الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هؤلاء إخواننا، أبونا واحد، وديننا واحد، إذا قتلوا منا قتيلًا .. أعطونا سبعين وسقًا من تمر، وإن قتلنا منهم واحدًا .. أخذوا منا مئة وأربعين وسقًا، وإن قتلنا منهم رجلًا قتلوا به رجلين، وإن قتلنا امرأة .. قتلوا بها رجلًا، فاقض بيننا بالعدل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليس لبني النضير على بني قريظة فضل في عقل ولا دم". فقال بنو النضير: والله لا نرض بقضائك، ولا نطيع أمرك، ولنأخذن بأمرنا الأول، فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس.
قال الزجاج: ومعنى الآية: أتطلب اليهود حكمًا لم يأمر الله به وهم أهل كتاب الله كما تفعل الجاهلية؟
التفسير وأوجه القراءة
44
- {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ} على موسى عليه السلام {فِيهَا هُدًى} ؛ أي: بيان (1) للأحكام والشرائع والتكاليف {وَنُورٌ} ؛ أي: بيان للتوحيد والعقائد والنبوة والمعاد.
وعبارة المراغي هنا: أي إنَّا (2) أنزلنا التوراة على موسى مشتملة على هدى وإرشاد للناس إلى الحق، وعلى نور وضياء يكشف به ما تشابه عليهم وأظلم، وبهذا الهدى خرج بنو إسرائيل من وثنية المصريين وضلالهم، وبذلك النور أبصروا طريق الاستقلال أمر دينهم ودنياهم {يَحْكُمُ بِهَا}؛ أي: بالتوراة. {النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} ؛ أي: انقاد، والحكم بالتوراة، فإن من الأنبياء من لم تكن شريعته شريعة التوراة، والذين كانوا منقادين لحكم التوراة هم الذين كانوا من مبعث موسى إلى عيسى عليهما السلام. وقيل: بينهما ألف نبي، وكلهم بعثوا بإقامة التوراة حتى يحدوا حدودها، ويقوموا بفرائضها، ويحلوا حلالها، ويحرموا حرامها {لِلَّذِينَ هَادُوا} متعلق بيحكم؛ أي: يحكمون بها فيما بين اليهود؛ أي: يحكمون لهم وعليهم وبهم.
(1) المراح.
(2)
المراغي.
وعبارة المراغي (1): أي أنزلناها قانونًا يحكم به النبيون الذين أسلموا وجوههم لله مخلصين له الدين، موسى ومن بعده من أنبياء بني إسرائيل إلى عيسى عليه السلام، للذين هادوا؛ أي: لليهود خاصة لأنها شريعة خاصة بهم لا عامة، ولم يكن لداود وسليمان وعيسى شريعة دونها. انتهت.
وقال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي (2): يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو سيدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم لأنَّه حكم على اليهوديين بالرجم، وكان هذا حكم التوراة، وإنَّما ذكر بلفظ الجمع تعظيمًا له، ولأنَّه قد اجتمع فيه من خصال الخير ما كان حاصلًا لأكثر الأنبياء.
وقال ابن الأنباري: هذا رد على اليهود والنصارى؛ لأنَّ بعضهم كانوا يقولون الأنبياء كلهم يهود أو نصارى، فرد الله عليهم بذلك؛ أي: فإنَّ الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية والنصرانية بل كانوا مسلمين؛ أي: منقادين لتكاليف الله تعالى، وفي ذلك تنبيه على قبح طريقة هؤلاء اليهود المتأخرين، فإن غرضهم من ادعاء الحكم بالتوراة أخذ الرشوة، واستتباع العوام، وتعريض بهم بأنهم بعدوا عن الإِسلام الذي هو دين الأنبياء عليهم السلام.
وقال ابن عباس: {لِلَّذِينَ هَادُوا} ؛ أي: تابوا من الكفر ورجعوا عن عبادة العجل، وقال الزجاج (3): ويحتمل أن يكون في الآية تقديم وتأخير على معنى: إنَّا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا {وَالرَّبَّانِيُّونَ} ؛ أي: ويحكم بأحكام التوراة الربانيون؛ أي: العلماء المجتهدون الذين انسلخوا من الدنيا، وزهدوا فيها، واشتغلوا بتربية الناس بالدين والعلم {وَالْأَحْبَارُ}؛ أي: ويحكم بها الأحبار؛ أي: العلماء الذين حبروا وستروا الجهل والضلال بعلمهم وصلاحهم، والتزموا طريقة النبيين، وجانبوا دين اليهود، فالمراد بالربانيين الزهاد، وبالأحبار العلماء. وعن ابن عباس: الربانيون الذين يسوسون الناس بالعلم ويربونهم بصغاره قبل كباره، والأحبار هم الفقهاء وسائر علمائهم
(1) المراغي.
(2)
المراح.
(3)
زاد المسير.
من ولد هارون؛ أي: ويحكم بها الربانيون والأحبار في الأزمنة التي لم يكن فيها أنبياء معهم، أو يحكمون مع وجودهم بإذنهم {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ}؛ أي: يحكمون بها بسبب ما أودعوه وأعطوه من علم كتاب الله تعالى وهو التوراة، وائتمنوا عليه، وطلب منهم أنبيائهم حفظه بالعمل به، والحكم به بين الشعوب، كالعهد الذي أخذه موسى بأمر الله على شيوخب بني إسرائيل، بعد أن كتب التوراة أن يحفظوها ولا يحيدوا عنها، فإن الأنبياء سألوا الربانيين والأحبار أن يحفظوا التوراة من التغيير والتبديل، وذلك منهم عليهم السلام استخلاف لهم في إجراء أحكامها من غير إخلال بشيء منها. ويروى عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: أنا رباني هذه الأمة. وأطلق لقب حبر الأمة على ابن عباس رضي الله عنهما، وأطلق لقب الرباني على عليّ المرتضى رضي الله عنه. وقال ابن جرير: الربانيون (1) جمع رباني، وهم العلماء، الحكماء، والبصراء بسياسة الناس، وتدبير أمورهم، والقيام بمصالحهم، والأحبار جمع حبر: وهو العالم المحكم للشيء انتهى.
وقال ابن الجوزي (2): وهل بين الربانيين والأحبار سرق أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: لا فرق، والكل علماء هذا قول الأكثرين، منهم ابن قتيبة والزجاج.
والثاني: قد روي عن مجاهد أنَّه قال: الربانيون الفقهاء العلماء، وهم فوق الأحبار، وقال السدي: الربانيون العلماء والأحبار القراء. وقال ابن زيد: الربانيون الولاة والأحبار العلماء. وقيل: الربانيون علماء النصارى، والأحبار علماء اليهود.
وقال الشوكاني: قوله: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} : (الباء): سببية (3){اسْتُحْفِظُوا} : أمروا بالحفظ؛ أي: أمرهم الأنبياء بحفظ التوراة عن التغيير والتبديل، والجار والمجرور متعلق بيحكم؛ أي: يحكمون بها بسبب هذا
(1) الطبري.
(2)
زاد المسير.
(3)
فتح القدير.
الاستحفاظ. انتهى. {وَكَانُوا عَلَيْهِ} أي: على الكتاب {شُهَدَاءَ} ؛ أي: كان هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار شهداء على أن كل ما في التوراة حق وصدق، وأنَّه من عند الله، فحقًّا كانوا يمضون أحكام التوراة، ويحفظونه عن التحريف والتغيير.
وعبارة المراغي: {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} ؛ أي: وكان السلف الصالح منهم رقباء على الكتاب وعلى من تحدثه نفسه العبث به كما فعل عبد الله بن سلام في مسألة الرجم، لا كما فعل الخلف من كتمان بعض أحكامه اتباعًا للهوى، أو خوفًا من أشرافهم إن أقاموا عليهم حدوده، وطمعًا في صلاتهم إذا هم حابوهم، ومما كتموه صفة النبي صلى الله عليه وسلم والبشارة به، ثم خاطب الله تعالى رؤساء اليهود الذين كانوا زمن التنزيل لا يخافون الله في الكتمان والتبديل بعد أن قص سيرة السلف الصالح من بني إسرائيل لعلهم يعتبرون ويرعوون عن غيهم فقال:{فَلَا تَخْشَوُا} يا رؤساء اليهود. {النَّاسَ} ؛ أي: ملوككم وأشرافكم في الحكم عليهم بكتابي {وَاخْشَوْنِ} ؛ أي: وخافوا عقابي في كتمان كتابي؛ أي: إياكم وأن تحرفوا كتابي أيها اليهود للخوف من الناس والملوك والأشراف فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم، وتستخرجوا الحيل في سقوط تكاليف الله تعالى عنهم، فلا تكونوا خائفين من الناس بل كونوا خائفين مني ومن عقابي في كتمان الأحكام ونعوت محمد صلى الله عليه وسلم. والمعنى: وإذا كان حال أسلافكم وسيرتهم كما ذكر أيها اليهود المعاصرون لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا شك أنكم لا تنكرونه كما تنكرون غيره مما قصه الله على رسوله صلى الله عليه وسلم .. فلا تخشوا الناس فتكتموا ما عندكم من الكتاب خشية أحد أو طمعًا في منفعة عاجلة منه، واخشوني واقتدوا بمن كان قبلكم من الربانيين والأحبار، واحفظوا التوراة ولا تعدلوا عن ذلك، فإن النفع والضر بيدي.
{وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي} ؛ أي: ولا تستبدلوا بآياتي التي في التوراة {ثَمَنًا قَلِيلًا} ؛ أي: عوضًا يسيرًا من الدنيا؛ أي: لا تأخذوا بكتمانها عرضًا قليلًا من الدنيا؛ أي: كما نهيتكم عن تغيير أحكامي لأجل الخوف من الناس .. فكذلك أنهاكم عن التغيير والتبديل لأجل الطمع في المال والجاه، وأخذ الرشوة، فإن كل متاع الدنيا قليل، وما عند الله خير وأبقى.
والمعنى: ولا تتركوا بيانها للناس والعمل بها رجاء منفعة دنيوية قليلة تأخذونها من الناس كرشوة أو جاه، أو غيرهما من الحظوظ العاجلة التي تصدكم عن الاهتداء بآيات الله، وتمنعكم عن الخير العظيم الذي تنالونه من ربكم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ؛ أي: وكل من رغب عن الحكم بما أنزل الله وأخفاه، وحكم بغيره، كحكم اليهود في الزانيين المحصنين بالتحميم، وكتمانهم الرجم وقضائهم في بعض قتلاهم بدية كاملة، وفي بعضهم بنصف الدية، والله قد سوى بين الجميع في الحكم {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} الذين ستروا الحق الذي كان عليهم كشفه وتبينه، وغطوه وأظهروا لهم غيره، وقضوا به. وعبارة، "المراح" هنا: قال ابن عباس: ومن لم يبين ما بين الله تعالى في التوراة من نعت محمَّد، وآية الرجم .. فأولئك هم الكافرون بالله والرسول والكتاب. وقال عكرمة: أي: ومن لم يحكم بما أنزل الله، منكرًا له بقلبه، وجاحدًا له بلسانه .. فقد كفر. أمَّا من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه ذلك إلا أنَّه حكم بضده .. فهو ظالم فاسق لتركه حكم الله تعالى. انتهت. وخلاصة المعنى: ومن لم يحكم بما أنزل الله مستهينًا به منكرًا له .. كان كافرًا لجحوده به، واستخفافه بأمره، وإنما ذكر (1) الكفر هنا لأنَّه يناسب المقام؛ لأنَّه جاء عقب قوله:{وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} وهذا كفر، فناسب ذكر الكفر هنا، والإشارة بقوله {أُولَئِكَ} إلى من، والجمع باعتبار معناها، وكذلك ضمير الجماعة في قوله:{هُمُ الْكَافِرُونَ} .
فصل
واختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآيات الثلاث فيه (2)، وهي قوله:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . فقال
(1) الفتوحات.
(2)
الخازن.
جماعة من المفسرين: إن الآيات الثلاث نزلت في الكفار، ومن غير حكم الله من اليهود؛ لأنَّ المسلم وإن ارتكب كبيرة لا يقال: إنَّه كافر، وهذا قول ابن عباس وقتادة والضحاك، ويدل على صحة هذا القول ما روي عن البراء بن عازب. قال: أنزل الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} في الكفار كلها أخرجه مسلم.
وعن ابن عباس قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} إلى قوله: {الْفَاسِقُونَ} هذه الآيات الثلاث في اليهود خاصةً قريظة والنضير، أخرجه أبو داود. وقال مجاهد في هذه الآيات الثلاث: من ترك الحكم بما أنزل الله ردًّا لكتاب الله .. فهو كافر ظالم فاسق. وقال عكرمة: ومن لم يحكم بما أنزل الله، جاحدًا به .. فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم به .. فهو ظالم فاسق. وهذا قول ابن عباس أيضًا، واختيار الزجاج لأنَّه قال: من زعم أن حكمًا من أحكام الله تعالى التي أتت بها الأنبياء باطل .. فهو كافر. وقال طاووس: قلت لابن عباس أكافر من لم يحكم بما أنزل الله؟ فقال: به كفر وليس بكفر، ينقل عن الملة كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ونحو هذا روي عن عطاء قال: هو كفر دون الكفر. وقال ابن مسعود والحسن والنخعي: هذه الآيات الثلاث عامة في اليهود، وفي هذه الأمة، فكل من ارتشى وبدل الحكم، فحكم بغير حكم الله تعالى .. فقد كفر وظلم وفسق، وإليه ذهب السدي؛ لأنه ظاهر الخطاب. وقيل: هذا فيمن علم نص حكم الله ثم رده عيانًا محمدًا وحكم بغيره، وأما من خفي عليه النص، أو أخطأ في التأويل .. فلا يدخل في هذا الوعيد. وقال الرازي نقلًا عن عكرمة: إنَّ الحكم بالكفر على من حكم بغير ما أنزل الله إنَّما يكون فيمن أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أمَّا من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه كونه حكم الله إلا أنّه أتى بما يضاده .. فهو حاكم بما أنزل الله ولكنَّه تارك له، فلا يدخل تحت هذه الآية. وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال: الثلاث الآيات التي في المائدة: {مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} إلخ، ليس في الإِسلام منها شيء، هي من الكفار. وعن الشعبي أنَّه قال: الثلاث الآيات التي في