الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآيات التصريح بذلك، وفي بعضها التصريح بأحدهما، كقوله في عذاب الأمم في الدنيا {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} .
3
- ثم شرع الله سبحانه وتعالى في بيان المحرمات التي أشير إليها في أول السورة بقوله: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} وهي عشرة أنواع:
الأول: ما ذكره بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} ؛ أي: حرم عليكم أيها المؤمنون أكل الميتة .. إلا ميتة السمك والجراد؛ فإنهما مستثنيان بالحديث، والميتة: هي التي زالت حياتها بغير ذكاة شرعية، سواء مات حتف أنفه، أو ذبحه مجوسي أو وثني مثلًا، وكان أهل الجاهلية يقولون: إنكم تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله! واعلم أن تحريم الميتة .. موافقٌ لما في العقول؛ لأن الدم جوهر لطيف جدًّا، فإذا مات الحيوان حتف أنفه .. احتبس الدم في عروقه، وتعفن وفسد، وحصل من أكله مضار عظيمة.
والحكمة في تحريم الميتة:
1 -
استقذار الطباع السليمة لها.
2 -
أنّ في أكلها مهانة تنافي عزة النفس وكرامتها.
3 -
والضرر الذي ينشأ من أكلها، سواء كانت قد ماتت بمرض، أو شدة ضعف، أو بغير ذلك.
4 -
وتعويد المسلم أن لا يأكل إلا مما كان له قصد في إزهاق روحه.
والثاني: ما ذكره بقوله: {وَالدَّمُ} ؛ أي: وحرم عليكم أكل الدم، المراد به: الدم المسفوح؛ أي: السائل المائع الذي يسفح ويراق من الحيوان وإن جمد بعد ذلك، خلاف المتجمد طبيعة؛ كالطحال، والكبد، فإنهما خصِّصَا بالحديث، وكالدم الذي يتخلل اللحم عادة؛ فإنه لا يسمَّى مسفوحًا، وكان أهل الجاهلية يملؤون الأمعاء من الدم بصبه فيها ويشوونه ويطعمونه الضيف.
وحكمه تحريم الدم: الضرر والاستقذار أيضًا، أما الضرر؛ فلأنه عسر
الهضم جد العسر، ويحمل كثيرًا من المواد العفنة التي تنحل من الجسم، وهي فضلات لفظتها الطبيعة كما تلفظ البراز ونحوه، واستعاضت عنها بمواد جديدة من الدم، وقد يكون جراثيم بعض الأمراض المعدية، وهي تكون فيه أكثر مما تكون في اللحم، ومن أجل هذا اتفق الأطباء على وجوب غلي اللبن قبل شربه؛ لقتل ما عسى أن يكون قد علق به من جراثيم الأمراض المعدية.
والثالث: ما ذكره بقوله: {وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} ؛ أي: وحرم عليكم أكل لحم الخنزير، والمراد به: جميع أجزائه وأعضائه، وإنما خص اللحم بالذكر؛ لأنه المقصود بالأكل.
والحكمة في تحريم لحم الخنزير (1): الضرر والاستقذار؛ لملازمته للقاذورات ورغبته فيها، أما ضرره .. فقد أثبته الطب الحديث؛ إذ أثبت أنه له ضررًا يأتي من أكله القاذورات، فإن أكله يولد الديدان الشريطية، كالدودة الوحيدة، ودودة أخرى تسمى الشعرة الحلزونية، وهي تنشأ من أكله الفيران الميتة، كما أثبت أن لحمه أعسر اللحوم هضمًا؛ لكثرة الشحم في أليافه العضلية، وأن المواد الدهنية التي فيه تمنع وصول عصير المعدة إلى الطعام، فيعسر هضم المواد الزلالية، وتتعب معدة آكله، ويشعر بثقل في بطنه واضطراب في قلبه، فإن ذرعه القيء، فقذف هذه المواد الخبيثة .. خف ضرره، وإلا تهيجت المعدة وأصيب بالإسهال، ولولا أن العادة قد جرت بتناول السموم أكلًا وشربًا وتدخينًا، ولولا ما يعالجون به لحم الخنزير لتخفيف ضرره .. لما أمكن الناس أن يأكلوه، ولا سيما أهل البلاد الحارة. قال أهل العلم: الغذاء يصير جزءًا من جوهر المغتذي، فلا بدَّ أن يحصل للمغتذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلًا في الغذاء، والخنزير مطبوع على حرص عظيم، ورغبة شديدة في المشتهيات، فحرم أكله على الإنسان؛ لئلا يتكيف بتلك الكيفية، ولذلك إن الفرنج لما واظبوا على أكل لحم الخنزير .. أورثهم الحرص العظيم والرغبة الشديدة في المشتهيات
(1) المراغي.
وأورثهم عدم المغيرة، فإنَّ الخنزير يرى الذكر من الخنازير ينزو على الأنثى التي هي له ولا يتعرض له؛ لعدم المغيرة. وأما الشاة .. فإنها حيوان في غاية السلامة، فكأنها ذات عارية عن جميع الأخلاق، فلذلك لا يحصل للإنسان - بسبب أكل لحمها - كيفية أجنبية عن أحوال الإنسان.
والرابع: ما ذكره بقوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} ؛ أي: وحرم (1) عليكم ما ذكر على ذبحه غير اسم الله تعالى، وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا يذكرون أسماء أصنامهم عند الذبح، فحرم الله ذلك بهذه الآية، بقوله:{وَلَا تَأكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ، والمعنى:{وَمَا أُهِلَّ} ؛ أي: رفع الصوت {لِغَيْرِ اللَّهِ} ؛ أي: بغير اسم الله {بِهِ} ؛ أي: عند ذبحه، فاللّام بمعنى الباء، والباء بمعنى عند، والإهلال: رفع الصوت، يقال: أهل فلان بالحج .. إذا رفع صوته بالتلبية له: "لبيك اللهم لبيك"، واستهل الصبي إذا صرخ عند الولادة، والمراد به: ما ذبح على ذكر غير الله تعالى من المخلوقات التي يعظمها الناس تعظيمًا دينيًّا، ويتقربون إليها بالذبائح، وكانوا يذبحون لأصنامهم فيرفعون أصواتهم بقولهم: باسم اللات، أو باسم العزى، وحكمة التحريم في هذا: أنه من عبادة غير الله، فالأكل منه مشاركة لأهله ومشايعة لهم عليه، وهو مما يجب إنكاره لا إقراره.
ويدخل في ذلك: ما ذكر عند ذبحه اسم نبي، أو ولي كما يفعل بعض أهل الكتاب وجهلة المسلمين الذين اتبعوا من قبلهم، وساروا على نهجهم باعًا فباعًا، وذراعًا فذراعًا.
والخامس: ما ذكره بقوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} ؛ أي: التي (2) ماتت بانعصار الحلق وانحباس النفس فيها، فالمنخنقة على وجوه: منها: أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة، فإذا ماتت أكلوها، ومنها: ما يخنق بحبل الصائد، ومنها: ما يدخل رأسها بين عودين من شجرة فتختنق، فتموت.
(1) الخازن.
(2)
المراح.
وقد روى ابن جرير في تفسيرها أقوالًا (1): فعن السدي: أنها التي تدخل رأسها بين شعبتين من شجرة، فتختنق فتموت، وعن ابن عباس والضحاك في التي تختنق فتموت، وفي رواية عن الضحاك: هي الشاة توثق فيقتلها خناقها، ثم قال: وأول هذه الأقوال بالصواب قول من قال: هي التي تختنق، إما في وثاقها، أو بإدخال رأسها في الموضع الذي لا تقدر على التخلص منه، فتختنق حتى تموت.
وهي بهذا المعنى من قبيل ما مات حتف أنفه، من حيث إنه لم يمت بتذكية الإنسان له لأجل أكله، فهي داخلة في الميتة، وإنما خصها بالذكر؛ لأن بعض العرب في الجاهلية يأكلونها، ولئلا يشتبه الأمر فيها على بعض الناس، بأن لموتها سببًا معروفًا، والعبرة في الشرع بالتذكية التي تكون بقصد الإنسان، لأجل الأكل حتى يكون واثقًا من صحة البهيمة التي يريد التغذي بها.
والسادس منها: ما ذكره بقوله: {وَالْمَوْقُوذَةُ} ؛ أي: وحرم عليكم أكل الموقوذة - من الوقذ - وهي شدة الضرب، ويقال: شاة وقيذ وموقوذة، والموقوذة هنا: هي المضروبة بخشبة، أو عصا، أو حجر، أو بكل ما لا حد له، حتى تموت بلا ذكاة، وكانوا يأكلونها في الجاهلية.
والوقذ يحرم في الإسلام (2)؛ لأنه تعذيب للحيوان، قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله كتب الإحسان في كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" رواه مسلم وأصحاب السنن.
ولما كان الوقذ محرمًا حرم ما قتل به، وهي تدخل في عموم الميتة أيضًا على الوجه الذي ذكرنا؛ فإنها لم تذك تذكية شرعية، ويدخل في الموقوذة: ما رمي بالبندق - وهو نحو كرة من الطين تجفف ويرمى بها بعد يبسها - لما رُوي (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف - الرمي بالحصى - والخذف لكل يابس غير محدد، سواء رمى باليد، أو بالمخذفة، أو بالمقلاع. وقال:"إنه يفقأ العين ولا ينكأ العدو، ولا يحرز صيدًا" ففي هذا الحديث نص على العلة، وهو أنه تعذيب
(1) الطبري.
(2)
المراغي.
للحيوان، وليس سببًا مطردًا ولا غالبًا للقتل.
أما بندق الرصاص المستعمل الآن وما في حكمه، كالمسدس .. فإنه يصيد وينكأ، ولذا أفتى العلماء بجواز الصيد به. قال ابن (1) عبد البر: واختلف العلماء قديمًا وحديثًا في الصيد بالبندق والحجر والمعراض - ويعني بالبندق: قوس البندقة، وبالمعراض: السهم الذي لا ريش له، أو العصا الذي رأسها محدد - قال: فمن ذهب إلى أنه وقيذ .. لم يجزه إلا ما أدرك ذكاته، على ما رُوي عن ابن عمر، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأصحابه، والثوري، والشافعي، وخالفهم الشاميون في ذلك، قال الأوزاعي: في المعراض كله خرق أو لم يخرق، فقد كان أبو الدرداء، وفضالة بن عبيد، وعبد الله بن عمر، ومكحول .. لا يرون به بأسًا، قال ابن عبد البر: هكذا ذكر الأوزاعي عن عبد الله بن عمر، والمعروف عن ابن عمر ما ذكر مالك في نافع قال: والأصل في هذا الباب - والذي عليه العمل، وفي الحجة - حديث عدي بن حاتم، وفيه "ما أصاب بعرضة فلا تأكل، فإنه وقيذ" انتهى.
قلت: والحديث في "الصحيحين" وغيرها عن عدي قال: قلت: يا رسول الله إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب؟ فقال: "إذا رميت بالمعراض فخرق فكله، وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله". فقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الخرق وعدمه، فالحق أنه لا يحل إلا ما خرق، ولا ما صدم، فلا بدَّ من التذكية قبل الموت، وإلا كان وقيذًا. وأما البنادق المعروفة الآن - وهي بنادق الحديد التي تحمل فيها البارود والرصاص ويُرمى بها - فلم يتكلم عليها أهل العلم؛ لتأخر حدوثها؛ فإنها لم تصل إلى الديار اليمنية إلا في المئة العاشرة من الهجرة، وقد سألني جماعة من أهل العلم عن الصيد بها إذا مات ولم يتمكن الصائد من تذكيته حيًّا؟ والذي يظهر لي .. أنه حلال؛ لأنها تخرق وتدخل في الغالب من جانب منه، وتخرج من الجانب الآخر، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: "إذا رميت
(1) الشوكاني.
بالمعراض فخرق فكله" فاعتبر الخرق في تحليل الصيد، ذكره الشوكاني.
وهذه الأنواع الستة السابقة (1) من أقسام الميتة، وذكرها بعدها .. من قبيل ذكر الخاص بعد العام، وإنما ذكرت بخصوصها للردّ على أهل الجاهلية؛ حيث كانوا يأكلونها ويستحلونها.
والسابع منها: ما ذكره بقوله: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} ؛ أي: الساقطة من علو إلى أسفل فماتت، من غير فرق بين أن تتردى من جبل، أو بئر، أو مدفن، أو غيرها، وسواء تردت بنفسها، أو رداها غيرها، والتردي: مأخوذ من الردى، وهو الهلاك، وهي في حكم الميتة؛ لأنه لم يكن للإنسان عمل في إماتتها، ولا قصد به إلى أكلها، ويدخل (2) فيها: ما إذا أصابه سهم وهو في الجبل فسقط على الأرض، فإنه يحرم أكله؛ لأنه لم يعلم هل مات بالتردي أو بالسهم؟ ولو رمى صيدًا في الهواء بسهم فأصابه، فإن سقط على الأرض ومات .. حلَّ؛ لأن الوقوع على الأرض من ضرورته، وإن سقط على شجر أو جبل ثم تردى منه فمات .. لم يحل؛ لأنه من المتردية إلا أن يكون السهم ذبحه في الهواء، فيحل كيفما وقع؛ لأن الذبح قد حصل قبل التردية.
والثامن منها: ما ذكره بقوله: {وَالنَّطِيحَةُ} ؛ أي: وحرم عليكم أكل النطيحة، وهي: البهيمة التي تنطحها بهيمة أخرى فتموت من النطاح، من غير أن يكون للإنسان عمل في إماتتها. وقرأ أبو عبد الله وأبو ميسرة:{والمنطوحة} .
والتاسع منها: ما ذكره بقوله: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} ؛ أي: وحرم عليكم أكل ما أكله السبع؛ أي: ما افترسه السبع ليأكله، ولو كان من جوارح السباع فمات بسبب افتراسه، سواء أكل منه أم لم يأكل، وأكله السبع؛ أي: ما افترسه السبع ليأكله، ولو كان من جوارح السباع فمات بسبب افتراسه، سواء أكل منه أم لم يأكل، وأكله منه ليس بشرط في التحريم؛ إذ يكفي فرسه إياه وقتله في تحريمه،
(1) الجمل.
(2)
المراح.
وكان العرب في الجاهلية يأكلون بعض فرائس السباع، ولكنّه مما تأنفه أكثر الطباع، وأكثر الناس يعد أكله ذلة ومهانة، وإن كانوا لا يخشون منه ضررًا. والسبع: اسم يقع على كل حيوان له ناب ويعدو على الناس والدواب فيفترس بنابه؛ كالأسد، والذئب، والنمر، والفهد، ونحوها.
وقرأ الحسن، وأبو حيوة، والفياض، وطلحة بن سليمان (1):{السبع} بسكون الباء، ورويت عن أبي بكر عن عاصم في غير المشهور، ورويت عن أبي عمرو، وقرأ عبد الله:(وأكيلة السبع) وقرأ ابن عباس أيضًا: {وأكيل السبع} وهما بمعنى مأكول السبع، وقال ابن حيان: وذكر هذه المحرمات .. هو تفصيل لما أجمل في عموم قوله: (4){إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} وبهذا صار المستثنى والمستثنى منه معلومين.
{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} ؛ أي: إلا ما أدركتموه من هذه الخمسة الأخيرة - التي أولها المنخنقة - وفيه بقية حياة ويضطرب اضطراب المذبوح، فذكيتموه وأمتموه إماتة شرعية لأجل أكله، وهو استثناء من جميع ما تقدم ذكره من المحرمات سوى ما لا يقبل التذكية، من الميتة، والدم ولحم الخنزير، وما أكل السبع، وذلك هو: ما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة.
وخلاصة المعنى: ولكن لا يحرم عليكم ما ذكيتموه بفعلكم مما يقبل التذكية، ويكفي في صحة إدراك ذكاة ما ذكر أن يكون فيه رمق من الحياة، بأن يطرف بعينه، أو يضرب بذنبه، وقد قال علي رضي الله عنه: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة وهي تحرك يدًا أو رجلًا .. فكلها. وإن لم يكن فيه حياة مستقرة .. فلا يحل بتذكيته؛ لأن موته حينئذ يحال على السبب المتقدم على التذكية من الخنق، وأكل السبع وغيرهما.
والعاشر منها: ما ذكره بقوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} ؛ أي: وحرم عليكم أكل ما ذبح لأجل تعظيم النصب، فـ {على} بمعنى اللام التعليلية، كما قاله
(1) البحر المحيط.
قطرب، والنُّصب: واحد الأنصاب، وهي حجارة كانت حول الكعبة، عددها ثلاث مئة وستون حجرًا، وكان أهل الجاهلية يذبحون عليها، ويعدون ذلك قربة، ومن هذا تعلم أن ما ذبح على النصب
…
هو من جنس ما أهل لغير الله، فهو داخل فيه من حيث إنه يذبح بقصد العبادة لغير الله تعالى، وخص بالذكر مع دخوله فيه؛ لإزالة وهم من يتوهم أنه قد يحل لقصد تعظيم البيت الحرام إذا لم يذكر اسم غير الله عليه، وهو من خرافات الجاهلية التي جاء الإسلام بمحوها. وقيل: ليس هذا داخلًا فيما سبق؛ إذ ذاك فيما ذكر عند ذبحه اسم الصنم، وهذا فيما قصد بذبحه تعظيم الصنم من غير ذكر لاسم الصنم. قال ابن جريج (1): كانت العرب تذبح بمكة وتنضح الدم ما أقبل من البيت، ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة، فلما جاء الإسلام قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال، فأنزل الله {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} .
وخلاصة ما تقدم (2)؛ أن الله تعالى أحل أكل بهيمة الأنعام ولسائر الطيبات من الحيوان، ما دب منها على الأرض، وما طار في الهواء، وما سبح في البحر، لم يحرم إلا الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله تعالى.
وقد كان بعض العرب يذبح الحيوان على اسم غير الله، وهو شرك وفسق، وبعضهم يأكل الميتة ويقول: لم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ ولكنَّ الفارق بينهما: ما في هذا من مظنة الضرر، وفيه مهانة للنفس، ومن ثم جعل الله حل أكل المسلم لذلك منوطًا بإتمام موته، والإجاز عليه بفعله هو؛ ليذكر اسم الله عليه، فلا يكون من عمل الشرك، ولئلا يقع في مهانة أكل الميتة وخسة آكلها بأكله المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وفريسة السبع، إلى ما في الموقوذة من إقرار الواقذ على القسوة
(1) الشوكاني.
(2)
المراغي.
وظلم الحيوان، وذلك محرم شرعًا.
وقرأ الجمهور (1): {النُّصُبِ} - بضمتين - وقرأ طلحة بن مصرف: بضم النون وإسكان الصاد، وقرأ عيسى بن عمر: بفتحتين، ورُوي عنه كالجمهور، وقرأ الحسن: بفتح النون وإسكان الصاد.
ثم أضاف إلى محرمات الطعام التي كان أهل الجاهلية يستحلونها عملًا آخر من أعمالهم وخرافاتهم، فقال:{وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ} ؛ أي: وحرم عليكم طلب معرفة ما قسم لكم من الخير والشر بواسطة ضرب القداح، وذلك أنهم إذا قصدوا سفرًا أو غزوًا أو تجارةً أو نكاحًا أو أمرًا آخر من معاظم الأمور .. ضربوا ثلاثة أقداح، مكتوب على أحدها: أمرني ربي، وعلى الثاني: نهاني ربي، والثالث: خال عن الكتابة، فإن خرج الأمر .. أقدم على الفعل، وإن خرج النهي .. أمسك، وإن خرج الغفل .. أعاد العمل مرة أخرى.
والاستقسام (2): هو طلب معرفة ما قسم له دون ما لم يقسم له بواسطة الأزلام، والأزلام: جمع زلم، وهو قطعة من الخشب على هيئة السهم، لكن لا يركب فيه النصل الذي يجرح ما يرمى به من صيد وغيره، وكانت الأزلام ثلاثة، مكتوب على أحدها الأمر، وعلى الآخر النهي، والثالث غفل ليس عليه شيء، فإذا أراد أحدهم أمرًا من معاظم الأمور .. أجال - حرك - هذه الأزلام، فإن خرج الأمر .. مضى لما أراد، وإن خرج النهي .. أمسك عن ذلك ولم يمض فيه، وإن خرج الغفل .. أعاد الاستقسام كما مر آنفًا؛ أي: وحرم عليكم أن تطلبوا علم ما قسم لكم بالأزلام، كما كانت تفعل العرب في الجاهلية، وحكمة هذا التحريم: أنه من الخرافات والأوهام التي لا يركن إليها إلا من كان ضعيف العقل، يفعل ما يفعل من غير بينة ولا بصيرة، ويترك ما يترك كذلك، ويجعل نفسه ألعوبة للكهنة والسدنة، ويتفاءل ويتشاءم بما لا فأل فيه ولا شؤم، ومن ثمَّ
(1) البحر المحيط.
(2)
المراغي.
أبطل ذلك دين العقل والبصيرة، كما أبطل التطير والكهانة والعيافة (1) والعرافة وسائر خرافات الجاهلية، إلى أنَّ فيها افتراء على الله إن أرادوا بقولهم: أمرني ربي اللهَ عز وجل، وجهلًا وشركًا إن أرادوا به الصنم، إلى أن فيه طلبًا لعلم الغيب الذي استأثر الله تعالى به. وقد استن بعض جهال المسلمين بسنة مشركي الجاهلية، أو بما يشبهها، فتراهم يستقسمون بالسبح وغيرها، ويسمون ذلك استخارة، أو فألًا، فيقتطعون طائفة من حب السبحة ويحركونها حبة بعد أخرى يقولون: افعل على واحدة، لا تفعل على الثانية، ويكون الحكم الفصل للحبة الأخيرة، وما هذا بالاستخارة التي ورد الإذن بها، بل قد ورد ما يؤيد تحريمها.
ومنهم من يستقسم، أو يأخذ الفأل من القرآن الكريم، فيصبغون عملهم بصيغة الدين، ويلبسون الباطل ثوب الحق، ولم يرد في هذا نص يجوز العمل به، ولكن الإلف والعادة جعلا هذه البدع مستحسنة، وتأولوا لها اسم الفأل الحسن، ورووا في ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل الحسن)، وليس هذا من الفأل الحسن، بل الفأل ضد الطيرة التي أبطلتها الأحاديث.
والعجيب من أمر بعض المسلمين أنهم تركوا الاهتداء بالقرآن، وحرموه على أنفسهم، واكتفوا من الإيمان به، والتعظيم له بالاستقسام به، كما كانت الجاهلية تستقسم بالأزلام، أو الاستشفاء بمداد تكتب به آياته في كاغد، أو جام (فنجان)، وكل هذا من الضلالات والخرافات التي لم يرد شيء منها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن السلف الصالح. وأعجب من ذلك جعل بعض الدّجالين الاستقسام من قبيل الاستخارة، وجعل بعضهم له من قبيل القرعة المشروعة، وكل ذلك ضلال، إذ لا بينة فيه ولا سلطان.
الاستخارة التي وردت بها السنة: هي التوجه إلى الله تعالى، والالتجاء إليه بالصلاة والدعاء بأن يزيل عن المستخير الحيرة ويرشده إلى ما فيه الفائدة فيما
(1) العيافة: التفاؤل أو التشاؤم بطيران الطير اهـ. م ج.
تتعارض فيه الدلائل والبينات، فلا يستبين له إن كان الخير في الإقدام أو في الترك، فإذا شرح الله صدره لشيء أمضاه. وقد روى الشيخان وأصحاب السنن وأحمد من حديث جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا سورة من القرآن، يقول: "إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك
…
" الحديث.
والقرعة تشبه هذا، بل أمرها أظهر، فإنها إنما تكون للترجيح بين المتساويين قطعًا؛ كالقسمة بين اثنين؛ إذ لا وجه لإلزام من تقسم بينهما، بأن يأخذ زيد منهما هذه الحصة وعَمرو الأخرى، فتكون القرعة طريقة حسنة عادلة. {ذَلِكُمْ فِسْقٌ}: الإشارة راجعة إلى الاستقسام بالأزلام، أو إلى جميع المحرمات المذكورة هنا، وهذا أصح. والفسق: الخروج عن الحد، وفي هذا وعيد شديد؛ لأن الفسق هو أشد الكفر، لا ما وقع عليه اصطلاح قوم من أنه منزلة متوسطة بين الإيمان والكفر؛ أي: ذلكم الاستقسام بالأزلام، أو جميع المحرمات السابقة فسق، وخروج عن الطاعة والإيمان، ورغبة في الشرك والمعاصي؛ لأنه طلب لمعرفة الغيب، وذلك حرام.
وروى (1) البغوي بسند الثعلبي عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره
…
لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة"، وذلك ضلال باعتقاد أنه طريق إلى الدخول في علم الغيب، وافتراء على الله تعالى إن كان مرادهم بربي هو الله سبحانه وتعالى. وقال قوم آخرون: إنهم كانوا يحملون تلك الأزلام عند الأصنام، ويعتقدون أن ما يخرج من الأمر والنهي على تلك الأزلام فبإرشاد الأصنام وإعانتهم، فلهذا السبب كان ذلك فسقًا؛ أي: شركًا وجهالةً، وهذا القول أقرب وأولى، كما قاله الفخر الرازي.
{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} ؛ أي: في هذا اليوم الحاضر، وهو يوم
(1) المراح.
عرفة من حجة الوداع من السنة العاشرة للهجرة، وكان يوم جمعة، وهو اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية المبينة لما ذكر من الأحكام التي أبطل بها الإسلام بقايا مهانة الجاهلية وخبائثها وأوهامها، والمبشرة بظهور المسلمين على المشركين ظهورًا تامًّا لا مطمع لهم في زواله، ولا حاجة معه إلى شيء من مداراتهم، أو الخوف من عاقبة أمرهم؛ أي: هذا اليوم انقطع رجاء كفار مكة من إبطال أمر دينكم، ورجوعكم إلى دينهم عبادة الأوثان {فَلَا تَخْشَوْهُمْ}؛ أي: فلا تخافوا المشركين في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ومخالفتكم إياهم في الشرائع والأديان؛ فإني أنعمت عليكم بالدولة القاهرة، والقوة الظاهرة، وصاروا مقهورين لكم، ذليلين عندكم. {وَاخْشَوْنِ} في عبادة الأوثان، وتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي: أخلصوا الخشيه لي وحدي في ترك اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ودينه. وإجمال المعنى: اليوم انقطع رجاؤهم من إبطال دينكم ورجوعكم عنه، لما شاهدوا من فضل الله عليكم؛ إذ وفى بوعده، وأظهره على الدين كله، فإذًا لا ينبغي لكم خشية غيري.
وقرأ أبو جعفر (1): {ييس} من غير همز، ورويت عن أبي عمرو {واخشون} (2) بسقوط الياء وصلًا ووقفًا، بخلاف {واخشوني} السابقة في البقرة، فإنها بثبوت الياء وصلًا ووقفًا اتفاقًا، وبخلاف الآتية في هذه السورة، فإنه يجوز في يائها الثبوت والحذف على الخلاف اهـ شيخنا.
{الْيَوْمَ} ؛ أي: في هذا اليوم الحاضر، وهو يوم عرفة {أَكْمَلْتُ لَكُمْ} أيها المؤمنون {دِينَكُمْ} الذي هو دين الإسلام بالنصر والإظهار على الأديان كلها، والحكم ببقائه إلى يوم القيامة، أو أكملت لكم دينكم بالفرائض والسنن والحدود، والأحكام، والحلال والحرام، ولم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام، ولا شيء من الأحكام، فلا ينافي نزول آية موعظة بعدها، كقوله تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيْهِ إِلَى اللهِ} الآية. {وَرَضِيْتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيْنًا} ؛ أي: اخترته لكم من بين الأديان، وآذنتكم بأنه هو الدين المرضي عند الله تعالى لا غير {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ
(1) البحر المحيط.
(2)
الفتوحات.
الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}. وفي الآية (1) بشارات ثلاث، فسرها السلف بما سنذكره بعد، رُوي عن ابن عباس أنه قال: لما كان النبي صلى الله عليه وسلم واقفًا بعرفات .. نزل عليه جبريل وهو رافع يده والمسلمون يدعون الله {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ؛ أي: حلالكم وحرامكم، فلا ينزل بعده حلال ولا حرام، {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}؛ أي: منتي فلم يحج معكم مشرك {وَرَضِيْتُ} ؛ أي: اخترت {لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} وقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية واحدًا وثمانين يومًا، ثم قبضه الله إليه. وقال صاحب "الكشاف" (2):{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} كفيتكم أمر عدوكم، وجعلت اليد العليا لكم، كما تقول الملوك: اليوم كمل لنا الملك، وكمل لنا ما نريد، إذا كفوا من ينازعهم، ووصلوا إلى أغراضهم ومنافعهم {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين، وهدم منار الجاهلية وإبطال مناسكها، وبأن لم يحج معكم مشرك، ولم يطف بالبيت عريان {وَرَضِيْتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} يعني: اخترته لكم من بين الأديان، وآذنتكم أنه هو الدين المرضي عندي.
وعن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم تقرؤنها، لو علينا نزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا! قال فأي آية؟ قال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات، في يوم الجمعة، أشار عمر إلى ذلك اليوم يوم عيد لنا. متفق عليه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان في ذلك اليوم خمسة أعياد: يوم جمعة، ويوم عرفة، وعيد لليهود، وعيد للنصارى، وعيد للمجوس، لم تجتمع أعياد لأهل الملل في يوم واحد قبله ولا بعده.
{فَمَنِ اضْطُرَّ} ؛ أي: ألجىء واحتاج حاجة شديدة إلى تناول وأكل شيء
(1) المراغي.
(2)
الكشاف.
من هذه المحرمات السابقة من الميتة وما بعدها {فِي مَخْمَصَةٍ} ؛ أي: بسبب مجاعة يُخاف معها الموت لو ترك الأكل منها فأكل منها وهو لا يجد غيرها حالة كونه {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ} ؛ أي: غير متعمد {لِإِثْمٍ} بأن يأكلها فوق الشبع، كما قاله أهل العراق، أو بأن يكون عاصيًا بسفره، كما قاله أهل الحجاز {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لمن أكل شيئًا من تلك المحرمات عندما اضطر إليه {رَحِيمٌ} بعباده، حيث أحل لهم ذلك المحرم عند احتياجهم إلى أكله.
وفي "الفتوحات": هذه الآية من تمام ما تقدَّم ذكره في المطاعم التي حرمها الله تعالى، ومتصلة بها، والمعنى: أن المحرمات وإنْ كانت محرمة إلا أنَّها قد تحل في حالة الاضطرار إليها، ومن قوله تعالى:{ذَلِكُمْ فِسْقٌ} إلى هنا .. اعتراض وقع بين الكلامين، والغرض تأكيد ما تقدم ذكره في معنى التحريم؛ لأن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل، والنعمة الكاملة، والإسلام الذي هو المرضي عند الله تعالى، ومعنى الآية: فمن اضطر إلى أكل شيء مما ذكر، فأكل في مجاعة لا يجد فيها غيره، وهو غير مائل إليه لذاته، ولا جائر فيه، متجاوز قدر الضرورة .. فإنَّ الله غفور لمثله، لا يؤاخذه عليه، وهو رحيم به يرحمه ويحسن إليه.
وقرأ ابن محيصن: (فمن اطر) بإدغام الضاد في الطاء. وقرأ الجمهور {مُتَجَانِفٍ} بألف من تجانف - من باب: تفاعل -. وقرأ أبو عبد الرحمن، والنخعي، وابن وثاب شذوذًا:(متجنف) بدون ألف من تجنف - من باب: تفعل -.
الإعراب
{يَا أَيُّهَا} : (يا): حرف نداء. (أي): منادى نكرة مقصودة. (ها): حرف تنبيه زائد. {الَّذِينَ} : صفة لـ {أي} ، وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجمة صلة الموصول. {أَوْفُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء،
لا محل لها من الإعراب. {بِالْعُقُودِ} : جار ومجرور متعلق بأوفوا. {أُحِلَّتْ} : فعل ماض مغيّر الصيغة. {لَكُمْ} : جار ومجرور متعلق به {بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} : نائب فاعل ومضاف إليه، وهو من إضافة الجنس إلى أخص منه، أو هي بمعنى من؛ لأن البهيمة أعم، فأضيف إلى أخص، كثوب خز، والجملة الفعلية مستأنفة. {إِلَّا}: أداة استثناء متصل. {مَا} موصولة، أو موصوفة في محل النصب على الاستثناء من بهيمة الأنعام، والتقدير (1): أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا الميتة، وما أهل لغير الله، وغيرهما مما ذكر في الآية الثالثة من السورة. {يُتْلَى} فعل مغير الصيغة {عَلَيْكُمْ} متعلقان به {غَيْرَ}: حال من الضمير المجرور في عليكم، أو لكم، وقيل: هو حال من ضمير الفاعل في {أَوْفُوا} ، {غَيْرَ}: مضاف. {مُحِلِّي} : مضاف إليه، وهو مضاف. {الصَّيْدِ}: مضاف إليه، وحذفت النون للإضافة، وهو من إضافة الوصف إلى مفعوله. {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة حال من الضمير المستكن في {مُحِلِّي الصَّيْدِ} ؛ لأنه جمع محل اسم فاعل، وهو يتحمل الضمير. {إنَّ}: حرف نصب. {اللَّهَ} : اسمها. {يَحْكُمُ} : فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الرفع خبر {إنَّ} ، وجملة {إنَّ} مستأنفة. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به. {يُرِيدُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة لـ {ما} ، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: يريده.
{يَا أَيُّهَا} : (يا): حرف نداء. (أي): منادى نكرة مقصودة. (ها): حرف تنبيه زائد. {الَّذِينَ} : اسم موصول في محل الرفع صفة لأي، وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {لَا}: ناهية. {تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} : فعل وفاعل ومفعول به ومضاف إليه، مجزوم بلا الناهية، والجملة
(1) العكبري.
جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {وَلَا الشَّهْر} : معطوف على شعائر. {الْحَرَامَ} : صفة للشهر، وكذلك قوله:{وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ} معطوفات على شعائر {الْبَيْتَ} : مفعول به لآمين، لأنه اسم فاعل يعمل عمل الفعل، وفاعله ضمير مستتر فيه، تقديره: ولا قومًا آمين هم البيت {الْحَرَامَ} صفة للبيت {يَبْتَغُونَ فَضْلًا} : فعل وفاعل ومفعول {مِنْ رَبِّهِمْ} : جار ومجرور صفة لفضلًا، والجملة الفعلية في محل النصب حال من الضمير في آمين؛ أي: حال كون الآمين مبتغين فضلًا من ربهم، ولا يجوز (1) أن تكون هذه الجملة صفة لآمين؛ لأن اسم الفاعل متى وصف قل عمله على الصحيح. {وَرِضْوَانًا}: معطوف على فضلًا.
وَإِذَا: (الواو): استئنافية. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان. {حَلَلْتُمْ} : فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، {فَاصْطَادُوا}:(الفاء): رابطة لجواب إذا. اصطادوا: فعل وفاعل، والجملة جواب إذا لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا مستأنفة. {وَلَا}:(الواو): استئنافية. (لا): ناهية. {يَجْرِمَنَّكُمْ} : فعل ومفعول أول، أو مفعول به. {شَنَآنُ قَوْمٍ}: فاعل ومضاف إليه، وهو من إضافة المصدر إلى مفعوله، والجملة الفعلية مستأنفة. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {صَدُّوكُمْ} : فعل وفاعل ومفعول في محل النصب بأن المصدرية، وجملة أن المصدرية مع صلتها .. في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل المقدرة المتعلقة بـ {شَنَآنُ} ، تقديره: شنآن قوم لأجل صدهم إياكم. {عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} : جار ومجرور وصفة متعلق بصدوكم. {أَنْ تَعْتَدُوا} : فعل وفاعل منصوب بأن المصدرية، وجملة أن المصدرية في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا ليجرمنكم، والتقدير: ولا يجرمنكم
(1) الفتوحات.
{شَنَآنُ} قوم اعتداءكم عليهم: إن قلنا: إنَّ جرم يتعدى إلى مفعولين، أو مجرور بعلى: إن قلنا إنَّ جرم يتعدى إلى مفعول واحد، تقديره: ولا يحملنكم شنآن قوم على اعتدائكم عليهم.
{وَتَعَاوَنُوا} : فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله:{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ} ، أو مستأنفة. {عَلَى الْبِرِّ}: متعلق بـ {تعاونوا} . {وَالتَّقْوَى} : معطوف على {الْبِرِّ} . {وَلَا تَعَاوَنُوا} : جازم وفعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {وَتَعَاوَنُوا}. {عَلَى الْإِثْمِ}: متعلق بلا تعاونوا. {وَالْعُدْوَانِ} : معطوف على الإثم. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} : فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة {إنَّ}: حرف نصب {اللَّهَ} : اسمها {شَدِيدُ الْعِقَابِ} : خبر {إِنَّ} ومضاف إليه، وجملة {إنِّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} : فعل مغيّر الصيغة ونائب فاعل وجار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لتفصيل ما أجمل في قوله:{إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} {وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} : معطوفان على الميتة {وَمَا} (الواو): عاطفة. (ما): موصولة، أو موصوفة في محل الرفع معطوف على الميتة {أُهِلَّ}: فعل ماض مغيّر الصيغة. {لِغَيْرِ اللَّهِ} : جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بأهل. {بِهِ} : جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لأهل، والباء فيه بمعنى في، ولكنّه على حذف مضاف، أي: وما رفع الصوت لغير الله في ذبحه، والجملة الفعلية صلة لما، أو صفة لها، وكذا قوله:{وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} : معطوفات على الميتة {وَمَا} : (ما): في محل الرفع معطوف على الميتة. {أَكَلَ السَّبُعُ} : فعل وفاعل، والجملة صلة لما، أو صفة لا، والعائد أو الرابط محذوف،
تقديره: وما أكله السبع. {إِلَّا} : أداة استثناء. {مَا} : موصولة، أو موصوفة في محل النصب على الاستثناء من الخمسة الأخيرة. {ذَكَّيْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: إلا ما ذكيتموه {وَمَا} : (ما): موصولة، أو موصوفة معطوفة على الميتة. {ذُبِحَ}: فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ما، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المستتر في ذبح، {عَلَى النُّصُبِ}: متعلق بـ {ذبح} ، وعلى فيه بمعنى اللام. {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ}: ناصب وفعل وفاعل وجار ومجرور متعلق به، والجملة في تأويل مصدر معطوف على الميتة، والتقدير: وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام. {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} : مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة.
{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} .
{الْيَوْمَ} : منصوب على الظرفية، متعلق بيئس المذكور بعده {يَئِسَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {مِنْ دِينِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بيئس. {فَلَا}: الفاء: حرف عطف وتفريع. لا: ناهية. {تَخْشَوْهُمْ} : فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة مفرعة على جملة يئس. {وَاخْشَوْنِ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {فَلَا تَخْشَوْهُمْ} ، و (النون): نون الوقاية، و {ياء} المتكلم المحذوفة: اجتزء عنها بكسر نون الوقاية في محل النصب مفعول به؛ لأن أصله: واخشوني.
{الْيَوْمَ} منصوب على الظرفية، متعلق بما بعده. {أَكْمَلْتُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق بأكملت. {دِينَكُمْ} : مفعول به ومضاف إليه. {وَأَتْمَمْتُ} : فعل وفاعل معطوف على أكملت. {عَلَيْكُمْ} : جار ومجرور متعلق بأتممت. {نِعْمَتِي} : مفعول به ومضاف إليه. {وَرَضِيتُ} : فعل وفاعل معطوف على {أَكْمَلْتُ} . {لَكُمْ} : جار ومجرور متعلق برضيت. {الْإِسْلَامَ} : مفعول به. {دِينًا} : تمييز محوّل عن المفعول منصوب.
{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
{فَمَنِ} : (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حرمة هذه المذكورات في حالة الاختيار، وأردت بيان حكم من اضطر إلى أكلها .. فأقول لك. (من): اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب، أو الشرط، أو هما. {اضْطُرَّ}: فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على مَنْ. {فِي مَخْمَصَةٍ}: جار ومجرور متعلق باضطر. {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ} : منصوب على الحالية. {لِإِثْمٍ} : متعلق بمتجانف. {فَإِنَّ} : {الفاء} : رابطة لجواب من الشرطية. {إن} : حرف نصب. {اللَّهَ} : اسمها. {غَفُورٌ} : خبر أول لها. {رَحِيمٌ} : خبر ثان، والجملة الإسمية في محل الجزم بمن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة من الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا.
التصريف ومفردات اللغة
{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} : يقال في ثلاثيه: وفى يفي وفاء، وفي رباعية: أوفى يوفي إيفاء، والوفاء والإيفاء: كل منهما الإتيان بالشيء وافيًا لا نقص فيه، قال تعالى:{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ} ، والمراد بالوفاء: القيام بموجب العقد، والعقود: جمع عقد، وهو في الأصل: ضد الحل، ثم أطلق على الجمع بين أطراف الشيء وربط بعضها ببعض، ويستعمل في الأجسام الصلبة؛ كعقد الحبل، وعقد البناء، ويقال: عقد اليمين، وعقد البناء؛ أي: أبرمه، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ} ، والمراد بالعقود هنا: ما يعم جميع ما ألزمه الله عباده وعقده عليهم من التكاليف والأحكام الدينية، وما يعقدونه فيما بينهم من عقود الأمانات، والمعاملات، ونحوها مما يجب الوفاء به، أو يحسن دينًا، بأن يحمل الأمر على معنى يعم الوجوب والندب.
{بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} : والبهيمة: ما لا نطق له، لما في صوته من الإبهام، وخص في العرف بما عدا السباع والطير. وقال الزمخشري: البهيمة: كل ذات أربع في البر والبحر. انتهى. وقال ابن عطية: البهيمة في كلام العرب: ما أبهم
من جهة نقص النطق والفهم انتهى. وقال في "القاموس": البهيمة: كل ذات أربع قوائم، ولو في الماء، أو كل حي لا يميز. وما (1) كان على - فعيل أو فعيلة - وعينه حرف حلق اسمًا كان، أو صفة .. فإنه يجوز كسر أوله إتباعًا لحركة عينه، وهي لغة بني تميم، تقول: رئي، وبهيمة، وسعيد، وصغير، وبحيرة، وبخيل. والأنعام: جمع نعم، وهي البقر والإبل والغنم. {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}: و {الصيد} : مصدر صاد يصيد ويصاد، ويطلق على المصيد، وقال داود بن علي الأصبهاني:{الصيد} : ما كان ممتنعًا، ولم يكن له مالك، وكان حلالًا أكله، وكأنّه فسر الصيد الشرعي.
و {الحرم} - بضمتين -: جمع حرام، وهو المحرم بالحجّ أو العمرة، فهو صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل. {شَعَائِرَ اللَّهِ}: جمع شعيرة، وهي معالم دينه، وغلب في مناسك الحج. {وَلَا الْهَدْيَ}: الهدي: ما يهدى إلى الحرم من الأنعام ليذبح هناك، وهو من النسك. {وَلَا القلائدَ}: جمع قلادة، وهو ما يعلق في العنق، وكانوا يقلدون الإبل من الهدي بنعل، أو حبل، أو لحاء شجر؛ ليعرف ولا يتعرض له أحد، وكان الحرمي ربَّما قلّد ركابه بلحا شجر الحرم، فيعتصم بذلك من السوء. {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ}: جمع الآم، والآم: المقاصد، يقال: أممت الشيء إذا قصدته؛ أي: قاصدين {فَضْلًا} ؛ أي: ربحًا في التجارة. {وَرِضْوَانًا} ؛ أي: رضًا من الله يحول بينهم وبين عقوبته في الدنيا. {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} : يقال: جرمة على كذا: حمله عليه وجعله يجرمه؛ أي: يكسبه ويفعله، وقال أبو عبيدة والفراء: جرمه: كسبه، فلان جريمة أهله؛ أي: كاسبهم، والجارم: الكاسب، وأجرم فلان: اكتسب الإثم، وقال الكسائي: جرم وأجرم؛ أي: كسب غيره، وجرم يجرم جرمًا: إذا قطع، وأصل الجرم: قطع الثمرة من الشجرة، وجرم بمعنى حق؛ لأن الحق يقطع عليه. قال الخليل: لا جرم أن لهم النار؛ أي: لقد حق، {الشنآن}: البغض مطلقًا، أو الذي يصحبه التقزز من المبغوض، وهو (2) أحد مصادر شنىء، يقال: شنىء يشنأ - من باب: علم - شنأ
(1) البحر المحيط.
(2)
البحر المحيط.
وشنآنًا - مثلثي الشين -، فهذه ستة، وشناء، وشناءة، وشناء، وشناءة، ومشناءة، ومشنئة، ومشنئة، وشنانًا، وشنانًا، فهذه ستة عشر مصدرًا، وهي أكثر ما حفظ للفعل. وقال سيبويه: كل بناء كان من المصادر - على فعلان - بفتح العين .. لم يتعد فعله إلا أن يشذ شيء، كالشنآن. وفي "الفتوحات" (1): الشنآن: مأخوذ من شنيء المعتدي، كعلم، يقال: شنئت الرجل أشنأه: إذا أبغضته، وهذا المصدر سماعي مخالف للقياس من وجهين: تعدي فعله، وكسر عينه؛ لأنه لا ينقاس إلا مفتوحُها اللازم، كما قال في "الخلاصة":
وَفَعَلَ اللَّازِمُ مِثْلُ قَعَدَا
…
لَهُ فُعُوْلٌ بِاطِّرَادٍ كَغدَا
إلى أن قال:
وَالثَّانِي لِلَّذِيْ اقْتَضَى تَقَلُّبَا
{وَالدَّمُ} : أصله: دمي، حذفت لامه اعتباطًا؛ أي: لغير علة تصريفية. {وَالْمَوْقُوذَةُ} : في "المختار": وقذه: ضربه حتى استرخى وأشرف على الموت - وبابه وعد -، وشاة موقوذة: قتلت بالخشب. {وَالنَّطِيحَةُ} : هي التي ينطحها غيرُها فتموت بالنطح، وهي - فعيلة بمعنى مفعولة - صفة جرت مجرى الأسماء، فوليت العوامل، ولذلك ثبت فيها الهاء وفي "القاموس": نطحه كمنعه وضربه إذا أصابه بقرنه اهـ.
{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} : السبع: اسم جنس يطلق على كل ذي ناب وظفر من الحيوان؛ كالأسد، والنمر، والدب، والذئب، والثعلب، والضبع، ونحوها. وقد أطلق على ذوات المخالب من الطير سباع، قال الشاعر:
وَسِبَاعُ الطَّيرِ تَغْدُوْ بِطَانَا
…
تَتَخَطَّاهُمْ فَمَا تَسْتَقِلّ
ومن العرب من يخص السبع بالأسد، وسكون الباء: لغة نجدية، وسمع فتحها، ولعل ذلك لغة {عَلَى النُّصُبِ}: جمع نصاب، ككتب جمع كتاب، وسُمِّي الصنم نصابًا؛ لأنه ينصب ويرفع ليعظم ويعبد {بِالْأَزْلَامِ}؛ أي: القداح، واحدها
(1) الفتوحات.
زلم وزلم - بضم الزاي، وفتحها -، وهي: السهام. {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : اليأس: قطع الرجاء، يقال:(1) يئس الرجل منه ييأس - بالفتح - على القياس، وييئس - بالكسر - على الشذوذ، يأسًا ويئاسة: إذا قنط منه وانقطع رجاؤه، كما قال ابن مالك في لامية الأفعال.
وَجْهَانِ فِيْهِ مِنَ احْسِبْ مَعْ وَغِرْتَ وَحِرْ
…
تَ انْعِمْ بَئِسْتَ يَئِسْتَ أَوْلهِ يَبِسْ وَهِلَا
{فِي مَخْمَصَةٍ} : المخمصة: المجاعة التي تخمص فيها البطون؛ أي: تضمر، والخمص: ضمور البطن، والخلقة منه حسنة في النساء، ومنه يقال: خمصانة، وبطن خميص، ومنه: أخمص القدم، ويستعمل كثيرًا في الجوع. {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ}: وفي، المصباح: جنف جنفًا - من باب: تعب - ظلم، وأجنف - بالألف - مثله.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة والبيان والبديع:
منها: الاستعارة في قوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ؛ حيث استعار الإتيان بالشيء غير ناقص - ككيل الطعام - للقيام بموجب تلك العقود مثلًا، الوفاء بالمأمورات: فعلها، والوفاء بالمنهيات: تركها.
ومنها: التشبيه: حيث شبه الإلزام والالتزام الجاريين بين الله وبين العباد بربط حبل بحبل؛ لأنَّ العقود حقيقة في الربوط.
ومنها: الاستعارة في قوله: {لَا تحلوا شعائر الله} : حيث استعار الحل - الذي هو حقيقة في الأجسام - لانتهاك حرماتها، وحيث استعار الإعلام للمتعبدات التي تَعبد الله بها العباد من الحلال والحرام.
ومنها: المقابلة في قوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .
(1) مناهل الرجال على اللامية.
ومنها: إضافة الأعم إلى الأخص في قوله: {بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} .
ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} ؛ لأنَّ المراد القتال فيه، ففيه إطلاق المحل وإرادة الحال. وفي قوله:{وَلَا الْقَلَائِدَ} ؛ لأنّ المراد به الهدايا المقلدات، ففيه إطلاق الحال وإرادة المحل، عكس ما قبله.
ومنها: التعميم ثم التخصيص في قوله: {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} ، وما بعده من المعطوفات؛ لأنها داخلة في شعائر الله.
ومنها: الحذف في مواضع، كقوله:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} ؛ أي: أكلها.
ومنها: الإسناد إلى السبب في قوله: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} ؛ لأنّ البغض يكون سببًا في الاعتداء.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
المناسبة
قوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ
…
} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر في الآيات السابقة الخبائث التي حرمت عليهم .. أردف هنا بذكر الطيبات التي أحلت لهم؛ لإكمال دينهم بذكر الحلال والحرام.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ
…
} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (1): أن الله سبحانه وتعالى لما افتتح السورة بالأمر بإيفاء العهود، وَذَكَرَ تحليلًا وتحريمًا في المطعم والمنكح واستقصى ذلك، وكان المطعم آكد من المنكح وقدمه عليه، وكان النوعان من لذات الدنيا الجسيمة ومهماتها للإنسان، وهي معاملات دنيوية بين الناس بعضهم من بعض .. استطرد منها إلى المعاملات الأخروية التي هي بين العبد وربّه سبحانه وتعالى.
ولما كان أفضل الطاعات بعد الإيمان الصلاة، والصلاة لا تكمن إلا بالطهارة .. بدأ بالطهارة وشرائط الوضوء، وذكر البدل عنه عند تعذر الماء، ولما كانت محاولة الصلاة في الأغلب إنّما هي بالقيام .. عبر بلفظ {إِذَا قُمْتُمْ}؛ أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة.
وعبارة المراغي هنا (2): واعلم أن بين العبد وربه عهدين: عهد الربوبية والإحسان، وعهد العبودية والطاعة، وبعد أن وفى له بالعهد الأول، وبيَّن له ما يحل وما يحرم من لذات الحياة في الطعام والنكاح .. طلب إليهم الوفاء بالعهد الثاني، وهو عهد الطاعة، وأعظم الطاعات بعد الإيمان الصلاة، والصلاة لا يمكن إقامتها إلا بالطهارة، لا جرم بدأ الله بذكر فرائض الوضوء.
قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ
…
} الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين (3) طائفة من الأحكام المتعلقة بالعادات .. ذكرنا بعهده وميثاقه علينا، وما التزمناه من السمع والطاعة له ولرسوله بقبول دينه الحق، لنقوم به مخلصين.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ
…
} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (4) أمر عباده بالوفاء بالعقود عامة، ثم امتن عليهم بإباحة كثير من الطيبات لهم، وتحريم ما يضرّهم
(1) البحر المحيط.
(2)
المراغي.
(3)
المراغي.
(4)
المراغي.
من الطعام إلا في حال الضرورة، ثم ذكر حل طعام أهل الكتاب ونسائهم إذا كن محصنات، ثم أمرهم بالطهارة مع رفع الحرج عنهم .. ذكر هنا ما ينبغي أن يكون من معاملتهم مع من سواهم، سواء أكانوا أعداء أم أولياء، ثم ذكر وعده لعباده الذين عملوا الصالحات، ووعيده لمن كفر وكذب بالآيات، وختمها بذكر المنة الشاملة والنعمة الكاملة، إذ أنقذهم من أعدائهم وأظهرهم عليهم، وكانوا على وشك الإيقاع بهم، ولكن رحمهم، وكبت أعداءكم وردهم صاغرين، ليكون الشكر أتم، والوفاء ألزم.
قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
…
} الآية، مناسبتها لما قبلها (1): لما ذكر تعالى أوامر ونواهي .. ذكر وعد من اتبع أوامره واجتنب نواهيه.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
…
} الآية، مناسبتها لما قبلها: لما ذكر ما لِمَنْ آمن .. ذكر ما لِمَنْ كفر.
أسباب النزول
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ
…
} الآية، سبب نزولها: ما رواه (2) الطبراني والحاكم والبيهقي وغيرهم عن أبي رافع قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذن عليه، فأذن له، فأبطأ، فأخذ رداءه فخرج إليه وهو قائم بالباب، فقال: قد أذنا لك، قال:"أجل، ولكنا لا ندخل بيتًا فيه صورة ولا كلب" فنظروا، فإذا في بعض بيوتهم جرو، فأمر أبا رافع:"لا تدع كلبًا بالمدينة إلا قتلته" فأتاه الناس، فقالوا: يا رسول الله، ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فنزلت {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ
…
} الآية.
وروى ابن جرير عن عكرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب حتى بلغ العوالي، فدخل عاصم بن عدي، وسعد بن أبي خيثمة، وعويمر بن ساعدة، فقالوا: ماذا أحل لنا يا رسول الله؟ فنزلتْ: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا
(1) البحر المحيط.
(2)
لباب النقول.
أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}.
قال ابن الجوزي (1): وأخرج الحاكم في "صحيحه" حديث أبي رافع، قال البغوي: فلما نزلتْ هذه الآية .. أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها. وقال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين - وهو زيد بن الخيل الذي سمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير - قالا: يا رسول الله، إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، فماذا يحل لنا؟ فنزلت هذه الآية، قال البغوي: وهذا القول أصح في سبب نزولها.
قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
…
} الآية، سبب نزولها: ما رواه البخاري من طريق مالك بن أنس عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش .. انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم {فَتَيَمَّمُوا} ، فقال أسيد بن حضير: ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فأصبنا العقد تحته، وفي رواية فنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} إلى قوله:{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
والحديث أخرجه البخاري في مواضع، وأخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، ومالك في الموطأ، وعبد الرزاق، والحاكم، وابن جرير.
(1) الخازن.
وروى الطبراني من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما كان من أمر عقدي ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا .. خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أخرى، فسقط أيضًا عقدي، حتى حبس الناس على التماسه، فقال لي أبو بكر: بنيَّة في كل تكونين عناء وبلاء على الناس، فأنزل الله الرخصة في التيمم، فقال أبو بكر: إنك لمباركة.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ} الآية، في سبب نزولها ثلاثة أقوال (1):
الأول: أنها نزلت في شأن يهود من بني قريظة، أو بني النضير، وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر عثمان وعليًّا دخلوا عليهم - وقد كانوا عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على ترك القتال، وعلى أن يعينوه في الدِّيات - فطلب منهم مالًا قرضًا لدية رجلين مسلمين، أو معاهدين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ يحسبهما مشركين أو حربيين، فقالوا: اجلس حتى نطعمك ونعطيك ما تريد، ثم همو بالفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأصحابه، فجاء عمرو بن جحاش برحى عظيمة ليطرحها عليه صلى الله عليه وسلم بموافقتهم، فأمسك الله تعالى يده، فنزل جبريل عليه صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، فقام في الحال مع أصحابه، وخرجوا إلى المدينة.
والثاني: عن قتادة أنها نزلت في قوم من العرب، وهم بنو ثعلبة وبنو محارب، أرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في غزوته، فأرسلوا إليه أعرابيًّا ليقتله ببطن نخل، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل منزلًا، وتفرق عنه أصحابه يستظلون في شجر العضاه، وعلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بشجرة، فجاء أعرابي وسل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل عليه وقال: يا محمد من يمنعك مني؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الله" - قالها ثلاثًا -، فأسقطه جبريل من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال:"من يمنعك مني"؟ فقال: لا أحد، ثم صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، فأخبرهم، ولم يعاقبه. وفي رواية: أن الأعرابي قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن
(1) المراح.