الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلا وأنا غلام1.. ويقول يحيى بن معين عن إبراهيم ابن عقيل: "لم يكن به بأس، ولكن ينبغي أن تكون صحيفة وقعت إليه"2.
475-
والأجدر بالراوي أن يقول عند الأداء، وقد وثق بأن الكتاب الذي وجده بخط مؤلفه "وجدت بخط فلان" و"قرأت في كتاب فلان بخطه"3 أو "بلغني عن فلان" و"وجدت في الكتاب الفلاني" إذا لم يثق أنه خط المؤلف أو خط تلاميذه الموثوق بهم.
476-
وإذا أطلق عبارة تحتمل السماع وغيره فقد دلس، والتدليس عابه أكثر من إمام، واعتبروه من الكذب، وهذا إذا قال مثلًا:"قال فلان" أو "عن فلان"..
1 العلل ومعرفة الرجال 1/ 282. ميزان الاعتدال 4/ 80 - 81.
2 الجرح والتعديل مج 1 ق 1/ 369.
التوثيق بالكتاب في نقل الحديث:
477-
وبعد أن استعرضنا مناهج تلقي الحديث وأدائه، وعرفنا ما هو مشروع منها وما هو غير مشروع في توثيق الحديث يجدر بنا أن نقف وقفة مؤكدة عند الكتاب والكتابة ودورهما في صيانة السنة وتوثيقها أثناء نقلها بعد أن وقفنا قبل ذلك عند دوره في ضبط الأحاديث عند الراوي وإعانته على ذلك.
478-
والحق أن دور الكتاب هنا أكبر من دوره هناك، ويتضح هذا الدور في كل مناهج التلقي كما سبق أن عرفنا.
فقد رأينا من صور السماع إملاء الشيخ على التلاميذ من كتابه وأن هذا أعلى صور السماع.
479-
وقد يملي الشيخ من كتابه لا من حافظته، كما هو مصرح به في بعض الروايات، يقول هارون بن معروف "231هـ" قدم علينا بعض
الشيوخ من الشام فكنت أول من بكر عليه، فسألته أن يملي علي شيئًا، فأخذ الكتاب يملي1
…
وإذا كان الشيخ يملي فالتلميذ يدون ما يميليه من الأحاديث.
480-
وقد كانوا ينصون على الإملاء ليتميز الراوي عن أقرانه بالصحة والجودة في سماعه، سأل عبد الله بن أحمد بن حنبل أباه عن شعيب بن أبي حمزة: كيف سماعه من الزهري؟ أليس هو عرض: قال: لا، حديثه يشبه حديث الإملاء. هو أصح حديثًا عن الزهري من يونس
…
نظرت في كتب شعيب، أخرجها إلي ابنه، فإذا بها من الحسن والصحة والشكل، ونحو هذا.
ويقول يحيى بن معين عنه: "ثقة في الزهري
…
كتب عن الزهري إملاء، وكان كاتبًا2".
481-
وكان بعض التلاميذ يأبى إلا أن يملي عليه الشيخ ليحوز بهذه الدرجة العليا من الإتقان؛ لما قدم ابن جريج البصرة قام معاذ بن معاذ، فشغب وقال: لا نكتب إلا إملاء، وسأل عبد الله بن أحمد بن حنبل معاذ، فكتب إملاء؟ فقال له أبوه: كتبوا إملاء3
…
ويقول عفان "219هـ": ما رضينا من أحد إلا بالإملاء إلا شريكًا، وكان عفان هذا يحض أصحاب الحديث على الضبط والتقييد إذا أخذوا عنه
…
وكان يقول لحماد بن سلمة: لا نكتب إلا الإملاء4.
482-
وإذا كانت الكتابة من أهم وسائل التوثيق
…
وإذا كان السماع مع الإملاء هما الجديرين بنقل الحديث نقلًا موثقًا عند نقاد الحديث، فإن مما يزيدنا اطمئنانًا أن كثرة من الأحاديث نقلت على هذا الوجه؛ لأنهم كانوا لا يعتبرون المحدث جديرًا بهذا اللقب إلا إذا كانت أحاديثه كثيرة، يقول
1 تهذيب التهذيب، شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني "ت 852 هـ) - دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد بالهند 1327 - 11/ 284.
2 الجرح والتعديل مج 2 ق 1/ 1508.
3 العلل ومعرفة الرجال 1/ 370.
4 المحدث الفاصل "المطبوع" ص 602، الإلماع ص 150 - أدب الإملاء ص 11.
أبو بكر بن أبي شيبة: "من لم يكتب عشرين ألف حديث إملاء لم يعد صاحب حديث"1.
283-
وبالنسبة إلى حالات السماع عمومًا فقد استقرت عادة المحدثين على أن يكتب التلميذ حديث الشيخ من أصول أو من كتب تلاميذه أو أقرانه الذين سمعوا منه أو قرءوا عليه، ثم يأتي فيمسعه منه، يقول قراد أبو نوح: كنت آتي عبد الله بن عثمان -يعني صاحب شعبة- فأكتب حديث شعبة، ثم آتي شعبة، فأسأله فيحدثني2.
484-
وقد تلازم السماع والكتابة تلازمًا قويًّا حتى كان يعبر بأحدهما عن الآخر فكثيرًا ما كانوا يطلقون أحدهما على الآخر، سئل الأوزاعي عن الغلام يكتب الحديث قبل أن يبلغ الحد الذي تجري عليه فيه الأحكام؟ ويفهم الأوزاعي أن المقصود بكتابة الحديث هنا السماع، ولهذا يجيب: إذا ضبط الإملاء جاز سماعه وإن كان دون العشر3.
485-
وقد فهم ابن خلاد الرامهرمزي مثل هذا عندما قال: إن ابن عيينة أخبر -في رواية الجوهري- أنه كتب عن الزهري وهو ابن خمس عشرة سنة. والحقيقة أن عبارة الجوهري التي أشار إليها تقول: إن سفيان قال: سمعت منه -أي الزهري- وأنا ابن خمس عشرة سنة4. ولم يذكر الكتابة.
486-
وقد عبر الإمام أحمد عن الكتابة بالسماع فقال عن عبد الرحمن بن عبد الله العمري: "ليس بشيء، وقد سمعت أنا منه، ثم مزقته"5. ومعلوم أنه يريد أن يقول كتبت عنه وسمعت، ولكنه اكتفى بأن يقول سمعت منه، لتلازم الاثنين".
487-
وقد كان بعض الأئمة يحرص على أن يقرأ الشيخ من كتبه حتى
1 أدب الإملاء ص11.
2 العلل ومعرفة الرجال 1/ 64.
3 المحدث الفاصل، المطبوع ص185.
4 الجرح والتعديل مج 2 ق 2/ 1202.
تكون أحاديثه موثقة، مر عبد الله بن المبارك سنة ثمان وستين على محمد بن جابر وهو يحدث بمكة، فقال له: حدث يا شيخ من كتبك1.
488-
ويحرص بعض الشيوخ على أن يعين بعض تلاميذه على الكتابة عند الإملاء، يقول الحسن بن عرفة: كنت آتي وكيعًا، وكان يملي من حفظه، وكنت بطيء الكتابة، فيأخذ يدي في يده، ويقول: هات، فيكتب لي2.
489-
فالسماع في حقيقة الأمر إنما هو وسيلة للحصول على كتاب صحيح يدون فيه الحديث تدوينًا موثقًا
…
ويبقى هذا الكتاب يسند الذاكرة في أداء الحديث {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} 3، فيتعاونان معًا على حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
490-
فإذا ما تركنا السماع إلى العرض وجدنا الأمر واضحًا، لأن التلميذ يقرأ من كتاب قد أعده قبل أن يجلس مع الشيخ يقرأ عليه، وما عملية القراءة إلا لتصحيح الأخطاء التي قد تكون واقعة أثناء النقل، وللاطمئنان إلى أن الأحاديث التي نقلت إنما هي أحاديث الشيخ لم يزور فيها بزيادة ولا بنقص.
فالعرض أيضًا وسيلة لتصحيح الكتاب ونطقه سليمًا كما هو الحال في معظم السماع.
491-
أما المناولة والمكاتبة وغيرها فإنها تعتمد على الكتاب اعتمادًا كبيرًا وكليًّا بعضها كالمناولة والمكاتبة والوصية. وقد وضعت الشروط التي تجعل الكتاب فيها صحيحًا موثقًا، لما سبق أن ذكرنا.
492-
وصحة الكتاب كانت تغفر للراوي سوء تلقيه للحديث؛ لأنه كفيل بتوثيقه قال الإمام أحمد: وقد وثق راويًا فقيل له: إنه كان يسيء الأخذ قال: قد كان يسيء الأخذ، ولكن إذا نظرت في حديثه وما روى عن مشايخه وجدته صحيحًا4.
1 العلل ومعرفة الرجال 1/ 370.
2 أدب الإملاء ص16.
3 سورة البقرة: 282.
4 الجرح والتعديل مج 2 ق 2/ 879.
ولعل هذا يجعلنا نطمئن إلى مقدار العناية بتوثيق الأحاديث في القرن الثاني الهجري.
493-
ومع توثيق الرواة وتوثيق الحديث من حيث نقله من راو لآخر كان على النقاد أن ينظروا في الأسانيد وخاصة ما أرسل منها على الرغم من قلة رواتها وصحة أخذهم للحديث، وهذا ما سندرسه في الفصل التالي إن شاء الله تعالى.