الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصالح الذي عمله قبل ذلك، وبطل ثوابه، سواء عاد إلى الإسلام أم لا، وخسر في الآخرة ما أعده الله للمؤمنين من الجزاء العظيم على الإيمان الصحيح، وهو إيمان الإذعان والعمل. روى ابن جرير عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أن ناسًا من المسلمين قالوا: كيف نتزوج نساءهم يعني نساء أهل الكتاب وهم على غير ديننا؟ فأنزل الله عز وجل: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ} .. الآية. فأحل الله تزوجهن على علم. انتهى. والمقصود من الآية: تعظيم شأن ما أحله الله تعالى وما حرمه، والتغليظ على من خالف ذلك. وقرأ ابن السميقع {حبَط} بفتح الباء. {وَهُوَ}؛ أي: ذلك الكافر {فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ؛ أي: من المغبونين بذهاب الجنة ودخول النار إذا مات على ذلك الكفر، ولم يعد إلى الإيمان بذلك قبل الموت، وهذا الشرط لا بد منه؛ لأنه إذا تاب وآمن قبل الموت .. قبلت توبته وصح إيمانه.
6
- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وصدقوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} ؛ أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة تعبيرًا بالمسبب الذي هو القيام عن السبب الذي هو الإرادة على حد قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} ؛ أي: إذا أردت قراءته، وجمور المسلمين على أن الطهارة لا تجب على من قام إلى الصلاة إلا إذا كان محدثًا؛ أي: إذا أردتم فعل الصلاة والقيام إليها وأنتم محدثون .. فاغسلوا وجوهكم
…
إلخ، رفعًا للحديث الأصغر، وهذا التقييد مستفاد من السنة العملية في الصدر الأول. فقد روى أحمد ومسلم وأصحاب السنن من حديث بريدة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه، وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: يا رسول الله إنك فعلت شيئًا لم تكن تفعله؟ فقال: "عمدًا فعلته يا عمر". وروى البخاري وأصحاب السنن عن عمرو بن عامر الأنصاري سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة قال: قلت: فأنتم كيف تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث. وروى أحمد والشيخان من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ". فهذه الأخبار تدل على أن المسلمين لم يكونوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يتوضؤون لكل صلاة، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة غالبًا،
وصلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد أمام الناس لبيان جواز ذلك. ومن ذلك يعلم أن الوضوء لكل صلاة عزيمة، وهو الأفضل، وإنما يجب على من أحدث، وآخر الآية يدل على ذلك فإنَّه ذكر الحديثين ووجوب التيمم على من لم يجد الماء بعدهما، فعلم منه أن من وجده وجب عليه أن يتطهر به عقبهما، ولو كانت الطهارة واجبة لكل صلاة لما كان لهذا معنى.
والخلاصة: أن الوضوء لا يجب إلا على المحدث، وإنما يستحب تجديده لكل صلاة. وفروض الوضوء المذكورة في هذه الآية أربعة:
الأول: غسل الوجه، وذكره سبحانه وتعالى بقوله:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ؛ أي: أمروا (1) الماء عليها، ولا حاجة إلى الدلك خلافًا لمالك. والغَسل بالفتح: إسالة الماء على الشيء لإزالة ما عليه من وسخ ونحوه، والوجوه: جمع وجه وحده: من أعلى تسطيح الجبهة إلى أسفل اللَّحْيَيْن طولًا، ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضًا؛ لأنَّه مأخوذ من المواجهة الحاصلة بما ذكر، فيجب غسل جميع الوجه في الوضوء، ويجب إيصال الماء إلى ما تحت الحاجبين وأهداب العينين والعذارين، والشارب والعنفقة، وإنْ كانت كثة، وأما اللحية: فإن كانت كثة لا ترى البشرة من تحتها .. لا يجب غسل ما تحتها، ويجب غسل ما تحت اللحية الخفيفة؛ والخفيفة هي ما ترى بشرتها من خلالها في مجلس التخاطب، والكثة بخلافها.
واستدل الشافعي على وجوب النية عند غسل الوجه بهذه الآية (2)، وحجته أن الوضوء مأمور به، وكل مأمور به يجب أن يكون منويًّا، ولما روي في "الصحيحين" من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنّما الأعمال بالنيات، وإنَّما لكل امرئ ما نوى". والوضوء من الأعمال، ويجب أن يكون منويًّا، وإنَّما قلنا: إن الوضوء مأمور به، وإنَّه من أعمال الدين؛ لقوله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . والإخلاص عبارة عن النية
(1) البيضاوي.
(2)
الخازن.
الخالصة، ومتى كانت النية الخالصة معتبرة كان أصل النية في جميع الأعمال التي يتقرب بها إلى الله تعالى معتبرًا.
واستدل أبو حنيفة على عدم وجوب النية في الوضوء بهذه الآية، قال: إن النية ليست شرطًا لصحة الوضوء؛ لأنَّ الله تعالى أوجب غسل الأعضاء الأربعة في هذه الآية، ولم يوجب النية فيها، فإيجاب النية زيادة على النص، والزيادة على النص نسخ، ونسخ القرآن بخبر الواحد وبالقياس غير جائز. وأجيب عنه بأنا إنَّما أوجبنا النية في الوضوء بدلالة القرآن وهو قوله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} .
والفرض الثاني من فروض الوضوء المذكورة في القرآن: غسل اليدين، وذكره الله سبحانه وتعالى بقوله:{و} اغسلوا {أيديكم إلى المرافق} والأيدي جمع يد، وحدها في الوضوء: من رؤوس الأصابع إلى المرفق. والمرفق بكسر أوله هو من الإنسان أعلى الذراع وأسفل العضد؛ أي: مجتمع الذراع والعضد. وذهب جمهور العلماء إلى وجوب إدخال المرفقين في الغسل، وحجتهم أن كلمة {إلى} هنا بمعنى (مع) نظير قوله تعالى:{وَلَا تَأكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} ؛ أي: مع أموالكم.
ويعضده من السنة ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه توضأ، فغسل وجهه، فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ.
ونقل عن مالك والشعبي وزفر وأبي بكر بن داود الظاهري: أنَّه لا يجب إدخال المرفقين في الغسل، واختاره ابن جرير الطبري. ونقل عن مالك وقد سئل عن قول الله عز وجل:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} فقال: الذي أمر به أن يبلغ المرفقين في الغسل لا يجاوزهما. وحجة أصحاب هذا القول أن كلمة (إلى) لانتهاء الغاية، وما يجعل غاية للحكم يكون خارجًا عنه كما في قوله تعالى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} ؛ ولأن الحد لا يدخل في المحدود، فوجب أن
لا يجب غسل المرفقين في الوضوء.
وأجيب عنها بأنَّ الحد إذا كان من جنس المحدود دخل فيه، كما في هذه الآية؛ لأنَّ المرفق من جنس اليد، وإذا لم يكن من جنس المحدود .. لم يدخل فيه، كما في قوله تعالى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} لأنَّ النهار من غير جنس الليل، فلا يدخل فيه.
والثالث من فروض الوضوء المذكورة في القرآن: مسح الرأس، وذكره بقوله عز وجل:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} جمع رأس والرأس معروف. وقد اختلف فقهاء الأمصار في أقل ما يحصل به فرض مسح الرأس، فقال الشافعي: يكفي أقل ما يصدق عليه اسم المسح ولو شعرة. وقال مالك: يجب مسح جميعه وهو إحدى الروايتين عن أحمد، والرواية الأخرى عنه أنه يجب مسح أكثره. وقال أبو حنيفة: يجب مسح ربعه؛ لأن المسح إنَّما يكون باليد وهي تستوعب مقدار الربع في الغالب، وفي رواية أخرى عنه: أنه يجب مسح قدر ثلاثة أصابع منه.
والمراد إلصاق المسح بالرأس، وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح بالرأس، فأخذ مالك بالاحتياط فأوجب الاستيعاب، وأخذ الشافعي باليقين فأوجب مسح ما يقع عليه اسم المسح، وأخذ أبو حنيفة ببيان السنة وهو ما يروى عن الصغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم:(توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين) متفق عليه. وقدرت الناصية بربع رأس.
والفرض الرابع من الفروض المذكورة في القرآن: غسل الرجلين، وذكره الله سبحانه وتعالى بقوله:{و} اغسلوا {أرجلكم إلى الكعبين} أي مع الكعبين. والكعبان: ها العظمان الناتئان عند مفصل الساق من الجانبين، أي: واغسلوا أرجلكم مع الكعبين ويؤيده عمل النبي صلى الله عليه وسلم وعمل الصحابة، وقول أكثر الأئمة. قد روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا لم يغسل عقبة فقال:"ويل للأعقاب من النار". وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة، فأدركنا وقد أرهقنا العصر، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا، قال: فنادى بأعلى صوته: "ويل للأعقاب من النار" مرتين أو ثلاثًا،
ويقوم المسح على الخفين عند لبسهما مقام غسل الرجلين، وقد روى ذلك خلائق لا يحصون من الصحابة، قال الحسن: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الخفين، وقال الحافظ ابن حجر: قد صرّح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر، وأقوى الأحاديث حجة فيه حديث جرير، فقد روى أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه فقيل له: تفعل هكذا؟ قال: نعم، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه.
والخلاصة: أن غسل الرجلين المكشوفتين ومسح المستورتين هو الثابت بالسنة، المتواترة المبينة للقرآن، والموافق لحكمة هذه الطهارة.
وقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر عنه (1): {وأرجلِكم} بالجر، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه والكسائي ويعقوب:{وأرجلَكم} بالنصب. أما على قراءة الجر فهو إما معطوف على الرؤوس، فكما يجب المسح في الرؤوس كذلك من الأرجل، وإنَّما عطفت الأرجل على الممسوح للتنبيه على الإسراف في استعمال الماء فيها؛ لأنها موضع صب الماء كثيرًا، والمراد غسلها، أو مجرور بحرف جر محذوف متعلق بـ فعل محذوف، تقديره: وافعلوا بأرجلكم غسلًا، وحذف حرف الجر وإبقاء الجر جائز، ولا يجوز هذا الكسر على الجوار على أنَّه منصوب في المعنى، عطفًا على المغسول؛ لأنَّ الجر بالجوار لا يرتكب إلا عند أمن اللبس، وهنا لا يؤمن اللبس، وأيضًا شرطه أن يكون بدون عاطف، والعاطف هنا موجود. وأمَّا على قراءة النصب فهو إمَّا معطوف على الرؤوس؛ لأنه منصوب المحل، والعطف على المحل جائز كالعطف على اللفظ كما هو مشهور عند النحاة، وإمّا معطوف على وجوهكم، فظهر لنا أن العامل في قوله:{وَأَرْجُلَكُمْ} أحد شيئين، إمَّا قوله:{وَامْسَحُوا} . وإمَّا قوله: {فَاغْسِلُوا} ولكن الأولى إعمال الأقرب منهما، حتى إن
(1) المراح.
بعضهم لا يجوز أن يكون العامل {فَاغْسِلُوا} لما يلزم عليه من الفصل بين المتعاطفين بجملة مبينة حكمًا مستقلًا ليس فيها تأكيد للأول، وليست هي اعتراضية، فوجب أن يكون عامل النصب في قوله:{وَأَرْجُلَكُمْ} هو قوله: {وَامْسَحُوا} فتدل هذه الآية على وجوب مسح الأرجل، لكن وردت أحاديث صحيحة كثيرة بإيجاب غسل الرجل، وهو مشتمل على المسح ولا ينعكس، فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط، فوجب الرجوع إليه، ويقرأ في الشذوذ بالرفع على الابتداء؛ أي: وأرجلكم مغسولة أو كذلك.
فصل
قد تقدم أن الفروض المذكورة في هذه الآية أربعة، وهي: غسل الوجه، وغسل اليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين إلى الكعبين، وقد تقدم استدلال الشافعي بهذه الآية على وجوب النية في الوضوء، فصارت فرضًا خامسًا، وذهب الشافعي ومالك وأحمد إلى وجوب الترتيب في الوضوء، وهو أن يغسل الأعضاء في الوضوء على الولاء كما ذكره الله تعالى في هذه الآية، فيغسل وجهه أولًا، ثم يديه، ثم يمسح رأسه، ثم يغسل رجليه، فصار الترتيب فرضًا سادسًا. وذهب أبو حنيفة إلى أن الترتيب في الوضوء غير واجب، واحتج الشافعي على وجوب الترتيب بهذه الآية، وذلك أن الله تعالى أمر بغسل الوجه، ثم بغسل اليدين، ثم بمسح الرأس، ثم بغسل الرجلين، فوجب أن يقع الفعل مرتبًا كما أمر الله تعالى، ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث حجة الوداع "أبدأ بما بدأ الله به". وهذا الحديث وإن ورد في قصة السعي بين الصفا والمروة، فإنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولأن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء ما وردت إلا مرتبة، كما ورد في نص الآية، ولم ينقل عنه ولا عن غيره من الصحابة أنه توضأ منكسًا أو غير مرتب، فثبت أن ترتيب أفعال الوضوء كما أمر الله تعالى ونص عليه في هذه الآية واجب، واحتج أبو حنيفة لمذهبه بهذه الآية أيضًا وذلك: أن الواو لا تفيد الترتيب، فإذا قلنا بوجوب الترتيب صار ذلك زيادة على النص، وذلك غير جائز. وأجيب عنه بأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ إلا
مرتبًا كما ذكر، وبيان الكتاب إنَّما يؤخذ من السنة.
فصل في ذكر الأحاديث التي وردت في صفة الوضوء وفضله عن حمران مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه أن عثمان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرات، فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ويديه إلى المرفقين ثلاثًا، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرات إلى الكعبين، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال:"من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه .. غفر له ما تقدم من ذنبه". متفق عليه.
زاد في رواية بعد قوله "فأقبل بيديه وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه".
وعن عبد خير قال: أتانا علي كرم الله وجهه - وقد صلى - فدعا بطهور، فقلنا: ما يصنع بالطهور وقد صلى! ما يريد إلا ليعلمنا، فأتي بإناء فيه ماء وطست فأفرغ من الإناء على يمينه، فغسل يديه ثلاثًا، ثم تمضمض واستنشق ثلاثًا، فمضمض ونثر من كف يأخذ منه، ثم غسل وجهه ثلاثًا، وغسل يده اليمنى ثلاثًا، وغسل الشمال ثلاثًا، ثم جعل يده في الإناء فمسح رأسه مرة واحدة، ثم غسل رجله اليمين ثلاثًا، ورجله الشمال ثلاثًا، ثم قال: من سره أن يعلم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو هذا. أخرجه أبو داود.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف الطهور؟ (فدعا بماء في إناء، فغسل كفيه ثلاثًا، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ثم غسل ذراعيه ثلاثًا، ثم مسح برأسه، فأدخل أصبعيه السبابتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه، ثم غسل رجليه ثلاثًا، ثلاثًا، ثم قال: هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم، أو قال: ظلم وأساء). أخرجه أبو داود.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وأذنيه
ظاهرهما وباطنهما). أخرجه الترمذي وصححه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا لم يغسل عقبه فقال: "ويل للأعقاب من النار". متفق عليه.
وعن جابر رضي الله عنه قال: أخبرني عمر بن الخطاب أن رجلًا توضأ، فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"ارجع وأحسن وضوءك"؟ قال: فرجع فتوضأ ثم صلى. أخرجه مسلم.
وعن خالد رضي الله عنه عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا وفي قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة. أخرجه أبو داود.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها فأدركنا - وقد أرهقتنا الصلاة - ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادانا بأعلى صوته:"ويل للأعقاب من النار" مرتين أو ثلاثًا. متفق عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة. أخرجه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين. أخرجه أبو داود والترمذي وقال: وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثًا ثلاثًا.
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: كان علينا رعاية الإبل، فجاءت نوبتي، فروحتها بعشي، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا يحدث الناس، فأدركت من قوله:"ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة فقلت ما أجود هذا، فإذا قائل بين يدي يقول: التي قبلها أجود، فنظرت فإذا عمر قال: إنِّي قد رأيتك جئت آنفًا؟ قال: ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وأن
محمدًا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء". أخرجه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا توضأ العبد المسلم - أو المؤمن - فغسل وجهه .. خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه .. خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه .. خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقيًّا من الذنوب". أخرجه مسلم.
وعن نعيم بن عبد الله بن المجمر، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ أمتي يدعون يوم القيامة غرًّا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل". متفق عليه.
وفي رواية قال: رأيت أبا هريرة رضي الله عنه يتوضأ، فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله". وفي راوية لمسلم قال: سمعت خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ على طهر .. كتب الله له به عشر حسنات". أخرجه الترمذي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه". أخرجه أبو داود وابن ماجه.
{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا} ؛ أي: أصحاب جنابة وحدث أكبر؛ أي: وإنْ أصابتكم جنابة إمَّا بخروج المني، على أي صفة كان من احتلام أو غيره، أو بالتقاء
الختانين، وإن لم يكن معه إنزال، فختان الرجل هو الموضع الذي يقطع منه جلدة القلفة، وشفرا المرأة محيطان بثلاثة أشياء، ثقبة في أسفل الفرج وهي مدخل الذكر، ومخرج الحيض والولد، وثقبة أخرى فوق هذه مثل إحليل الذكر، وهي مخرج البول لا غير، وموضع ختانها وهو ثقبة البول، وهناك جلدة قائمة مثل عرف الديك، وقطع هذه الجلدة هو ختانها، فإذا غابت الحشفة .. حاذى ختانها ختانه، وهذا هو معنى التقاء الختانين. أي: وإن كنتم أيها المؤمنون مصابين بالجنابة المذكورة وأردتم القيام إلى الصلاة {فَاطَّهَّرُوا} ؛ أي: تطهروا من الجنابة بغسل البدن كله قبل الدخول في الصلاة التي أردتم القيام إليها، والمرأة كالرجل في ذلك كله. وعن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله، فيغسل فرجه، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء يخلل بهما أصول شعره، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على سائر جسده).
وقرأ الجمهور: {فَاطَّهَّرُوا} . تشديد الطاء والهاء المفتوحتين وأصله تطهروا فأدغمت التاء في الطاء، واجتلبت همزة الوصل، وقرىء:{فاطهروا} بسكون الطاء والهاء مكسورة من اطهر رباعيًّا؛ أي: فأطهروا أبدانكم، والهمزة للتعدية. ولما بين الله سبحانه وتعالى وجوب الطهارتين: الوضوء والغسل، وكان المسلم لا بد له من طهارة الوضوء مرة أو أكثر من ذلك في اليوم، ولا بد له من الغسل في كل أسبوع مرة أو أكثر غالبًا .. بين الرخصة في تركهما عند المشقة أو العجز؛ لأن الدين يسر لا حرج فيه ولا عنت فقال:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} ؛ أي: وإنْ كنتم مرضى مرضًا يضره الماء أو يشق فيه استعمال الماء جلديًّا كان كالجدري والجرب وغيرهما من القروح والجراح أو غير جلدي كالباطني {أَوْ} مستقرين {عَلَى سَفَرٍ} طويلًا أو قصيرًا، طاعة أو غيرها، ومن شأن السفر أن يشق فيه الوضوء والغسل {أوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}؛ أي: المكان المنخفض الذي تقضى فيه حاجة الإنسان، التي لا بد منها، ويراد به شرعًا قضاء الحاجة من بول أو غائط؛ أي أحدثتم الحدث الموجب للوضوء عند إرادة الصلاة ونحوها، كالطواف، ويسمى الحدث الأصغر {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} بذكر أو غيره، المراد
بالملامسة المباشرة المشتركة بين الرجال والنساء، والحدث الموجب للغسل يسمى الحدث الأكبر، والموجب للوضوء يسمى الأصغر {فَلَمْ تَجِدُوا} يا معشر المسافرين والمحدثين حدثًا أصغر أو أكبر {مَاءً} بعد طلبه {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}؛ أي: فاقصدوا ترابًا طاهرًا {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} بالضربة الأولى {وَأَيْدِيكُمْ} بالضربة الثانية {مِنْهُ} ؛ أي: من ذلك الصعيد. وقد تقدم تفسير هذا في سورة النساء مستوفى، وكذلك تقدم الكلام على ملامسة النساء وعلى التيمم وعلى الصعيد، ووجه التكرير هذا هنا لاستيفاء الكلام في أنواع الطهارة، ومن في قوله:{مِنْهُ} لابتداء الغاية، وقيل للتبعيض وفي قوله:{مِنْهُ} دليل على أنَّه يجب مسح الوجه واليدين بالصعيد وهو التراب.
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ} أيها المؤمنون فيما شرعه لكم في هذه الآية، وفي غيرها {مِنْ حَرَجٍ}؛ أي: حرجًا ما وضيقًا؛ أي: أدنى ضيق وأقل مشقة بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم عند عدم الماء؛ لأنَّه تعالى غني عنكم، رحيم بكم، فلا يشرع لكم إلا ما فيه الخير والصلاح لكم {وَلَكِنْ يُرِيدُ} الله سبحانه وتعالى {لِيُطَهِّرَكُمْ} من الأقذار والرذائل والمنكرات والعقائد الفاسدة، فتكونوا أنظف الناس أبدانًا، وأزكاهم نفوسًا، وأصحهم أجسادًا، وأرقاهم أرواحًا. وقيل المعنى (1): ليطهر قلوبكم عن صفة التمرد عن طاعة الله تعالى؛ لأنَّ الكفر والمعاصي نجاسات للأرواح، وذلك لأنه تعالى لما أمر العبد بإيصال الماء إلى هذه الأعضاء المخصوصة - وكانت طاهرة - لم يعرف العبد في هذا التكليف فائدة معقولة، فلمَّا انقاد لهذا التكليف .. كان ذلك الانقياد محض إظهار العبودية، فأزال هذا الانقياد عن قلبه آثار التمرد، فكان ذلك طهارة للقلوب والأبدان، {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} فيجمع (2) لكم بين طهارة الأبدان وطهارة الأرواح، والإنسان إنما هو روح وجسد. والصلاة تطهر الروح وتزكي النفس، فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتعود المصلي مراقبة ربه في السر والعلن، وخشيته حين الإساءة، والرجاء فيه لدى الإحسان، والطهارة
(1) المراح.
(2)
المراغي.
التي جعلها الله شرطًا للدخول في الصلاة، ومقدمة لها، تطهر البدن وتنشطه، فيسهل بذلك العمل من عبادة وغيرها، فما أجل نعم الله على عباده! وما أجدر من هدى بهداه بدوام الشكر عليه! ومن ثم ختم الآية الكريمة بقوله:{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أو المعنى {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} ببيان كيفية الطهارة، وهي نعمة الدين بعد ذكر نعمة الدنيا، وهي إباحة الطيبات من المطاعم والمناكح، أو بالترخيص في التيمم والتخفيف في حال السفر والمرض، فتستدلوا بذلك على أنَّه تعالى يخفف عنكم يوم القيامة، بأن يعفو عن ذنوبكم ويتجاوز عن سيئاتكم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}؛ أي: وعدكم ذلك لكي تديموا شكره على نعمه الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية.
فصل في ذكر الحكمة في شرع الوضوء والغسل
للوضوء والغسل فوائد أهمها (1):
1 -
أن غسل البدن كله وغسل الأطراف يفيد صاحبه نشاطًا وهمة، ويزيل ما يعرص للجسد من الفتور والاسترخاء بسبب الحدث، أو بغيره من الأعمال التي تؤثر تأثيره، وبذا يقيم الصلاة على وجهها، ويعطيها حقها من الخشوع؛ ومراقبة الله تعالى، إذ المشاهد أنَّه إذا بلغ الإنسان من هذه اللذة الجسيمة غايتها، بالوقاع أو الإنزال، حصل تهيج عصبي كبير، يعقبه فتور شديد، بحسب سنة رد الفعل، ولا يعيد نشاطه إلا غسل البدن كله.
2 -
أن النظافة ركن الصحة البدنية، فإن الوسخ والأقذار مجلبة الأمراض والأدواء الكثيرة، ومن ثم ترى الأطباء يشددون في أيام الأوبئة والأمراض المعدية في المبالغة في النظافة، وجدير بالمسلمين أن يكونوا أصح الناس أجسادًا؛ وأقلهم أمراضًا؛ لأنَّ دينهم مبني على المبالغة في نظافة الأبدان والثياب والأمكنة، فإذا هم فعلوا ما أوجبه الدين تنتفي الأسباب التي تولد جراثيم - أصول - الأمراض عند الناس.
(1) المراغي.