الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الغيبية التي تقع في المستقبل بوحي أو إلهام من الله عز وجل، وقد كان جميع أنبيائهم من بعد موسى يحكمون بما في التوراة ويعملون بها، حتى المسيح عليه السلام. وأيضًا فإن الله تعالى أعلم موسى أنَّه يبعث من بعده في بني إسرائيل أنبياء، فكان هذا شرفًا عظيمًا لهم، ونعمة ظاهرة عليهم.
والثاني: ما ذكره بقوله: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} ؛ أي: واذكروا إنعام الله تعالى عليكم حين جعلكم ملوكًا وأحرارًا تملكون أنفسكم بعد أن كنتم عبيدًا في أيدي القبط. والمراد من الملك هنا: الحرية في تدبير أمورهم وأمور أسرهم بأنفسهم. وفي هذا من تعظيم هذه النعمة ما لا يخفى، ويؤيد هذا: ما رواه أبو سعيد الخدري، مرفوعًا "كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملِكًا". وما رواه أبو داود عن زيد بن أسلم: "من كان له بيت وخادم .. فهو ملك ولا شك أن من كان متمتعًا بمثل هذا .. كان متمتعًا بنحو ما يتمتع به الملوك من الراحة والحرية في التصرف في سياسة بيته، والناس يقولون إلى الآن لمن كان مخدومًا مع عشيرته، هانئًا في معيشته، مالكًا لمسكنه: هذا ملك أو ملك زمانه، يريدون أنه يعيش عيشة الملوك. وقال الضحاك: كانت منازلهم واسعة، فيها مياه جارية، ومن كان مسكنه واسعًا وفيه ماء جارٍ .. فهو ملك.
والثالث: ما ذكره بقوله: {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} ؛ أي: ويا قوم اذكروا إنعام الله تعالى عليكم حين أعطاكم ما لم يعطِ أحدًا من العالمين، من فلق البحر، وإغراق العدوّ، وإيراث أموالهم، وإنزال المن والسلوى، وإخراج المياه العذبة من الحجر، وتظليل الغمام؛ فإن ذلك لم يوجد في غير بني إسرائيل، أو عالمي زمانهم، وشعوبه التي كانت مستعبدة للطغاة من الملوك، فقد خصهم بأنواع عظيمة من الإكرام، فقد فلق البحر لهم، وأهلك عدوهم، وأورثهم أموالهم، وأنزل عليهم المنّ والسلوى، وأظل فوقهم الغمام، إلى غير ذلك من النعم التي أنعم الله بها عليهم،
21
- وبعد أن ذكرهم موسى بهذه النعم وشرحها لهم، أمرهم بمجاهدة العدوّ، وأبان لهم أن الله ناصرهم ما نصروه فقال: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا
الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ}؛ أي: المطهرة (1) من الوثنية والشرك لما بعث الله فيها من الأنبياء الدعاة إلى التوحيد، وجعلها مسكنًا لهم وللمؤمنين، وإنَّما سميت مطهرة؛ لسكنى الأنبياء المطهرين فيها، فشرفت وطهرت بهم، فالظرف طاب بالمظروف، إنْ قلت: إنَّ الجبارين كانوا فيها، وهم غير مطهرين؛ أجيب بأنَّ الخير يغلب الشر، والنور يغلب الظلمة. وروى ابن عساكر عن معاذ بن جبل: إنَّ الأرض المقدسة ما بين العريش إلى الفرات، وبعضهم يسمي القسم الشمالي من هذا القطر باسم سورية، والباقي باسم فلسطين أو بلاد المقدس، أو الأرض المقدسة، أو أرض الميعاد؛ لأنَّ الله تعالى وعد بها ذرية إبراهيم، ويدخل فيما وعد الله به إبراهيم الحجاز وما جاوره من بلاد العرب. وقيل: معنى المقدسة المباركة؛ لكثرة خيراتها ونباتها وأشجارها {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} ؛ أي: التي قسمها وقدرها لكم في سابق علمه، وجعلها مسكنًا لكم. فإنْ (2) قلت كيف الجمع بين الكتابة التي تفيد تحتم الدخول وبين قوله:{فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} ؟.
قلت: إنَّ المراد بالكتب الأمر بالدخول، أو بأن معنى قوله:{كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} ؛ أي: قدرها لكم في اللوح المحفوظ إنْ لم تقع منكم مخالفة، وقد وقعت فحرمت عليهم أربعين سنة، فهو قضاء معلق.
وقيل معنى: (3){كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} ؛ أي: وهبها الله لكم ميراثًا من أبيكم إبراهيم عليه السلام. روي أن إبراهيم عليه السلام لما صعد جبل لبنان قال الله سبحانه وتعالى له: "انظر فما أدركه بصرك .. فهو مقدس وهو ميراث لذريتك" وكان بنو إسرائيل يسمون أرض الشام أرض الموعد. قال ابن عباس: الأرض هي الطور وما حوله. وقرأ ابن محيصن هنا وفي جميع القرآن: {يا قومُ} مضموم الميم ويروى قراءة عن ابن كثير، ووجهها أنها لغة في المضاف لياء المتكلم كقراءة:{قال رب احكم بالحق} . وقرأ ابن السميقع: {يا قومي ادخلوا} بفتح الياء؛ لأنَّه منادى مضاف لياء المتكلم، قال ابن مالك:
(1) المراغي.
(2)
صاوى.
(3)
المراح.
وَاجْعَلْ مُنَادَى صَحَّ أَنْ يُضَفْ لِيَا
…
كَعَبْدِ عَبْدِيْ عبد عَبْدَا عَبْدِيَا
فقول موسى عليه السلام (1): كتب الله لكم، يريد به ما وعد الله به إبراهيم من حق السكنى في تلك البلاد المقدسة، لا أنَّ المراد أنَّها تكون لها ملكًا لهم، لا يزاحمهم فيها أحد؛ لأن هذا مخالف للواقع، ولن يخلف الله وعده، فاستنباط اليهود من ذلك الوعد أنَّه لا بد أن يعود لهم ذلك الملك ليس بصحيح.
ونص هذا الوعد في سفر التكوين من التوراة: أنَّه لما مرّ إبراهيم بأرض الكنعانيين .. ظهر له الربّ وقال: لنسلك أعطيت هذه الأرض. وجاء فيه أيضًا: في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقًا قائلًا: لنسلك أعطيت هذه من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر فرات.
{وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} ؛ أي: لا تنكصوا ولا ترجعوا إلى خلفكم وعلى أعقابكم؛ أي: إلى مصر خوف العدوّ، وتتركوا طاعتي وما أوجبته عليكم من قتال الجبارين جبنًا وفشلًا {فَتَنْقَلِبُوا} وتصيروا بسبب ذلك {خَاسِرِينَ} لخيري الدنيا والآخرة؛ لأن الفرار من الزحف من الكبائر، فإنهم لما سمعوا أخبار الجبارين قالوا: نجعل لنا رئيسًا ينصرف بنا إلى مصر، وصاروا يبكون ويقولون: يا ليتنا متنا بمصر.
والمعنى: أي لا ترجعوا عما جئتكم به من التوحيد والعدل والهدى والرشاد إلى الوثنية، والفساد في الأرض، بالظلم والبغي واتباع الأهواء؛ فإنَّ في هذا الرجوع خسرانًا لكم، إذ تخسرون فيه هذه النعم، ومنها الأرض المقدسة التي ستعطونها جزاء شكركم، فتحرمون من خيراتها وبركاتها، وقد جاء في بعض أوصافها:"أنها تفيض لبنًا وعسلًا" وتعاقبون بالتيه أربعين سنة، ينقرض فيها المرتدون على أدبارهم.
ثم بعث موسي عليه السلام اثني عشر نقيبًا ليتجسسوا لهم عن أحوال تلك الأرض، فلما دخلوا تلك البلاد .. رأوا أجسامًا عظيمة هائلة، ثم انصرفوا إلى
(1) المراغي.