المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ما بين هذين النوعين أو الصنفين من الأشياء، فإنَّهما ملكه، - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٧

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: ما بين هذين النوعين أو الصنفين من الأشياء، فإنَّهما ملكه،

ما بين هذين النوعين أو الصنفين من الأشياء، فإنَّهما ملكه، وأهلهما عبيده، وعيسى وأمه من جملة عبيده. ثم دفع شبهة تحوك في صدورهم من كيفية خلق عيسى فقال:{يَخْلُقُ} ويوجد سبحانه وتعالى {مَا يَشَاءُ} خلقه ويريد على أي هيئة شاء، ومن أيّ أصل شاء، وعلى أي شكل شاء؛ أي: إن تلك الشبهة التي عرضت لكم، وجعلتكم تزعمون أن المسيح بشر وإله هو أنَّه خلق على غير السنة العامة، وأنه عمل أعمالًا عجيبة لا تصدر من عامة البشر، فالله له ملك السموات والأرض، يخلق الخلق على مقتضى مشيئته، فقد يخلق بعض الأحياء من مادة لا توصف بذكورة ولا أنوثة كأصول أنواع الحيوان، ومن ذلك أبو البشر آدم عليه السلام، وقد يخلق بعضها من أنثى فقط كعيسى عليه السلام، وقد يخلق بعضها من ذكر فقط كحواء من آدم، وقد يخلق بعضها من ذكر وأنثى كسائر الناس وعامة الحيوان، ويخلق بلا توسط شيء من المخلوقات كخلق عامة المخلوقات، وقد يخلق بتوسط مخلوق آخر كخلق الطير على يد عيسى عليه السلام معجزة له، وكإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص على يده أيضًا، فيجب أن ينسب الكل إليه تعالى لا إلى من أجرى ذلك على يده. وشكل الخلق وسببه لا يدل على امتياز لبعضها عن بعض، ولا على ألوهية لبعضها، ولا على حلول الإله الخالق فيها، فسنة الله في خلق المسيح ومزاياه، لا تدل على كونه إلهًا وربًّا؛ لأن هذه المزايا في الخلق كلها بمشيئة الخالق، ولا يخرج بها المخلوق عن كونه مخلوقًا {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} شاءه {قَدِيرٌ}؛ أي: قادر فبقدرته يخلق ما يشاء، على أي شكل شاء، ومن أي أصل شاء، ومن غير أصل، ولا يستصعب عليه شيء.

والخلاصة: أن كل من تعلقت به مشيئته تعالى ينفذ بقدرته، وإنَّما يعد بعضه غريبًا بالنسبة إلى علم البشر الناقص، لا بالنسبة إليه تعالى، وكذلك غرابة بعض أفعالهم قد تكون من علم كسبي يجهله غيرهم، أو عن تأييد رباني لا صنع لهم فيه ولا تأثير.

‌18

- {وَقَالَتِ الْيَهُودُ} لعائن الله عليهم: نحن أبناء الله وأحباءه، أثبتت لأنفسها ما أثبتته لعزير، حيث قالوا: عزير ابن الله {و} قالت {النصارى نحن أبناء الله

ص: 181

وأحباؤه} أثبتت لأنفسها ما أثبتته للمسيح حيث قالوا: المسيح ابن الله. وقيل: هو على حذف مضاف؛ أي: نحن أتباع أبناء الله، وهكذا أثبتوا لأنفسهم أنهم أحباء الله بمجرد الدعوى الباطلة، والأمانيّ العاطلة. فأمر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم فقال:{قُلْ} يا محمَّد إلزامًا وتبكيتًا إذا كان الأمر كما زعمتم {فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ} الله سبحانه وتعالى {بِذُنُوبِكُمْ} في الدنيا كما ترون من تخريب الوثنيين لمسجدكم الأكبر، ولبلدكم المرة بعد المرة، ومن إزالة ملككم من الأرض، والأب لا يعذب ابنه، والحبيب لا يعذب حبيبه، فلستم إذًا أبناء الله ولا أحباؤه {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ}؛ أي: من جملة ما خلق الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه لا يحابي أحدًا {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاء}؛ أي: يغفر له ممن يعلم أنَّه مستحق للمغفرة، وهم الذين آمنوا بالله تعالى وبرسله وتابوا من الكفر واليهودية والنصرانية {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} أن يعذبه ممن يعلم أنَّه مستحق للعذاب، وهم الذين كفروا بالله وبرسله، وماتوا على اليهودية والنصرانية، فارجعوا عن غروركم بأنفسكم وسلفكم وكتبكم، فكل هذا لا يجزيكم فتيلًا ولا قطميرًا، وإنَّما الذي ينفعكم هو الإيمان الصحيح، وصالح الأعمال، فالجزاء إنَّما يكون عليها لا على الأسماء والألقاب والأنساب {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} من الموجودات، فله التصرف التام يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه {وَإِلَيْهِ الْمَصِير}؛ أي: الرجوع بالحشر والمعاد؛ أي: تصيرون إليه عند انتقالكم من دار الدنيا إلى دار الآخرة؛ أي: إنَّه تعالى الخالق ذو التصرف المطلق في كل شيء بمقتضى علمه، وحكمته وعدله وفضله، وجميع المخلوقات عبيد له، لا أبناء ولا بنات {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} .

وختمها بقوله: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} إشارة إلى أنَّه سيعذبهم في الآخرة على هذا الكفر والدعاوى الباطلة، وأنَّهم عندما يصيرون إليه يعلمون أنَّهم عبيد آبقون يجازون، لا أبناء وأحباء يحابون. وقد كان اليهود يعتقدون أنَّهم شعب الله الخاص، ميزهم عن سائر البشر، فليس لشعب آخر أن يطلب مساواته بهم، وإنْ كان أصح منهم إيمانًا وأصلح أعمالًا، ولا ينبغي أن يتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم لأنه عربي لا إسرائيلي، والفاضل لا يتبع المفضول، والله لا يعاملهم إلا معاملة الوالد

ص: 182