الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة ثماني عشرة وثمانمائة
في الثاني من المحرم قدم المؤيد بعد أن قرر على مشايخها أربعين ألف دينار فكانت مدة غيبته شهرين.
وفي عاشره افرج عن بيبغا المظفري وبكتمر اليوسفي من سجن الإسكندرية.
وفيها استعد قرا يوسف للحرب بينه وبين شاه رخ بن تمر لنك وذلك أن ابن تمر لنك استناب في فارس بعد أن غلب عليها وانتزع من مملكتها ابن أخيه إسكندر بن مرزة بن تمر لنك أخاه رستم وأمر بالإسكندر فكحل ثم أطلق، فجمع الإسكندر جمعاً، وحارب أخاه فانهزم الإسكندر، فأمر به عمه فقتل وتسلم شاه رخ السلطانية وتفرغ وجه شاه رخ لقرا يوسف وكان أرسل يطلب منه قريتين عينهما وامرأة أخي وابنة أخي وكان قرا يوسف قد أسرهما ويقال إنه تزوجهما، ويلتمس منه أن يلتزم بديات من قتل من إخوته ورد ما وصل من أموالهم وأن يضرب السكة باسمه ويخطب له في بلاده فلم يفعل قرا يوسف ذلك واستعد للحرب من أواخر العام الماضي وأرسل إلى ابنه محمد شاه من بغداد وينبه عساكره المتفرقة في البلاد.
وفيه قدم كتاب فخر الدين بن أبي الفرج من بغداد بأنه مقيم بالمستنصرية وإنما هرب خوفاً على نفسه ويسأل العفو ويطلب الأمان، وكان استشفع بالشيخ محمد بن قديدار الدمشقي فأرسل كتابه قرين كتابه، فأجيب بما طيب خاطره.
وفيه وصل كتاب أقبقا النظامي من جزيرة قبرس وكان قد توجه من العام الماضي لفك إساري المسلمين بأنه وجد هناك خمسمائة أسير وأزيد فافتكهم بثلاثة عشر ألف دينار، وأنه أرسل للفرنج المبلغ الذي كان جهزه معه وهو عشرة آلاف دينار وسمح له متملك قبرس بالباقي، وحمل منهم إلى جهة مصر مائتي أسير وفرق الباقي في سواحل الشام.
وفيها قتل طوغان الدويدار وسودون المحمدي ودمرداش المحمدي واسنبغا الزردكاش بسجن الإسكندرية وأقيم عزاؤهم بالقاهرة.
وفيه هزم إينال الصصلاي نائب حلب كردى بن كندر التركماني وانتهب من غنمه شيئاً كثيراً فاستعان عليه بعلي بن دلغادر، فدخل بينهما في الصلح حتى رجع إينال عنه إلى حلب.
وفي المحرم في هذه السنة ابتدأ الطاعون بالقاهرة، وتزايد في صفر حتى بلغ في ربيع الأول في كل يوم ثمانين نفساً ثم ارتفع في ربيع الآخر.
وفي مستهل صفر صرف مجد الدين سالم الحنبلي عن قضاء الحنابلة وأمر بلزوم بيته.
وفي الثاني عشر منه قرر في منصبه علاء الدين علي بن محمود بن مغلي الحموي وكان قد قدم من حماة في أواخر السنة الماضية والسلطان بالبحيرة.
واستقر قضاء حماة بيده وأذن له أن يستنيب عنه من شاء وسعى مجد الدين عند اقباي الدويدار فقام معه في ذلك قياماً كلياً ولم يفد ذلك شيئاً.
وفيه عزل شهاب الدين بن سفري عن قضاء العسكر، وقرر فيه تقي الدين أبو بكر بن عمر بن محمد الختني الحموي الحنفي وكان قدم صحبة ابن مغلي المذكور.
وفي صفر كثر ضرب الدراهم المؤيدية، ثم استدعى المؤيد القضاة والأمراء وتشاوروا في ذلك، وأراد المؤيد إبطال الذهب الناصري وإعادته إلى الهرجة فقال له البلقيني: في هذا إتلاف شيء كثير من المال، فلم يعجبه ذلك وصمم على إفساد الناصرية وأمر يشبك ما هو حاصل عنده وضربه هرجة، فذكر لنا بعد مدة أنه نقص عليه سبعة آلاف دينار، وأمر القضاة وغيرهم أن يدبروا رأيهم في تسعير الفضة المضروبة فاتفقوا على أن يكون كل درهم صغير بتسعة دراهم وكل درهم كبير بثمانية عشر على أن يكون وزن الصغير سبعة قراريط فضة خالصة ووزن الكبير أربعة عشر قيراطاً واستمر ذلك وكثرت بأيدي الناس وانتفعوا بها، ونودي على البندقية: كل وزن درهم بخمسة عشر.
وفي صفر وقع الشروع في حفر الرمل الكائن بين جامعي الخطيري ببولاق والناصري المعروف بالجديد بمصر، وكانت الرمال قد كثرت هناك جدا بحيث كان ذلك أعظم الأسباب في تخريب منشاة المهراني ومنشاة الكتان وموردة الحبس وزريبة قوصون وحكر ابن الأثير وفم الخور، وكانت هذه الأماكن في غاية العمران، فلما انحسر عنها النيل ودام انحساره خربت فاتفق أن السلطان ركب إلى هذا النواحي وكان عهده بها عامرة فسأله عن سبب خرابها فأخبر به، فأراد حفر ما بين الجامعين ليعود الماء اصيفاً وشتاء، وشرع حينئذ في الأمر بعمارتها فابتدأ بذلك في عاشر صفر، فنزل كزل العجمي وهو يومئذ أمير جندار، فعلق مائة وخمسين رأسا من البقر لتجرف الرمال، ثم تلاه سودون القاضي فاستمر العمل بقية صفر وربيع الأول، فلما كان يوم
الثاني من ربيع الأول ركب السلطان ومعه الأمراء وغيرهم إلى حيث العمل في حفر البحر ونزل في خيمة نصبت له ونودي بخروج الناس إلى الحفير فخرجت جميع الطوائف وغلقت الأسواق وعمل فيه حتى الأمراء وأرباب الدولة والتجار واستمر العمل، ثم دخل الناس في العمل حتى الصوفية الذين بالظاهرية بين القصرين فإنهم توجهوا لتوجه ناظرها أمير أخور ثم أعفوا من العمل، ثم صار يخرج كل يوم أمير كبير ومعه طوائف لا تحصى، وتكرر النداء في القاهرة بالخروج إلى العمل واستمر طوال هذا الشهر، وما أفاد ذلك شيئاً بعد طول العناء.
وفي صفر قبض على شاهين الأيد كاري بحلب وسجن بالقلعة، ومات سنقر الرومي بسجن الإسكندرية.
وفيه سأل حسن ابن بشارة أن يستقر في مشيخة العشير ويحمل ثلاثين ألف دينار فأجيب على ذلك، وأرسلت خلعة مع يشبك الخاصكي فأعطاه ثلاثة عشر ألف دينار - وأحيل عليه أرغون شاه أستادار الشام بالباقي، فبلغ ذلك أخاه محمداً فغضب واقتتلا، فانكسر محمد وانهزم إلى جهة العراق.
وفي المحرم تسلم أحمد بن رمضان مدينة طرطوس عنوة بعد أن حاصرها سبعة أشهر وسبى أهلها وخطب فيها للمؤيد، وأرسل إلى نائب حلب فأعلمه بذلك.
وفيه أرسل حسين بن نعير ملك العرب يسأل قرا يلك أن يشفع له إلى السلطان وإرسال قوده وكتابه، فأجيب إلى ذلك.
وفي هذا الأيام حاري كرسجي بن أبي يزيد بن عثمان محمد بن قرمان صاحب قونية، فانكسر محمد وانتزعت منه بلاده سوى قونية.
وفي ربيع الأول عزل حسن بن عجلان عن إمرة مكة وقرر ابن أخيه رميثة بن محمد بن عجلان فبلغ ذلك ابن عجلان، فصادر التجار المقيمين بمكة وأخذ منهم أموالاً عظيمة.
وفي صفر الموافق لتاسع بشنس من شهور القبط في وسط الربيع حدث بمصر برق ورعد هائل لم يعهد مثله في هذا الزمان وأعقبه مطر كثير جداً بحيث سالت الأودية سيلا كثيراً تغير منه ماء النيل.
وفيه أول ربيع الأول أنكر المؤيد على القضاة كثرة النواب فخففوا منهم كثيراً، فاستقر للحنفي ستة وللشافعي أربعة عشرة بشرط أن لا يرتشوا.
وفيه قبض على آق بلاط نائب عينتاب وعلى شاهين الرزدكاش وسجنا بقلعة حلب.
وفيه استقر محي الدين المدني الموقع في كتابة السر بدمشق وكان أقام بالقاهرة مدة طويلة وباشر التوقيع بها، ثم نقل في هذا الشهر إلى دمشق.
وفيه أمر السلطان أستاداره ووزيره وناظر خواصه في مصادرة المباشرين فصودروا على خمسين ألف دينار قررت عليهم على مراتبهم وشرعوا في جبايتها.
وفيه ابتدئ بعمارة المدرسة المؤيدة داخل باب زويلة، وسببه أن المؤيد كان حبس في خزانه شمائل أيام فتنة منطاش فنذر لئن الله نجاه وملكه القاهرة أن يبني مكانها جامعاً يقام فيه ذكر الله فابتدأ في الوفاء بنذره، فأول شيء بدأ به أخذ القيسارية المعروفة بسنقر الأشقر مقابل سوق الفاضل فنزل التاج الوالي وجماعة من أرباب الدولة وابتدئ بالهدم فيها وما بجوارها وانتقل السكان بها، فلما كان في الرابع من
جمادى الآخرة ابتدئ بحفر الأساس وشرع في العمل وقرر الأمير ططر شادا على العمارة وبهاء الدين ابن البرجي الذي كان محتسباً مرة في النظر على العمارة المذكورة وكان صديق ططر فسعى له في ذلك فاستمر.
وفي أواخر ربيع الأول قدم على المؤيد شمس الدين شمس بن عطاء الله الرازي المعروف بالهروي وكان من أعوان تمر لنك، فأرسله إلى جهاته فخانه فتهدده، ففر منه إلى بلاد الروم فالتمس من ابن قرمان أن يجمع بينه وبين عالم بلادهم شمس الدين الغناري، فامتنع ابن قرمان من ذلك، وقال: هذا رجل منسوب على العلم والغناري عالمنا فلا يسهل بنا أن يغلب عالمنا ولا أن ينكسر خاطر هذا الغريب، فأكرمه بأنواع من الكرامات غير ذلك فصرفه عن بلاده، فدخل الشام وحج ثم رجع إلى القدس فانتزع الصلاحية بعناية نوروز من القمني واستمر بها مدرسا ثم سعى عليه القمني في دولة المستعين فعزل واستقر القمني ولم ينفذ ذلك لغلبة نوروز على البلاد الشامية. فلما توجه المؤيد إلى قتال نوروز لقيه الهروي فقرره في الصلاحية، ولما رجع إلى القاهرة لقيه أيضاً فاستأذنه أن يحضر إلى القاهرة فأذن له فحضر، فخرج إلى لقائه جماعة، وتعصب له كثير من مشايخ العجم، وشاع عنه أنه يحفظ أثني عشرة ألف حديث، وانه يحفظ صحيح مسلم بأسانيده، ويحفظ متون البخاري، فاستعظم الناس ذلك ودار القمني على الأمراء يلتمس أن يسألوا المؤيد أن يحضر الهروي ويعقد له مجلسا بالعلماء ليظهر له أنه مزجي البضاعة في العلم، فلم يزل يسعى في ذلك إلى أن أجاب السلطان، وكان الهروي قد اجتمع به وأحضره المولد الخاص، وأرسل إلى القاضيين البلقيني وابن مغلي، فتكلموا بحضرته ولم يمعنوا في ذلك وكان من جملة ما سأل
الهروي عنه حينئذ هل ورد النص على أن المغرب لا تقصر في السفر؟ فقال: نعم، جاء ذلك من حديث جابر في كتاب الفردوس لأبي الليث السمرقندي، فلما انفصلوا روجع البستان لأبي الليث فلم يوجد فيه ذلك، فقيل له في ذلك فقال للسمرقندي بهذا الكتاب ثلاث نسخ: كبرى ووسطى، وصغرى، وهذا الحديث في الكبرى ولم يدخل الكبرى هذا البلاد فاستشعروا كذبه من يومئذ، وأنزله السلطان دارا حسنة بالقاهرة ورتب له رواتب جليلة، وهاداه أهل الدولة فأكثروا من فاخر الثياب وغيرها، فلما كان يوم الخميس ثامن عشر شهر ربيع الآخر، أحضر المؤيد الهروي المذكور وأمر القضاة الأربعة ومشايخ الفنون من العلماء بالحضور، وكان مجلساً حافلاً بالمنظرة التي داخل الحوش السلطاني، فكان أول شيء سئل عنه الهروي على من سمع منه - صحيح البخاري، فاختلق في الحال إسناد إلى أبي الوقت، زعم أن أباه حدثه عن شيخ يقال له أحمد بن عبد الكريم البوشنجي، عاش مائة وعشرين سنة عن آخر يقال له أبو الفح الهروي عاش أيضا مائة وعشرين سنة عن أبي الوقت، فقال له كاتبه: أولادنا يرون الصحيح إلى أبي الوقت بمثل هذا العدد برجال أشهر من هؤلاء وكان المذكور قد ضبط عنه الرحالة أول ما قدم بيت المقدس منهم صاحبنا الحافظ جمال الدين محمد بن موسى المراكشي ثم المكي أنه يروي الصحيح
عن علي بن يوسف بن عبد الكريم عن ناصر الدين محمد بن إسماعيل الفارقي عن ابن أبي الذكر الصقلي عن الزبيدي عن أبي الوقت وهذا الإسناد أيضاً أظنه مما اختلق بعضه، وذلك أن الكرماني الذي شرح البخاري هو محمد بن يوسف بن عبد الكريم وهو ذكر في مقدمة شرح البخاري أنه سمع الصحيح من جماعة منهم الفارقي المذكور بالإسناد المذكور، فأن كان الهروي صادقاً فيكون أخذه عن أخيه على إن كان للكرماني أخ اسمه علي، ثم قال بعض خواص السلطان: ينبغي أن يفتح السلطان المصحف فأول شيء يخرج يقع الكلام فيه، فأحضر مصحف فتناوله السلطان بيده وفتحه فخرج قوله تعالى:" لو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى " الآية، فتكلموا في معاني لو فبدر من الشيخ همام الدين الخوارزمي شيخ الخانقاه الجمالية وكان قد حضر مع الهروي حمية له لأنه كان يذكر أن الهروي قرأ عليه، وكان الهروي قد صاهره على ابنته، فتعصب الهمام للهروي على البلقيني، وكان غرضهم إذا أغضبوه يتغير مزاجه لما عرفوا من سرعة انفعاله وعدم صبره على الضيم فتواصوا على أن يغضبوه، فكلمه الهمام بكلام أزعجه فقال: مثلك يقول لمثلي هذا! فقال: نعم، أنا أفضل منك، ومن كل شيء، فبدر كاتبه فقال
له: يا شيخ! هذا الإطلاق كفر، فجحد أن يكون قال ذلك وكان السلطان قد سمعه لأنه كان جالساً إلى جانبه، فأظهر مع ذلك انزعاجاً على كاتبه لكونه خالفه، فقال: أنشد الله رجلا سمع ما سمعت إلا شهد به فشهد! تقي الدين
الجيني وآخر، فقال: ما قصدت بهذا الإطلاق إلا الحاضرين، فقيل له: إذا سلم ذلك ففيه دعوى عريضة، وإساءة أدب واشتد انزعاج البلقيني من ذلك حتى قال: ما أساء أحد علي الأدب منذ بلغت الحلم مثل اليوم. وصار لا ينتفع بنفسه بقية ذلك اليوم فتم لهم ما أبرموه إلا أنهم خذلوا بهذا السقطة، وكانوا قد رتبوا مع الشيخ شرف الدين التباني على ما أخبر به بعد ذلك أن يسأل الهروي في المجلس عن حديث الوضوء بالنبيذ ومن خرجه، فسأله عن ذلك - مع أنه لا يتعلق بما كانوا فيه، فبادر أن قال: رواه الترمذي قال ثنا هناد بن السري ثنا شريك ثنا أبو قرارة عن أبي زيد عن ابن مسعود رضي الله عنه ورواه ابن ماجه قال ثنا العباس بن الوليد الدمشقي ثنا مروان بن محمد ثنا قاسم بن عبد الكريم عن حنش الصنعاني عن ابن عباس عن عبد الله بن مسعود، فقال له كاتبه: هذا الإسناد الذي سقته لابن ماجه غلط، وليس في ابن ماجه، ولا غيره من الكتب الستة أحد اسمه قاسم بن عبد الكريم، وأيضا فليس في سياق ابن ماجة أن الحديث لابن عباس عن ابن مسعود، وليس لفظه مطابقاً للفظ سياق الترمذي، فقال الهروي: فما هو الصواب في هذا الإسناد؟ فقال له: يكتب ما قلت وأنا أبين موضع الغلط ويحضر ابن ماجه، فإن كان كما قلت وإلا تبين خطاءك فلم يجسر أحد أن يكتب ذلك حتى أشار السلطان إلى تقي الدين الجيني فكتب ذلك، فظهر الصواب مع كاتبه فسقط عليه راو وأبدل وأحدا بآخر، والساقط ابن لهيعة شيخ مروان بن محمد، والمبدل قيس بن الحجاج فجعله الهروي قاسم بن عبد الكريم، ووضحت مجازفة الهروي
حينئذ، ومال السلطان إلى كاتبه وصار يغمزه بعينه تارة ويرسل من يسر من خواصه أن لا تترك منازعة الهروي، فقوي عليه بذلك وقال حينئذ: يا شيخ شمس الدين! أنت تدعي أنك تحفظ اثني عشر ألف حديث وقد ارتاب من بلغه عنك ذلك في صحته، وأنا أمتحنك بشيء واحد وهو أن تسرد لنا في هذا المجلس اثني عشر حديثا من كل ألف حديث حديثاً واحداً بشرط أن تكون هذه الأحاديث متباينة الأسانيد، فإن أمليتها علينا إملاء أو سردتها سرداً أقررنا لك بالحفظ وإلا ظهر عجزك، فقال: أنا ما أستطيع السرد ولكن أكتب فقال له الإملاء نظير الكتابة فقال: لا، إلا أنا أكتب، فأحضر له في الحال دواة وورق، فشرع يكتب فلم يستتم البسملة إلا وهو يرعد ولم يكتب بعدها حرفاً واحداً وقال: لا أستطيع أكتب إلا خالياً فيأمر السلطان أن أختلي في بيت وأنت في بيت ويكتب كل من حفظه ما يستطيعه، فمن كتب أكثر كان أحفظ، فقال له كاتبه: إنا لم نحضر لنتخاير في سرعة الكتابة، مع أن شهرة كاتبه بسرعة الكتابة غير خفيه ولكن أراد إظهار عجز الهروي عما ادعاه من الحفظ، والتمس منه أن يكتب في المجلس حديثاً واحداً ليتبين للحاضرين خطاءه فيه فلم يستطع فضلا عن أن يمليه، فطال الخطب في ذلك وكل أحد ممن يتعصب له يقصد ان ينصره بكلام وكل احد ممن يتعصب عليه يدفع ما يقول للقائل، وكلما فترت همتهم في ذلك أو كادت يرسل السلطان بعض خواصه لكاتبه يحدفه عليه إلى أن قرب وقت الصلاة للظهر، وكان ابتداء الحضور ضحى النهار فقمنا إلى صلاة الظهر ثم تحولنا إلى البستان على شاطئ البركة الكبرى، فقال السلطان للشيخ زين الدين القمني: ما لك لم تتكلم في هذا المجلس مع الهروي؟ فقال: نعم، أتكلم معه في مسائل الوضوء فإنه لا يعرف شيئاً، وشرع في خطابته على عادة شقاشقه فلم ينجع شيئاً،
ومد السماط فأكل الجماعة ثم جيء بالحلواء ثم بالفاكهة فقرأ قارئ " مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها " - الآية. فقال الشيخ نور الدين البلواني وهو ممن حضر المجلس: الظل لا يكون إلا عن ضوء والجنة لا شمس فيها ولا قمر! فأجابه بعض الحاضرين وانجر الكلام إلى الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم: سبعة يظلهم الله في عرشه يوم لا ظل إلا ظله - الحديث، فقال كاتبه: هل فيكم من يحفظ لهذا السبعة ثامناً؟ فقالوا: لا، فقال: ولا هذا الذي يدعي أنه يحفظ اثني عشر ألف حديث - وأشار، فسكت، فأعاد عليه فسكت، فقال له بعضهم فهل: تحفظ أنت ثامنا؟ فقال: نعم: أعرف ثامنا وتاسعا وعاشراً وأعجب من ذلك أن في صحيح مسلم الذي يدعي هذا الشيخ أنه يحفظه كله ثامن السبعة المذكورين، فقيل له: أفدنا ذلك، فقال: المقام مقام امتحان لا مقام إفادة وإذا صرتم في مقام الاستفادة أفدتكم
ثم جمع كاتبه بعد ذلك ما ورد في ذلك، فبلغوا زيادة على عشر خصال زائدة على السبع المذكورة في الحديث المذكور، وكان أبو شامة قد نظم السبعة المشهورة في بيتين مشهورين، فجمع كاتبه سبعة وردت في أسانيد جياد فنظمها في بيتين، ثم جمع سبعة ثالثة بأسانيد فيها مقال ونظمها في بيتين آخرين، وانقضى المجلس بصلاة العصر، فلما أرادوا القيام قال كاتبه للسلطان: يا خوند! أدعي على هذا إن لي عنده دينا، فقال: ماهو؟ فقال: اثنا عشر حديثاً، فتبسم وانصرفوا، فلما كاد كاتبه أن يخرج من باب الحوش طلبه فعاد، فوجد السلطان قد قام ليقضي حاجته فوقف مع خواصه إلى أن يحضر، فقال له كاتب السر: إن السلطان قال: قد استحييت من فلان كيف يتوجه بغير ثواب! فقلت له: إن كان شيخ البيبرسية وانتزعها منه أخو جمال الدين ظلما، فلما استتم كلامه حضر السلطان فأشار إلى كاتب السر أن يعلم كاتبه بما تقرر من أمر البيبرسية فقال له ان السلطان قد اعاد اليك مشيخة البيرسية فشكرت له ذلك ثم قلت له قررتني في مشيخة البيبرسية ونظرها وعزل من هو مقرر فيها بحكم أنه انتزعها مني بغير حجة، فقال: نعم، فأشهدت عليه بذلك من حضر، وفي غداة غد ليست بها خلعة وحضرتها وصرف أخو جمال الدين منها، ثم عوض بعد سنتين مشيخة سعيد السعداء بعد موت البلالي - كما سيأتي - بعناية الأمير ططر الذي ولى السلطنة في سنة أربع وعشرين، وكان أخو جمال الدين قد استعان على كاتبه بتنبك يبق فاستعان تنبك باقباي الدويدار الكبير وبططر المذكور وكلموا السلطان مرارا في ذلك فامتنع، فلما أيسوا منه عدلوا إلى المخادعة، فلم يزل ذلك في نفس ططر إلى أن قرر المذكور في الخانقاه السعيدية بعد موت البلالي وكفا الله شره، وأما الهروي فإن طائفة من العجم، وغيرهم سعوا عند الأمراء، وسألوا السلطان أن ينعم عليه بما ينجبر به خاطره وخاطر صهره، فأحضر يوم الاثنين ثاني عشري ربيع الآخر وخلع عليه جبة بسمور وأركب فرسا مسروجاً ورجع إلى منزله ومعه طائفة من الأمراء وغيرهم، وأشيع بأنها خلعة استمرار تدريس الصلاحية، فسقط في يد القمني وانزعج من ذلك لأنه كان أعظم الأسباب فيما وقع للهروي، وإنما سعى في ذلك لينتزع منه الصلاحية لكونها كانت بيده قبل ذلك فدار على الأمراء وغيرهم فما أجيب إلى ذلك، فلما يئس سأل أن يعوض عنها بسموح مركب في البحر لا يؤخذ منه على ما يحضر فيها مكس، فكتب له بذلك واطمأنت نفسه واستمر يؤجرها هو بأجرة بالغة في الزيادة لتتوفر دواعي التجار على ركوبها، فإذا وصلوا أخذ المستأجر من التجار الأجرة مضاعفة بسبب رفع المكس، واستمر الهروي بعد ذلك مقيما بالقاهرة إلى أن خرج صحبة ركاب السلطان إلى الشام فقرره في نظر القدس والخليل زيادة على مشيخة الصلاحية كما سيأتي. م جمع كاتبه بعد ذلك ما ورد في ذلك، فبلغوا زيادة على عشر خصال زائدة على السبع المذكورة في الحديث المذكور، وكان أبو شامة قد نظم السبعة المشهورة في بيتين مشهورين، فجمع كاتبه سبعة وردت في أسانيد جياد فنظمها في بيتين، ثم جمع سبعة ثالثة بأسانيد فيها مقال ونظمها في بيتين آخرين، وانقضى المجلس بصلاة العصر، فلما أرادوا القيام قال كاتبه للسلطان: يا خوند! أدعي على هذا إن لي عنده دينا، فقال: ماهو؟ فقال: اثنا عشر حديثاً، فتبسم وانصرفوا، فلما كاد كاتبه أن يخرج من باب الحوش طلبه فعاد، فوجد السلطان قد قام ليقضي حاجته فوقف مع خواصه إلى أن يحضر، فقال له كاتب السر: إن السلطان قال: قد استحييت من فلان كيف يتوجه بغير ثواب! فقلت له: إن كان شيخ البيبرسية وانتزعها
منه أخو جمال الدين ظلما، فلما استتم كلامه حضر السلطان فأشار إلى كاتب السر أن يعلم كاتبه بما تقرر من أمر البيبرسية فقال له ان السلطان قد اعاد اليك مشيخة البيرسية فشكرت له ذلك ثم قلت له قررتني في مشيخة البيبرسية ونظرها وعزل من هو مقرر فيها بحكم أنه انتزعها مني بغير حجة، فقال: نعم، فأشهدت عليه بذلك من حضر، وفي غداة غد ليست بها خلعة وحضرتها وصرف أخو جمال الدين منها، ثم عوض بعد سنتين مشيخة سعيد السعداء بعد موت البلالي - كما سيأتي - بعناية الأمير ططر الذي ولى السلطنة في سنة أربع وعشرين، وكان أخو جمال الدين قد استعان على كاتبه بتنبك يبق فاستعان تنبك باقباي الدويدار الكبير وبططر المذكور وكلموا السلطان مرارا في ذلك فامتنع، فلما أيسوا منه عدلوا إلى المخادعة، فلم يزل ذلك في نفس ططر إلى أن قرر المذكور في الخانقاه السعيدية بعد موت البلالي وكفا الله شره، وأما الهروي فإن طائفة من العجم، وغيرهم سعوا عند الأمراء، وسألوا السلطان أن ينعم عليه بما ينجبر به خاطره وخاطر صهره، فأحضر يوم الاثنين ثاني عشري ربيع الآخر وخلع عليه جبة بسمور وأركب فرسا مسروجاً ورجع إلى منزله ومعه طائفة من الأمراء وغيرهم، وأشيع بأنها خلعة استمرار تدريس الصلاحية، فسقط في يد القمني وانزعج من ذلك لأنه كان أعظم الأسباب فيما وقع للهروي، وإنما سعى في ذلك لينتزع منه الصلاحية لكونها كانت بيده قبل ذلك فدار على الأمراء وغيرهم فما أجيب إلى ذلك، فلما يئس سأل أن يعوض عنها بسموح مركب في البحر لا يؤخذ منه على ما يحضر فيها
مكس، فكتب له بذلك واطمأنت نفسه واستمر يؤجرها هو بأجرة بالغة في الزيادة لتتوفر دواعي التجار على ركوبها، فإذا وصلوا أخذ المستأجر من التجار الأجرة مضاعفة بسبب رفع المكس، واستمر الهروي بعد ذلك مقيما بالقاهرة إلى أن خرج صحبة ركاب السلطان إلى الشام فقرره في نظر القدس والخليل زيادة على مشيخة الصلاحية كما سيأتي.
وفي هذه السنة قبض اقباي الدويدار على الشيخ شرف الدين التباني بسبب الكسوة التي عملت في هذه ألسنة وأغرمه مالا كثيراً باع فيه دار قد استجداها في دول المؤيد، وعزل عن نظر الكسوة، ورد السلطان أمرها إلى ناظر الجيش علم الدين ابن الكوير، وأمده بألف دينار مضافا إلى ما يتحصل من وقفها، فعملت في السنة المقبلة فجاءت في غاية الحسن وفي جمادى الأولى عصى قانباي على السلطان وزين له الشيطان أن يستبد بالملك وكان السلطان لما بلغه طرف من ذلك عزله من نيابة الشام وقرر فيها الطنبغا العثماني، وفي أثناء ذلك في رجب عثر بالقاهرة على كتاب من قانباي على جانبك الصوفي فأحضر جانبك وسئل عن ذلك فأنكر، فعوقب عقوبة عظيمة وعصرت رجلاه ليقر على من وافق قانباي على العصيان والمخامرة، واستقر الطنبغا القرمشي أميراً كبيراً عوضاً عن العثماني، واستقر تاني بك ميق أمير أخور عوضاً عن القرمشي واستقر سودون قرا صقل حاجب الحجاب عوضاً عن سودون القاضي، واستقر سودون القاضي رأس نوبة عوضاً عن سنقر، وأرسل إلى قانباي
جلبان أمير أخور لإحضاره إلى القاهرة واستقراره بها أميرا، فوصل جلبان في أول جمادى الآخرة وبلغه الرسالة فأظهر الامتثال وأخذ في نقل حريمه من دار السعادة إلى بيت الغرس الأستادار بطرف القبيبات فبينا جلبان المذكور ومعه أرغون شاه وتنبغا المظفري، ومحمد بن منجك ويشبك الأتمشي يسيرون تحت القلعة إذ وصل يلبغا كماج الكاشف إلى داريا فخرج قانباي فاتفقا على محاربة المؤيدية، فبلغهم ذلك
فتأهبوا للحرب، ثم وقع القتال من بكرة النهار إلى العصر، فانهزم المؤيدية، ومروا على وجوههم إلى صفد، واستمر محمد بن منجك في هزيمته إلى القاهرة، ودخل قانباي دمشق فنزل دار السعادة وحاصر القلعة وتراموا بالسهام والمجانيق فاستظهروا عليه فتحول إلى خان السلطان، ووصل طرباي نائب غزة مطاوعاً له على العصيان وانضم اليه ثاني بك البجاسي نائب حماه وسودون الدجي بن عبد الرحمن نائب طرابلس وجماعة وكاتب نائب حلب اينال الصصلاي فوافقه على العصيان أيضاً وخرج في عسكره من حلب لملاقاته، فخرج قانباي بمن أطاعه إلى جهة حلب، ولما بلغ قانباي خروج المؤيد إلى حربه توجه إلى جهة حلب - من طريق البرية وكان نائب حماة لما أظهر العصيان اتفق أنه خرج إلى المعرة فلما أراد دخول حماة منعه أهلها، فلما وصل قانباي إلى تلك الجهة انضم واجتمعوا كلهم بحلب، وكان شاهين الدويدار بحلب خالف إينال الصصلاي في العصيان، وطلع إلى القلعة وحصنها واجتهد في قتال المخالفين، فحاصرهم إينال نحو شهرين ونصف، فبلغ الطنبغا العثماني الذي استقر نائب الشام خبر قانباي ومن معه فتوجه إلى جهتهم ومعه العسكر المندوب من القاهرة والذين كانوا انهزموا إلى صفد إلى أن وصلوا برزة،
فوجدوا قانباي قد تقدم فتبعوه فأخذوا من ساقته أغناما ووصل قانباي إلى سلمية في سلخ رجب، ثم رحل من حماة في ثاني عشر شعبان فوافاه إينال نائب حلب وسودون ابن عبد الرحمن نائب طرابلس وكثر جمعهم، ووصل إلى القاهرة محمد ابن إبراهيم بن منجك في ثالث عشري رجب فحقق للسلطان عصيان قانباي وأخبره بالوقعة التي انهزم هو فيها منه، فلم يكذب السلطان خبراً وأصبح منزعجاً فأنفق في العسكر وعين من يسافر معه منهم، وأعفي القضاة والخليفة من السفر معه لكن سار معه القاضي الحنفي ناصر الدين ابن العديم باختياره، وسار جريدة بعد وصول ابن منجك بأيام يسيرة وذلك في ثاني عشري رجب، وقرر نيابة الغيبة ططر وقرر سودون قرا صقل حاجب الحجاب وقطلوبغا التيمي نائب القلعة وعزل ابن الهيصم عن الوزارة في تاسع عشر رجب وشغرت الوزارة فقرر أبوكم في نظر الدولة ليسد المهمات في غيبة السلطان بمراجعة الأستادار.
واستمر السلطان في سفره فدخل دمشق في سادس شعبان وكان قد دخل غزة وخرج منها في يومه ثم خرج من دمشق في ثامن شعبان، فلما كان في ثاني عشر شعبان قبل أن يصل السلطان بعسكره التقى عسكر قانباي وإينال ومن معهما وعسكر السلطان فالتقى العسكران فانكسر قانباي الدويدار وأسرهم وجماعة من العسكر وانهزم بعضهم فاتفق موافاة السلطان صبيحة ثاني يوم الوقعة وقد نزل العسكر واستغلوا بالنهب واطمأنوا، فطلعت أعلامه عليهم من وراء أكمة فولوا
الأدبار ولم يلو أحد على أحد، فقبض المأسورون في الحال على من أسرهم واستعادوا ما نهب منهم ورجع الناهب منهوباً والغالب مغلوباً وأسر إينال الصصلاي وشرباش كباشة وتمنتمر واقبغا النظامي وجماعة، واستمر السلطان على حلب والأسارى بين يديه مشاة في الأغلال والقيود فطلع القلعة، واستمر قانباي في هزيمته إلى جهة اعزاز فلقيه بعض التركمان فآمنه وأنزله عنده، ثم غدر به وقبض عليه وأحضره إلى السلطان فأمره به وبإينال الصصلاي وبكباشة وتمنترا فقتلوا وأرسلت رؤسهم إلى القاهرة فعلقت على باب زويلة ثم أرسل بها إلى الإسكندرية فطيف بها، وفر سودون بن عبد الرحمن وطرباي وغيرهما فنجوا في هزيمتهم وقرر السلطان اقباي الدويدار في نيابة حلب وجار قطلي في نيابة حماة ويشبك الشربخاناه في نيابة طرابلس، وفي مدة إقامة السلطان بحماة قدم عليه أبو يزيد بن قرا يلك بهدية من أبيه وتهنئة له بالنصر على أعدائه فأكرم مورده ورده إلى أبيه ومعه هدية مكافأة على هديته.
وفيها فر كزل نائب ملطية إلى التركمان خوفا من السلطان لأنه كان قد وافق قانباي على العصيان عليه، وعزم السلطان على الإقامة بحماة بقية السنة لحسم مادة الفتن وللقبض على من تسحب من النواب الذين خامروا وهم كزل نائب ملطية وسودون بن عبد الرحمن نائب طرابلس وطرباي نائب غزة، ثم فتر عزمه عن الإقامة وأرسل طوغان نائب صفد إلى القاهرة على تقدمة ألف وأذن له في سفر البحيرة ليحصل شيئاً يكون عوناً له على تجديد ما نهب له في الوقعة، وكانت الوقعة في رابع عشر شعبان، واستمر المؤيد يقفو أثر المهزمين إلى قلعة الأمارب فبات بها ثم أصبح فدخل إلى حلب وأقام بحلب إلى ثاني عشر شوال
ثم رجع إلى القاهرة فدخلها في ثاني عشري ذي القعدة.
وفي رمضان في ليلة الجمعة ثالثه أخذ رجل سكرانا وهو يشرب الخمر بالنهار، فضرب الحد وطيف به، فثار به عامة الصليبة فقتلوه ثم أججوا ناراً فألقوه فيها حتى مات حريقاً.
وفي شوال ليالي توجه الحاج ابتدأ الغلاء العظيم بالقاهرة مع وجود الغلال وزيادة الماء وكثرة الزرع وكان أول السنة في الغلال من الرخص شيء عجيب بحيث أن القمح الذي هو في غاية الجودة لا يتجاوز نصف دينار كل إردب ودونه قد يبتاع بالدينار ثلاثة أرادب وذلك في كثير من الأوقات، وأعظم الأسباب في هذا الغلاء كثرة الفتن بنواحي مصر من العرب وخروج العساكر م مرة بعد مرة ففي كل مرة يحصل الفساد في الزروع ويقل الأمن في الطرقات فلا يقع الجلب كما كان.
وفي أواخر ذلك توجه الأستادار لدفع العرب المفسدين في وقت قبض المغل فعاث من معه في الغلال وأفسدوا وعادوا واتفق وقوع القحط بالحجاز والشام فكثر التحويل في الغلال إلى النواحي من أراضي مصر وصعيدها، واتفق أن بعض الناس ممن له أمر مطاع في غيبة السلطان أراد التجارة في القمح فصار يحجر على من يصل لشيء منه أن يبيعه لغيره فعز الجالب فرارا منه فوقع في البلد تعطيل في حوانيت الخبازين، ووقع الفساد من ذلك قليلاً قليلاً بحيث لا ينتبه له إلى أن استحكم فبلغ الإردب من القمح إلى ثلاثمائة وكذلك الحمل من التبن، وتزاحم الناس على الخبز في الأسواق إلى أن فقد من الحوانيت وصار الذي من شأنه أن يكتفي بعشرة أرغفة لو وجد مائة لاشتراها لما قذف في قلوبهم من خشية فقده وصار من عنده شيء من القمح يحرص على أن لا يخرج منه شيئاً خشية أن لا يجد بدله فتزاحم الناس على الأفران إلى أن قفلت صاروا يبيعوه من الأسطحة وآل الأمر إلى أن فقد القمح وبلغ الناس الجهد وانتشر الغلاء في قبلي مصر وبحريها،
واتفق أن الوجه البحري كان مقلا من الغلال بسبب الفأر الذي تسلط على الزرع في هذا السنة فاحتاجوا على جلبه من الصعيد، وأمسك أهل الصعيد أيديهم عن البيع لما بلغهم من منع المحتسب من الزيادة في السعر فاشتد الأمر وعم البلاء ولما رأى التاج الوالي وهو المحتسب يومئذ ذلك استعفى من الحسبة فقرر نائب الغيبة فيها القاضي شمس الدين محمد ابن يوسف الحلاوي في العشرين من شوال فباشر أياماً قلائل فلما أهل ذو القعدة تزايدت الأسعار واشتد الزحام بالأفران فخشي المحتسب على نفسه فاستعفى، وأعيد أمر الحسبة إلى الوالي وهو التاج الشوبكي وذلك في حادي عشر ذي القعدة وقد امتدت الأيدي للخطف، واجتمع ملا يحصى ببولاق لطلب القمح، وتعطل غالب الأسواق من البيع والشراء بسبب اشتغالهم في تحصيل القوت، لأن بعضهم كان يتوجه إلى الأفران من نصف الليل ليحصل له من الخبز، وبعضهم يتوجه إلى السواحل ليحصل له شيء من القمح فمنهم من يجده ومنهم من يرجع خائباً، فقلت أصناف المآكل وعظم الخطب وصارت المراكب من القمح إذا وصلت إلى الساحل تربط في وسط النيل خشية من النهب بالساحل ويتوجه الناس افي الشخاتير ليشتروا منها، ثم وقع التحجير على من يشتري زيادة على إردب وصار معظم الواصل يقسم على الطحانين ليطحنوه للفرانين ويحمل إلى حوانيت الخبازين، ومع ذلك فالزحام عليه شديد حتى مات جماعة من الزحمة وغرق جماعة في البحر عند التوجه إلى المراكب الواصلة، وخرج الناس في ثامن عشر ذي القعدة إلى الصحراء يستكشفون هذا البلاء ومقدمهم
القاضي جلال الدين البلقيني فوقفوا قريباً من قبة النصر فضجوا ودعوا بغير صلاة، وأتفق أن القاضي واجه التاج الوالي فأشار عليه أن يختفي خشية عليه مما اتفق لابن النشو بدمشق في آخر القرن الماضي على تقدم شرحه لأن الألسنة كانت انطلقت في حقه أن سبب الغلاء منه فرجع مختفياً، ورجع بعد ذلك الموقف وقد تيسر وجود الخبز قليلاً ثم فقد أشد مما تقدم فركب التاج الوالي إلى البلاد القريبة وتتبع مخازن القمح وألزم أصحابها بالبيع وقسم على الطحانين مقادير احتياجهم، فبلغت البطة الدقيق مائة درهم وزاد الأمر فانتهت إلى مائتين وبلغ القمح إلى ثلاثمائة درهم كل إردب، وبلغ الفول إلى ثلاثمائة، والأرز إلى ألف وثمانين، وتزايد في غضون هذه الأيام سعر الذهب إلى أن بلغ الهرجة مائتين وثمانين كل مثقال، وندب نائب الغيبة إلى كل فرن طائفة من الترك لمنع من ينهب وقعد حاجب الحجاب بنفسه على بعض الأفران واجتهد في ذلك حتى رأى الخبز على الحوانيت، وكان من اللطف الخفي في هذه المدة طلوع الزرع فاستغنى الناس لبهائمهم بالربيع ثم استغنوا لأنفسهم بأكل الفول الأخضر ثم فريك الشعير، وخرج الناس من ابتداء ذي الحجة أفواجا أفواجاً إلى الأرياف، ثم استشعر من عنده قمح من أهل الحصار والصعيد.........فأطلقوا أيديهم في البيع وكثر الجلابة من التجار فكثر الوصل، ومع ذلك فالغلاء مستمر والطالب للقمح غير قليل.
وفي هذا السنة قدم فخر الدين ابن أبي الفرج من بغداد فالتقى بالسلطان، فأكرمه وعفا عنه ذنبه الماضي وولاه كشف الشرقية والغربية والبحيرة وقطيا، فقدم القاهرة في أواخر شوال وأقام بها قليلاً وخرج إلى عمله ليحصل الأموال على عادته، وخرج السلطان من حلب في أوائل ذي القعدة وقبض على سودون القاضي وسجنه بدمشق، واستقر بردبك عوضه رأس نوبة،
وخرج إبراهيم ولد السلطان من القاهرة لملاقاة أبيه في أواخر ذي القعدة وصحبته كزل العجمي وغيره، ووصل السلطان إلى سرياقوس في نصف ذي الحجة فعمل هناك وقتا حافلاً بالقراء والسماع على العادة وهب الصوفية الخانقاه شيئاً كثيراً، وأصبح في السادس عشر فنزل الريدانية بكرة ومد السماط هناك وخلع على من له عادة بذلك وطلع القلعة من يومه، ونودي من الغد بالأمان وأن لا يتكلم أحد في سعر الغلال فإن الأسعار بيد الله ومن زاحم على الأفران فعل له كذا وكذا، وتصدى للنظر في أمر القمح بنفسه، وجهز مرجان الخازندار وعبد الرحمن السمسار بمال جزيل إلى الصعيد ليشتروا بها قمحا ويحضرونه بسرعة ليكثر بالقاهرة وتبطل المزاحمة على الخبز، وانسلخت السنة والأمر على ذلك.
وفي خامس عشر ذي الحجة استقر جقمق الدويدار دويدار كبيراً عوضاً عن اقباي، واستقر يشبك دويدار ثانيا موضع جقمق.
وفي آخر السنة نودي على الذهب أن يكون الهرجة بمائتين وخمسين بعد ما كان بلغ مائتين وثمانين وشدد السلطان في ذلك وتوعد عليه.
واستقر إبراهيم المعروف بخرز في ولاية القاهرة عوضاً عن التاج ونقل التاج إلى أستادارية الصحبة.
وفيها في صفر استقر رميثة بن محمد بن عجلان في إمرة مكة عوضاً عن عمه حسن بن عجلان، فلم يتهيأ له الدخول إلى مكة إلا مع الحجاج، فدخلها في ذي الحجة،
ونزع عنها حسن وأولاده، وحاشيته، فاستقر أميراً بها إلى أن كان ما سنذكره في السنة الآتية.
وفيها في ربيع الآخر أهين ود والنصارى إهانة بالغة في استخراج الذهب الذي قرر عليهم في وفاء الجزية الماضية ونالهم محمد الأعوان كلف كثيرة.
وفي هذه السنة كثر عبث العربان بالوجه القبلي والبحري، واشتد بأسهم وثارت الأحامدة من عرب الصعيد وهم ناقلة من أراضي الحجاز من آل بلي سكان دامة فما فوقها على جهة ينبع، فتحولوا إلى الصعيد الأعلى ونزلوا فيه واتخذوه وطنا، ووثبوا على والي قوص فقتلوه وقتلوا خلقا معه.
وفيها في ربيع الآخر توجه تنبغا المظفري إلى دمشق فاستقر بها أميراً كبيراً، ونقل طوغان من نيابة صفد إلى حجوبية دمشق، ونقل خليل الجشاري من حجوبية دمشق على نيابة صفد، وكان المتوجه من القاهرة إينال الأزعري.
وفيه توجه محمد شاه بن قرا يوسف صاحب بغداد إلى ششتر فحاصرها وفيها بقية آل أويس، فقاتلوه، ومنعوا البلد.
وفي جمادى الأولى استقر أقبردي المنقار في نيابة الإسكندرية عوضاً عن صماي.
وفي ربيع الآخر توجه نائب حلب إينال الصصلاي ونائب طرابلس سودون التركماني قبل المخامرة على جرائد الخيل في طلب كردي بن كندر التركماني ففر منهم. فأخذوا
أعقابه واستولوا على كثير من أغنامه وأبقاره، ثم توجهوا على قلعة دربشاك فحاصروها ثلاثاً فأخذوها، وفر عن كردى أكثر أصحابه فتسحب على مرعش وانضم فارس بن مردخان ابن كندر.
وفيه توجه نائب ملطية كزل في طلب حسين بن كبك وأخيه سولو وكانا قد نازلا حرباص من أعمال ملطية وأحرقاها فأدركهما فتحصنا بقلعة كركر، فقتل من جماعتهما خلقا ورجع إلى ملطية فخرجا وجمعا عليه من التركمان والأكراد جمعا كثيراً ورجعوا عليه فقاتلهم وهزمهم. وفيها سقطت دار من الدور القديمة التي أخذت لتضاف إلى المدرسة التي ابتدأ السلطان في إنشائها داخل بابي زويلة، فمات تحت الردم منهم أربعة عشر نفسا.
وفي جمادى الآخرة طرق سودون القاضي الجامع الأزهر، وهو يومئذ حاجب الحجاب ونظر الجامع بعد عشاء الآخرة ومعه كثير من أعوانه، وكان بلغه أنه حدث بالجامع من الفساد بمبيت الناس فيه مالا يعبر عنه، فأمر بعدم المبيت فيه فلم يرتدعوا فطرقهم، فوقع من أعوانه النهب في الموجودين، فامتنعوا بعد ذلك من المبيت، وأخرج بعد ذلك ما بالجامع من الصناديق والخزاين للمجاورين لأنها ضيقت على المصلين.
وفيها في أولها كانت كائنة الشيخ سليم - وهو بفتح السين - وذلك أنه كان بالجيزة بالجانب الغربي من النيل كنيسة للنصارى فقيل إنهم جددوا فيها شيئاً كثيراً، فتوجه الشيخ سليم من جامع الأزهر ومعه جماعة فهدموها، فاستعان النصارى بأهل الديوان من القبط فسعوا عند السلطان بأن هذا الشيخ افتات على المملكة وفعل ما أراد بيده بغير حكم حاكم، فاستدعى بالمذكور فأهين، فاشتد ألم المسلمين لذلك، ثم توصل
النصارى ببعض قضاة السوء إلى أن أذن لهم في إعادة ما تهدم فجر ذلك لهم أن شيدوا ما شاؤا بعلة إعادة المنهدم الأول فلله الأمر.
وفيها صرف حسين بن نعير عن إمرة العرب واستقر حديثه ابن سيف في إمرة آل فضل فوقع بينهما حرب فغلب حديثه، وتوجه حسين إلى الرحبة فأفسد زروعها، ثم التقيا في أواخر رجب فقتل حسين في المعركة وبعث برأسه إلى القاهرة.
وفيها قدم رسول كبير البنادقة من الفرنج إلى القاهرة بهدية من صاحبه وكتاب، فعرب الكتاب، وقرئ على السلطان وقبلت الهدية وأمر السلطان ببيعها وصرف ثمنها في العمارة التي أحدثها، وقرر لذلك كل هدية تصل من كل جهة.
وفيها أوقع آل لبيد من عربان العرب الأدنى من نحو برقة بأهل البحيرة بحري مصر، فكسروهم ونهبوا منهم زيادة على ثلاثة آلاف بعير وأضعافها من الأغنام، وانهزم أهل البحيرة إلى الفيوم، ورجع أولئك وأيديهم ملأى من الغنائم.
وفي رجب نقل سودون القاضي من الحجوبية فصار رأس نوبة كبير ونقل رأس