الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلا بدَّ من هذا التقدير؛ إذ الحشر عام للمؤمنين والكافرين كما يدل عليه التفصيل الآتي بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} إلى أن قال: {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا} ، فقد حذف من الإجمال ما أثبت في التفصيل. وقرأ الحسن بالنون بدل الياء في {فَسَيَحْشُرُهُمْ} .
173
- وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا} بيان لحال الفريق المطوي ذكره في الإجمال، قدم على بيان حال مقابله؛ إظهارًا لفضله ومسارعة إلى بيان كون حشره أيضًا معتبرًا في الإجمال، كما قدرناه سابقًا؛ أي: فأما الذين أمنوا باللهِ ورسله، وعملوا الصالحات والمأمورات، واجتنبوا المنهيات {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} من غير أن ينقص منها شيئًا أصلًا؛ أي: سيعطيهم أجورهم وافيةً كاملة على إيمانهم وعملهم الصالح بحسب سنته تعالى في ترتيب الجزاء على مقدار تأثير الإيمان والعمل الصالح في النفس وتزكيتها وطهارتها من أدران الشرور والآثام {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} وإحسانه على أجور أعمالهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا}؛ أي: أنفوا وترفعوا عن عبادته تعالى {وَاسْتَكْبَرُوا} ؛ أي: تكبروا عن الإيمان به تعالى {فَيُعَذِّبُهُمْ} في الآخرة {عَذَابًا أَلِيمًا} ؛ "أي: مؤلمًا يستحقونه بحسب سنته أيضًا، بسبب استنكافهم واستكبارهم، لكن لا يزيدهم على ما يستحقون شيئًا؛ لأن رحمته سبقت غضبه، فهو يجازي المحسن بالعدل والفضل، ويجازي المسىء على إساءته بالعدل {وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ}؛ أي: ولا يجد المستنكفون لأنفسمهم من غير الله تعالى {وَلِيًّا} يلي أمورهم ويدبر مصالحهم {وَلَا نَصِيرًا} ينصرهم ويحفظهم من بأسه تعالى، ويرفع عنهم العذاب وينجيهم منه؛ إذ لا عاصم اليوم من أمر الله {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)} .
174
- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} خطاب لكافّة المكلَّفين {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ} ؛ أي: رسول {مِنْ رَبِّكُمْ} وهو: محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما سماه برهانًا؛ لأن وظيفته إقامة البرهان على تحقيق الحق وإبطال الباطل. أي: قد جاءكم من قبل ربكم برهانٌ جلي يبين لكم حقيقة الإيمان به وبجميع ما أنتم في حاجة إليه من أمر دينكم، مؤيد
بالدلائل والبينات، ألا وهو النبي الأمي الذي هو برهان على حقية ما جاء به بسيرته العملية ودعوته التشريعية، فإن أميًّا لم يتعلم في مدرسة ولم يعن في طفولته بما كان يسمى عند قومه علمًا، كالشعر والنسب وأيام العرب، بل ترك ولدان المشركين وشأنهم، ولم يحضر سمار قومه ولا معاهد لهوهم، ولم يحظ من التربية المنزلية والتأديب الاجتماعي - في أول نشأته - ما يؤهله للمنصب الذي تصدى له في كهولته، وهو تربية الأمم تربية دينية اجتماعية سياسية حربية، وهو مع هذا قد قام به على أتم وجه وأكمل طريق، لهو برهان على عناية الله به وتأييده إياه بوحيه وهديه.
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ} بواسطة محمَّد صلى الله عليه وسلم {نُورًا مُبِينًا} ؛ أي: نورًا نيرًا في نفسه منورًا لغيره، وهو القرآن، وسماه نورًا؛ لأنه سبب لوقوع نور الإيمان في القلب؛ أي: وأنزلنا إليكم بما أوحينا إليه كتابًا، هو كالنور في الهداية للناس مبينًا لكل ما أنزل لبيانه، من توحيد الله وربوبيته، وهو المقصد الأعلى الذي بعث به جميع الرسل، وكان كلٌّ منهم يدعو أمته إليه، ويستجيب له الناس بقدر استعدادهم لفهم حقيقته، ثم لم يلبثوا أن يشوهوه بالشرك وضروب الوثنية التي تدنس النفوس، وتهبط بها من أوج العزة والكرامة إلى المهانة والذلة بالخضوع لبعض مخلوقات من جنسهم، أو من أجناس أخرى.
ولما تغلغلت الوثنية في جميع الأديان المعروفة وأفسدتها على أهلها .. أنزل الله تعالى لهداية البشر هذا النور المبين، وهو القرآن، فبين لمن يفهم لغته حقيقة التوحيد بالدلائل والبراهين الكونية والعقلية مع ضرب الأمثال، وذكر شيء من القصص؛ لكشف ما ران على هذه العقيدة من شبهات المضلين، وأوهام الضالين التي مزجتها بالشرك. هذا البيان الذي جاء به القرآن لتقرير التوحيد واجتثاث جذور الوثنية .. لم يكن معهودًا مثله من الحكماء، ولا من الأنبياء، فمن ثم وجب أن يكون من رب العالمين {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} .
والخلاصة: أن محمدًا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم كان برهانًا على حقية دينه، وكتابه