المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

إلهًا خالقًا، ولا ربًّا معبودًا، وبالجملة: فإنَّ فساد قول النصارى - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٧

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: إلهًا خالقًا، ولا ربًّا معبودًا، وبالجملة: فإنَّ فساد قول النصارى

إلهًا خالقًا، ولا ربًّا معبودًا، وبالجملة: فإنَّ فساد قول النصارى أظهر من أن يحتاج إلى إقامة دليل عليه. ومن السفه أن يحتقر الإنسان نفسه، ويحتقر جنسه، ويرفع بعض المخلوقات المساوية له في الماهية، وبعض المشخصات الممتازة بميزات عرضية، فيجعل نفسه عبدًا لها ويسمّيها آلهة أو أربابًا. قال أبو حيان: وهذه (1) الجملة استئناف إخبار عن المسيح وأمه منبهة كما ذكرنا على سمات الحدوث، وأنهما مشاركان للناس في ذلك ولا موضع لهذه الجملة من الإعراب.

وبعد أن بين حالهما بيانًا لا يحوم حوله شائبة من الريب .. تعجب من حال من يدعى لهما الربوبية، ولا يرعوي عن غيه وضلاله، ولا يتأمل فيما هو عليه من أفن - ضعيف - الرأي والخطأ فقال:{اْنظُرْ} يا محمد متعجبًا أو أيها السامع نظرة عقل أو فكر {كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ} ؛ أي: كيف نبين لهؤلاء النصارى (الآيات)؛ أي: الدلائل والبراهين البالغة أقصى الغايات في الوضوح على بطلان ما يدعون في أمر المسيح وأمه {ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} : أي: ثمّ انظر بعد النظر الأول كيف يصرفون عن تلك الآيات، ويعرضون عنها، وكيف لا ينتقلون من مقدماتها إلى نتائجها، ومن مباديها إلى غاياتها، فكأنهم فقدوا عقولهم، وصارت أفئدتهم هواءًا؛ أي: كيف يصرفون عن استماع الآيات وعن التأمل فيها، فالله بين لهم الآيات بيانًا عجبًا، وإعراضهم عنها أعجب منها. والاستفهام في الموضعين للتعجب، وفي تكرير (2) الأمر بقوله:{انْظُرْ} ، {ثُمَّ انْظُرْ} . دلالة على الاهتمام بالنظر، وأيضًا فقد اختلف متعلق النظرين، فإن الأول أمر بالنظر في كيفية إيضاح الله تعالى لهم الآيات وبياناها بحيث إنَّه لا شك فيها ولا ريب، والأمر الثاني بالنظر في كونهم صرفوا عن تدبرها والإيمان بها، أو بكونهم قلبوا عما أريد بهم.

قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى التراخي في قوله: {ثُمَّ انْظُرْ} ؟

قلت: معناه ما بين التعجبين، يعني أنَّه من باب التراخي في الترتب؛ لا في الأزمنة ونحوها.

‌76

- {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أمر له صلى الله عليه وسلم بإلزامهم وتبكيتهم بعد

(1) البحر المحيط.

(2)

الفتوحات.

ص: 425

تعجبه من أحوالهم؛ أي: قل يا محمد لهؤلاء النصارى وأمثالهم، ممن عبدوا غير الله تعالى: أتعبدون من دون الله؛ أي: متجاوزين عبادته وحده {مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا} تخشونه أن يعاقبكم به إذا أنتم تركتم؛ أي: ما لا يقدر أن يضركم إن تركتم عبادته {وَلَا} يملك لكم {نَفْعًا} ترجون أن يجازيكم به إذا عبدتموه؛ أي: وما لا يقدر أنْ ينفعكم إنْ عبدتموه، وهو عيسى عليه السلام، يعني (1): لا يستطيع أن يضركم بمثل ما يضركم الله به من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال، ولا يقدر أنْ ينفعكم بمثل ما ينفعكم الله به، من صحة الأبدان، وسعة الأرزاق، فإنَّ الضار والنافع هو الله تعالى، لا من تعبدون من دونه، ومن لا يقدر على النفع والضر لا يكون إلهًا، وما (2) يستطيعه البشر من المضار والمنافع فبتخليقه تعالى، فكأنه لا يملك منه شيئًا. وهذا دليل قاطع على أن أمره مناف للربوبية، حيث جعله لا يستطيع ضرًّا ولا نفعًا، وصفة الرب أن يكون قادرًا على كل شيء، لا يخرج مقدور عن قدرته، وفي هذا إيماء (3) إلى دحض مقالتهم بالحجة والدليل، فإن اليهود - وقد كانوا يعادون المسيح ويقصدونه بالسوء - لم يقدر على الإضرار بهم، وأنصاره وصحابته مع شديد محبتهم له لم يستطع إيصال نفع من منافع الدنيا إليهم، والعاجز عن الضر والنفع كيف يعقل أن يكون إلهًا؟. وإنَّما قال:(ما)، ولم يقل:(من) نظرًا إلى ما هو عليه في ذاته من النوع الإنساني، توطئة لنفي القدرة عنه رأسًا، وتنبيهًا على أنَّه من هذا الجنس، ومن كان له حقيقة يقبل المجانسة والمشاركة فبمعزلٍ عن الألوهية. وقيل: عبر بـ (ما) تنبيهًا على أول أحواله، إذ مرت عليه أزمان حالة الحمل لا يوصف بالعقل فيها، ومن هذه صفته فكيف يكون إلهًا. وإنَّما قدم التفسير .. لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {هُوَ السَّمِيعُ} لأقوالكم وكفركم ومقالتكم في عيسى {الْعَلِيمُ} بضمائركم وعقيدتكم في عيسى فيجازيكم عليها، ولا يخفى ما في هذه الجملة من التهديد، وهي (4) متعلقة بـ {أَتَعْبُدُونَ}؛ أي: أتشركون بالله ولا تخشونه، وهو الذي يسمع ما تقولونه، ويعلم ما تعتقدونه.

(1) الخازن.

(2)

النسفي.

(3)

المراغي.

(4)

النسفي.

ص: 426