ في هذا التعبير من التحقير والتصغير ما لا غاية وراءه.
ومنها: التلطف في قوله: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} لأنَّه أضاف الاسم الجليل إليهم تلطفًا معهم في الدعوة.
ومنها: الإجمال الذي يقصد به التفصيل في قوله حتى {حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ} . إلخ لأنه جمع في الضمير، والمقصود منه التفصيل؛ أي: حتى يقيم أهل التوراة، وأهل الإنجيل.
(1) البحر المحيط.
ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} . عبر بصيغة المضارع بدل الماضي بما عملوا لحكاية الحال الماضية استحضارًا لصورتها الفظيعة ومراعاة لرؤوس الآيات.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
المناسبة
قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ
…
} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّه سبحانه وتعالى لما ذكر أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل، وبعث فيهم رسلًا، وبين عتوهم وشدة تمردهم وما كان من سوء معاملتهم مع أنبيائهم، وعدد قبائح اليهود ومخازيهم .. شرع يفصل قبائح النصارى ويبطل أقوالهم الفاسدة، وآرائهم الزائفة، ثم ذكر أن المسيح يكذبهم في ذلك فحكى عنه، ثمَّ رد عليهم ما قالوه بلا روية ولا فكر ولا بصيرة حيث قال:{وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} . ثمَّ توعدهم على مقالة التثليث حيث قال: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية. ثم تعجب من إصرارهم