الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة إحدى وعشرين وثمانمائة
استهل العشر الثالث من المائة التاسعة والخلفية المعتضد داود، والسلطان الملك المؤيد شيخ، وملك اليمن الناصر أحمد بن الأشرف، وأمير مكة حسن بن عجلان، وأمير المدينة عزيز بن هيازع، وأمير بلاد قرمان محمد بك بن علي بك بن قرمان ومرقب وما معها كرسجى ابن عثمان، وملك الدشت وصراي أيدكي وملك تبريز وبغداد قرا يوسف، ونائبه ببغداد ابنه محمد، وملك فارس وخراسان وهراة وسمرقند شاه رخ ابن اللنك، وملك تونس وما معها من المغرب أبو فارس، وسلطان الأندلس ابن الأحمر وأمير تلمسان
…
وأمير فاس..
وفي ثالث المحرم زوج السلطان أستاداره ببعض أمهات أولاده بعد أن أعتقها، فعمل لها مهما عظيماً ذبح فيه ثمانية وعشرين فرساً وغير ذلك، وكان إذ ذاك ابتدأ به المرض فلم ينتفع بنفسه.
وفي أول هذه السنة ركب الطنبغا الجكمي نائب درندة على حسين بن كبك فتقنطرت به فرسه فقبض عليه وقتل، ونزل ابن كبك على ملطية فحاصرها، فبلغ السلطان ذلك فكتب إلى البلاد الشامية أن يخرجوا العساكر إلى قتال حسين بن كبك.
وفي يوم الرابع من المحرم صلى السلطان الجمعة بالجامع الطولوني فخطب به القاضي الشافعي وكان قد طلع ليخطب به في القلعة على العادة، فوجد السلطان قد ركب قبل الأذان لصلاة الجمعة فتبعه فدخل الجامع الطولوني فدخل قاعة الخطابة، فوجد خطيب الجامع وهو ولد ابن النقاش قد تهيأ ليخطب فتقدم هو وصعد المنبر، وحصل للخطيب بذلك قهر.
وفي الثالث من جمادى الأولى قتل حسين بن كبك، وذلك أن تغرى بردى الجمكي هرب من المؤيد من كختا فأقام بملطية عند نائبها الأمير منكلي بغا، فسار حسين بن كبك إلى ملطية فحاصرها، فهرب تغري يردى إلى حسين بن كبك فأكرمه، ثم سار حسين إلى أرزنكان وتغرى بردى صحبته ليحاصر بزعمه صاحبها، فغدر تغري بردى بحسين وهما جالسان يشربان فضربه بسكين في فؤاده فمات، وهرب إلى ملطية ثم توجه منها إلى حلب، فجهزه نائبها إلى المؤيد وأعلمه بما صنع، فأكرمه وخلع عليه وأعطاه إقطاعاً وخيلاً، وأمر لأمراء أن يخلعوا عليه، فحصل له شيء كثير.
وفي الخامس من المحرم توجه السلطان إلى وسيم فأقام هناك نحو العشرين يوماً، ثم رجع فنزل بالقصر الغربي بمنبابة وأمر الوالي أن يشعل البحر، فحصل من قشور النارنج والبيض ومن المسارج شيئاً كثيراً إلى الغاية، وعمرها بالزيت والفتائل، فأوقدها وأرسلها في الماء، ثم أطلق في غضون ذلك من النفط الكثير، فكانت ليلة عجيبة مر فيها من الهزل والسخف ما لا عهد للمصريين بمثله، وكان الجمع في الجانبين من الناس المتفرجين متوفراً وفي البحر من المراكب جمع جم.
وفي سادس عشري المحرم قبض على بيبغا المظفري أمير سلاح واعتقل بالإسكندرية، وذلك أن بعض الناس وشى به إلى السلطان فتخيل منه فقبض عليه.
وفي الثامن والعشرين من المحرم نودي بالقاهرة أن كل غريب يرجع إلى وطنه! فاضطربت الأعاجم وسعوا في منعه إلى أن سكن الحال واستقروا.
وفي رابع صفر وسط قرقماس نائب كختا في جماعة خارج باب النصر، وكانوا ممن أحضر صحبة السلطان في الحديد.
وفي سادس صفر عاد السلطان أستاداره في مرضه فقدم له خمسة آلاف دينار، وتوجه من بيته إلى بيت ناظر الخاص فقدم له ثلاثة آلاف دينار.
وفي هذه الشهر شرع السلطان في تنقيص سعر الذهب فنودي عليه في عاشر صفر أن يكون الهرجة بمائتين وثلاثين والأفلوري بمائتين وعشرين وأن تحط الفضة المؤيدية فتصير بسبعة دراهم كل نصف، فماج الناس وكثر اضطرابهم، فلم يلتفت إليهم وأستمر الحال، ثم أمر الوالي وهو المحتسب أن يطلب الباعة وتحط أسعار المبيعات بقدر ما انحط من سعر الفضة والذهب.
وفي نصف ربيع الأول جمع الوالي الباعة وأصعدهم إلى القلعة فقرر معهم جقمق الدويدار أن يكون الدرهم المؤيدي هو المتعامل به دون الذهب والفلوس ويكون النقد الرائج. وأن لا يأخذ التاجر في كل مائة ليشتري بها شيئاً ويبيعه عن قرب إلى درهمين، وطل من يومئذ النداء في الأسواق بالدراهم من الفلوس وصار النداء بالدراهم بالفضة المؤيدية.
وفي أول صفر عاد السلطان الأمير الكبير من مرض وقع له. ثم رجع إلى بيت جقمق الدويدار فأقام به إلى آخر النهار.
وفي شهر ربيع الأول قدم علاء الدين محمد الكيلاني الشافعي من بلاد المشرق فزار الإمام الشافعي ثم رجع فاجتمع بالسلطان، وكان قد وصف بفضل زائد وعلم واسع، فلم
يظهر لذلك نتيجة ولم يظهر له معرفة إلا بشيء يسير من الطب، فكسد سوقه بعد أن نفق وتولى ناكصاً خاملاً.
وفي رابع عشره انتقض ألم السلطان برجله.
وفي هذا الشهر كاتب أهل طرابلس السلطان في سوء سيرة عاملهم وهو برد بك الخليلي وتجاوزه الحد في الظلم وترك امتثال مراسيم السلطان، فأرسل يطلبه، ومنعه أهل طرابلس من الدخول وكان قد خرج للصيد، فأرسل يطلبه، فقدم القاهرة في آخر ربيع الأول، فقرر في نيابة صفد بعد أن قدم مالاً جزيلاً بعناية زوج ابنته جقمق الدويدار.
وفيه قام أهل المحلة على وإليها ورجموه بسبب مبالغته في طلب الفلوس، ونزح كثير منهم إلى القاهرة، ووصل الذهب عندهم إلى سعر مائتين وتسعين من غير هذا الفلوس، واشتد الأمر في طلبها.
وفيه تنكر السلطان على القاضي جلال الدين البلقيني بسبب كثرة النواب، فبادر البلقيني فعزل من نوابه ستة عشر نفساً، ثم أمر بالتخفيف منهم فعزل منه أيضاً أربعين نفساً، ولم يتأخر منهم سوى أربعة عشر نائباً، ووقعت لأحد النواب الذين بقوا وهو سراج الدين الحمصي كائنه في حكم حكم به وعقد له مجلس فنقض حكمه وتغيب، والسبب فيه أن القمنى أراد ارتجاع بستان المحلى الذي بالقرب من الآثار فرتب الأمر مع كاتب السر والقاضي علاء الدين ابن مغلى وكان صديقه، فلما حضر القضاة وأهل الفتيا ظهر للسلطان التعصب فسألني عن القضية وقال: أنت تعرف الحال أكثر من هؤلاء؟ فذكرت له جلية الأمر باختصار، فبادر الحنفي ابن الديري وحكم بنقض حكم الحمصي، ثم قدم شمس الدين الهروي من القدس فأكرمه السلطان وأنكر على بعض القضاة عدم ملاقاته وشكر من لاقاه وسلم عليه، فانثالت عليه الهدايا والتقادم وأجريت له رواتب.
وفي ربيع الأول مات الشريف علي نقيب الأشراف، فاستقر بعده في النيابة ولده حسن، وفي نظر الأشراف فخر الدين الأستادار وكان أبل من مرضه.
وفيه وقع بالغربية مطر عظيم وفيه برد كبار زنة الحبة منه مائة درهم تلفت منه زروع كثيرة آن حصادها حتى أن مارسا فيه ثمانمائة فدان تلف عن آخره ومات أغنام كثيرة بوقوعه عليها.
وفيه أفرج عن سودون الاسندمري من سجن الإسكندرية.
وفي الثاني من جمادى الأولى فقبض على أرغون شاه الوزير وسلم للأستادار. وكذلك آقبغا شيطان الوالي، فتتبع حواشيهما وأسبابهما، واستقر علي بن محمد بن الطبلاوي في ولاية القاهرة عوضاً عن أقبغا ومحمد بن يعقوب الشامي في الحسبة عوضاً عنه وبدر الدين ابن محب الدين في الوزارة عوضاً عن أرغون شاه، وأفرج عن أرغون شاه في عاشر جمادى الأولى، ثم خلع عليه أمير التركمان فسار في جمادى الأول.
فلما كان يوم الأحد سابع عشري جمادى الأولى منع القاضي جلال الدين من الحكم بسبب شكوى جماعة للسلطان لما نزل إلى الجامع بباب زويلة من ابن عمه شهاب الدين العجمي قاضي المحلة وذلك في يوم السبت سادس عشريه فشغر المنصب يوم الأحد والاثنين، فلما كان يوم الثلاثاء استقر شمس الدين الهروي في قضاء الشافعية بالقاهرة ونزل معه جقمق الدويدار وجماعة من الأمراء والقضاة وحكم بالصالحية على العادة. وكان الهروي قد قدم قبل ذلك في آخر ربيع الأول، فبالغ العجم في التعصب له، وتلقاه بعضهم من بلبيس وبعضهم من سرياقوس، ونزل أولا بتربة الظاهر على قاعدة الأمراء، ثم طلع إلى القلعة صباحاً وسلم على السلطان يوم الأحد مستهل ربيع الآخر.
ولما استقرت قدم الهروي في القضاء راسل البلقيني يطلب منه المال الذي تحت يده من وقف الحرمين فامتنع، وكان أستأذن السلطان صبيحة عزله هل يدفع المال للهروي أم لا! فأمر له أن يتركه تحت يده،
وكان البلقيني لما استقرت قدمه بعد سفر الإخناي إلى الشام في سنة ثمان وثمانمائة قد ضبط مال الحرمين وجعله في موضع من داره فتأخر في هذه المدة نحو خمسة آلاف دينار، فصعب على الهروي منعه من التصرف في ذلك، وظهر لمن اطلع على ذلك من حواشي السلطان أنه غير مؤتمن عند السلطان وإنما أراد بولايته نكاية البلقيني.
وفي العشرين من جمادى الآخرة عرض الهروي الشهود وأقرهم، ولم يستنب سوى عشرة، ثم زاد عددهم قليلاً قليلاً إلى أن بلغوا عشرين، واستمر يركب بهيئته بلبس العجم ولم يخطب بالسلطان على العادة واعتذر بعجمة لسانه، فاستناب عنه ابن تمرية وكان يخطب بمدرسة حسن فوصفه الأمير ططر للسلطان، فأذن له في النيابة عن الهروي، وباشر الهروي القضاء بصرامة شديدة وإعجاب شديد زائد، ثم مد يده إلى تحصيل الأموال فأرسل رجلاً من أهل غزة يقال له نصف الدنيا إلى الصعيد ومعه مراسيم بعلاماته وقرر على كل قاض شيئاً، فمن بذله كتب له مرسومه ومن امتنع استبدل به غيره، فكثر فحش القول فيه، ثم فوض إلى الأعاجم مثل العينتابي وابن التباني ويحيى السيرامي وشمس الدين الفرياني الذي عمل قاضي العسكر قضاء بلاد اختاروها، فاستنابوا فيها وقرروا على النواب أن يعملوا لهم شيئاً معيناً. وأرسل إلى الوجه البحري آخر على تلك الصورة، ثم تصدى للأوقاف سواء كانت مما يشمله نظره أم لا ففرض على من هي بيده شيئاً معلوماً وصار يطلب من الناظر كتاب الوقف فيحضره له فيحبسه حتى يحضر له ما يريد، فترك كثير منهم كتب أوقافهم عنده حتى عزل فاستخلصوها.
وفي أول هذه السنة حاصر إبراهيم بن رمضان طرسوس واستمر محاصراً لها أربعة أشهر وأكثر، فكاتب نائبها شاهين الأيدكاري السلطان يستنجده ويعلمه بأنه بلغه أن
محمد بن قرمان عزم على التوجه إلى طرسوس، فلما كان في الخامس عشر من شهر رجب نازل محمد بن قرمان طرسوس، فانتمى إبراهيم بن رمضان المذكور، فبلغ ذلك السلطان فأرسل إلى حموة بن إبراهيم المذكور يقرره في مكان أبيه في نيابة أذنة ويحرض نائب حلب على اللحاق بشاهين الأيدكاري بطرسوس، ووقع بين أهل طرسوس وابن قرمان حرب شديد، فاتفق أن ثار بمحمد بن قرمان وجع باطنه فاشتد عليه، فرحل عنها في سابع شعبان.
وفيها تواقع على بن دلغادر وأخوه محمد فانتصر وانهزم علي، فأدركه يشبك نائب حلب فأضافه محمد وقدم له وحلف له على طاعة السلطان.
وفيها أوقع تنبك نائب الشام يعرب آل علي قريباً من حمص، فنهب منهم ألف جمل وخمسمائة جمل، فباع الرديء منها وجهز البقية وهي ألف وثلاثمائة إلى السلطان.
وفيها استنجد نائب ملطية السلطان فكتب إلى نائب طرابلس أنه يتوجه بعسكرها بحدة له، وأرسل مالاً كثيراً يعمر به خاناً وقيسارية وطاحوناً وزاوية ويوقف ذلك عليها. وجملة المال أربعون ألف دينار.
وفي ثاني عشر جمادى الآخرة قرر شهاب الدين أحمد الأموي في قضاء دمشق عوضاً عن عيسى المغربي المالكي.
وفي سادس عشرة ضرب عنق المقدم على بن الفقيه أحد المقدمين بالدولة بعد أن ثبت عنه ما يوجب إراقة دمه.
وفي جمادى الأولى أوقع سودون القاضي كاشف الوجه القبلي بعرب بني فزازة ونهب أموالهم وقتل منهم خلقاً كثيراً، فهرب من نجا منهم إلى البحرية، فتلقاهم دمرداش نائب الكشف بالوجه البحري فاستأصلهم ونهب أموالهم فانحسم أمرهم.
وفيه سجن جار قطلي نائب حماة بالإسكندرية.
وفيه توجه الأستادار فخر الدين إلى الوجه القبلي وختم بالجيزة، وسار في طوائف كثيرة من العربان والمماليك، وشرع في تتبع العربان المفسدين، فلما انتهى إلى هوارة فروا منه فتتبعهم إلى قرب أسوان فقاتلوه، فقتل منهم نحو المائتين، وانهزم البقية إلى جهة ألواح الداخلة.
وفيها في جمادى الأولى نفل شاهين الزرد لحاش من الحجوبية بدمشق إلى نيابة حماه ونقل بلبان من نيابة حماه إلى الحجوبية بدمشق.
وفيه خلع على علي بن أبي بكر الجرمي أمير جرم، واستقر على عادته.
زفيه جهز السلطان إلى نائب الكرك نواب القدس والرملة وغزة ليجتمعوا معه على كبس بني عقبة، وأسر إلى نائب غزة أن يقبض على نائب الكرك، وكان السلطان غضب عليه لكونه لم يخرج لملاقاته حين عاد من بلاد الروم، فقبضوا عليه في جمادى الآخرة وحمل إلى دمشق فسجن بها.
وفي الثالث والعشرين من ربيع الآخر استقر برسباي الدقماقي أحد مقدمي الألوف بالقاهرة في نيابة طرابلس عوضاً عن بردبك نقلاً من كشف التراب، ونقل بردبك إلى نيابة
صفد، وأعطى فخر الدين الأستادار إقطاع برسباي، وأعطى بدر الدين الوزير إقطاع فخر الدين، ثم اعتقل برسباي بقلعة المرقب في شعبان كما سيأتي، وهو الذي آل أمره إلى استقراره في السلطنة بعد خمس سنين.
وفي هذه الشهر كتب محضر المئذنة المقدم ذكرها وهدمت، وأغلق باب زويلة بسبب ذلك ثلاثين يوماً، ولم يقع منذ بنيت القاهرة مثل ذلك.
وفي جمادى الأولى تحرك عزم السلطان على الحج، وقويت همته في ذلك، وكتب إلى جميع البلاد بذلك وأمرهم بتجهيز ما يحتاج، وعرض المماليك الذين بالطباق وغيرهم من يسافر معه للحج وأخرج الهجن، فجهز جملة من الغلال في البحر إلى ينبع وجدة، وركب إلى بركة الجيش، فعرض الهجن في شعبان. ثم ركب إلى قبة النصر ومر في شارع القاهرة وبين يديه الهجن وعليها الحلل والحلي، وجد في ذلك واجتهد إلى أن بلغه عن قرا يوسف ما أزعجه. ففترت همته عن الحج ورجع إلى التدبير فيما يرد قرا يوسف عن البلاد الشامية وأمر بالتجهيز إلى الغزاة.
وأرسل في ثاني رمضان بتتبع الغلال المجهزة إلى الحج وكان ما سنذكره إن شاء الله قريباً.
وفي حادي عشر جمادى الأولى ولد للسلطان ولد اسمه موسى، فأرسل مرجان الخازندار مبشراً به إلى البلاد الشامية، فكان في حركته سبب عزل القاضي نجم الدين ابن حجي قاضي الشافعية بدمشق، وذلك أنه وصل إلى دمشق فأعطاه كل رئيس ما جرت به العادة ولم ينصفه القاضي الشافعي فيما زعم، فلما رجع في شعبان أغرى السلطان به ونقل له عن النائب أنه يشكو من القاضي الشافعي المذكور وأنه سأله في حكومة، فغضب بسببها
وبادر بعزل نفسه، فلما تحقق السلطان ذلك غضب عليه لكونه بادر بعزل نفسه بغير استئذان، وكتب إلى النائب بحبسه بالقلعة، واستمرت دمشق شاغرة عن قاض إلى أوائل شوال، فاستعطف السلطان عليه حتى رضي عنه وأعاده، ومات موسى بن السلطان المذكور في ليلة شوال.
وفي سادس عشر جمادى الأولى دخل السلطان المارستان المنصوري وصلى في محراب المدرسة أولاً ركعتين. وكان الشيخ نصر الله أخبره أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم جالساً في المحراب المذكور والسلطان قدامه يقرأ عليه سورة والضحى. ثم دخل إلى المرضى فتفقد أحوالهم، ثم إلى المجانين فقام ذلك اشخص الذي تقدم في سنة تسع عشرة وثمانمائة أنه ادعى أنه يرى الله عز وجل في اليقظة وثبت عند المالكي أنه مختل العقل فسجن بالمارستان، فكلم السلطان لما رآه وسأله أن يفرج عنه فلم يجبه.
وكان السلطان فوض أمر الأوقاف إلى مسعود الكجحاوي الذي تقدم ذكره في أخبار تمر لنك فكان من جملة أعوان الهروي ثم وقع ما بينهما وصار الهروي يؤلب عليه ويذكر معايبه وتصادق مع ابن الديري عليه، ثم دس الهروي إلى أحمد الحنبكي ورقة يذكر فيها أنه ثبت في جهة البلقيني لجهة الأوقاف والأيتام مائة ألف دينار، فعرضها أحمد على السلطان وشنع على البلقيني، فاستعظم السلطان ذلك وبحث عن القضية إلى أن تحقق أنها من اختلاق الهروي فأعرض عن ذلك.
وفي الثالث من جمادى الأولى قدم طائفة من أهل الخلي يشكوا إلى السلطان من الهروي وأنه أعطى بعضهم بيضاً وألزمه بعدده دجاجاً، فأرسلهم السلطان وأمره أن يخرج لهم مما يلزمه، فلم يصنع شيئاً وتمادى على غيه، فأغضى السلطان عنه ولزم فيه غلطه.
وفي أول شعبان وجد السلطان في مجلسه ورقة فيها شعر وهو:
يا أيها الملك المؤيد دعة
…
من مخلص في حبه لك ينصح
انظر لحال الشافعية نظرة
…
فالقاضيان كلاهما لا يصلح
هذا أقاربه عقارب وابنه
…
وأخ وصهر فعلهم مستقبح
غطوا محاسنه بقبح صنيعهم
…
ومتى دعاهم للهدى لا يفلح
وأخو هراة بسيرة اللنك اقتدى
…
فله سهام في الجوارح نجرح
لا درسه يقرأ ولا أحكامه
…
تدري ولا حين الخطابة يفصح
فافرج هموم المسلمين بثالث
…
فعسى فساد منهم يستصلح
فعرضها السلطان على الجلساء من الفقهاء الذين يحضرون عنده فلم يعرفوا كاتبها وطارت الأبيات، فأما الهروي فلم ينزعج من ذلك، وأما البلقيني فقام وقعد وأطال البحث والتنقيب عن ناظمها، فتقسمت الظنون واتهم شعبان الأثاري وكان مقيماً بالقاهرة وتقي الدين ابن حجة وشخص ينظم الشعر من جهة بهاء الدين المناوي أحد نواب الشافعي وغيرهم وكانت هذه الأبيات ابتدأ سقوط الهروي من عين السلطان وكانت قد أعجبت السلطان حتى صار يحفظ أكثرها ويكرر قوله: أقاربه عقارب.
فلما كان في رمضان قرئ البخاري بالقلعة على العادة فحضر الهروي وقد اختلق لنفسه أسناداً ليقرأ عليه به صحيح البخاري وأرسل إلى القارئ وهو شمس الدين الجبتي فتناوله منه وهو من أهل الفن فعرف فساده فاقتضى رأيه أن جامله، فلما ابتدأ بالقراءة قال بعد أن بسمل وحمدل وصلى ودعا: وبالسند إلى البخاري، فاستحسن ذلك منه، وخفي على الهروي قصده وظن أنه نسي الورقة، وتمادى الحضور والسلطان تارة يحضر وتارة لا يحضر إلى أن افتقد القاضي الحنبلي فسأل عن سبب تأخره، فعرفه كاتب السر أنه يزدري الهروي ويسلبه عن العلم ولا سيما الحديث، فأذن السلطان للبلقيني في حضور مجلس الحديث، فحضر وجلس بجانب الهروي، فلما بلغ ذلك القاضي الحنبلي حضر أيضاً وتجاذبا البحث، وحضر مع البلقيني كثير من أقاربه ومحبيه فصار يركب في موكب أعظم من الهروي، وتحامى كثير من النواب الركوب مع الهروي خوفاً من البلقيني ومما يقاسونه من السب الصريح من أتباعه، فتقدم الهروي إلى النواب والموقعين بأن لمن لم يكب معه فهو ممنوع، فتحامى كثير من الناس النيابة عنه وأصر آخرون، فوقع لواحد منهم يقال له عز الدين محمد ابن عبد السلام المنوفي بحث مع البلقيني فسطا عليه وسأل المالكي أن يحكم فيه، فاستدعى به إلى بيته وحكم بتعزيره، فعزر ومنع عن الحكم، ثم وقع لآخر منهم يقال له شهاب الدين السيرجي فأرسل البلقيني يطلبه إلى بيته، فامتنع منه واعتصم بالهروي، ثم حضر الختم فلم يحضر البلقيني وخلع على الهروي وعلى بقية القضاة، فامتنع الديري من ليس خلعته لكونها دون خلعة الهروي، فاسترضى فرضي.
فلما كان في التاسع عشر من ذي الحجة حضر السلطان في خاصته في جامعه بباب زويلة واجتمع عنده القضاة، فتنافس كل من القاضيين الهروي والديري وخرجا عن الحد في السباب والفحش في القول، ثم سكن السلطان ما بينهما فسكن. وكان السبب في ذلك أنهما اجتمعا للسلام على السلطان بعد رجوعه من الوجه البحري فتباحثا
في شيء. فنقل الهروي نقلاً باطلاً وعزاه لتفسير الثعلبي، فاستشهد الديري بمن حضر على ذلك وجمع التفاسير وأحضرها ليطلع بها إلى القلعة، فاتفق حضور السلطان بالجامع فأعاد البحث، فأخرج النقل بخلاف ما قال الهروي فجحد، فاستشهد عليه من حضر فلم يشهد أحد، فسأل السلطان من الفقير إلى الله تعالى كاتبه ومن القاضي المالكي عن حقيقة ذلك، فأخبراه بصدق ابن الديري، ثم أخرج ابن الديري عدة فتاوى بخط الهروي كلها خطأ، فجحد أن يكون خطه، فحلف الديري بالطلاق الثلاث أن بعضها خطه وانفصل المجلس على أقبح ما يكون.
وفي ثالث جمادى الآخرة وشى إلى السلطان بالأمير جقمق الدويدار أنه مخامر على السلطان وأنه يكاتب قرا يوسف منذ كان السلطان بكختا، وكان الواشي بذلك رجلاً يقال له ابن الدربندي، وكان قد اتصل بالسلطان من الطريق فجهزه إلى الحج بحسب سؤاله، فلما رجع ادعى بأنه ينصح السلطان وأن جقمق استدعاه ليرسله برسالة إلى قرا يوسف جواباً عن كتاب حضر، فأعلم السلطان جقمق بذلك ولم يسم له الناقل، فقلق قلقاً عظيماً وكاد أن يموت غماً، واستعطف السلطان حتى أعلمه بالناقل، فطلبه منه فسلمه له، فعاقبه فاعترف بأنه كذب عليه بتسليط بعض الأمراء عليه، وأحضر من بيته وتداً مجوفاً بالحديد من رأسه في طيه كتاب رق لطيف مكتوب بالفارسية بماء الذهب جواباً عن الأمير جقمق لقرا يوسف، وطلب جقمق الخراطين وأراهم الوتد فعرفه بعضهم وقال: نعم، أنا خرطت هذا لشخص أعجمي ولم يعطني أجرته إلى الآن، فأحضر المذكور فعرفه، ثم تتبعوا من يكتب بالعجمي، واتهموا الشيخ نصر الله إلى أن ظهرت براءة ساحته، وغمز على أعجمي كان ينزل في مدرسة العتباني، ثم مرض فحمل إلى المارستان فهدد، اعترف أن الكتاب خطه وأن ابن الدربندي هو الذي أملأه عليه وادعى ابن الدربندي أن الذي ألجأه إلى ذلك الأمير الطنبغا الصغير بغضاً منه في جقمق، فغرق الدربندي في النيل، ونفي الشخص
الذي استعمل الوتد إلى قوص، ومات الكاتب عن قرب بالمارستان، وبرئت ساحة جقمق عند السلطان ولم يتغير ما بينه وبين الطنبغا الصغير لتحققه كذب ابن الدربندي. واشتد غضب جقمق من طائفة العجم، فرسم عن إذن السلطان بتسييرهم إلى بلادهم، وشدد في ذلك حتى ألزم من بالخوانق وبالمدارس بالسفر فضجوا وتعصب لهم الهروي وغيره، ولم يزالوا يستعطفون السلطان إلى أن أهمل أمرهم.
وفي ثامن جمادى الآخرة قدم فخر الدين الأستادار من الصعيد وصحبته عشرون ألف رأس من الغنم سوى ما تلف وألف وثلاثمائة رأس رقيق وثلاثة آلاف رأس بقر وتسعة آلاف رأس جاموسة ومن القند والعسل شيء كثير جداً، فقوم عليه جميع ذلك بمائة ألف دينار والتزم بالقيام بها، ثم بعد مجيئه من الصعيد خلفته هوارة في ألف فارس وألفي راجل فكبسوا على سودون القاضي الكاشف، وكان عنده حينئذ ينال الأزعري أحد مقدمي الألوف فتواقعوا، فبلغ ذلك السلطان فأرسل نجدة عظيمة فيها جقمق الدويدار وططر رأس نوبة والطنبغا المرقبي وقطلوبغا التنمي في جمع كثير، فتوجهوا فوجدوا الأميرين قد انتصرا وقد قتل منهم جماعة، وكانت الدائرة على هوارة فانهزموا، وحمل منهم عشرون رأساً إلى القاهرة. ثم وصل الأمراء فتتبعوا هوارة إلى أن أوقعوا بهم أيضاً، فقتلوا منه نحو الخمسين وهرب باقيهم إلى الواحات الداخلة وتركوا حريمهم وأموالهم، فغنموا منهم شيئاً كثيراً، وقدموا القاهرة في ثامن شعبان وصحبتهم ألفا جمل واثنا عشر ألف رأس غنم سوى ما تلف وسوى ما توزعه الأمراء وأتباعهم، وجهز أزدمر الظاهري أحد المقدمين في عدة من العسكر للإقامة ببلد الصعيد بسبب العربان المفسدين.
وفيها مات إبراهيم ابن الدربندي صاحب بلاد الدشت، فتوجه قرا يوسف في ستة آلاف فارس إلى شماخي، فواقعه ابن إبراهيم في عساكر الدشت فهزمه وقتل منهم ناس كثير، وتوجه ابن تمر لنك إلى جهة تبريز لمحاربة قرا يوسف، فاشتغل قرا يوسف بما دهمه
من ذلك، فمشى قرا يلك إلى ماردين وهي من بلاد قرا يوسف، فكسر عسكرها وقتل منهم نحواً من سبعين نفساً، واخذ من بلادها ثماني قلاع ومدينتين، وحول أهل اثنتين وعشرين قرية بأموالهم وعيالهم ليسكنهم ببلاده، واستمر على حصار ماردين، فلما بلغ ذلك قرا يوسف انزعج منه وسار، ففر منه إلى آمد فتبعه ونازله بها، فانهزم منه إلى قلعة نجم وأرسل إلى نائب حلب ليستأذنه في الدخول إليها، فاشتد الأمر عنه على أهل حلب خوفاً من عسكر قرا يوسف وتهيأوا للخروج منها، وأرسل نائب حلب كتابه وكتاب قرا يلك بما اتفق من قرا يوسف.
وفيه أن قرا يوسف كبس قرا يلك بعد أن عدا الفرات ووصل إلى نهر المرزبان، فهجموا عليه من سميساط، فوقعت بينهم مقتلة بمرج دابق في ثاني عشر شعبان، فانهزم قرا يلك ونهبت أمواله، ونجا في ألف فارس إلى حلب، فأذن له نائبها في دخولها، فرحل أكثر أهل حلب عنها، وبلغ ذلك أهل حماة فنزحوا عنها حتى ترك كثير من الناس حوانيتهم مفتحة فم يمهلوا لقفها، فلما قرئ ذلك على السلطان انزعج وانثنى عزمه عن الحج وأمر بالتجهز إلى الشام وكتب إلى العساكر الإسلامية بالمسير إلى حلب، وكان دخول الخبر بذلك يوم الاثنين ثالث شعبان بعد المغرب على يد بردبك نائب عينتاب، وذكر أن ولد قرا يوسف وصل إلى عينتاب فرمى فيها النار فهرب النائب منها، وأن السبب في ذلك تحريض يشبك الدويدار الذي كان أمير الحاج، وهرب من المدينة فيقال إنه اتصل بقرا يوسف وأغراه على أخذ الممالك الشامية، ثم ظهر أن ذلك ليس بحق كما سيأتي، وجمع الأمراء والخليفة والقضاة ليتشاورا في هذه القضية، فلما اجتمعوا سألهم عن البلقيني وكان قد أمرهم بأن يحضر، فعرب بأنه لم يبلغ ذلك فانزعج على بدر الدين العيني لكونه كان رسوله، واستمر ينتظره إلى أن حضر، فلما حضر عظمه، فقص عليهم قصة قرا يوسف وما حصل لأهل حلب من الخوف والجزع وجفلتهم هم وأهل حماة حتى بلغ ثمن الحمار خمسمائة درهم والأكديش خمسين ديناراً، ثم ذكر لهم سوء سيرة قرا يوسف وأن عنده أربع زوجات فإذا طلق واحدة رفعها إلى قصر له وتزوج غيرها حتى بلغت عدة من في ذلك القصر أربعين امرأة يسميهن السراري ويطأهن
كما يطأ السراري بملك اليمين، ثم اتفق الحال على كتابة فتوى تتضمن سوء سيرته فصورت وكتبت، وكتب عليها البلقيني ومن حضر المجلس، تتضمن جواز قتاله، وأعجب السلطان ما كتبه الحنبلي فأمر أن ينسخ ويقرأ على الناس، وانصرفوا ومعهم مقبل الدويدار الثاني والخليفة والقضاة، فنادوا في القاهرة بأن قرا يوسف طرق البلاد الشامية وأنه يستحل الدماء والفروج والأموال ويخرب الديار فالجهاد جهاد! ولا أحد يتأخر أحد عن المساعدة بنفسه وماله! فذهل الناس عند سماع هذا النداء ودهاهم ما كانوا عنه غافلين واشتد القلق جداً، وكتب إلى نائب الشام أن ينادي بمثل ذلك وفي كل مدينة، ويضيف إلى ذلك أن السلطان واصل بعساكره، ثم نودي في أجناد الحلقة بأن يتجهزوا للسفر، ومن تأخر منهم صنع به كذا وكذا! فاشتد الأمر عليهم واستمر عزمهم، وخيروا بين المشي في خدمة الأمراء وبين الاستمرار في أجناد الحلقة، وكان السبب في ذلك أن كثير من أجناد الحلقة يخدم في بيوت الأمراء، فلذلك قلت العساكر المصرية بعد كثرتها لأن العسكر كان قبل الدولة الظاهرية ثلاث أقسام: الأول مماليك السلطان، وهم على ضربين: مستخدمين ومملوكين، ولكل منهم جوامك وراتب على السلطان، القسم الثاني مماليك الأمراء، وهم على ضربين أيضاً كذلك، ومن شرط المستخدمين هنا وهناك أن لا يكونوا من القسم الثالث وهم أجناد الحلقة، وهم عبارة عمن له إقطاع بالبلاد يستغله، فلما كثر استخدام السلطان والأمراء من أجناد الحلقة اتحد أكثر الجند فقل العدد بذلك، فأراد السلطان أن يردهم إلى عادتهم الأولى فشدد في ذلك، ومع ذلك فلم يبلغ الغرض ولا كاد لتواطي، المباشرين في ذك على أخذ الرشوة والله المستعان.
وأما قرا يلك فإنه بعد أن التجأ إلى حلب ركب معه يشبك الشيخي نائب حلب وعسكر بالميدان ثم توجه قرا يلك ومعه العسكر. فبلغه أن طائفة من عسكر قرا يوسف قد
قربت من البلاد، فركب قبل الصبح فأوقع بالمقدمة فهزمها. واستفهم من بعض من أسره فأعلمه أن قرا يوسف بعينتاب وأنه أرسل هؤلاء ليكشفوا الأخبار، ثم وردت كتب قرا يوسف إلى نائب حلب وإلى السلطان يعتذر من دخوله إلى عينتاب ويعاتب على إيواء عدوه قرا يلك ويعلم السلطان بأنه باق على مودته ومحبته وأنه لا يطرق بلاده، وأن قرا يلك بدأه بالشر وأفسد في ماردين وغيرها، وحلف في كتابه أنه لم يقصد بلاد السلطان ولا دخول الشام وإنما تقدمه إليه الطائفة الملتجئة من عساكر صاحب مصر، وجهز السلطان لنائب حلب خلعة وضمن كتابه شكره على ما صنع بحلب، وكان الأمر كله على ما ذكره، فإن قرا يوسف أفحش السيرة في ماردين وأسرف في القتل والسبي حتى باع الأولاد والنساء وأحرق المدينة حتى وصل ثمن صغير منهم إلى درهمين، فلما تحقق السلطان ذلك فتر عزمه عن السفر، ولما طرق قرا يوسف عينتاب هجم عليها عسكره فنهبوها وأحرقوا أسواقها، فاجتمع أهلها وصالحوه على مائة ألف درهم وأربعين فرساً، فرحل عنها إلى جهة البيرة في طلب قرا يلك فحصر البيرة فقاتلوه أهلها يومين، فهجم البلد وأحرق الأسواق وامتنع أهلها منه بقلعتها، ثم رحل في تاسع عشر رمضان إلى بلاده، وكاتب السلطان أيضاً يذم قرا يلك ويذم سيرة قرا يلك ويحذره من عواقب صداقته وما أشبه ذلك، وعوقب قرا يوسف على ما صنعه بأهل عينتاب والبيرة، فمات ولده شاه بصق وكان هو السلطان والمشار في دولة والده، فحزن عليه جداً، وكانت وفاته بقرب ماردين.
وفي هذه الحركة ابتدأ أمر الهروي في الانحلال، فأخبرني المحتسب بدر الدين العيني أن السلطان لما انزعج من قصة قرا يوسف وشكا إلى خواصه صورة الحال وأن عنده من الأموال ما يكفي تفرقته على العسكر إلا أنه يخشى إن فرقه أن يحصل له كسره مثلاً فيرجع إلى غير شيء فيفسد الحال، وكان الحزم عنده أن يكون وراءه بعد التفرقة ذخيرة لأمر إن تم، وكرر ذلك في مجالسه، واستشار من يجتمع به في ذلك حتى صرح بأنه يريد أن
يجمع مالاً يفرقه على العساكر ويترك الذي عنده عاقبة ولو أن الذي يجمعه يكون قرضاً، فبلغ ذلك الهروي فقال لأحمد الجنكي: لو أراد السلطان أن أجهز له عشرة آلاف لابس من غير أن يخرج من خزانته دينارً ولا درهماً من غير أن أظلم أحداً من الرعايا فأنا أقدر على ذلك، فسئل عن الكيفية، فقال: يسلم لي ستة أنفس: ولدي ابن الكويز وابن البارزي وعبد الباسط وابن نصر الله وابن أبي الفرج، فبلغ ذلك أحمد الجنكي للسلطان فبثها في خواصه فبلغت المذكورين، فاتفقت كلمتهم على نكب الهروي ونسبته إلى كل بلية وأنه لم يكن قط عالماً ولا ينسبوه لعلم ولا ولي القضاء قط وما وظيفته إلا استخلاص المال وشد الديوان ونحو ذلك، فبالغوا في تقرير ذلك في ذهن السلطان، واستعان كل واحد منهم بفريق وأعانوه على ذلك حتى سقط من عين السلطان، وذكر لهم السلطان بأنه كان قال له وهو متوجه إلى قتال قانباي إن أردت المال فخذه من ابن المزلق وابن مبارك شاه وسمي غيرهما من المنسوبين إلى المال من أهل دمشق، فأكد ذلك عند السلطان تصديق ما ينسب من محبة الظلم، وكان ذلك سبباً في إطراحه.
وفي حال دخول قرا يوسف البلاد الحلبية فر منه كثير من التركمان الأوشرية وغيرهم فنزلوا على صافيتا من عمر طرابلس فافسدوا في تلك البلاد على عادتهم، فأرسل م برسباي نائب طرابلس ينهاهم عن الفساد. ثم صحت الأخبار برحيل قرا يوسف فراسلهم برسباي في الرحيل إلى بلادهم، فأجابوا إلى ذلك وتجهزوا، فكبس عليهم على غرة منهم في أواخر شعبان، فقتل منهم مقتلة عظيمة قتل فيها ثلاثة عشر نفساً من عسكر طرابلس منهم سودون الأسندمري وانهزم برسباي، وقد أفحش التركمان في سلب الطرابلسيين حتى رجعوا عراة، فلما بلغ ذلك السلطان غضب وأمر باعتقال برسباي بقلعة المرقب، ثم أفرج عنه بسعي ططر وكان من إخوته ونقله إلى دمشق ثم أعطاه تقدمة بها، فاستمر فيها إلى أن كان عاقبة أمره أن تولى السلطنة بعد هذا، واستبد بالأمر كله بعد ثلاث سنين، وجهز سودون القاضي إلى طرابلس أميراً عليها عوضاً عنه، فسافر في شوال.
ولما وصل قرا يوسف في رجوعه إلى ماردين مات ابنه الأصغر، فيقال إنه من شدة حزنه عليه قال كلاماً شنيعاً وسيأتي بيانه في حوادث سنة ثلاث وعشرين إن شاء الله.
ولما رجع قرا يوسف إلى تبريز غضب على ولده إسكندر واعتقله، وأرسل إلى ولده الأكبر محمد شاه صاحب بغداد، وكان عصى عليه فصالحه.
وفي شوال قدم صريغاً دويدار يشبك نائب حلب وصحبته شهاب الدين أحمد بن صالح بن محمد بن السفاح كاتب سر حلب باستدعاء السلطان لهما بشكوى النائب، فوقفا بحضرة السلطان وتنصلا مما نسب ما شكيا من النائب بإضعاف ما شكى منهما، فأمر صربغا بالاستقرار على وظيفته وسفر إلى حلب، واستعفى ابن السفاح من العود خوفاً على نفسه فأعفي، واستقر في خدمة كاتب السر على توقيع الدست.
وفي تاسع عشر ذي الحجة قدمت أم إبراهيم بن رمضان من بلاد المشرق تستعطف السلطان على ولدها، فأمر السلطان باعتقالها فاعتقلت، وعرض أجناد الحلقة وانتقى منهم من يصلح للسفر صحبة ولده، وكان قد عزم على تجهيزه إلى بلاد ابن قرمان لما تقدم من صنيعه بطرسوس، وكان أهل طرسوس بعد رحيل محمد بن قرمان عنهم قد كاتبوه بأن يرسل م عسكراً ليسلموا م نائبهم شاهين الأيدكاري لسوء سيرته فيهم، فأرسل م ولده مصطفى فقدم في رمضان فأخذ المدينة وحصر القلعة حتى أخذ شاهين فأرسله إلى أبيه في الحديد.
وفي أول جمادى الآخرة توجه نائب حلب في عساكرها ومن أطاعه من التركمان إلى قلعة كركر ليحاصرها، فتحصن خليل نائبها في القلعة وخلا أكثر أهل كركر عنها، فأقام عليها أربعين يوماً ورمى كرومها وحرقها وحرق القرى التي حولها حتى تركها
بلاقع، ولم يزل كذلك حتى فقد عسكره العليق فرجع إلى حلب ولم يتمكن من أخذ قلعة كركر.
وفي أول جمادى الآخرة شرع السلطان في بناء المارستان تحت القلعة، فأمر بتنظيف التراب والحجارة التي بقيت من هدم المدرسة الأشرفية، وتمادى العمل في ذلك مدة.
وفي شعبان بعد كسر الخليج غرق ولد لبعض البياعين فأراد دفنه، فمنعه أعوان الوالي حتى يستأذنه، فمضى فاستأذنه فأمر بحبسه، ثم قيل له وهو في الحبس: إنك لا تطلق حتى تعطي الوالي خمسة دنانير، فالتزم بها وخرج فباع موجوده وما عند امرأته أم الغريق فبلغ أربعة دنانير واقترض دينارً وأخذ ولده فدفنه وترك المرأة وهرب من القاهرة، فبلغ ذلك السلطان فساءه جداً. وطلب ابن الطبلاوي الوالي المذكور فضرب بحضرته بالمقارع في الخامس من شوال ولم يعزله، واستمر في الولاية إلى أن كان ما سنذكره في السنة الآتية.
وفيها حاصر محمد بن قرمان طرسوس وانتزعها من نواب المؤيد، وكان المؤيد انتزعها من التركمان وكانوا استولوا عليها بعد فتنة اللنك، فبلغ ذلك المؤيد فجهز عسكراً ضخماً وأرسل معهم ولده إبراهيم فخرجوا في أول السنة المقبلة.
وفي هذه السنة انتهت زيادة النيل إلى عشرة أصابع من تسعة عشر ذراعاً، وذلك أنه كان يوم النيروز وكان يومئذ سادس عشري رجب قد انتهى إلى أصبع من تسعة عشر ثم نقص نصف ذراع ثم تراجع إلى أن كانت هذه غايته، وارتفع سعر الغلال بسبب ذلك، ولما أسرع هبوط النيل بادر كثير من الناس إلى الزرع قبل أوانه، فصادف الحر الشديد والسموم ففسد أكثره بأكل الدود، فارتفعت الأسعار في القمح والفول والبرسيم بسبب
ذلك، وعز وجود التبن حتى بلغ الحمل دينارً وكان قبل ذلك كل خمسة أحمال بدينار، ثم ارتفعت الأسعار في ذي الحجة وقل وجود الخبز في الأسواق، وبلغ سعر الفول ثلاث مائة كل إردب لعزته، ولم يبلغ القمح سوى مائتين وخمسين.
وفي تاسع شعبان نودي أن لا يتعامل الناس بالدينار المشخص الأفرنتي إذا كان ناقصاً، وكان سبب ذلك أن الأفرنتي زنة المائة منه أحد وثمانون مثقالاً وربع مثقال، هكذا يحضر من بلاده، فولع به الصيارفة وغيرهم فصاروا يقصونه منهم ويبردونه إلى أن استقر حال المائة ثمانية وسبعين وثلث وانتظم الحال على ذلك، فكان في الكثير منهم نقص فاحش بحسب ما يقع حين القص من جور القص ففسدت المعاملة جداً، فنودي أن لا يتعامل بالناقص عن درهم وثمن بل يقص ردعاً لهم عن القص، فمشوا على ذلك شيئاً يسيراً ثم رجعوا إلى ما كانوا عليه.
وفي أوائل شعبان عظم الشر بين فخر الدين الأستادار وبدر الدين ابن نصر الله وتفاحشا بحضر السلطان، ورمى ابن نصر الله فخر الدين بعظائم منها أنه قال له: أكثر ما ثمن به على السلطان حمل المال وجميع ذلك مما يعرف يصنعه قطاع الطريق ولولا الدين لكنت أصنع كما تصنع بأن أرسل غارة على قافلة من التجار فأبيتهم فيصبحوا مقتولين وآخذ أموالهم ونحو ذلك من القبائح، فلم يكترث السلطان بذلك وأصلح بينهما.
فلما كان يوم التاسع من شعبان قبض على بدر الدين وسلم لفخر الدين، فما شك أحد في هلاك بدر الدين، فعامله فخر الدين بضد ما في النفس وأكرمه وقام له بما يليق به وأرسل إلى أهله بأن يطمئنوا عليه، وركب من الغد إلى السلطان وهو ببركة الحبش بعرض الهجن لأجل الحج، فلم يزل به يترفق له ويتلطف به ويلح عليه في السؤال في أن يفرج عن ابن نصر الله إلى أن أجابه، فلما أن عاد أركبه دابته إلى داره فبات بها، وركب في بكرة النهار الثاني عشر منه إلى القلعة ورجع وقد خلع عليه، فسر الناس به سروراً كثيراً وعدت هذه المكرمة لابن أبي الفرج واستغربت من مثله.
وفي الثالث من ذي القعدة قبض على بدر الدين بن محب الدين الوزير الذي كان يقال له المشير، وتسلمه أبو بكر الأستادار بعد إخراق شديد وإهانة، وكان قد سار في الوزارة سيرة قبيحة وتتبعت حواشيه فقبض عليهم ثم أفرج عنهم على مال، وقرر في الوزارة بدر الدين بن نصر الله وأعطى تقدمة ألف، فنزل الأمراء في خدمته وسر الناس وضربت الطبلخاناة في آخر النهار على بابه، ولم يقع ذلك لصاحب قلم تزيا بزي التركية من المتعممين قبله بل الذين وصلوا إلى ذلك من ذوي الأقلام، غيروا هيأتهم ولبسوا عمائم الترك سوى هذا، وقد تبعه من بعده على ذلك ما سنبينه في الحوادث إن شاء الله تعالى.
وفي رمضان أكملت عمارة المدرسة الفخرية بين السورين، وقررت فيها الصوفية، وفوضت مشيختها للشيخ شمس الدين البرماوي، ودرس الحنفية للقاضي شمس الدين الديري. ودرس المالكية للقاضي جمال الدين المالكي، ودرس الحنابلة للقاضي عز الدين البغدادي ثم القدسي الذي ولي عن قرب تدريس الحنابلة بالمؤيدية، ولم يستطع فخر الدين الأستادار الحضور عند المدرسين لشدة مرضه وتمادى به الأمر إلى أن مات في سادس عشر شوال ودفن بها في فسقية اتخذت له بعد موته.
واستقر في الاستاوارية نائبة في الكشف على الوجه القبلي ابو بكر ابن قطلبك بن المزرق وكان زوج اخته فسكن في داره.
واستقر في نظر في الإشراف عوضاً عنه كاتب السر ابن البارزي. وأوصى فخر الدين بجميع موجوده للسلطان وعينه في دفاتر، واشتملت قيمتها ما بين عين وأثاث على أربعمائة ألف دينار، فتسلمها أصحاب السلطان ولم يشوش على أحد من أولاده، وإنما صودر بعض حاشيته على مال وأطلقوا.
وفي شوال حضر القضاة القصر الكبير وقد لبس الأمراء والمباشرون الخلع على العادة فلبس القضاة خلعهم إلا الحنبلي فسلموا على السلطان، فتغيظ على الحنبلي لعدم لبسه
خلعته وقال له: إن العادة جرت أن القضاة يحضرون معهم بخلعهم! فقال: ظننت أنه يخلع عليهم من عند السلطان فلم أحضر بخلعتي، فلم يعجب ذلك السلطان فكأنه أراد تلافي خاطره فاستأذنه في إنشاد آبيات مدح له فيه فأذن له، فأنشده وهو قائم فأطال، فمل منه وقطع الإنشاد وركب الفرس ومضى وأظهر النفار لما ركب.
وفي حادي عشر ذي القعدة توجه السلطان إلى الوجه البحري للسرحة وانتهى إلى مريوط فنزل فأقام بها أربعة أيام فأعجبه البستان الذي هناك. وكان الظاهر بيبرس قد استجده هناك وكان كبيراً جداً وفيه فواكه عجيبة وآثار منظره بديعة وبئر لا نظير لها في الكبر وعليها عدة سواقي من جوانبها. وكان البستان المذكور قد صار للمظفر بيبرس ووقفه على الجامع الحاكمي، فتقدم السلطان إلى بعض خواصه باستئجاره وتجديد عمارته فشرع في ذلك، ورجع السلطان من الوجه البحري فأدركه عيد الأضحى بناحية وردان، فخطب به كاتب السر ابن البارزي وصلى به صلاة العيد وضحى هناك، وفقد الناس بالقاهرة ما كان يألفونه من تفرقة الأضاحي لغيبة السلطان والأمراء والله المستعان.
ووصل في الثاني عشر إلى البر الغربي فغدا إلى بيت كاتب السر بن البارزي