المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بين الأمم الأخرى، وقلما يتعاونون على ما فيه صلاحهم وتقدمهم - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٧

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: بين الأمم الأخرى، وقلما يتعاونون على ما فيه صلاحهم وتقدمهم

بين الأمم الأخرى، وقلما يتعاونون على ما فيه صلاحهم وتقدمهم في سائر مرافق الحياة، فيصبحون عبيدًا بعد أن كانوا سادة، وأذلاء بعد أن كانوا في عزة وبلهنية من العيش، كما رأينا وجربنا ذلك في بعض الشعوب الذين عليهم الاستئمار كشعوب الأروميا في شرقي أفريقيا.

‌33

- {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ؛ أي: إنَّما (1) جزاء الذين يخالفون أحكام الله، وأحكام رسوله، أو إنَّما مكافأة الذين يحاربون أولياء الله، وأولياء رسوله، وهم المسلمون {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا}؛ أي: يعملون في الأرض عمل فساد، أو يسرعون في الأرض مفسدين بالمعاصي من القتل، وأخذ المال {أَنْ يُقَتَّلُوا} واحدًا بعد واحد إن قتلوا {أَوْ يُصَلَّبُوا} ثلاثة أيام بعد القتل والصلاة عليهم. وقيل: يصلبون أحياءً، ثم يطعن بطنهم برمح حتى يموتوا إن جمعوا بين القتل وأخذ المال، وعبارة "المنهاج" في باب قاطع الطريق: فإن قتل وأخذ مالًا .. قتل ثمَّ صلب مكتفًا معترضًا على نحو خشبة ثلاثة أيام بلياليها وجوبًا، ثم ينزل إن لم يخف تغيره قبلها، وإلا أنزل وقت التغير، وقيل: يبقى وجوبًا حتى يتهرى ويسيل صديده تغليظًا عليه. وفي قول: يصلب حيًّا قليلًا، ثم ينزل فيقتل، والمراد بالقليل: أدنى زمن ينزجر به غيره عرفًا، انتهى مع بعض زيادات للرملي، و {أو} (2) لتقسيم عقوباتهم تقسيمًا موزعًا على جناياتهم. قال ابن جريج:{أو} في جميع القرآن للتخيير إلا في هذه الآية. قال الشافعي رحمه الله: وبه أقول. اهـ. "كرخي". {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ} بمفصل الكف {وَأَرْجُلُهُمْ} بمفصل القدم، حال كونها {مِنْ خِلَافٍ}؛ أي: مختلفة في القطع بأن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، والتشديد في {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ}: قراءة الجمهور، وهو للتكثير بالنسبة إلى الذين يوقع بهم الفعل، والتخفيف في ثلاثتها قراءة الحسن ومجاهد وابن محيصن، ذكره أبو حيان في "البحر" {أَوْ يُنْفَوْا}؛ أي: يطردوا ويخرجوا {مِنَ الْأَرْضِ} ؛ أي: من أرضهم التي يريدون الإقامة بها إلى مسافة قصر فما فوقها؛ لأنَّ المقصود من النفي

(1) المراح.

(2)

جمل.

ص: 243

الوحشة، والبعد عن الأهل والوطن. والظاهر أنَّ نفيه من الأرض هو إخراجه من الأرض التي حارب فيها. فإذا عين الإِمام جهة فليس للمنفي طلب غيرها؛ أي: ينفوا من الأرض إن أخافوا السبل، فالقتل (1) لمن قتل فقط، والصلب لمن قتل وأخذ المال، والقطع لمن أخذ المال ولم يقتل، والنفي لمن أخاف فقط، قاله ابن عباس وعليه الشافعي.

وقال أبو حنيفة (2): النفي من الأرض هو الحبس، وهو أختيار أكثر أهل اللغة، قالوا: والمحبوس قد يسمى منفيًّا من الأرض لأنَّه لا ينتفع بشيء من طيبات الدنيا ولذاتها، ولا يرى أحدًا من أحبابه، فصار منفيًّا عن جميع اللذات والشهوات والطيبات، فكان كالمنفي في الحقيقة. قال الشاعر وهو مسجون:

خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنْ أهْلِهَا

فَلَسْنَا مِنَ الأَمْوَاتِ فِيْهَا وَلَا الأَحْيَا

إِذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ

عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا

وَتُعْجِبُنَا الرُّؤيَا يَحُلُّ حَدِيْثَنَا

إِذَا نَحْنُ أَصْبَحْنَا الْحَدِيْثَ عَنِ الرُّؤْيَا

وقال الشافعي: هذا النفي محمول على وجهين:

الأول: أن هؤلاء المحاربين إذا قتلوا وأخذوا المال .. فالإمام إنْ أخذهم أقام عليهم الحدّ، وإنْ لم يأخذهم طلبهم أبدًا، فكونهم خائفين من الإِمام هاربين من بلد هو المراد من النفي.

والثاني: القوم الذين يحضرون الواقعة، ويكثرون جمع هؤلاء المحاربين، ويخيفون المسلمين، ولكنهم ما قتلوا وما أخذوا المال .. فإن الإِمام يأخذهم، ويعزرهم، ويحبسهم، فالمراد بنفيهم من الأرض هو هذا الحبس لا غير.

وقد جعل الله (3) سبحانه وتعالى هذا النوع من العدوان محاربة الله ورسوله؛ لأنَّه اعتداء على الحق والعدل الذي أنزل الله على رسوله، ولما فيه من عدم الإذعان لدينه وشرعه في حفظ الحقوق، كما قال تعالى في المصرّين على أكل

(1) جلالين.

(2)

المراح

(3)

المراغي.

ص: 244

الربا: {فَأذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فمن لم يذعنوا لأحكام الشريعة .. يعدوا حاربين لله والرسول، ويجب على الإِمام الذي يقيم العدل ويحفظ النظام أن يقاتلهم على ذلك، كما فعل أبو بكر بمانعي الزكاة حتى يفيئوا ويرجعوا إلى أمر الله تعالى، ومن رجع منهم في أي وقت يقبل منه، ويكف عنه، وقوله:{وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} ؛ أي: يسعون فيها سعي فساد؛ أي: مفسدين لما صلح من أمور الناس في نظم الاجتماع وأسباب المعاش. وجمهور العلماء على أن الآية نزلت في قطاع الطريق من المسلمين، كما تدل على ذلك حادثة العرنيين الذين خدعوا النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بإظهار الإِسلام، حتى إذا تمكنوا من الإفساد بالقتل، والسلب .. عادوا إلى قومهم، وأظهروا شركهم معهم، وقد عاقبهم النبي صلى الله عليه وسلم بمثل عقوبتهم عملًا بقوله تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ويشترط في المحاربين ثلاثة شروط:

الأول: أن يكون معهم سلاح، وإلا كانوا غير محاربين.

الثاني: أن يكون ذلك في الصحراء، فإن فعلوا ذلك في البنيان لم يكونوا محاربين كما قال أبو حنيفة والثوري وإسحاق.

الثالث: أن يأتوا مجاهرة، ويأخذوا المال، فإن أخذوه خفية .. فهم سراق، وإن اختطفوه وهربوا .. فهم منتبهون لا قطع عليهم، وكذا إن خرج الواحد والإثنان على آخر قافلة، فاستلبوا منها شيئًا؛ لأنهم لا يرجعون إلى قوة ومنعة، وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم .. فهم قطاع طريق.

والجزاء الذي يعاقب به أمثال هؤلاء المفسدين أحد أنواع أربعة: إما القتل، أو الصلب، أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض، وفوض لأولي الأمر الاجتهاد في تقدير العقوبة بقدر الجريمة.

والحكمة في عدم التعيين والتفصيل: أن المفاسد كثيرة تختلف باختلاف الزمان والمكان، وضررها يختلف كذلك، فمنها القتل، ومنها السلب، ومنها هتك الأعراض، ومنها إهلاك الحرث والنسل؛ أي: قطع الشجر، وقلع الزرع، وقتل المواشي، والدواب، أو الجمع بين جريمتين أو أكثر من هذه المفاسد، فللإمام أن يقتلهم إن قتلوا، أو يصلبهم إنْ جمعوا بين أخذ المال والقتل، أو

ص: 245

يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إنْ اقتصروا على أخذ المال، أو ينفوا من الأرض إن أخافوا الناس وقطعوا عليهم الطرق.

وهؤلاء المفسدون ضوعفت لهم العقوبات، فالقتل العمد العدوان يوجب القتل، ويجوز لولي الأمر العفو وترك القصاص، فغلظ ذلك في قاطع الطريق، وصار القتل حتمًا لا هوادة فيه، ولا يجوز العفو عنه، وأخذ المال يتعلق به قطع اليمنى في غير قاطع الطريق بقطع الطرفين، وإن جمعوا بين القتل وأخذ المال .. جمع في حقهم بين القتل والصلب؛ لأن بقاءهم مصلوبين في ممر الطرق يكون سببًا لاشتهار إيقاع هذه العقوبة، فيصير ذلك زاجزًا لغيرهم عن الإقدام على مثل هذه المعصية، وإن اقتصروا على مجرد الإخافة عوقبوا بعقوبة خفيفة، وهي النفي من الأرض.

ثم بين آثار هذه العقوبة في الدنيا والآخرة فقال: {ذَلِكَ} الجزاء المذكور فيهم من القطع، والقتل، والصلب، والنفي. {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ}؛ أي: ذل وهوان وفضيحة للمحاربين المذكورين في الدنيا بين الناس ليكونوا عبرة وعظة لغيرهم من المسلمين {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ؛ أي: شديد هو عذاب النار، وبقدر تأثير إفسادهم في تدنيس نفوسهم، وتدسيتها، وظلمة أرواحهم بما اجترحت من الذنوب والآثام.

واستحقاق الأمرين إنما هو للكافر (1)، وأما المسلم: فإنَّه إذا أقيم عليه الحد في الدنيا .. سقطت عنه عقوبة الآخرة، فالآية محمولة على الكافر، أو إن فيها تقديرًا في قوله:{وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} إلخ؛ أي: إذا لم تقم عليه الحدود المذكورة؛ لأنَّ (2) المسلم إذا عوقب بجناية في الدنيا .. كانت عقوبته كفارة له، وإن لم يعاقب في الدنيا فهو في خطر المشيئة، إنْ شاء عذبه بجنايته ثم يدخله الجنة، وإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة، هذا مذهب أهل السنة. ففي (3) "صحيح

(1) الجمل.

(2)

الخازن.

(3)

ابن كثير.

ص: 246