الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمات:
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، وعلى محمد خاتم النبيين والمرسلين.
وبعد: فقد قام المسلمون من لدن الصحابة -رضوان الله عليهم- بالعناية الفائقة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم رواية ودراية، ووضعها للأسس التي تحفظها، من تحريف الغالين وانتحال المبطلين.
وقد كانت في القرن الثاني الهجري العلامات البارزة في طريق رعاية السنة النبوية الكريمة وتوثيقها؛ ذلك أنه قد هبت في هذا القرن أعاصير عاتية، تهدف إلى الإطاحة بالسنة، وإبعاد المسلمين عنها، وتشكيكهم في طرق نقلها ورواتها
…
وقيض الله عز وجل أئمة كبارًا في هذا القرن، وقفوا في وجه هذه الأعاصير يردون كيدها، ويحفظون للمسلمين سنة نبيهم، صلى الله عليه وسلم، المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي.
حقيقة سعد هذا القرن بالنصيب الأوفى والقدح المعلى من أئمة المسلمين الذين قاموا بجهد كبير في توثيق السنة من أمثال مالك بن أنس، وأبي حنيفة النعمان بن ثابت، وصاحبيه، محمد بن الحسن الشيباني، وأبي يوسف، يعقوب ابن إبراهيم، والشافعي محمد بن إدريس، وسفيان الثوري، وابن عيينة، وشعبة بن الحجاج، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وغيرهم، هؤلاء الذين وهب لهم الله البصائر النيرة، والعقول الذكية، مع الإخلاص لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، فقاموا بوضع المصنفات في السنة، ووضع الأسس التي تميز ما نسب حقًّا وصدقًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما وضع عليه زورًا وبهتانًا.
وما أشبه الليلة بالبارحة كما يقولون! فقد نبتت نابتة في عصرنا الحديث، تشكك المسملين في السنة، وتسير على درب أسلافهم الذين كادوا للمسلمين وللإسلام، وردهم الله على أعقابهم خاسرين، زعمت هذه النابتة أن السنة حرفت وبدلت
…
وأن أسس توثيقها كانت واهية وشكلية، ولم تنهض بعبء الحفاظ عليها.
هل حقًّا ما يزعم هؤلاء؟.. إن الأمر في حاجة إلى دراسة متأنية موضوعية، تكشف وجه الحق، وتبرز ما أخفاه هؤلاء الجاهلون، أو غاب عنهم.
وهذا ما دفعني إلى اختيار موضوع هذه الرسالة، "توثيق السنة في القرن الثاني الهجري، أسسه واتجاهاته".
ومهدت لهذا الموضوع بتمهيد وقف عند بعض الموضوعات التي تحدد أبعاده، وتكون الأساس لما يعالجه من قضايا.
وإذا كان الحديث الذي هو بمعنى السنة -كما اصطلحنا في هذه الرسالة- ينقسم إلى قسمين: السند والمتن، وكانت عناية أهل القرن الثاني هي توثيق القسمين معًا؛ بهدف التأكد مما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلًا صحيحًا -فقد قسمت هذه الرسالة إلى قسمين:
القسم الأول: ويعنى ببيان الأسس التي وضعت لتوثيق سند الحديث، مما يؤدي إلى توثيق متنه، وهو ما سماه بعض الباحثين بالنقد الخارجي للحديث.
والقسم الثاني: ويعنى ببيان الأسس التي تتعلق بتوثيق متن الحديث بعيدًا عن سنده، وبالنظر إلى ألفاظه ومعانيه، وهو ما سُمي حديثًا كذلك بالنقد الداخلي للحديث.
والقسم الأول: يتكون من أربعة فصول:
يتناول الفصل الأول منه بيان كيفية نقل الحديث إلى أهل القرن الثاني الهجري؛ من حيث عدد رواته، وتواتر نقلته، أو عدم تواترهم.
ويتناول الفصل الثاني أسس توثيق الراوي ناقل الحديث، وبيان الشروط التي ينبغي توافرها فيه؛ حتى يطمأن إلى حمله للحديث، وروايته له نقيًّا غير محرف أو مبدل فيه.
والفصل الثالث: يتناول مناهج تحمّل الحديث وروايته وما هو جدير منها بتوثيقه والمحافظة عليه؛ فيكون مقبولًا، وما هو غير ذلك، فيكون مرفوضًا.
والفصل الأخير: من هذا القسم تعرض للأسانيد؛ من حيث اتصالها وانقطاعها، ومتى يكون الحديث بها موثقًا، ومتى يكون غير ذلك في رأي بعض الفقهاء والمحدثين.
وقد طوف القسم الثاني من الرسالة مع الفقهاء ونقدهم الداخلي للحديث، بعيدًا عن رجاله وأسانيده.. وهو يتكون من ستة فصلول:
الفصل الأول: يتناول مقياس عرض أحاديث الآحاد على القرآن الكريم بين الآخذين به والرافضين له، والأمثلة التي طبق عليها هذا المقياس.
والفصل الثاني: تناول مقياس عرض أحاديث الآحاد على السنة المشهورة، ذلك المقياس الذي أخذ به الأحناف، ورفضه الإمام الشافعي كأساس من أسس توثيق الحديث.
ومقاييس أخرى عرض لها الفصل الثالث، ومنها عرض أحاديث الآحاد على ما هو مشهور بين الصحابة وعملهم وفتاواهم: وقد تناول هذا الفصل وجهة نظر الآخذين بها والرافضين لها كمقاييس أساسية في نقد الحديث وتوثيقه.
والفصل الرابع: تناول مقياس عرض أحاديث الآحاد على عمل أهل المدينة الذي أخذ به أصحاب مالك رضي الله عنه، ورفض الإمام الشافعي له، ومناقشته للآخذين به ومناقشة غيره من مخالفيهم.
والفصل الخامس: تناول مقياس عرض خبر الواحد على القياس، بين من يأخذون به كأساس من أسس توثيق السنة، ومن يرفضون أخذه كذلك.
والفصل الأخير: عرض لرواية الحديث بالمعنى، من حيث المجيزون لهما، والرافضون.. كما عرض للأسس والقواعد التي وضعها بعض أئمة هذا العصر، ضمانًا لانتقال الأحاديث صحيحة عند روايتها بالمعنى.
ثم جاء دور الخاتمة، التي ذكرت أهم النتائج والاقتراحات التي انتهت إليها هذه الرسالة.
وطبيعة البحث في موضوع هذه الرسالة، على هذا المنهج، تقتضي الرجوع إلى نوعين من المصادر: مصادر تتناول أصول الفقه وأدلته، وأخرى تتناول أصول الحديث وأسسه.
أما بالنسبة للنوع الأول فقد يسر الله مؤلفات تمثل هذه الفترة خير تمثيل، وتحتوي على كثير من الأسس التي قال بها أئمة عاشوا في القرن الثاني الهجري، ومن هذه المؤلفات كتب الإمام الشافعي؛ كـ"الرسالة"، و"الأم"، و"اختلاف الحديث"، وبعض كتب الإمامين: محمد بن الحسن الشيباني، وأبي يوسف، و"موطأ الإمام مالك بن أنس".
وهذه الكتب -بالإضافة إلى إمدادها هذه الرسالة بكثير من أصول توثيق السنة- كانت الفيصل والحكم فيها نسبه المتأخرون إلى أئمة هذا القرن من أسس. أو بعبارة أخرى كانت موازين عادلة وزنت بها كل هذه المنسوبات فأحقت بعضها، وأبطلت بعضها الآخر.
وأما النوع الآخر فقد كان بعضه من هذه الفترة، كمؤلفات الإمام أحمد بن حنبل، والإمام علي بن المديني. وبعض منه كان قريبًا منها، ويمتاز بالدقة والصدق فيما نقل عن أئمة هذا القرن، وعن مؤلفاتهم:
وأهم هذه المصادر كتب ابن أبي حاتم الرازي: الجرح والتعديل، والمراسيل وآداب الشافعي، وعلل الحديث. وكتاب الرامهرمزي المحدث
الفاضل الذي يعتبر في رأي كثير من الدارسين أول مؤلف في أصول الحديث.
وقد قام هذا النوع بنفس الدور الذي قام به النوع الأول.
وطبيعي أن تغني هذه المصادر الأصيلة عن كثير من المراجع الحديثة في كثير من الأحيان، وإن كان للأخيرة فضل الاسترشاد وإنارة الطريق، ووضع علامات استفهام في طريق البحث لفتت نظري إلى أهم ما يجب أن يبحث عنه في هذهالفترة، كإجابات عن هذه الاستفهامات.
وتتبعت منهج1 أستاذنا الجليل محمد أبي زهرة عليه رحمة الله، فلم أثقل هوامش الرسالة بالإحالة إلى المراجع، واكتفيت بالمصادر عندما تلتقي الأولى بها، وبأهم المصادر وأقدمها عنما تلتقي هي أيضًا على فكرة واحدة.
وإذا كانت الدراسة الموضوعية الصادقة هي تلك التي تعتمد على النصوص والوثائق فقد التزمت هذه الرسالة -إلى حد كبير- بإيرادها كشواهد ودلائل على ما عالجته من فكر ومبادئ
…
وربما يلمس القارئ نوعًا من الغموض في بعضها، كنصوص الإمام الشافعي.. ولكن يعلم الله مقدار المعاناة في قراءة هذه النصوص والاستفادة منها، ومراجعتها أكثر من مرة
…
وقد كنت حريصًا على إيرادها، والاستفادة منها، مؤثرًا الطريق الوعر، وتقديم كثير منها لأول مرة على الرغم من أن كتب الإمام الشافعي منتشرة بين العلماء، وطبعت منذ زمن بعيد.
1 ذكر هذا المنهج في مقدمة كتابه "مالك: حياته وعصره - آراؤه وفقهه" وكان يطبقه كذلك.
وبعد؛ فقد اجتهد ما وسعني الاجتهاد في هذه الرسالة، ولكن الكمال لله عز وجل وحده، والمعصومون من الأخطاء هم أنبياء الله، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
…
فأدعوا الله العلي الكريم أن يغفر زلات هذا العمل وأخطاءه، وأن يجعله خالصًا لوجهه، وأن ينفع به؛ إنه نعم المولى، ونعم المجيب.
القاهرة في: ربيع الثاني 1396هـ.
أبريل 1976م.
رفعت فوزي عبد المطلب