الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صيدها، وأمسكنه على نفسها، أو تطعموا ما لم يسم اسم الله عليه من الصيد والذبائح مما صاده أهل الأوثان، فإن الله تعالى قد حرم ذلك عليكم فاجتنبوه أيما اجتناب {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {سَرِيعُ الْحِسَابِ} عندما يحاسب عباده يوم القيامة، وأعلموا أن الله تعالى لا يضيع شيئًا من أعمالكم، بل تحاسبون عليها، وتجازون بها في الدنيا والآخرة، وهو يحاسب الناس كلهم يوم القيامة في وقت واحد، فما أجدر حسابه أن يكون سريعًا، ففيه تخويف لمن خالف أمره، وفعل ما نهاه عنه.
وبعد أن بين وجوب التذكية للذبائح لإبعاد المسلمين مما كان عليه المشركون من أكل الميتة، وشدد في التسمية على الطعام من صيد أو ذبيحة لإبعادهم عما كانوا عليه من الذبح لغير الله بالإهلال به لأصنامهم ليطهرهم من كل ما كانوا عليه من أدران الشرك ..
5
- بين حكم مؤاكلة أهل الكتاب ومناكحتهم، لأنَّهم لما كانوا في الأصل أهل توحيد ثم سرت إليهم نزعات الشرك ممن دخل في دينهم من المشركين، كان هذا مظنة التشديد في مؤاكلتهم ومناكحتهم؛ كما شدد في أكل ذبائح مشركي العرب، ونكاح نسائهم، فذكر أنا لا نعاملهم معاملة المشركين في ذلك، بل تحل لنا مؤاكلتهم، ونكاح نسائهم فقال:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} هذه الجملة مؤكدة للجملة الأولى وهي قوله: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} ؛ أي: الآن أحل لكم المستلذات المشتهيات لأهل المروء والأخلاق الجميلة على سبيل التفصيل، بعد أن كان حلالًا لكم بالإجمال، وصار حكمها مستقرًّا ثابتًا.
وعبارة الخازن: وإنما كرر إحلال الطيبات للتأكيد، كأنَّه قال: اليوم أحل لكم الطيبات التي سألتم عنها، ويحتمل أن يراد باليوم اليوم الذي أنزلت فيه هذه الآية، أو اليوم الذي تقدم ذكره في قوله:{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} . {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} . ويكون الغرض من ذكر هذا الحكم أنه تعالى قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} فبين أنه كما أكمل الدين وأتم النعمة .. فكذلك أتم النعمة بإحلال الطيبات، وقيل: ليس المراد باليوم يومًا معينًا.
وفي "تنوير المقباس": {الْيَوْمَ} ؛ أي: يوم الحج {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} ؛ أي: المذبوحات من الحلال {وَطَعَامُ الَّذِينَ} ؛ أي: ذبائح الذين {أُوتُوا الْكِتَابَ} ؛ أي: أعطوا الكتاب التوراة والإنجيل وهم اليهود والنصارى {حِلٌّ لَكُمْ} ؛ أي: حلال لكم ما كان حلالًا بالملة، فيحل لنا أكل ذبائح من تمسكوا بالتوراة والإنجيل إذ حلت المناكحة بيننا وبينهم، فحل الذبيحة تابع لحل المناكحة دون ذبائح أهل الشرك الذين لا كتاب لهم من عبدة الأصنام والأوثان. والمراد بالطعام هنا الذبائح؛ لأن غيرها حلال بأصله، كالحبوب والثمار والفاكهة والخبز وما لا يحتاج إلى ذكاة، فإنه لا اختلاف في حلها باختلاف حال مالكها ومباشرها، والذين أوتوا الكتاب هم اليهود والنصارى كما مر آنفًا.
وفي هذه الآية: دليل (1) على أن جميع طعام أهل الكتاب من غير فرق بين اللحم وغيره حلال للمسلمين، وإن كانوا لا يذكرون على ذبائحهم اسم الله، وتكون هذه الآية مخصصة لعموم قوله:{وَلَا تَأكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} . وظاهر هذا أن ذبائح أهل الكتاب حلال، وإن ذكر اليهودي في ذبيحته اسم عزير، وذكر النصراني على ذبيحته اسم المسيح، وإليه ذهب أبو الدرداء وعبادة بن الصامت وابن عباس والزهري وربيعة والشعبي ومكحول، وقال علي وعائشة وابن عمر: إذا سمعت الكتابي يسمي غير الله فلا تأكل، وهو قول طاووس والحسن وتمسكوا بقوله تعالى:{وَلَا تَأكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ويدل عليه قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} . وقال مالك: إنه يكره ولا يحرم، فهذا الخلاف إذا علمنا أن أهل الكتاب ذكروا على ذبائحهم اسم غير الله، وأمَّا مع عدم العلم فقد حكى الطبري، وابن كثير الإجماع على حلها لهذه الآية، ولما ورد في السنة من أكله صلى الله عليه وسلم من الشاة المصلية التي أهدتها إليه اليهودية، وهو في "الصحيح"، وكذلك جراب الشحم الذي أخذه بعض الصحابة من خيبر، وعلم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وهو في "الصحيح" أيضًا، وغير ذلك، والمراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، وأمَّا المجوس: فذهب الجمهور إلى أنها لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم،
(1) الشوكاني.
لأنهم ليسوا بأهل كتاب على المشهور عند أهل العلم، وخالف في ذلك أبو ثور، وأنكر عليه الفقهاء ذلك.
{وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} ؛ أي: وذبائحكم أيها المؤمنون حل لأهل الكتاب، فلا جناح عليكم أن تطعموهم من طعامكم أو تبيعوهم منه. وفائدة (1) ذكر ذلك: بيان أن إباحة الذبائح حاصلة من الجانبين، وليس كذلك إباحة المناكحة، فذكره للتمييز بين النوعين، وقال الشوكاني: وهذا من باب المكافأة والمجازاة، وإخبار للمسلمين بأن ما يأخذونه منهم من أعراض الطعام حلال لهم بطريق الدلالة الالتزامية.
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} ؛ أي: وأحل لكم أيها المؤمنون نكاح الحرائر العفائف من المؤمنات إذا أعطيتموهن مهورهن، وإنما خص المحصنات بالذكر - وهن الحرائر أو العفائف - ليحث المؤمنين على تخيير النساء، ليكون الولد كريم الأصل من الطرفين، لا لنفي نكاح من عداهن، فإن نكاح الإماء المسلمات صحيح بالاتفاق عند توفر الشرائط، وكذا نكاح غير العفيفات إذا تابت وحسنت توبتها. روى (2) طارق بن شهاب أن رجلًا أراد أن يزوج أخته فقالت: إني أخشى أن أفضحك، إني قد بغيت، فأتى عمر، فذكر ذلك له منها فقال: أليس قد ثابت؟ قال: بلى. قال: فزوجها. وقرأ الشعبي: بكسر الصاد وبه قرأ الكسائي وقد تقدم الكلام في هذا مستوفى في البقرة والنساء، وذكرهن هنا توطئة وتمهيدًا لقوله:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ؛ أي: وأحل لكم أيها المؤمنون نكاح الحرائر من الذين أعطوا الكتاب من قبلكم وهم اليهود والنصارى {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ؛ أي: إذا أعطيتم من نكحتم من محصناتهم مهورهن، وتقييد الحل بإيتاء المهور لتأكيد الوجوب لا لاشتراطه في الحل، والتقييد بالحرائر لإخراج الإماء الكتابيات لأنه لا يجوز نكاحها إلا عند أبي حنيفة.
(1) المراغي.
(2)
الخازن.
وعبارة المراح هنا: وتقييد (1) الإحلال بإعطاء المهور يدل على تأكد وجوبها، وعلى أن الأكمل بيانها لا هو شرط لصحة العقد، إذ لا تتوقف على دفع المهر، ولا على التزامه. ومن تزوج امرأة وعزم على أن لا يعطيها صداقها .. كان في صورة الزاني، وتسمية المهر بالأجر يدل على أن أقل الصداق لا يتقدر، كما أن أقل الأجر لا يتقدر في الإجارات، انتهت، حالة كونكم {مُحْصِنِينَ}؛ أي: مريدين للتزوج والإعفاف لهن ولكم {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} ؛ أي: غير معلنين ومجاهرين بالزنا بهن {وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} ؛ أي: ولا مسرين بالزنا بمن لها حليل، أو متخذي صواحب تسرون بالزنا بهن؛ أي: ولا جاعلي صواحب منهن تزنون بهن سرًّا.
وعبارة الخازن هنا: يعني ولا منفردين ببغيّ واحدة قد خادنها وخادنته، واتخذها لنفسه صديقة يفجر بها وحده، فقد حرم الله الجماع على جهة السفاح وهو الزنا، واتخاذ الصديق وهو الخدن، وأحله على جهة الإحصان، وهو التزوج بعقد صحيح. والمحصنون الأعفاء عن الزنا، والمسافحون الذين يأتون الفاحشة، مجاهرين بها، والمتخذوا الأخدان: الذين يأتونا سرًّا بالاختصاص بخدن من الأخدان، والخدن يطلق على الصاحب والصاحبة؛ أي: هن حل لكم إذا آتيتموهن أجورهن فعلًا، أو التزمتم بها حال كونكم أعفاء عن الزنا جهرًا وسرًّا، إذ المقصد من الزواج أن يكون الرجل محصنًا والمرأة محصنة يعف كل منهما الآخر، يجعله في حصن يمنعه من الفاحشة على أي وجه كانت، فلا يزني جهرة ولا سرًّا باتخاذ صاحبة خاصة به، ولا تكون المرأة كذلك.
{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ} ؛ أي: ومن يجحد وينكر ما أمر الله به من توحيده، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من عند الله تعالى {فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ}؛ أي: فقد بطل ثواب عمله الذي كان عمله في الدنيا، وخاب وخسر في الدنيا والآخرة، قيل في معنى الآية: ومن ينكر بشرائع الإسلام وتكاليفه التي من جملتها ما بين هنا من الأحكام المتعلقة بالحل والحرمة، ويمتنع عن قبولها .. فقد حبط عمله
(1) المراح.