الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
//الجزء الثامن
بسم الله الرحمن الرحيم
سنة ست وعشرين وثمانمائة
في المحرم على قطلوبغا حاجي باستمراره في نظر الأوقاف وألزم القاضي الشافعي أن يرتب له معلوما، فرتب له على الأوقاف الحكيمة في الشهر ألف وخمسمائة.
وفي يوم عاشوراء سعى القاضي الشافعي المنفصل فأحضر بين يدي السلطان فدعا له وخلع عليه جبة بسمور وقدمت له بغلة، وشق ذلك على صالح المستقر. وفيه وصل الخبر بأنه وقع في بيروت برد كبار حتى وزنت واحدة فبلغ وزنها ربع قنطار شامي ويقال أكثر من ذلك، وكان بغزة وفلسطين محل شديد فأمطرت في هذا الشهر فتراجع السعر، ولولا ذلك لنزح جميع أهل تلك النواحي منها. وفي أول المحرم كانت الوقعة بين مقبل بن نخبار الحسني صاحب الينبع وبين أمير الركب الثاني، وذلك أن عقيل بن وبير بن نخبار ابن أخي مقبل وقع بينه وبين عمه بسبب الإمرة، لأنها كانت مشتركة بين وبير ومقبل وكان وبير الأكبر والمشار إليه، فلما مات استقل مقبل فارتغم عقيل بذلك وسعى في الشركة فأجابه الأشرف إلى ذلك، وأرسلت إلى عقيل خلعة من الأشرف فلبسها ولم يظهر من مقبل لذلك إنكار، فلما توجه الحاج إلى مكة وثب مقبل على عقيل فقيده، ثم خشى من المصريين إذ رجعوا من الحج فنزح بأهله وماله ومن أطاعه إلى بعض الأودية، فلما قدموا إلى بدر راجعين من زيارة المدينة فجرد منهم جماعة فانتهوا إليه فوجدوه في بعض الأودية فوقع بينهم القتال، فانهزم مقبل ومن معه وانهزم معه رميثة بن محمد بن عجلان وكان خالف على عمه حسن بن عجلان، وانتهب العسكر المصري ما كان لمقبل وأفحشوا في الفسق والتعرض للحرم، ولما وصلوا إلى ينبع قرروا أميرها عقيل وتوجهوا إلى جهة مصر، ثم رجع مقبل إلى ينبع
بعد رحيلهم بأيام فأوقع بابن أخيه عقيل ومن معه وكادت الكسرة تقع على عقيل، ثم تراجع أصحابه وهزموا عنه وأسروا محمد بن المؤذن وكان يكثر النميمة بينهم، فشنقه عقيل على باب المدينة وأرسل بخبر الهزيمة إلى القاهرة، واستمرت هزيمة مقبل إلى الشرق، والتجأ رميثة بن محمد بن عجلان أمير المدينة ليشفع له إلى عمه حسن بن عجلان، فتوجه معه إلى مكة.
وفي العشر الأواخر من المحرم وقع بنواحي حوران برد كبار على صور خشاش الأرض والماء، كخنفسة ووزعة وحية وعقرب وسرطان وضفدع وغير ذلك - هكذا ذكر علاء الدين ابن أبي الشوارب الشاد بتلك الناحية أنه شاهد ذلك، وقد ذكر الحافظ علم الدين البرزالي في تاريخه في حوادث سنة ست عشرة وسبعمائة أنه وقع ببارين من عمل حماة برد كبار على صفة حيوانات مثل حية وسبع وعقرب وطيور مختلفة وصفة رجال في أوساطهم شبه حوائص، وأنه ثبت بمحضر على قاضي الناحية واتصل بقاضي حماة.
وفي ثاني عشري المحرم صرف الدين ابن العجمي من نظر الجوالي، واستقر فيها زين الدين قاسم بن القاضي جلال الدين البلقيني بمال بذله لجاني بك الدويدار الثاني، وكان استقر في الدويدارية بعد قدومه من الحج وهو شاب له دون العشرين، وتصدى للحكم بين الناس وهرعوا إليه لعلمهم بمنزلته عند السلطان، وكان السلطان لما سجن بقلعة المرقب أراد جقمق نائب الشام إذ ذاك أن جاني بك المذكور ينضم إليه ويخدم عنده وتحيل عليه بكل طريق، فلم يوافق ولازم سيده وهو في السجن وصبر معه على الضيق، فشكر له ذلك.
وفي تاسع عشري المحرم عزر فتح الدين محمد بن محمد بن المؤيد موقع الحكم للشافعي وجمال الدين عبد الله بن عمر النحريري موقع الحكم للمالكي بسبب شهادة قيل إنها زورت
عليهما أو منهما فأمر الدويدار الكبير بقطع أكمامهما وتجربسهما بالقاهرة ماشيين وتألم الناس لذلك، وقيل إنهما كانا مظلومين، وتوجه ابن المؤيد إلى القدس خجلا من الناس.
وفي ثامن عشري صفر عقد مجلس بسبب الفلوس، فاستقر الأمر فيها على تمييزها مما خالطها كما سيأتي، ونودي على الفلوس أن الخالص بسبعة كل رطل، والمخلوطة كل رطل بخمسة دراهم، وحصل بين الباعة بسبب ذلك منازعات.
ثم في أواخر رمضان نودي على الفلوس المنقاة بتسعة وبمنع المعاملة من المخلوطة أصلاً، فسكن الحال ومشى.
وفيه عزز فخر الدين عثمان المعروف بالطاغي خازن كتب المدرسة المحمودية بالموازينين ظاهر القاهرة فضرب بين يدي السلطان، وكان قد رفع عليه أنه فرط في الكتب الموقوفة وهي من أنفس الكتب الموجودة الآن بالقاهرة، لأنها من جمع القاضي برهان الدين ابن جماعة في طول عمره فاشتراها محمود من تركة ولده ووقفها وشرط أن لا يخرج منها شيء من المدرسة واستحفظ لها إمامه سراج الدين، ثم انتقل ذلك لعثمان المذكور بعد أن رفع على سراج الدين المذكور أنه ضيع كثيراً منها، فاختبرت فنقصت نحو مائة وثلاثين مجلدة، فعزل سراج الدين وقرر عثمان، فاستمر يباشر ذلك بقوة وصرامة وجلادة وعدم التفات إلى رسالة كبير أو صغير حتى أن أكابر الدولة وأركان المملكة يحاوله الواحد منهم على عارية كتاب واحد وربما بذلوا له المال الجزيل فيصمم على الامتناع حتى اشتهر بذلك، فرافع عليه شخص من الناس أنه يرتشي في السر، فاختبرت العشر سواء، لأنها كانت أربعة آلاف مجلدة فنقصت أربعمائة، فالتزم بقيمتها فقومت بأربعمائة دينار فباع فيها موجوده وداره وتألم أكثر الناس له، ولم يكن عيبه سوى كثرة الجنف على فقراء الطلبة وإكرام ذوي الجاه.
وفي أول شهر ربيع الأول قرر قصروه أمير آخور في نيابة طرابلس، وقرر جقمق الذي كان استقر حاجباً كبيراً في مكانة أمير آخور في ثاني عشرة، واستقر في الحجوبية أزبك الأشقر وعمل المولد السلطاني، فحضر القاضي الشافعي المعزول وأجلس رأس الميسرة، وتحول الحنفي من ثم فجلس الشافعي المستقر في الميمنة.
وفي أوائل العشر الثاني منه رفع شخص من أهل الرملة في كاتب السر علم الدين ابن الكويز إلى السلطان قصة من جملتها أنه تواطأ هو وجماعة من أهل الدولة على إعادة السلطنة للمظفر بن المؤيد، وفي القصة: إن كاتب السر لا يصلح أن يكون اسلميا، وإن الذي يليق في وظيفة كتابة السر من يكون من أهل العلم والمعرفة بالألسنة إلى أوصاف أخرى - يرمز فيها بالهروي، وذكر لي الشيخ شرف الدين ابن التباني أن الذي رفعها أول ما قدم نزل عند المحتسب وهو صديق الهروي، وفي نفسه من كاتب السر أمور كثيرة، فأمر السلطان بنفي الذي رفعها إلى قوص، فخرج مع نقيب الجيش في الترسيم، الذي رفعها محمد بن بدر الأرسوفي، وكان شيخاً من بلدة الشيخ على ابن عليم بالرملة، فلما كان شهر ربيع الآخر خرج السلطان إلى وسيم بالجيزة في زمن الربيع، وكانت أول تعدية عداها إلى الجانب الغربي في البحر منذ تسلطن، ويقال إنه كان عزم على الإقامة نصف شهر فأقام أسبوعاً، ورجع وقد بلغه أمر أزعجه، ووقف له سائس من السواس في طريقه فزعم أنه رأى الشيح أحمد البدوي في النوم وةبين يديه نار وهو يطفئها، وكلما أطفأها عاد لهبها، فسأله عن ذلك؛ فقال: هذه نار أطفئها عن السلطان، فشاع بعد ذلك أن السلطان ظفر باثنين أو ثلاثة أرادوا الفتك به،
وابتدأ بكاتب السر وجعه، فيقال إنه دس عليه السم فوعك أياماً ثم ابل من مرضه وركب ثم انتكس واحتجب عن العواد ولازمه الأطباء، فيقال إن نصرانياً أراد أن يدفع عنه وهم كونه مسموماً فشرب بوله، ففرح بذلك وأعطاه خمسين ديناراً، ثم صار يحصل له شبيه السبات، ويقال إن النصراني وعك بعد ذلك، وفي غضون هذه الأيام أمر السلطان بإعادة الشيخ محمد بن بدر من قوص، فأعيد في أواخر شهر ربيع الآخر وتوجه لحال سبيله.
وفي العشرين من ربيع الأول انقضت أيام الحسوم وكانت شديدة البرد إلى الغاية، ولقد تذكرت لما مرت بنا في سنة ست وثلاثين وثمانمائة بعد ذلك بعشر سنين وهي في غاية الحر - فسبحان الحكيم! واستمر كاتب السر منقطعاً في بيته موعوكاً إلى العشر الثاني من رجب فعوفي ودخل الحمام وركب إلى القلعة ثم اجتمع بالسلطان، فأذن له أن يتأخر في منزله أياماً لتكمل عافيته، فأرسل إليه عقب ذلك تقدمة تشتمل على ثياب حرير وصوف وذهب، فخلع على محضرها أخيه سليمان بن الكويز، وفي العشرين من ربيع الآخر رخص القمح جداً حتى انحط إلى ستين درهما الإردب بحيث يحصل بالدينار المختوم أربعة أرادب، وهذا غاية الرخص فإن عبرة الديار المصرية أن يكون الإردب بدينار، فما زاد فهو غلاء بحسبه وما نقص عن ذلك فهو رخص بحسبه.
وفي رابع عشري شهر ربيع الآخر هبت ريح برقة تحمل تراباً أصفر إلى الحمرة، وذلك قبل غروب الشمس، فاحمر الأفق جداً بحيث صار من لا يدري السبب يظن أن بجواره حريقاً، وصارت البيوت كلها ملأى تراباً ناعماً جداً يدخل في الأنوف وفي جميع الأمتعة، ثم لما تكاملت غيبوبة الشفق أسود الأفق وعصفت الريح وكانت مقلقة، فلو قدر أنها كانت تصل إلى الأرض لكان أمراً مهولاً، وكثر ضجيج الناس في الأسواق والبيوت بالذكر والدعاء والاستغفار إلى أن لطف الله تعالى بادرار المطر، فتحولت الريح جنوبية باردة، ولم تهب هذه الريح منذ
ثلاثين سنة، وهي ريح هائلة عاصفة سوداء مظلمة، فانتشرت حتى غطت الأهرام والجيزة والبحرواشتدت حتى ظن كل أحد أنها تقتلع الأبيات والأماكن، فدامت تلك الليلة ويوم الأربعاء إلى العصر، وكانت سبباً في هيف الزرع بالوجه القبلي وغلاء سعر القمح.
وفي ربيع الآخر قدم أخو رميثة بن محمد بن عجلان يخطبان إمرة مكة عوضاً عن عمهما حسن بن عجلان ظناً منهما طرد القياس في عقيل ومقبل، فانعكس عليهما الأمر فقبض عليهما وحبسا، وقرر قرقماش الشعباني وعلى بن عنان في إمرة مكة وسافرا معاً. وفيه وصل تاني بك البجاسي نائب حلب فسلم على السلطان، وهرع الناس للسلام عليه، ثم خلع عليه وأعيد إلى إمرته وتوجه ثالث جمادى الأولى. وفيه وقع بين نائب دمشق وقاضيها الشافعي نجم الدين ابن حجي تشاجر وادعى أن القاضي أشار عزل نفسه، وتولد من ذلك شر كبير سيأتي ذكره، وورد الخبر بأن الجراد وقع بالمدينة فأفسد الزرع بها وجرد الخوص من النخل، وقاسوا منه شدة عظيمة.
وفي أوائل ما نقلت الشمس إلى الثور بعد أن اشتد الحر جداً عاد البرد الشديد حتى كان نظير الذي كان والشمس في برج القوس وهذا من العجائب، وبعد يومين أمطرت السماء مطراً غزيراً في معظم الليل، واستمر البرد قدر أسبوع.
وفي اليوم الثامن عشر من حلول الشمس الثور أمطرت السماء مطراً شديداً غزيزاً، واستمر إلى أن أكثر الوحل في الطرقات كأعظم ما يكون في الشتاء مع الرعد الكثير والبرق، وقد تلف بذلك ما في المقائي من الزروع والنبات شيء كثير، وغلا
السعر بسبب ذلك، ويقال إنها أمطرت بمدينة المحلة من البرد الكبار ما يتعجب منه وهبت ريح شديدة بمدينة أنبابة فهدمت بسببها بيوت كثيرة، وقلعت أصول نخل وشجر.
وفيه كائنة سرور المغربي المالكي، كان قدم من تونس إلى الإسكندرية وصار يذكر الناس ويقع في حق بعض الرؤساء، فتعصبوا عليه ومنعه نائب الحكم من الكلام، فدخل القاهرة فسعى في عزل القاضي، فتعصب كاتب السر للقاضي، فخرج سرور إلى الحج ثم عاد فرفع إلى السلطان أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وبين يديه خمسة أنفس مسلسلين رأسهم كاتب السر ابن الكويز، وأنه مد يده إلى عيني ابن الكويز ففقاهما وقال له: أفسدت شريعتي! وسعى في عزل الناظر والقاضي فأمر بإحضارهما، فأما الناظر فذب عنه صهره ناظر الخاص، وأما القاضي فحضر وصودر على مال، وكتب سرور لبعض أصحابه بالإسكندرية كتاباً يخبر فيه أن النائب والناظر والقاضي عزلوا بسبب كلامه فيهم، فبلغ ذلك النائب فكاتب السلطان في أمره وحط عليه، فتعصب له بعض الأكابر فأمر السلطان بنفي سرور من الإسكندرية، فوكل به بالقاهرة وأخرج مهاناً إلى الإسكندرية، ثم أنزل في مركب إلى الغرب فتوجه إليها، فوصل إلى صاحب تونس وأخذ منه كتاباً بالشفاعة فيه، فلما وصل إلى الإسكندرية قبض عليه النائب وسجنه وألزمه بالعود إلى الغرب، فاتفق أن الذي كان أرسل إلى الإسكندرية يحفظها من الفرنج كما سأذكره بعد، لما حصل الأمن من الفرنج قرر نائبها وهو آقبغا التمرازي وصرف النائب الذي كان بها وهو أسندمر النوري، وخلص سرور من الشدة بذلك وافرج عنه، وأرسل النائب الكتاب الذي استصحبه إلى السلطان، فسكن الأمر خصوصاً بعد موت ابن الكويز.
ومن العجائب أن المذكور جرت له في سلطنة الظاهر جقمق في سنة ست وثلاثين مناقشة مع القاضي أدت إلى أن بعض الأكابر حط عليه فبالغ فأمر السلطان بنفيه، فلما حصل بالإسكندرية أغلظ للنائب فأنزلوه في مركب تسير إلى الغرب ورئيسها إفرنجي، فوصل كتاب بالشفاعة فيه، وإعفائه من التغريب، فعوق النائب قراءة الكتاب إلى أن تحقق أن المركب سارت به، فقرأ الكتاب وأعاد الجواب بفوات الأمر؛ ثم لم نطلع له على خبر إلى أن سطرت هذه الأحرف في شعبان سنة سبع وأربعين ثمانمائة، وجزم جماعة بأنه أعدم، ولم يلبث القاضي بعده إلا يسيراً وهلك.
وفي رجب حضر الأستادار من الصعيد وحضر صحبته شيء كثير من الأبقار والأغنام، فجمع الجزارين والقيطامين وغيرهم لمشتراها، فاجتمع جمع كثير في مركب فغرقت بهم، فلم يسلم منهم إلا القليل، وذلك في مبادئ زيادة النيل؛ وكان الطاعون بالشام حتى قيل إن جملة من مات في أيام يسيرة زيادة على خمسين ألفاً، ووقع الطاعون بدمياط فمات عدد كثير من الرقيق والأطفال.
وفي رجب شكا نائب الشام من ابن حجي قاضي الشافعية ونسبه إلى أمور معضلة، فأمر بالكشف عليه. فندب لذلك بعض الجند وصحبته شمس الدين محمد الأنصاري المدعو أبا شامة الدمشقي الذي كان أمين الحكم عنده، فنقم عليه أموراً فعزله، فتوجه إلى القاهرة فأقام بها يغض من ابن حجي ويذكر مساويه عند الأمراء وغيرهم، فلما وقعت هذه الكائنة ذكر بعضهم للسلطان أن أبا شامة يعرف مساوي ابن حجي، فسفره ليكشف عليه،
وكان السبب في تغير نائب الشام عليه أنه كان بدمشق خمارات عليها ضمان للنائب فركب القاضي وأمر بإغلاقها. فشق ذلك على النائب وأحضر الضامن وخلع عليه ونادى له بالاستمرار، فنفر الناس من ذلك واجتمع عند بيت القاضي من لا يحصى كثرة، فركب القاضي والناس معه فكسروا أواني الخمر وأراقوها، فغضب النائب من ذلك ورفع إلى السلطان أن القاضي يقيم من يشهد بأن فلاناً الذي مات عن غير وارث له وارث فيثبت ذلك ويتسلم المال، وأنه حصل عنده من هذه الجهة أموال كثيرة ممن ليس له وارث إلا بيت المال، فتغيظ السلطان من ذلك، فلما وصل الأمر بالكشف عليه بالغ النائب في نكايته ومكن عدوه منه، وأقدم أبو شامة فسجل على نفسه أنه ثبت عنده أن في جهة القاضي نجم الدين ابن حجي لبيت المال عشرين ألف دينار، وحكم بذلك، ووصل حكمه بالقاضي الحنفي فنفذه، وطولع السلطان بذلك فكتب باستخلاص ذلك من ابن حجي، فقدر الله تعالى في غضون ذلك موت النائب وانفرج الهم عن القاضي، وكتب توقيعه من القاهرة باستمراره وغرم في ذلك مالاً كثيراً.
وفي هذه السنة ابتدئ بعمارى المدرسة الأشرفية بالحريرين بجوار الوارقين، وأخذت الدور التي هناك وغالبها أوقاف، فتحيل في إبطالها بوجوه من الحيل، وتولى القيام في تعميرها ناظر الجيش عبد الباسط، وفيه رفع إلى الدوادار الكبير سودون من عبد الرحمن أن القاضي جمال الدين الطنبذي المعروف بابن عرب حكم محاكمة غير مرضية، فأمر القاضي الشافعي بأن يعزله، واقام في بيته بعد أن أهين بحضرة الدوادار، وعزل القاضي عقب ذلك من النواب اثني عشر نفساً، ثم لم يفد ذلك حتى أمر أن لا يزيد على عشرة نواب فعزل الجميع، وانتقى عشرى أكثرهم أقاربه واصهاره، فكثر كلام المنفصلين فيه، واتفق أن القاضي المالكي كانت عنده محاكمة فأرسل الدوادار طلبها وطلب نقيبه الجلال القزويني فامتنع، فأغلظ الدوادار القول، فعزل القاضي نفسه، ثم أعيد بشرط أن
يعزل نقيبه المذكور فصرفه، وأمر أن يقتصر من نوابه على ستة أنفس، وأن يقتصر الحنفي على ثمانية، وأن يقتصر الحنبلي على أربعة؛ فأطاعوا كلهم إلا الحنبلي فلم يصرح بعزل أحد من نوابه وكانوا ثمانية.
وفيه حضر مملوك أيتمش الخضري وزعم أن بالمحلة كنزاً فيه مائة ألف إردب دنانير، فسلمه السلطان للأستادار، فكشف عن الأمر فلم يوجد لما قاله صحة، وشهد فيه بأنه خفيف العقل.
وفيها رام نائب الشام من متروك شيخ العرب بالشام أن يحضر إلى طاعته فامتنع، وبذل له مالاً فأبى، وقصده بالمحاربة ففر، فأعجزه تحصيله، وفسد الدرب بسبب ذلك وكانت الطرق آمنة.
وفي سادس شعبان مات تاني نائب الشام، واستقر عوضه تاني بك البجارسي نقلا من نيابة حلب إلى نيابة الشام.
وفي رمضان أمر السلطان بإحضار العلماء لسماع صحيح البخاري بالقلعة، فهرعوا لذلك وكثر الجمع جداً، وممن حضر الشيخ شمس الدين ابن الديري شيخ المؤيدية الذي كان قاضياً قبل ووقع بيه وبين ابن المغلي قاضي الحنابلة مباحث أدت إلى مسافهة، فلما كثر اللغط أفرد الطلبة بمجلس بالقصر الأسفل والقارئ لهم الشيخ سراج الدين قارئ الهداية، وعين السلطان من النبهاء عدداً يسيراً يحضرون بالقصر الأعلى ويحضرهم السلطان فاستمر على ذلك سنين ثم كثر لغط الذين يحضرون وزجروا مراراً فلم ينزجروا، فأمرهم السلطان بالقراءة في داخل القصر الأسفل، وصار هو يحضر في شباك منفرداً يشرف عليهم، وكان ابتداء ذلك في سنة أربع وثلاثين بعد أن كان يقعد بينهم ساكناً لا يتحرك له يد ولا رجل ويقرر الشيخ شهاب الدين الكلوتاتي الحنفي يقرا بين يدي الشيخ سراج الدين قارئ الهداية كل يوم في القصر البراني الكبير.
وفي شعبان واطا جاني بك الصوفي السجان بمحبس الإسكندرية فهرب معه، ولما وصل الخبر بذلك اضطرب العسكر وانزعج الناس من ذلك ونذب طائفة للتفتيش عليه، ودام ذلك مدة
وهدمت بسببه دور وضربت جماعة ولم يظهر له أثر إلى حين تسطيرها في شعبان سنة ست وثلاثين، فسافرنا مع السلطان إلى الشام ولم يظهر له خبر محقق؛ وذكر لي من أثق به أنه حي موجود بالقاهرة.
وفيه كثرت الأخبار بأن الفرنج تحركوا على بلاد المسلمين، فجهزت عدة أجناد إلى السواحل، فندب عدة إلى دمياط، وعدة إلى الإسكندرية وغيرهما.
وفي ثالث عشري رمضان نفي طيبغا مملوك ناظر الخاص ابن نصر الله، وكان شاباً جميلاً رباه وهو صغير، فلما ترعرع انتزعه منه المؤيد فصيره من الخاصكية، ثم عاد بعد موت المؤيد إلى أستاذه، فاتفق أن ناقة من الهجن الخاص نفرت من إصطبل السلطان فصارت لطيبغا فيقال إن حسنا الهجان واطأه على أخذها فطلبت منه فجحدها، فأمر السلطان بحبس حسن وعزله بسببها من وظيفته، ثم جعل شريكاً للذي انتزعها منه بعد عشر سنين.
وفيه سار إسكندر بن قرا يوسف فنزل ماردين وحاصرها حتى تسلمها وانهزم منه قرا يلك ثم نازل آمد، ففر قرا يلك إلى شاه رخ وكان قد سار من بلاده إلى تبريز فحاصرها حتى ملكها، فلما بلغ ذلك إسكندر وإخوته أولاد قرا يوسف، توجهوا إلى جهة تبريز فالتقى بهم شاه رخ فكانت الهزيمة على ابن قرا يوسف فخرب شاه رخ تبريز ونقل أموالها ورجع إلى بلاده، وانهزم اسكندر إلى الجزيرة ورجع قرا يلك إلى آمده ثم رجع
اسكندر إلى تبريز، وكان في ماردين أمير من قبل اسكندر اسمه ناصور، أمر عليها تسع سنين إلى سنة خمس وثلاثين وثمانمائة.
وفي شوال حج شرف الدين ابن تاج الدين ابن نصر الله وبيده يومئذ نظر الكسوة ونظر الأشراف، فلما سار الحجيج يومين أخرج عنه نظر الأشراف، واستقر فيه نقيب الأشراف حسين بن علي الأموي بواسطة الأمير جاني بك، وخرج عنه نظر الكسوة لصدر الدين ابن العجمي.
وفي أواخر شوال صرف زين الدين قاسم بن البلقيني من نظر الجوالي، وأعيدت لصدر الدين أيضاً.
وفي التاسع والعشرين من رمضان نودي على الفلوس الخالصة بتسعة الرطل، وكانت الفلوس قد قلت جداً فظهرت.
وفي هذه السنة وجد قتيل بقرية، فأمسك الوالي أهل تلك البلاد ولا يدري هل القاتل منهم أم لا، فأمر السلطان بقطع أيدي بعضهم وآناف بعضهم وتوسيط بعضهم، فاستوهبهم أحمد دواداره المعروف بالأسود ليقررهم فلاحين له في بلاد خراب أراد أن يعمرها، فوهبهم له.
وفي يوم السبت سادس عشري شوال نزل السلطان من القلعة بعد الظهر في أناس قلائل إلى أن دخل من باب زويلة فوصل إلى المدرسة التي أنشئت له فرآها ورجع مسرعاً، وتلاحق به بعض الأمراء إلى أن صعد القلعة؛ ولم يتفق له مثل ذلك قبل هذه المدة.
وفي شوال قرر عبد القادر بن عبد الغني بن أبي الفرج الذي كان أبوه أستادارا كبيراً في كشف الجسور والشرقية، وفي شوال أيضاً صرف أرغون شاه من الوزارة، وقرر فيها كريم الدين ابن كاتب المناخات الذي كان أبوه فيها وانفصل، وصرف أيضاً من الأستادارية، واستقر فيها ناصر الدين
ابن آبو قبالي الدمشقي وكان استدارا نائب الشام، وصودر أرغون شاه على مال، ثم أفرج عنه واستقر استادارا على المتعلقات السلطانية بالشام على عادته.
وفي رمضان جاء الخبر من صاحب قبرس أن البحر مشغول بمراكب الفرنج فأمر لعدة من الأمراء والمماليك بالإقامة للرباط بالسواحل وهي: رشيد ودمياط وتستراوة.
وفيه قرئ البخاري بحضرة السلطان في القصر الأعلى، وكانت العادة أن يقرأ في القصر الأسفل.
وفي أوائل ذي القعدة توجه ناظر الجيش وجماعة إلى الحج، فأدرك الحجاج قبل ينبع، وزار المدينة في ذهابه ورجع مسرعاً، فدخل القاهرة في يوم عاشوراء.
وفي ثالث عشر ذي العقدة الموافق لثاني عشري بابه أمطرت السماء مطراً غزيراً برعد وبرق وكثرت الأوحال، وفيه أمر السلطان بتحجير السكر وأن لا يتعاطى أحد بيعه إلا من حاصله، وأن لا يشتري إلا لخاصكي، وكتب على من كان يتعانى ذلك قسامات، فضاق عليهم الأمر، وقام في ذلك نور الدين الطنبذي أحد أكابر التجار وحسن للسلطان وأحضر شخصاً من جهته، فأقامه في تعاطي بيع ذلك وشرائه، والتزم أنه يحصل من ذلك جملة دنانير ربحا، فدام الأمر إلى أن حضر ناظر الجيش فأفسد ما كان الطنبذي فعله وأبطل التحجير بعد أن كان الضرر قد حصل لأكثر الناس.
وفي سابع عشر ذي الحجة زلزلت الأرض بعد مضي ساعتين أو نحوهما من الليل وكانت خفيفة.
وفيها بعد موت ابن الكويز ادعى تاج الدين ابن الهيصم الذي كان عمل الأستادارية في زمن الناصر والوزارة في زمن المؤيد أن ابن الكويز انتزع منه دارا كانت ملكه