المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وتأخير الإيمان عن إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة - مع كونهما - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٧

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: وتأخير الإيمان عن إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة - مع كونهما

وتأخير الإيمان عن إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة - مع كونهما من الفروع المرتبة عليه - لما أنهم كانوا معترفين بوجوبهما مع ارتكابهم تكذيب بعض الرسل عليهم الصلاة والسلام اهـ "كرخي". وقرأ الحسن:{برسلي} بسكون السين في جميع القرآن. {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} ؛ أي: نصرتموهم بالسيف على الأعداء، معظمين لهم، بأن تدافعوا أعداءهم عنهم. وقرأ عاصم الجحدري:{وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} . خفيفة الزاي. وقرأ في الفتح: {وتعزروه} بفتح التاء وسكون العين وضم الزاي ومصدره: العَزْر. {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} ؛ أي: قرضًا مخلصًا لوجه الله تعالى، والمراد بهذا الإقراض الصدقات المندوبة، وخصها بالذكر تنبيهًا على شرفها وفضلها؛ أي: وبذلتم من المال زيادة على ما أوجبه الله عليكم بالزكاة، فكنتم بذلك بمثابة من أقرض ماله لغني ملىء وفي، لا يضيع عليه بل يجده أمامه عند شدة الحاجة إليه، وهذه الجمل كلها شرطية، فالشرط مركب من خمسة أمور وهي قوله:{لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} وجواب الشرط قوله: {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} ؛ أي: وعزتي وجلالي لئن فعلتم هذه المذكورات كلها .. لأزيلن عنكم بتلك الحسنات تأثير سيئاتكم التي سلفت منكم في نفوسكم، فلا يبقى فيها رجس، ولا خبث يقتضي العقاب، فإنَّ الحسنات يذهبن السيئات كما يغسل الماء الأدران والأوساخ {وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}؛ أي: ولأدخلنكم تلك الجنات التي لا يدخلها إلا من كان طاهرًا من الشرك، وما يتبعه من المعاصي والآثام التي تفسد الفطرة {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ}؛ أي: فمن جحد منكم شيئًا مما أمرتكم به، فتركه، أو عمل شيئًا مما نهيته عنه بعد أخذ الميثاق بالوفاء لي بطاعتي واجتنابه معصيتي {فَقَدْ ضَلَّ} وأخطأ {سَوَاءَ السَّبِيلِ}؛ أي: الطريق الواضح المستوي المستقيم، الذي يوصل سالكه إلى إصلاح قلبه، وتزكية نفسه، ويجعله أهلًا لجوار ربه في تلك الجنات.

‌13

- ثم بين أنهم لم يوفوا بهذا العهد فجازاهم على سوء صنيعهم فقال: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} ؛ أي: فبسبب نقضهم ورميهم وغدرهم الميثاق الذي أخذ عليهم بتكذيب الرسل، وقتل الأنبياء، وكتمان صفة محمَّد صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك الميثاق

ص: 171

الإيمان بمن يرسل إليهم من الرسل ونصرهم وتبجيلهم وتعظيمهم {لَعَنَّاهُمْ} وطردناهم وأبعدناهم من رحمتنا. {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} ؛ أي: جافية منصرفة عن الانقياد للدلائل، وقيل: يابسة غليظة لا تلين لقبول الحق، وقيل منكرة لا تقبل الوعظ، وكل هذا متقارب، وقسوة القلب غلظه وصلابته.

وقرأ الجمهور من السبعة (1): {قَاسِيَةً} اسم فاعل من قسا يقسو، وقرأ عبد الله وحمزة الكسائي:{قَاسِيَةً} بغير ألف وبتشديد الياء، وهي فعلية للمبالغة، كشاهد وشهيد، وقيل معنى قسية على هذه القراءة رديئة يابسة. وقرأ الهيصم بن شراخ {قسية} بضم القاف وتشديد الياء كجي، وقرىء بكسر القاف إتباعًا؛ أي:(2) استحقوا مقتًا وغضبًا وبعدًا من ألطافنا، فإن نقض الميثاق أفسد قطرتهم، ودنس نفوسهم، وقسى قلوبهم، حتى قتلوا الأنبياء بغير حق، وافتروا على مريم وأهانوا ولدها الذي أرسل إليهم لإصلاح ما فسد من عقائدهم وأخلاقهم، وحاولوا قتله، وافتخروا بذلك، فبكل ذلك بعدوا عن رحمة الله تعالى، إذ جرت سنته أن الأعمال السيئة تؤثر في النفوس آثارًا سيئة، فتجعل القلوب قاسية لا تؤثر فيها الحجة والموعظة، ومن ثم تستحق مقت الله وغضبه والبعد من فضله ورحمته، وما مثل هذا إلا مثل من يهمل العناية بنفسه، ولا يراعي القوانين الصحية، فهو لا شك سيصاد بالأمراض والأسقام، ولا يلومن حينئذ إلا نفسه إذ كان هو السبب في ذلك بإهماله رعاية نفسه حالة كونهم {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ}؛ أي: يغيرون كلام الله الذي أنزل في التوراة وحكمه الذي شرع لهم فيها {عَنْ مَوَاضِعِهِ} ؛ أي: عن حاله التي نزلت عليها؛ أي: يغيرون ما شق عليهم من أحكامها، كآية الرجم، بدلوها لرؤسائهم بالتحميم - وهو تسويد الوجه بالفحم - وغيروا أيضًا نعت محمَّد صلى الله عليه وسلم التي نزلت في التوراة تلبيسًا على سفلتهم؛ أي: أزالوا صفته المكتوبة في التوراة، وكتبوا مكانها صفة أخرى، فغيروا المعنى والألفاظ، فتحريف الكلم عن مواضعه يكون إما بتحريف الألفاظ بالتقديم والتأخير والزيادة والنقصان، وإمَّا بتحريف المعاني، يحمل الألفاظ على غير ما

(1) البحر المحيط.

(2)

المراغي.

ص: 172

وضعت له، وكل منهما قد وقع في التوراة وغيرها من كتبهم، كما هو معلوم واضح لمن اطلع على التوراة.

وقرأ الجمهور: {الْكَلِمَ} بفتح الكاف وكسر اللام وقرأ أبو عبد الرحمن والنخعي: {الكلام} بالألف وقرأ أبو رجاء {الكلم} بكسر الكاف وسكون اللام. وهذه الجملة (1) وما بعدها جاءت بيانًا لقسوة قلوبهم، ولا قسوة أشد من الافتراء على الله تعالى، وتغيير وحيه {وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ}؛ أي: تركوا بعضًا مما أمروا به في كتابهم، وهو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا (2) أيضًا من قسوة قلوبهم، وسوء فعلهم بأنفسهم، حيث ذكروا بشيء فنسوه. وتركوه، وهذا الحظ هو من الميثاق المأخوذ عليهم {وَلَا تَزَالُ} يا محمَّد {تَطَّلِعُ} وتقف وتظهر {عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ}؛ أي: على خيانة من اليهود، فالخائنة مصدر بمعنى الخيانة كالقائلة بمعنى القيلولة، والخاطئة بمعنى الخطيئة، ويدل على ذلك قراءة الأعمش:{على خيانة} أو اسم فاعل، والهاء للمبالغة، كرواية؛ أي: خائن أو صفة لمؤنث؛ أي: قرية خائنة أو فعلة أو نفس خائنة.

أي: إنك يا محمَّد لا تزال تطلع من هؤلاء اليهود على خيانة إثر خيانة، فلا تظنن أنك أمنت كيدهم بتأمينك إياهم على أنفسهم، فهم قوم لا وفاء لهم، ولا أمان، فمن نقض عهد الله وميثاقه .. فكيف يرجى منه وفاء؟! وكيف تكون منه أمانة؟! فهذه عادتهم وديدنهم معك، وهم على ما كان أسلافهم من خيانة الرسل، وقتلهم الأنبياء، فهم لا يزالون يخونونك وينكثون عهودك، ويظاهرون عليك أعداءك، ويهمون بالفتك منك وأن يسموك، وقوله:{إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} استثناء من الضمير في منهم، وهم الذين آمنوا كعبد الله بن سلام وأصحابه ممن أسلموا وصدقوا الله ورسوله، فلا تظنن بهم سوءًا ولا تخف منهم خيانة ولا خديعة، أو هم الذين بقوا على الكفر لكنهم بقوا على العهد ولم يخونوا فيه.

{فَاعْفُ عَنْهُمْ} ؛ أي: سامح عما فرطوا في حقك ولا تعاقبهم {وَاصْفَحْ} ؛

(1) البحر المحيط.

(2)

البحر المحيط.

ص: 173

أي: أعرض عن زلاتهم ولا تلتفت إليها ما داموا باقين على العهد. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يُحِبُّ} ويثيب {الْمُحْسِنِينَ} إلى الناس بالعفو والصفح عن زلاتهم وهفواتهم. قيل: (1) هذا منسوخ بآية السيف، وقيل: خاص بالمعاهدين؛ أي: فاعف (2) عما فرط من هؤلاء القليل، واصفح عمن أساء منهم، وعاملهم بالإحسان الذي يحبه الله تعالى، فأنت أحق الناس باتباع ما يحبه الله ويرضاه، وهذا رأي أبي مسلم. وقال غيره: فاعف عن هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليك وإلى أصحابك بالقتل، واصفح لهم عن جرمهم، فإني أحب من أحسن العفو والصفح، إلى من أساء إليه إيثارًا للإحسان والفضل على ما يقتضيه العدل.

وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رغب - عند ما دخل المدينة - في مصالحة اليهود وموادعتهم، فعقد معهم العهد على أن لا يحاربوه ولا يظاهروا من يحاربه، ولا يمالئوا عليه عدوًّا له، وأن يكونوا آمنين على أنفسهم وأموالهم وحريتهم، وكان إذ ذاك منهم ثلاث طوائف حول المدينة، وهم بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، فنقضوا العهد، وهموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فحل له قتالهم، ولكنه رجح السلم على الحرب، واكتفى بطردهم من جواره، وبعث إليهم أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني، وقد أجلتكم عشرًا، فمن وجدته بها بعد ذلك .. ضربت عنقه فأقاموا يتجهزون أيامًا، ثم ثبط عزيمتهم عبد الله بن أبي، وأرسل إليهم أن لا تخافوا، إن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم فيموتون دونكم، وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان، وكان رئيسهم المطاع حيي بن أخطب شديد العدواة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي زين لهم قتله والغدر له، فركن إلى قول ابن أبيّ، وبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لن نخرج من المدينة فافعل ما بدا لك.

فعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يريدون الحرب، فخرج هو والمسلمون للقائهم، يحمل لواءه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فلما وصلوا إليهم أقاموا على حصونهم

(1) الشوكاني.

(2)

المراغي.

ص: 174