المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

تؤمن بالله وبما أنزله على رسله وأنبيائه، وتشهد لهم بصدق - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٧

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: تؤمن بالله وبما أنزله على رسله وأنبيائه، وتشهد لهم بصدق

تؤمن بالله وبما أنزله على رسله وأنبيائه، وتشهد لهم بصدق الرسالة، وأولئك المشركون لا يؤمنون بكتاب ولا رسول، ولا يعبدون إلهًا واحدًا، ولولا اتباع الهوى وتزيين الشيطان لهم أعمالهم .. ما فعلوا ذلك، ولا خطر هذا بخاطرهم، وما استحبوا العمى على الهدى {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} .

وقد روي أن كعب بن الأشرف وأصحابه ذهبوا إلى مكة واستجاشوا المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يتم لهم ما أرادوا إذ لم يلبوا لهم دعوة، ولا استجابوا لهم كلمة.

{لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ} ؛ أي: وعزتي وجلالي لبئس وقبح العمل الذي قدمته أنفسهم الخبيثة زادًا لآخرتهم من موالاتهم لعبدة الأوثان، والمخصوص بالذم {أَنْ سَخِطَ اللَّهُ} وغضب {عَلَيْهِمْ}؛ أي: موجب سخط الله عليهم، وهو العمل الذي هو موالاة عبدة الأوثان {وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}؛ أي: وخلودهم أبد الآبدين في عذاب جهنم، وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها، فهي من جملة المخصوص بالذم، فالقدير: سخط الله عليهم وخلودهم في العذاب. والمعنى؛ أي: بئس شيئًا قدموه لأنفسهم في آخرتهم الأعمال التي أوجبت سخط الله وعظيم غضبه، وسيجزون بها شر الجزاء، إذ سيحيط بهم العذاب ولا يجدون عنه مصرفًا ويخلدون في النار أبدًا، فالنجاة منه إنَّما تكون برضا الله عن عبده، وهم لم يعملوا إلا ما يوجب سخطه، وشديد غضبه.

‌81

- {وَلَوْ كَانُوا} ؛ أي: ولو كان أهل الكتاب الذين يوالون المشركين {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ} ؛ أي: نبيهم الذي أرسل إليهم وهو موسى عليه السلام {وما أُنزِلَ إليهم} من التوراة كما يدعون {مَا اتَّخَذُوهُمْ} ؛ أي: ما اتخذ اليهود المشركين عبدة الأوثان {أَوْلِيَاءَ} وأصدقاء؛ لأن تحريم اتخاذ المشركين أولياء متأكد في التوراة في شرع موسى عليه السلام، فلما فعلوا ذلك .. ظهر أنه ليس مرادهم تقرير دين موسى واتباعه، بل مرادهم الرياسة والجاه، فيسعون في تحصيلها بأي طريق قدروا عليها. قال أبو السعود: وبيان الملازمة أن الإيمان بما ذكر وازع عن توليهم قطعًا. والمعنى؛ أي ولو كان أولئك اليهود الذين يتولون

ص: 431

الكافرين من مشركي العرب يؤمنون بالنبي الذي يدعون اتباعه - وهو موسى عليه السلام، وما أنزل إليه من الهدى والبينات - لما اتخذوا أولئك الكافرين ممن يعبدون الأوثان والأصنام أولياء وأنصارًا، إذا .. كانت العقيدة الدينية تصدهم عن ذلك، وتدفع عنهم هذه الأصار والآثام التي يقترفونها.

والخلاصة: أن هذه الولاية بين اليهود والمشركين لم يكن لها من سبب إلا اتفاق الفريقين على الكفر بالله ورسوله، والتعاون على حربه وإبطال دعوته، والتنكيل بمن آمن به.

ويروى عن مجاهد أن المراد بالذين كفروا المنافقون؛ أي: إن أولئك المنافقين كفار، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي محمَّد صلى الله عليه وسلم وما أنزل إليه من القرآن كما يدعون ما اتخذهم اليهود أولياء لهم، فتوليهم إياهم من أعظم الأدلة على أنهم يسترون الكفر ويظهرون الإيمان نفاقًا، وكان اليهود يتولون المشركين والمنافقين جميعًا لاشتراكهم في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.

وقد بين أسباب هذه الإلفة والعلة الجامعة بينهم فقال: {وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ} ؛ أي: ولكن كثيرًا من إليه {فَاسِقُونَ} أي خارجون عن الدين والإيمان بالله ونبيهم وكتابهم أما القليل منهم فقد آمن وإنما قال كثيرًا لأنه علم أن منهم من سيؤمن من مثل عبد الله بن سلام وأصحابه. والمعنى؛ أي: ولكن كثيرًا منهم متمردون في النفاق، خارجون عن حظيرة الدين، لا يريدون إلا الرياسة والجاه، ويسعون إلى تحصيلها من أي طريق قدروا عليه، ومتى سار الكثير من الأمة على طريق تبعه الباقون، إذ لا عبرة بالقليل في سيرة الأمة وأعمالها.

الإعراب

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} .

{لَقَدْ} : (اللام): موطئة للقسم. {قد} : حرف تحقيق. {كَفَرَ الَّذِينَ} : فعل وفاعل، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {إِنَّ اللَّهَ هُوَ

ص: 432

الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}: مقول محكي لـ {قَالُوا} وإنْ شئت قلت: {إِنَّ} : حرف نصب. {اللَّهَ} : اسمها. {هُوَ} : ضمير فصل. {الْمَسِيحُ} : خبر {إِنَّ} . {ابْنُ} : صفة لـ {الْمَسِيحُ} . {مَرْيَمَ} : مضاف إليه، وجملة {إِنَّ} من اسمها وخبرها في محل النصب مقول {قَالُوا} .

{وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} .

{وَقَالَ} (الواو): عاطفة أو استئنافية. {قَالَ الْمَسِيحُ} : فعل وفاعل، والجملة مستأنفة أو معطوفة على جملة قوله:{لَقَدْ كَفَرَ} . {بَنِي إِسْرَائِيلَ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت:{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} منادى مضاف، وجمله النداء في محل النصب مقول {قَالَ} {اعْبُدُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {رَبِّي}: بدل من الجلالة. {وَرَبَّكُمْ} : معطوف عليه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء. {إِنَّهُ} إن حرف نصب. والهاء في محل النصب اسمها. {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ والخبر جملة الجواب، أو الشرط أو هما. {يُشْرِكْ}: فعل شرط مجزوم بمن وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} . {بِاللَّهِ} : جار ومجرور متعلق بـ {يُشْرِكْ} . {فَقَدْ} (الفاء): رابطة لجواب الشرط وجوبًا لاقترانه بـ (قد). {قَدْ} . حرف تحقيق. {حَرَّمَ اللَّهُ} : فعل وفاعل، والجملة في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونها جوابًا لها. {عَلَيْهِ} . جار ومجرور متعلق بـ {حَرَّمَ} ـ {الْجَنَّةَ} مفعول به. {وَمَأْوَاهُ النَّار} . مبتدأ وخبر، والجملة في محل الجزم معطوفة على جملة {الْجَنَّةَ} على كونها جوابًا لـ {مَنْ} الشرطية، وجملة {مَنْ} الشرطية في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول القول، مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}: الواو: عاطفة أو استئنافية. ما حجازية أو تميمية. {لِلظَّالِمِينَ} : جار ومجرور خبر مقدم لـ {ما} أو للمبتدأ. {مِنْ} زائدة {أَنْصَارٍ} : اسم ما مؤخر أو مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب معطوفة على ما قبلها على كونها مقولًا لـ {قَالَ} إنْ قلنا

ص: 433

إنَّه من تمام كلام عيسى أو مستأنفة.

الإعراب

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} .

{لَقَدْ} : (اللام): موطئة للقسم. {قد} : حرف تحقيق. {كَفَرَ الَّذِينَ} : فعل وفاعل، والجملة جواب لقسم محذوف لا محل لها من الإعراب. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} مقول محكي لـ {قَالُوا} وَإنْ شئت قلت {إِنَّ}: حرف نصب. {اللَّهَ} اسمها. {ثَالِثُ} : خبرها. {ثَلَاثَةٍ} مضاف إليه، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قَالُوا}. {وَمَا}:(الواو): استئنافية. {ما} : نافية. {مِنْ} : زائدة. {إِلَهٍ} : مبتدأ، وخبر المبتدأ محذوف وجوبًا تقديره: وما إله كائن للخلق. {إِلَّا} أداة استثناء. {إِلَهٌ} بدل من {إِلَهٍ} تابع لمحله. {وَاحِدٌ} : صفة لـ {إِلَهٌ} . وأجاز الكسائي اتباعه على اللفظ بالجر في غير القرآن، والجملة مستأنفة.

{وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

{وَإِنْ} (الواو): استئنافية. {إن} : حرف شرط. {لَمْ} : حرف جزم. {يَنْتَهُوا} : فعل وفاعل مجزوم بـ {لَمْ} ، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {إن} على كونها فعل شرط لها {عَمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {يَنْتَهُوا} . {يَقُولُونَ} : فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: عما يقولونه {لَيَمَسَّنَّ} (اللام): موطئة لقسم محذوف. {يمسن} : فعل مضارع في محل الرفع، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب مفعول به {كَفَرُوا} : فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل {مِنْهُمْ}: جار ومجرور في موضع الحال إمَّا {من} الذين أو من ضمير الفاعل في {كَفَرُوا} وجرى الزمخشري على أنها بيانية. {عَذَابٌ} : فاعل {أَلِيمٌ} صفة لـ {عَذَابٌ} والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم، والقدير: والله إن لم ينتهوا ليمسن الذين كفروا يمسهم عذاب أليم، وجاء هذا على القاعدة المقررة عندهم، وهي: إنَّه إذا اجتمع

ص: 434

شرط وقسم .. أجيب سابقهما ما لم يسبقهما ذو خبر، وقد يجاب الشرط مطلقًا كما قال ابن مالك في "الخلاصة":

وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ

جَوَابَ مَا أَخَّرْتَ فَهُوَ مُلْتَزَمْ

وِإنْ تَوَالَيَا وَقَبْلُ ذُوْ خَبَرْ

فَالشَّرْطَ رَجِّحْ مُطْلَقًا بِلا حَذَرْ

وَرُبَّمَا رُجِّحَ بَعْدَ قَسَمِ

شَرْطٌ بِلا ذِيْ خَبَرٍ مُقَدَّمِ

فإن قلت: السابق هنا الشرط، والقسم مقدر فيمكن تقديره متأخرًا.

قلت: إنَّه لو قصد تأخر القسم في التقدير لأجيب الشرط، فلما أجيب القسم .. علم أنَّه مقدر التقديم.

{أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} .

{أَفَلَا} : (الهمزة): للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف تقديره: ألا ينتهون عن تلك العقائد الباطلة. (والفاء): عاطفة على ذلك المحذوف. {لَا} : نافية. {يَتُوبُونَ} : فعل وفاعل مرفوع بالنون، والجملة المحذوفة مع ما عطف عليها جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {إِلَى اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَتُوبُونَ} . {وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} : فعل وفاعل ومفعول معطوف على {وَاللَّهُ} : (الواو): واو الحال. {اللهُ} : مبتدأ. {غَفُورٌ} : خبر أول. {رَحِيمٌ} : خبر ثان، والجملة في محل النصب حال من مفعول {يَسْتَغْفِرُونَهُ} .

{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأكُلَانِ الطَّعَامَ} .

{مَا} : نافية. {الْمَسِيحُ} : مبتدأ. {ابنُ} : صفة لـ {المسيح} . {مَرْيَمَ} : مضاف إليه. {إِلَّا} : أداة استثناء مفرغ. {رَسُولٌ} : خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة مسوقة لتحقيق الحق الذي لا محيد عنه، وبيان حقيقة حاله عليه السلام وحال أمه. {قَدْ}: حرف تحقيق. {خَلَتْ} : فعل ماضٍ. {مِنْ قَبْلِهِ} : جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {خَلَتْ} . {الرُّسُلُ} : فاعل، والجملة في محل الرفع صفة لـ {رَسُولٌ} ، ولكنها سببية. {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}: مبتدأ وخبر،

ص: 435

والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {كَانَا} : فعل ناقص واسمه. {يَأكُلَانِ الطَّعَامَ} : فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب خبر {كَانَا} تقديره: كانا آكلين الطعام، وجملة كان من اسمها وخبرها مستأنفة لا محل لها من الإعراب كما قاله أبو البقاء.

{انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)} .

{انْظُر} فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد أو على أي مخاطب، والجملة مستأنفة {كَيْفَ} للاستفهام التعجبي في محل النصب على التشبيه بالمفعول به، والعامل فيه {نُبَيِّنُ} ، ولا يجوز أن يكون معمولًا لما قبله؛ لأنَّ له صدر الكلام {نُبَيِّنُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الله}. {لَهُمُ}: جار ومجرور متعلق به {الْآيَاتِ} مفعول به، وهذه الجملة الاستفهامية في محل النصب مفعول لـ {انْظُرْ} ، و {كَيْفَ} معلقة له عن العمل في لفظه. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب. {انْظُر} : فعل وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة {انْظُر} الأولى، ورتب بينهما بـ {ثُمَّ} لتراخي ما بين العجبين، وكأنه (1) أثبت العجب من توضيح الآيات، وتبيينها ثم ينظر إلى حال من بينت له، فيرى إعراضهم عن الآيات أعجب من توضيحها؛ لأنَّه يلزم من تبيينها تبينها لهم، والرجوع إليها، فكونهم أفكوا عنها أعجب. {أَنَّى}: اسم استفهام بمعنى كيف في محل النصب على التشبيه بالمفعول به، والعامل فيه ما بعده. {يُؤْفَكُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مفعول به لـ {انْظُرْ} معلقة عنها باسم الاستفهام.

{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)} .

{قُلْ} : فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد والجملة مستأنفة.

{أَتَعْبُدُونَ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت:(الهمزة): للاستفهام

(1) البحر المحيط.

ص: 436

التوبيخي. {تَعْبُدُونَ} : فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تَعْبُدُونَ} . {مَا} : موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به. {لَا} : نافية. {يَمْلِكُ} : فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {مَا} . {لَكُمْ} : جار ومجرور تعلق بـ {يَمْلِكُ} . {ضَرًّا} مفعول {يَمْلِكُ} {وَلَا نَفْعًا} : معطوف على {ضَرًّا} وجملة {يَمْلِكُ} صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد ضمير الفاعل. {وَاللَّهُ} مبتدأ. {هُوَ}: ضمير فصل أو بدل من المبتدأ. {السَّمِيعُ} : خبر أول. {الْعَلِيمُ} : خبر ثان، والجملة مستأنفة على كونها مقولًا لـ {قُلْ} أو في (1) محل النصب على الحال من فاعل {أَتَعْبُدُونَ}؛ أي: أتعبدون غير الله، والحال أن الله هو المستحق للعبادة لأنَّه يسمع كل شيء ويعلمه، وإليه يشير كلام الزمخشري؛ فإنه قال: والله هو السميع العلم متعلق بـ {أَتَعْبُدُونَ} ؛ أي: أتشركون بالله ولا تخشونه، وهو الذي يسمع ما تقولون وما تعتقدون، أتعبدون العاجز وهو السميع العليم؟ انتهى. والرابط بين الحال وصاحبها الواو، ومجيء هاتين الصفتين بعد هذا الكلام في غاية المناسبة؟ فإنَّ السميع يسمع ما يشتكى إليه من الضر وطلب النفع، ويعلم مواقعهما كيف يكونان.

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} .

{قُلْ} : فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد والجملة مستأنفة {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قُلْ} وإن شئت قلت {يا} : حرف نداء. {أَهْلَ الْكِتَابِ} : منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قُلْ}. {لَا}: ناهية. {تَغْلُوا} : فعل وفاعل مجزوم بـ {لَا} الناهية. {فِي دِينِكُمْ} : جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تَغْلُوا} ، والجملة الفعلية في محل النصب مقول القول على كونها جواب النداء {غَيْرَ الْحَقّ} صفة لمصدر

(1) الفتوحات.

ص: 437

محذوف؛ أي: غلوا غير الحق؛ لأنَّ غلا من الأفعال اللازمة. ويجوز (1) أن يكون حالًا من ضمير الفاعل؛ أي: لا تغلوا مجاوزين الحق، قاله أبو البقاء {وَلَا تَتَّبِعُوا} فعل وفاعل مجزوم بـ {لَا} الناهية، والجملة معطوفة على جملة {لَا تَتَّبِعُوا}. {أَهْوَاءَ قَوْمٍ} مفعول به ومضاف إليه {قَدْ ضَلُّوا} فعل وفاعل والجملة في محل الجر صفة لـ {قَوْمٍ} {مِنْ}: حرف جر. {قَبْلُ} : ظرف زمان في محل الجر بـ {مِنْ} لشبهة بالحرف شبهًا افتقاريًّا، لافتقاره إلى المضاف إليه المحذوف تقديره: قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، والجار والمجرور متعلق بـ {ضَلُّوا} . {وَأَضَلُّوا كَثِيرًا} فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {ضلوا} على كونها صفة لـ {قَوْمٍ} وكذلك جملة قوله:{وَضَلُّوا} معطوف على جملة ضلوا {عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} : جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بضلوا الأخير، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: عن السبيل السوي.

{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)} .

{لُعِنَ الَّذِينَ} : فعل ونائب فاعل والجملة مستأنفة. {كَفَرُوا} : فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، في محل النصب حال من {الَّذِينَ كَفَرُوا} أو من ضمير الفاعل في {كَفَرُوا}. {عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {لُعِنَ}. {وَعِيسَى} معطوف على {دَاوُودَ}. {ابْنِ مَرْيَمَ}: صفة لـ {عيسى} . {ذَلِكَ} : مبتدأ. {بِمَا} : {الباء} ): حرف جر وسبب. و {مَا} : مصدرية. {عَصَوْا} : فعل وفاعل، والجملة صلة (ما) المصدرية. {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: بعصيانهم، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ تقديره: ذلك اللعن المذكور كائن بسبب عصيانهم، والجملة الإسمية مستأنفة. {وَكَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يعتدون}: في محل النصب خبر كان

(1) العكبري.

ص: 438

تقديره: وكانوا معتدين، وجملة {كان}: معطوفة على جملة {عَصَوْا} : على كونها صلة {ما} : المصدرية، والتقدير: ذلك كائن بسبب عصيانهم وكونهم معتدين، وقيل: جملة كانوا مستأنفة كما يدل عليه ما بعده.

{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} .

{كَانُوا} : فعل ناقص واسمه. {لَا يَتَنَاهَوْنَ} : فعل وفاعل، والجملة في محل النصب خبر كان، وجملة كان مستأنفة. {عَنْ مُنْكَرٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَتَنَاهَوْنَ} . {فَعَلُوهُ} : فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر صفة لـ {مُنْكَرٍ}. {لَبِئْسَ} (اللام): موطئة للقسم. {بِئْسَ} : فعل ماض من أفعال الذم. {مَا} : موصولة في محل الرفع فاعل. {كَانُوا} : فعل ناقص واسمه. وجملة {يَفْعَلُونَ} خبر {كَانُوا} وجملة {كَانُوا} صلة لما الموصولة، وجملة {بِئْسَ} جواب القسم لا محل لها من الإعراب، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: فعلهم هذا الذي هو ترك النهي عن المنكر.

{تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} .

{تَرَى كَثِيرًا} : فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، وهي بصرية تتعدى إلى مفعول واحد. {مِنْهُمْ}: جار ومجرور صفة {كَثِيرًا} والجملة الفعلية مستأنفة {يَتَوَلَّوْنَ} فعل وفاعل {الَّذِينَ} اسم موصول للجمع المذكر في محل النصب مفعول به، وجملة {يَتَوَلَّوْنَ} في محل النصب حال من {كَثِيرًا} لتخصصه بالصفة، أو في محل النصب مفعول ثان لـ {تَرَى} إن قلنا إنَّها علمية، والأول أنسب {كَفَرُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول.

{لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} .

{لَبِئْسَ} : (اللام): موطئة للقسم. {بِئْسَ} : فعل ماض من أفعال الذم. {مَا} : اسم موصول في محل الرفع فاعل. {قَدَّمَتْ} فعل ماض. {لَهُمْ} : متعلق به. {أَنْفُسُهُمْ} : فاعل قدم، وجملة قدم صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: ما قدمته لهم أنفسهم، وجملة بئس جواب القسم لا محل لها من

ص: 439

الإعراب {أَنْ} حرف نصب ومصدر {سَخِطَ} : فعل ماض في حل النصب بأنْ مبني على الفتح {اللَّهُ} فاعل {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {سَخِطَ} وجملة {سَخِطَ} في تأويل مصدر مرفوع خبر لمبتدأ محذوف؛ لأنَّه مخصوص بالذم تقديره: هو سخط الله عليهم ولكنه على حذف مضاف تقديره: لبئس العمل الذي قدمته لهم أنفسهم. هو موجب سخط الله عليهم وهو موالاتهم لكفار مكة {وَفِي الْعَذَابِ} متعلق بـ {خَالِدُونَ} {هُمْ} مبتدأ {خَالِدُونَ} خبر والجملة من المبتدأ، والخبر معطوفة على جملة {أَنْ سَخِطَ} على كونها مخصوصًا بالذم والتقدير: والمخصوص بالذم سخط الله عليهم وخلودهم في العذاب.

{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)} .

{وَلَوْ} : (الواو): استئنافية. {لو} : حرف شرط غير جازم. {كَانُوا} : فعل ناقص واسمه. {يُؤْمِنُونَ} : فعل وفاعل مرفوع بالنون. {بِاللَّهِ} : جار ومجرور متعلق به. {وَالنَّبِيِّ} : معطوف على الجلالة. {وَمَا} ما موصولة أو موصوفة في محل الجر، معطوفة على الجلالة أيضًا. {أُنْزِلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَا}. {إِلَيْهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أُنْزِلَ} وجملة {أُنْزِلَ} صلة لـ {مَا} أو صفة لها، وجملة {يُؤْمِنُونَ} من الفعل والفاعل في محل النصب خبر كان، وجملة {كان}: فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب. {مَا اتخذوهُم} {مَا} : نافية. {اتَّخَذُوهُمْ} : فعل وفاعل ومفعول أول. {أَوْلِيَاءَ} : مفعول ثان وجملة {اتخذ} : جواب (لو) لا محل لها من الإعراب، وجملة {لو} مستأنفة. {وَلَكِنَّ} (الواو): استئنافية. {لكن} : حرف نصب. {كَثِيرًا} : اسمها. {مِنْهُمْ} : جار ومجرور صفة لـ {كَثِيرًا} . {فَاسِقُونَ} : خبر {لكن} وجملة {لكن} مستأنفة استدراكية لا محل لها من الإعراب.

التصريف ومفردات اللغة

{وَمَأوَاهُ النَّارُ} المأوى اسم مكان من أوى الرجل البيت، يأوي من باب رمى، إواء ومأوى بالفتح على القياس إذا نزل فيه؛ لأنّه معتل اللام فقياس

ص: 440

مصدره، وظرفه جميعًا بالفتح.

{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} والأنصار جمع ناصر، والنسبة إليه أنصاري، والناصر المعين لك على دفع ضد، أو عدوّ {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} والراد بثالث ثلاثة واحد من ثلاثة، ولهذا يضاف إلى ما بعده ولا يجوز فيه التنوين كما قاله الزجاج وغيره، وإنَّما ينون وينصب ما بعده إذا كان ما بعده دونه بمرتبة نحو: ثالث اثنين، ورابع ثلاثة؛ أي: جاعل اثنين ثلاثة، وجاعل ثلاثة أربعةً.

{لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} يقال: مسه الشيطان بنصب أو عذاب يمسه ومسيسًا ومسيسي إذا أصابه به، فهو من المضاعف المعدى، فقياسه ضم عين مضارعه، ولكن فتح هنا لأن ما قبل نون التوكيد لا ينون إلا مفتوحًا. {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} يقال: خلا الشيء يخلو خلوًا وخلاء، إذا مضى، يقال: فعلته لخمس خلون من الشهر؛ أي: مضين. {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} ؛ أي: وما (1) أمه إلا صادقة فيما تقوله أو مصدقة لما جاء به ولدها من الرسالة، وذلك لا يستلزم الإلهية لها. قال أبو حيان (2): هذا البناء من أبنية المبالغة، والأظهر أنَّه من الثلاثي المجرد، إذ بناء هذا التركيب منه كسكيت وسكير وشريب وطبيخ، من سكت وسكر وشرب وطبخ، ولا يعمل ما كان مبنيًّا من الثلاثي المتعدي كما يعمل فعول وفعال ومفعال، فلا يقال: زيد شريب الماء، كما تقول: ضراب زيدًا، والمعنى: الإخبار عنها بكثرة الصدق. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون من التصديق، وبه سمي أبو بكر الصديق، ولم يذكر الزمخشري غير أنه من التصديق، وهذا القول خلاف الظاهر من هذا البناء انتهى.

{ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} يقال: أفك الرجل يؤفك، إذا ضعف عقله الأفيك والمأفوك عاجز الرأي. قال أبو (3) حيان: الأفك بفتح الهمزة مصدر أفكه يأفكه إذا قلبه وصرفه ومنه: {أَجِئْتَنَا لِتَأفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا} . ويقال: يؤفك عنه من

(1) الشوكاني.

(2)

البحر المحيط.

(3)

البحر المحيط.

ص: 441

أفك. قال عروة بن أذينة:

إِنْ كُنْتُ عَنْ أحْسَنِ الْمُرُوْءَةِ مَأْ

فُوْكًا فَفِيْ آخَريْنَ قَدْ أُفِكُوْا

قال أبو زيد: المأفوك المأفون، وهو الضعيف العقل، وقال أبو عبيدة: رجل مأفوك لا يصيب خيرًا، وائتفكت البلدة بأهلها انقلبت، والمؤتفكات مدائن قوم لوط عليه السلام قلبها الله تعالى، والمؤتفكات أيضًا الرياح التي تختلف مهابها. {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} مأخوذ من غلا الرجل في الدين يغلو غلوًا، من باب غدًا إذا شدد وتصلب فيه حتى جاوز الحد، أصله: لا تغلووا بواوين أولاهما مضمومة وهي لام الكلمة وثانيتهما واو الضمير، استثقلت الضمة على الواو ثم حذفت، فالتقى ساكنان فحذفت واو لام الكلمة فصار لا تغلوا بوزن تفعلوا، فالغلو الإفراط وتجاوز الحد، بالزيادة في الدين أو التفريط فيه بالنقض عنه.

{وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ} والأهواء (1) جمع هوى، وهو ما تدعو شهوة النفس إليه. قال الشعبي: ما ذكر الله تعالى الهوى في القرآن إلا وذمه. وقال أبو عبيدة لم نجد الهوى يوضع إلا موضع الشر؛ لأنه يقال: فلان يهوى الخير، إلا أنه يقال: فلان يحب الخير ويريده. فالأهواء: الآراء التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة {سَوَاءِ السَّبِيلِ} السواء في الأصل الوسط، ولكن المراد به هنا الدين الحق، والسواء أيضًا المثل، يقال في المثنى: هما في هذا الأمر سواء، وإن شت قلت: سواءان، وفي الجمع هم سواء، أو هم أسواء، ويقال أيضًا في الجمع على غير قياس: هم سواس وسواسية وسواسوة؛ أي: متساويان ومستاوون.

{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} واللعن: الحرمان من لطف الله وعنايته، والمراد باللسان (2) الجارحة لا اللغة كذا قاله الشيخ، يعني: إن الناطق بلعن هؤلاء لسان هذين النبيين وجاء قوله: {عَلَى لِسَانِ} بالإفراد دون التثنية والجمع، فلم يقل على لساني بالتثنية لقاعدة كلية وهي أن كل جزئين مفردين من صاحبيهما إذا أضيفا إلى كليهما من غير تفريق .. جاز

(1) الخازن.

(2)

الفتوحات.

ص: 442

فيهما ثلاثة أوجه لفظ الجمع، وهو المختار، ويليه التثنية عند بعضهم، وعند بعضهم الإفراد مقدم على التثنية، فيقال: قطعت رؤوس الكبشين، وإن شئت قلت: قطعتُ رأسي الكبشين، وإن شئت قلت: رأس الكبشين، ومنه فقد صغت قلوبكما، وفي النفس من كون المراد باللسان الجارحة شيء، ويؤيد ذلك ما مال له الزمخشري، فإنَّه قال: نزل الله لعنهم في الزبور على لسان داود، وفي الإنجيل على لسان عيسى، وقوة هذا تأبى كونه للجارحة، ثم إني رأيت للواحديّ ذَكَر عن المفسرين قولين، ورجح ما قلته. اهـ. "سمين".

{ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا} أصله عصيوا، تحركت الياء وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفًا فالتقى ساكنان، ثم حذفت الألف، فصار عصوا لأنّه من عصى سيده يعصى من باب رمى عصيًا، ومعصية إذا خرج في طاعته، وخالف أمره وعانده فهو عاص. {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} ظاهره (1) أن التفاعل بمعنى الاشتراك، أي: لا ينهى بعضهم بعضًا، وذلك أنهم جمعوا بين فعل المنكر والتجاهر به، وعدم النهي عنه، والمعصية إذا فعلت وقدرت على العبد .. ينبغي أن يستتر بها وفي الحديث من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر، فإذا فعلت جهارًا وتواطئوا على عدم الإنكار .. كان ذلك تحريضًا على فعلها"، ومسببًا مثيرًا لإفشائها وكثرتها. وقيل: التفاعل هنا بمعنى الافتعال، يقال: انتهى عن الأمر وتناهى عنه إذا كف، والمعنى كانوا لا يمتنعون عن منكر.

البلاغة

وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:

فمنها: المجاز المرسل في قوله: {فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} . لأنَّ التحريم هنا مستعمل في المنع مجازًا، لانقطاع التكليف في دار الاخرة. وفيه أيضًا إظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتهويل الأمر وتربية المهابة.

ومنها: الإظهار أيضًا في مقام الإضمار في قوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ

(1) البحر المحيط.

ص: 443

أَنْصَارٍ} للتسجيل (1) عليهم بوصف الظلم.

ومنها: التكرار في قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا} لتكرير الشهادة عليهم بالكفر، وللإعلام بأنهم كانوا بمكان من الكفر.

ومنها: الإظهار أيضًا في مقام الإضمار في قوله: {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} إذ الأصل أن يقال: ليمسنهم أظهره لتكرير الشهادة عليهم بالكفر.

ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: {أَفَلَا يَتُوبُونَ} استدعاء لهم إلى التنصل من تلك المقالة الشنعاء بعد أن كرر عليهم الشهادة بالكفر.

ومنها: الحصر في قوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} .

ومنها: القصر في قوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} .

ومنها: التكرار في قوله: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ} . {ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} . قال أبو السعود: تكرير الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب ولفظ: ثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت؛ أي: إن بيانًا للآيات أمر بديع بالغ أقصى الغايات من الوضوح والتحقيق، وإعراضم عنها أعجب وأبدع.

ومنها: الطباق في قوله: {مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} .

ومنها: التفصيل في النهي في قوله: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} . {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ} .

ومنها: التنكير في قوله: {قَوْمٍ} تحقيرًا لهم.

ومنها: الجناس المماثل في قوله: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا} .

ومتها: التعجيب في قوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} فإن فيه تعجيبًا من سوء فعلهم مؤكدًا ذلك بالقسم.

ومنها: الحذف في عدة مواضع.

(1) أبو السعود.

ص: 444

ومنها: الزيادة أيضًا في بعض المواضع كزيادة من في قوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} . والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين (1).

* * *

ولقد أجاد من قال هذا البيت:

وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيْلَةٌ

وَلَكنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِيْ الْمَسَاوِيَا

شعر آخر

أَيُّها الْمُبْتَلَى بِكَشْفِ الْعَوْرَاتِ

فَإِنَّ لَكَ عَوْرَةٌ أسْوَأُ الْعَوْرَاتِ

لا تَنْظُرْ كِتَابَتِيْ بِعَيْنِ التَّنْقِيْصِ

فَإِنَّهَا غَالِيَةٌ عَنِ التَّرْخِيْصِ

(1) وهذا آخر ما يسره الله سبحانه وتعالى لي من تفسير الجزء السادس من القرآن الكريم، فالحمد لله على توفيقه والشكر له على تيسيره، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، حمدًا يوافي نعمه، ويكافىء مزيده، حمدًا يعدل حمد الملائكة المقربين، ويمالىء ما في السموات والأرضين، عدد خلقه، ورضا نفسه وزنة عرشه، ومداد كلماته، وصلاة وسلامًا دائمين متلازمين على سيد الأولين والآخرين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.

وكان الفراغ من مسودة هذا المجلد السابع في الليلة الحادية والعشرين منتصف الليل، من شهر الله المبارك الجمادى الأخيرة، من شهور سنة تسع وأربع مئة وألف من الهجرة النبوية بحارة الرشد من المسفلة من مكة المكرمة زادها الله تعالى شرفًا، وختم عمرنا فيها صلى الله عليه وسلم من لا نبي من بعده سيدنا محمد وآله وصحبه وجنده والحمد لله رب العالمين. آمين.

تمّ بعون الله تعالى المجلد السابع من تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن، ويليه المجلد الثامن وأوله قوله تعالى:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)} آية رقم: 82 من آيات سورة المائدة.

ص: 445