الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير وأوجه القراءة
38
- قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} شروع (1) في بيان حكم السرقة الصغرى بعد بيان أحكام الكبرى، ولما كانت السرقة معهودة من النساء كالرجال .. صرح بالسارقة، مع أنَّ المعهود في الكتاب والسنة إدراج النساء في الأحكام الواردة في شأن الرجال، وقدم السارق هنا والزانية في آية النور لأن الرجال إلى السرقة أميل، والنساء إلى الزنا أميل؛ أي: ومن سرق من رجل أو امرأة فاقطعوا أيها الولاة والحكام يده من الكف إلى الرسغ؛ لأن السرقة تحصل بالكف مباشرة، والساعد والعضد يحملان الكف كما يحملهما معهما البدن، وقطعت اليد لأنها آلة السرقة، ولم تقطع آلة الزنا تفاديًا عن قطع النسل، والتي تقطع أولًا هي اليمنى؛ لأنَّ التناول غالبًا يكون بها، ولأنه صلى الله عليه وسلم أتي بسارق وهو طعمة فأمر بقطع يمينه من الرسغ. وكما يدل عليه قراءة ابن مسعود الشاذة:(وَالسَّارِقُون وَالسَّارِقَاتُ فَاقْطَعُوا أيمانهم). والسرقة: أخذ الشيء في خفية عن الأعين، وإنَّما سُمِّيَ السارق سارقًا .. لأنَّه يأخذ الشيء الذي ليس له أخذه في خفاء، ومنه: استرق السمع مستخفيًا. والقطع معناه: الإبانة والإزالة، وجمع الأيدي لكراهة الجمع بين تثنيتين، وقد بينت السنة المطهرة أنَّ موضع القطع الرسغ، وقال قوم: يقطع من المرفق، وقال الخوارج: من المنكب.
وقد اختلف الأئمة في المقدار الذي يوجب قطع اليد في السرقة (2)، فروي عن الحسن البصري، وداود الظاهري أنَّه يثبت القطع بالقليل والكثير لظاهر الآية، وللحديث "لعنَ الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده" رواه الشيخان عن أبي هريرة، وجمهور العلماء من السلف والخلف على أنَّ القطع لا يكون إلا في سرقة ربع دينار - ربع مثقال من الذهب - أو ثلاثة دراهم من الفضة، لحديث عائشة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع يد السارق في ربع دينار
(1) الفتوحات.
(2)
المراغي.
فصاعدًا" رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن، ولحديث ابن عمر في "الصحيحين" "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن - ترس - ثمنه ثلاثة دراهم"، وقالت الحنفية: إنَّ القطع لا يكون إلا في عشرة دراهم فأكثر لا ما دونها، ولا بدّ أن يكون محفوظًا في حرز، وإلا فلا قطع، كما سيأتي في المسائل الآتية.
وتثبت السرقة بالإقرار أو بالبينة، ويسقط الحدّ بالعفو عن السارق قبل رفع أمره إلى الإمام. وعبارة "زاد المسير": ولا يقطع إلا بشهادة عدلين، أو بإقراره مرتين. وبه قال ابن أبي ليلى وابن شبرمة وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: يثبت بمرة، ويجتمع القطع والغرم موسرًا كان أو معسرًا. وقال أبو حنيفة: لا يجتمعان، فإنْ كانت العين باقية .. أخذها ربها، وإنْ كانت مستهلكة .. فلا ضمان. وقال مالك: يضمنها إنْ كان موسرًا، ولا شيء عليه إنْ كان معسرًا. انتهت. وقرأ (1) الجمهور:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} بالرفع وفيها وجهان، أحدهما: وهو مذهب سيبويه والمشهور من أقوال البصريين: أنَّ السارق والسارقة مبتدأ محذوف الخبر تقديره: فيما يتلى عليكم أو فيما فرض عليكم؛ أي: حكم السارق والسارقة فيما يتلى عليكم، ويكن قوله:{فاقْطَعُوا} بيانًا لذلك الحكم المقدر، فما بعد الفاء مرتبط بما قبلها، ولذلك أتى بها فيه؛ لأنَّه هو المقصود؛ ولو لم يؤت بالفاء .. لتوهم أنَّه أجنبي، والكلام على هذا جملتان، الأولى: خبرية، والثانية: إنشائية. والثاني وهو مذهب الأخفش، ونقل عن المبرد وجماعة كثيرة أنَّه مبتدأ أيضًا، والخبر: الجملة الإنشائية من قوله: {فَاقْطَعُوا} . وإنما دخلت الفاء في الخبر لأنه يشبه الشرط في العموم، إذ الألف واللام فيه موصولة بمعنى الذي والتي والصفة صلتها، وهي في قوة قولك: والذي يسرق والتي تسرق فاقطعوا، وأجاز الزمخشري الوجهين. اهـ. "سمين".
وقرأ عبد الله (2): (والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم) وقرأ عيسى بن
(1) الفتوحات.
(2)
البحر المحيط.
عمر وإبراهيم وابن أبي عبلة: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} بالنصب على الاشتغال وهي قراءة أيضًا. وقوله: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} مفعولان لأجله معلّلان للقطع؛ أي: اقطعوا أيديهما مجازاة لهما على عملهما وكسبهما السيء، وتنكيلًا ومنعًا لغيرهما عن السرقة، ولا عبرة أعظم من قطع اليد، الذي يفضح صاحبه طول حياته، ويسمه بميسم العار والخزي، ولا شك أن هذه العقوبة أجدر بمنع السرقة وتأمين الناس على أموالهم وأرواحهم، فالأرواح كثيرًا ما تتبع الأموال إذا قاوم أهلها السراق وحاولوا منعهم من أخذها {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَزِيزٌ} أي غالب في انتقامه من هذا السارق والسارقة وغيرهما من أهل المعاصي، فلا معقب لحكمه لأنَّه القاهر على كل شيء {حَكِيمٌ} في صنعه وشرائعه وتكاليفه، فهو يضع الحدود والعقوبات بحسب الحكمة التي توافق المصلحة، فما أمر بأمر إلا وهو صلاح، ولا نهى عن أمر إلا وهو فساد، وكأنَّه يقول: شددوا على السراق فاقطعوهم يدًا يدًا، ورجلًا رجلًا. وقيل: معنى {حَكِيمٌ} ؛ أي: يضع الشيء في محله، فلا يحكم بقطع يده ظلمًا؛ لأنَّ السارق لما خان هان، ولهذا أورد بعض اليهود على القاضي عبد الوهاب البغدادي سؤالًا حيث قال شعر:
يَدٌ بِخَمْسِ مِئِيْنَ عَسْجَدٌ وُديَتْ
…
مَا بَالُهَا قُطِعَتْ في رُبْعِ دِيْنَارِ
فأجابه القاضي رضي الله عنه بقوله:
عِزُّ الأمَانَةِ أَغْلَاهَا وَأرْخَصَها
…
ذُلُّ الْخِيَانَةِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ الْبَارِيْ
فصل في بيان الأحكام المتعلقة بالآية وفيه خمس مسائل
المسألة الأولى: اقتضت هذه الآية وجوب القطع على كل سارق، وقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السرقة. وعن عائشة رضي الله عنها:"أن قريشًا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: من يجترىء عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتشفع في حد من حدود الله! "، ثم قام فخطب ثم قال: "إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف .. تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف ..
أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمَّد سرقت لقطعت يدها". متفق عليه.
وعن عائشة رضي الله عنها: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعه، فقالوا: ما كنا نراك تبلغ به هذا؟ قال: "لو كانت فاطمة لقطعتها" أخرجه النسائي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يدة، ويسرق الحبل فتقطع يده". متفق عليه. قال الأعمش: يرون أنه بيض الحديد، وإنَّ من الحبال ما يساوي دراهم. أما السارق الذي يجب عليه القطع .. فهو البالغ العاقل، العالم بتحريم السرقة، فلو كان حديث عهد بالإِسلام ولا يعلم أنَّ السرقة حرام فلا قطع عليه.
المسألة الثانية: اختلف العلماء في قدر النصاب الذي يقطع به، فذهب أكثر العلماء إلى أنَّه ربع دينار، فإن سرق ربع دينار، أو متاعًا قيمته ربع دينار .. يقطع، وهذا قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وبه قال عمر بن عبد العزيز والأوزاعي والشافعي. ويدل له: ما روي عن عائشة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا" أخرجاه في "الصحيحين".
وذهب مالك وأحمد وإسحاق إلى أنَّه ثلاثة دراهم أو قيمتها؛ لما روي عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "قطع سارقًا في مجن قيمته ثلاثة دراهم" أخرجه الجماعة. والمجن: الترس.
ويروى: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن قدر النصاب الذي تقطع فيه اليد خمسة دراهم، وبه قال ابن أبي ليلى، لما روي عن أنس قال: قطع أبو بكر في مجن قيمته خمسة دراهم وفي رواية: (قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم) أخرجه النسائي، وقال: الرواية الأولى أصح.
وذهب قوم إلى أنَّه قطع في أقل من دينار أو عشرة دراهم، ويروى ذلك عن ابن مسعود، وإليه ذهب سفيان الثوري وأبو حنيفة، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أول من قطع في مجن قيمته دينار أو عشرة
دراهم". أخرجه أبو داود.
فإذا سرق نصابًا من المال من حرزٍ لا شبهة له فيه .. قطعت يده اليمنى من الكوع، ولا يجب القطع بسرقة ما دون النصاب. وقال ابن عباس وابن الزبير والحسن: القدر غير معتبر فيجب القطع في القليل والكثير، وكذا الحرز غير معتبر أيضًا عندهم، وإليه ذهب داود الظاهري، واحتجوا بعموم الآية، فإن قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} يتناول القليل والكثير، وسواء من حرز أو غير حرز.
المسألة الثالثة في الحرز: الحرز: هو ما جعل للسكنى وحفظ الأموال، كالدور والمضارب والخيم التي يسكنها الناس، ويحفظون أمتعتهم فيها، فكل ذلك حرز وإن لم يكن فيه حافظ ولا عنده، وسواء سرق من ذلك وهو مفتوح الباب أو مغلق، فأما ما كان في غير بناء ولا خيمة .. فإنَّه ليس بحرز، إلا أن يكون عنده من يحفظه. أما نباش القبور فإنَّه يقطع، وهو قول مالك والشافعي وأحمد، وقال ابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة: لا قطع عليه، فإن سرق شيئًا من غير حرز كثمر من بستان لا حارس له، أو حيوان في برية ولا راعٍ له، أو متاع في بيت منقطع عن البيوت .. فلا قطع عليه.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق؟ فقال: "من أصاب بفيه منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه"، أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي، وزاد فيه "ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثله والعقوبة، ومن سرق منه شيئًا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع، ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثله والعقوبة"، قوله: غير متخذ خبنة - الخبنة بالخاء المعجمة وبعدها باء موحدة ثم نون - وهو ما يحمله الإنسان في حضنه، وقيل: هو ما يأخذه في خبنة ثوبه، وهو ذيله وأسفله، والجرين: موضع التمر الذي يجفف فيه مثل البيدر للحنطة.
وروى مالك في "الموطأ"، عن أبي حسين المكي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة الجبل، فإذا أواه المراح أو الجرين ..
فالقطع فيما بلغ ثمن المجن" هكذا رواه مالك منقطعًا، وهو رواية من حديث عبد الله بن عمرو المتقدم، فإن هذه الرواية عن أبي حسين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وجده هو عبد الله بن عمرو بن العاص. قوله: "ولا في حريسة الجبل" من العلماء من يجعل الحريسة السرقة نفسها يقال: حرس يحرس حرسًا، إذا سرق، ومنهم من يجعلها المحروسة. ومعنى الحديث: أنَّه ليس فيما يحرس في الجبل إذا سرق قطع؛ لأنه ليس بحرز، وقيل: حريسة الجبل هي الشاة التي يدركها الليل قبل أن تصل مأواها، والمراح - بضم الميم - هو الموضع الذي تأوي إليه الماشية بالليل.
وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع" أخرجه الترمذي والنسائي.
المسألة الرابعة: إذا سرق مالًا له فيه شبهة، كالولد يسرق من مال والده، أو الوالد يسرق من مال ابنه، أو العبد يسرق من مال سيده، أو الشريك يسرق من مال شريكه .. فلا قطع على أحد من هؤلاء فيه. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تقطع المرأة إذا سرقت من مال زوجها، ولا هو إذا سرق من مال زوجته. وقال مالك: يقطعان، ذكره أبو حيان في "البحر".
المسألة الخامسة: إذا سرق أول مرة .. قطعت يده اليمنى من الكوع، وإذا سرق ثانية .. قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم، واختلفوا فيما إذا سرق مرة ثالثة، فذهب أكثرهم إلى أنَّه تقطع يده اليسرى، فإن سرق مرة رابعة .. قطعت رجله اليمنى، ثم إذا سرق بعد ذلك .. يعزر ويحبس حتى تظهر توبته. يروى هذا عن أبي بكر، وهو قول قتادة، وبه قال مالك والشافعي لما روي عن ابن عباس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في السارق:"إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله" ذكره البغوي بغير سند. وذهب قوم إلى أنه إنْ سرق بعدما قطعت يده ورجله .. فلا قطع عليه بل يحبس. وروي عن علي أنه قال: إني أستحيي أن لا أدع له يدًا يستنجي بها، ولا رجلًا يمشي بها. وهذا قول الشعبي والنخعي والأوزاعي، وبه قال أحمد وأصحاب الرأي.