المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بافتضاحهم، وفي الآخرة بإحباط ثواب أعمالهم، وحصلوا بالعذاب الدائم المقيم، - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٧

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: بافتضاحهم، وفي الآخرة بإحباط ثواب أعمالهم، وحصلوا بالعذاب الدائم المقيم،

بافتضاحهم، وفي الآخرة بإحباط ثواب أعمالهم، وحصلوا بالعذاب الدائم المقيم، أو المعنى (1): ضاعت أعمالهم التي عملوها رياء وسمعة، لا إيمانًا وعقيدة إن قلنا هو من قول الله عز وجل شهادة لهم بحبوط الأعمال لهم وتعجيبًا من سوء حالهم {فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} في الدنيا والعقبى لفوات المعونة ودوام العقوبة.

فائدة: وروى أرباب السير (2): أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة .. صار الكفار معه ثلاثة أقسام: قسم صالحهم ووادعهم على أن لا يحاربوه، ولا يظاهروا عليه أحدًا ولا يوالوا عليه عدوه وهم على كفرهم، آمنون على دمائهم وأموالهم، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة، وقسم تاركوه، فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره، وأمر أعدائه، ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن، ومنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه من الباطن ليأمن الفريقين، وهؤلاء هم المنافقون.

وقد عامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره ربه به، فصالح يهود المدينة، وكتب بينه وبينهم كتاب أمن، وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة، بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، فحاربته بنو قينقاع بعد بدر وأظهروا البغي والحسد، ثم نقض العهد بنو النضير بعد ذلك بستة أشهر، ثم نقض بنو قريظة العهد لما خرج إلى غزوة الخندق، وكانوا من أشد اليهود عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد حارب كل طائفة وأظهره الله عليها، وكان نصارى العرب والروم حربًا عليه كاليهود.

‌54

- ولما نهى (3) الله سبحانه وتعالى فيما سلف عن موالاة اليهود والنصارى، وبين أنها مستدعية للارتداد .. شرع في بيان حال المرتدين على الإطلاق فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وصدقوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم {مَنْ يَرْتَدَّ} ويرجح. وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر: {مَنْ يَرْتَدَّ} بدالين مفكوكًا وهي لغة الحجاز،

(1) النسفي.

(2)

المراغي.

(3)

الجمل.

ص: 346

والباقون بواحدة مشددة، وهي لغة تميم. {مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} الحق الذي هو عليه وهو دين الإِسلام فيبدله ويغيره بدخوله في الكفر بعد الإيمان، فيختار إما اليهودية أو النصرانية، أو غيرهما من أصناف الكفر {فـ} لن يضر الله شيئًا، وإنَّما ضر نفسه برجوعه عن الدين الصحيح الذي هو دين الإِسلام لأنه {سوف يأتي الله} سبحانه وتعالى، ويجيء في المستقبل بدل المرتدين عن دينهم {بِقَوْمٍ} موصوفين بصفات ستة:

الأول والثاني منها: ما ذكره بقوله: {يُحِبُّهُمْ} الله سبحانه وتعالى؛ أي: يلهمهم الطاعة ويثيبهم عليها. ومعنى محبة الله إياهم: إنعامه عليهم، وتوفيقه إياهم وهدايته إياهم إلى طاعته، والعمل بما يرضى به عنهم {وَيُحِبُّونَهُ}؛ أي: يحبون الله تعالى ويطعيونه بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ومعنى محبتهم لله تعالى: المسارعة إلى طاعته وتقديم خدمته على كل شيء، وابتغاء مرضاته، وأن لا يفعل ما يوجب سخطه وعقوبته، وأن يتحبب إليه بما يوجب له الزلفى لديه، جعلنا ممن يحبهم ويحبونه بمنه وكرمه، ولما كانت محبتهم لله ناشئة عن محبة الله إياهم .. قدم محبة الله على مجتهم، والأقرب أن الآية عامة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان على قدمهم إلى يوم القيامة بقرينة التسويف.

والثالث منها: ما ذكره بقوله: {أذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ؛ أي: مشفقين عليهم، عاطفين لهم، أرقاء، رحماء لأهل دينهم وإخوانهم من المؤمنين، متذللين لهم، جمع ذليل لا ذلول كما سيأتي في مبحث الصرف. وقرىء شاذًا {أذلة} وهو اسم، كذا {أعزةً} نصبًا على الحال من النكرة أعني:{بِقَوْمٍ} ؛ لأنها قربت من المعرفة بوصافها.

والرابع منها: ما ذكره بقوله: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} ؛ أي: أشداء أقوياء، غلظاء على أعدائهم الكافرين. وقرأ عبيد الله:{غلظاء على الكافرين} مكان أعزة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} يعني أهل رقة على أهل دينهم {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} أهل غلظة على من خالفهم في دينهم. وقال ابن عباس رضي الله عنه: تراهم كالولد لوالده، وكالعبد لسيده، وهم في الغلظة على الكافرين كالسبع على فريسته.

ص: 347

والخامس منها.: ما ذكره بقوله: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ؛ أي: يقاتلون أعداء الله؛ لإعلاء كلمته، وسبيل الله هو طريق الحق والخير الموصل إلى مرضاته تعالى، ومن أعظم الجهاد بذل النفس والمال في قتال أعداء الحق، وهو من أكبر آيات المؤمنين الصادقين.

والسادس منها: ما ذكره بقوله: {وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} ؛ أي: لا يخافون عذل عاذل في نصرهم الدين بخلاف المنافقين، فإنهم كانوا يراقبون الكفار، ويخالفون لومهم، فبين تعالى في هذه الآية: أن من كان قويًّا في الدين، فإنَّه لا يخاف في نصره لدين الله بيده أو بلسانه لومة لائم، وهذه صفة المؤمنين المخلصين. وقال ابن كثير: أي: لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله، وإقامة الحدود، وقتال أعدائه، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا يردهم عن ذلك راد، ولا يصدهم عنه صاد، ولا يحيك فيهم لوم لائم ولا عذل عاذل. وروى الإِمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال:"أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع: أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرني أن لا أسأل أحدًا شيئًا، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرًّا، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر قول لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنهن كنز من تحت العرش". أخرجه أحمد في "المسند"(5/ 159) وسنده حسن.

وعن عبادة بن الصامت قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كان، لا نخاف في الله لومة لائم. والحاصل أنهم يظهرون العطف والحنو والتواضع للمؤمنين، ويظهرون الشدة والغلظة والترفع على الكافرين، ويجمعون بين المجاهدة في سبيل الله، وعدم خوف الملامة في الدين، بل هم متصلبون، لا يبالون بما يفعله أعداء الحق وحزب الشيطان من الإزدراء بأهل الدين، وقلب محاسنهم مساوي، ومناقبهم مثالب حسدًا وبغضًا وكراهة للحق وأهله. {ذَلِكَ} المذكور عن الأوصاف الستة التي وصف بها القوم من المحبة الذلة والعزة وعن بعدها؛ لأن ذلك يشار به إلى المفرد والمثنى والمجموع كما

ص: 348

تقدم مع زيادة في قوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} . {فَضْلُ اللَّهِ} إحسانه وكرامته {يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} ؛ أي: يعطيه ويكرم به من يشاء كرامته من عباده {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {وَاسِعٌ} الفضل كثير العطايا {عَلِيمٌ} بمن يستحقه ومن هو أهل لها.

تتمة فيما يتعلق بالآية: روى ابن جرير عن قتادة قال: أنزل الله هذه الآية يعني قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} الآية. وقد علم أنه سيرتد مرتدون من الناس، فلما قبض الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم .. ارتد عامة العرب عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد، أهل المدينة، وأهل مكة، وأهل البحرين من عبد القيس أهل مسجد جواثي قالوا - أي المرتدون - نصلي ولا نزكي، والله لا تغصب أموالنا، فكلم أبو بكر في ذلك، فقيل له: إنهم لو قد فقهوا لهذا .. أعطوها وزادوها، فقال: لا والله لا أفرق بين شيء جمع الله بينه، ولو منعوا عقالًا مما فرض الله ووسوله .. لقاتلتهم عليه، فبعث الله عصابة مع أبي بكر، فقاتل على ما قاتل عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى سبى وقتل وحرق بالنيران أناسًا ارتدوا عن الإِسلام، ومنعوا الزكاة فقاتلهم حتى أقروا بالماعون - الزكاة - صغرة: واحدهم صاغر، وهو المهيمن الذليل، أقمياء: واحدهم قميء، وهو الذليل الضعيف، فأتته وفود العرب فخيرهم بين خطة مخزية أو حرب مجلية، فاختاروا الخطة المخزية، وكانت أهون عليهم أن يقروا أن قتلاهم في النار، وأن قتلى المؤمنين في الجنة، وأن ما أصابوا من المسلمين من مال ردوه عليهم، وما أصاب المسلمون من مال لهم فهو لهم حلال، انتهى.

وعلى هذا فالقوم الذين يحبهم الله ويحبونه هم: أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة، قاله قتادة والضحاك، ورجح ابن جرير: أن الآية نزلت في قوم أبي موسى الأشعري من أهل اليمن، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية قال:"هم قوم أبي موسى" وإنْ لم يكونوا قاتلوا المرتدين مع أبي بكر؛ لأن الله وعد بأن يأتي بخير عن المرتدين بدلًا منهم، ولم يقل أنَّهم يقاتلون المرتدين، ويكفي في صدق الوعد أن يقاتلوا، ولو غير المرتدين. وقد ارتد كثير من القبائل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، فقد ارتدت إحدى عشرة فرقة، منها ثلاث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهم:

ص: 349

1 -

بنو مدلج، ورئيسهم ذو الحمار وهو الأسود العنسي، وكان كاهنًا تنبأ باليمن، واستولى على بلاده، وأخرج عمال النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وسادات اليمن، فأهلكه على يدي فيروز الديلمي، بيته فقتله، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، فسر به المسلمون وقبض عليه السلام من الغد.

2 -

بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب، وقد تنبأ مسليمة، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله: سلام عليك أما بعد: فإني قد أشركت في الأمر معك، وأن لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشًا قوم يعتدون، فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب السلام على من اتبع الهدى، أما بعد {فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} وكان ذلك سنة عشر، وحاربه أبو بكر، وقتله وحشي قاتل حمزة، وكان يقول: قتلت في جاهليتي خير الناس وفي إسلامي شر الناس.

3 -

بنو أسد وزعيمهم طليحة بن خويلد، وقد تنبأ فبعث إليه أبو بكر خالد بن الوليد فانهزم وهرب إلى الشام، ثم أسلم وحسن إسلامه.

وارتدت سبع في عهد أبي بكر وهم:

1 -

فزارة، قوم عيينة بن حصن.

2 -

غطفان، قوم قرة بن سلمة القشيري.

3 -

بنو سليم، قوم الفجاءة بن عبد ياليل.

4 -

بنو يربوع، قوم مالك بن نويرة.

5 -

بعض بني تميم وزعيمته سجاح بنت المنذر الكاهنة، وقد تنبأت وزوجت نفسها من مسيلمة، ولها قصص طويل في التاريخ، وصح أنَّها أسلمت بعد ذلك وحسن إسلامها.

6 -

كندة، قوم الأشعث بن قيس.

ص: 350