المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: عرض الحديث على عمل الصحابة وفتاواهم - توثيق السنة في القرن الثاني الهجري أسسه واتجاهاته

[رفعت بن فوزي عبد المطلب]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات:

- ‌مقدمة:

- ‌تمهيد

- ‌مدخل

- ‌السنة والحديث:

- ‌توثيق السنة والمراد منه:

- ‌نظرة عامة على التوثيق في القرن الأول الهجري:

- ‌دوافع التوثيق في القرن الهجري:

- ‌الموثقون في القرن الثاني الهجري:

- ‌القسم الأول: توثيق سند الحديث

- ‌الفصل الأول: نقل السنة بالتواتر والآحاد

- ‌مدخل

- ‌حجية المتواتر والدفاع عن هذه الحجية:

- ‌حجية خبر الآحاد:

- ‌حجية المشهور عند الحنفية:

- ‌الفصل الثاني: توثيق الراوي

- ‌مدخل

- ‌ الإسلام:

- ‌ العقل:

- ‌ العدالة:

- ‌ الضبط:

- ‌الفصل الثالث: مناهج تلقي الحديث وأدائه

- ‌السماع ومصطلحات الأداء عنه

- ‌ القراءة على الشيخ أو العرض:

- ‌ المناولة ومصطلحات الأداء عنها:

- ‌ المكاتبة ومصطلحات الأداء عنها:

- ‌ الإجازة ومصطلحات الأداء عنها:

- ‌ إعلام الشيخ:

- ‌ الوصية بالكتب:

- ‌ الوجادة:

- ‌التوثيق بالكتاب في نقل الحديث:

- ‌الفصل الرابع: المتصل والمنقطع من الأسانيد

- ‌عناية النقاد بالأسانيد واتصالها:

- ‌المرسل والاتجاهات في الأخذ به وتوثيقه وعدم الأخذ به:

- ‌القسم الثاني: توثيق متون السنة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: عرض أخبار الآحاد على كتاب الله وعز وجل

- ‌الفصل الثاني: عرض أحاديث الآحاد على السنة المشهورة

- ‌الفصل الثالث: عرض الحديث على عمل الصحابة وفتاواهم

- ‌الفصل الرابع: عرض الحديث على عمل أهل المدينة

- ‌الفصل الخامس: عرض أخبار الآحاد على القياس

- ‌الفصل السادس: الرواية بالمعنى

- ‌الخاتمة:

- ‌ملخص الرسالة:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌الفصل الثالث: عرض الحديث على عمل الصحابة وفتاواهم

‌الفصل الثالث: عرض الحديث على عمل الصحابة وفتاواهم

730-

هناك مقياسان غير ما تقدم لتوثيق الحديث أخذ بهما الحنيفة وهما:

1-

الحديث الذي تعم به البلوى، والذي إليه تكون الحاجة ماسة في عموم الأحوال -لا بد أن يأتي بروايات مشهورة ليكون مقبولًا وموثقًا، فإذا لم يكن كذلك يرفض؛ لأنه لو صح لانتشر وشاع بين الصحابة ومن بعدهم. فالعادة تقتضي استفاضة نقل ما تعم به البلوى.

2-

الحديث الصحيح يأخذ به الأئمة من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم -فإذا أعرضوا عن حديث- وهم الأصول في نقل الشريعة -دل ذلك على انقطاعه أو نسخه، "وذلك بأن يختلفوا في حادثه بآرائهم، ولم يحاج بعضهم في ذلك بحديث كان ذلك زيافة؛ لأن استعمال الرأي والإعراض عن النص غير سائغ"1.

731-

وهذان المقياسان -كما يبدو واضحًا- يرجعان إلى أصل واحد وهو الرجوع بالحديث وعرضه على عمل الصحابة وفتاواهم ومدى نقلهم له، فإذا كانت العادة تقتضي أن يعلمه أكثرهم ويعملوا به، وحدث ذلك فعلًا ونقلوه قبل وكان صحيحًا. أما إذا أعرضوا عنه، وواجب عليهم ألا يعرضوا عما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذلك دليلًا على أنه لم يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

732-

وطبق الأحناف المقياس الأول، وشاركتهم فيه المالكية -كما يقول ابن حزم2- فقالوا: إن حديث مس الذكر مثلًا ليس صحيحًا لأنه مما تعم به البلوى.

وهذا الحديث رواه أصحاب السنن الأربعة:

رواه أبو داود والنسائي من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عروة بن الزبير قال: دخلت على مروان، فذكر

1 أصول البزدوي بشرح كشف الأسرار 3/ 738.

2 الإحكام في أصول الأحكام 2/ 145.

ص: 345

ما يكون منه الوضوء. فقال مروان: أخبرتني بسرة بنت صفوان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مس ذكره فليتوضأ" ورواه ابن ماجه من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن مروان عن بسرة.

ورواه الترمذي عن هشام بن عروة عن أبيه عن بسرة"1.

733-

قال الأحناف: إن هذا الحديث شاذ لانفرادها بروايته مع عموم الحاجة إلى معرفته، فدل ذلك على زيافته؛ إذ القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم خص بسرة بالتعليم في هذا الحكم، مع أنها لا تحتاج إليه، ولم يعلم سائر الصحابة مع شدة الحاجة إليه شبه المحال2.

734-

وفي الحق أنه قد روي هذا الحديث عن صحابة آخرين غير بسرة كأبي هريرة وجابر وسالم وزيد بن خالد، وعائشة وأم حبيبة وغيرهم، إلا أن الروايات عنهم مضطربة الأسانيد، غير صحيحة لضعف رجالها، ولمعارضتها أيضًا بروايات أخرى صحيحة تخالفها، فلا ينتفي الشذوذ منها3..

ولو كان مما ينتقض بمس الذكر الوضوء لأشاعه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقتصر على مخاطبة الآحاد، بل يلقيه إلى عدد يحصل به التواتر أو الشهرة مبالغة في إشاعته لئلا يفضي إلى بطلان صلاة كثيرة من الأمة من غير شعور به، ولهذا تواتر نقل القرآن، واشتهرت أخبار البيع والنكاح والطلاق وغيرها، فلما لم يشتهر هذا الحديث "علمنا أنه سهو أو منسوخ"4.

735-

لقد اشتهر هذا الحديث بين المتأخرين عندما قبلوه وفي هذا دليل أيضًا على عدم ثبوته؛ إذ لو كان ثابتًا في المتقدمين لاشتهر أيضًا ولما تفرد الواحد بنقله مع حاجة العامة إلى معرفته.

1 سنن أبي داود حـ1 ص125 - 126، سنن النسائي حـ1 ص 100 - 101، جامع الترمذي حـ1 ص270 بشرح تحفة الأحوذي، سنن ابن ماجه حـ1 ص161.

2 أصول السرخسي حـ1 ص368.

3 كشف الأسرار حـ3 ص738.

4 المصدر السابق حـ3 ص 737.

ص: 346

ومن أجل هذا السبب لم تقبل شهادة الواحد من أهل المصر على رؤية الهلال إذا لم تكن بالسماء علة، ولم يقبل قول الوصي فيما يدعي من إنفاق مال عظيم على اليتيم في مدة يسيرة، وإن كان ذلك محتملًا؛ لأن الظاهر يكذبه في ذلك، ولم يقبل قول الرافضة وادعاؤهم النص على إمامة علي رضي الله عنه؛ لأن أمر الإمامة مما تعم به البلوى؛ لحاجة الجميع إليه، فلو كان النص ثابتًا، لنقل نقلًا مستفيضًا، وحيث لم يكن كذلك دل على أنه غير ثابت.

736-

وإن الأخبار التي ينقلها الواحد مع أن العادة والمعقول اشتهارها بين الناس لا تقبل كمثل انفراد واحد بنقل قتل ملك في السوق، إن مثل هذا الخبر لا يقبل بطبيعة الحال، لأنه يبعد عادة ألا يستفيض مثله.

737-

ومن الأحاديث التي شذت كذلك مع اشتهار الحادثة "حديث الجهر بالتسمية، وهو ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي، صلى الله عليه وسلم كان يجهر بـ"بسم الله الرحمن الرحيم" وروى أبو قلابة عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يجهرون بـ"بسم الله الرحمن الرحيم". ولما شذ مع اشتهار الحادثة ومع أنه معارض بأحاديث أقوى منه في الصحة دالة على خلافه لم يعمل به1.

738-

وردوا أيضًا -تطبيقًا لهذا القياس- خبر الوضوء مما مسته النار. وخبر الوضوء من حمل الجنازة، وخبر رفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس منه؛ لأنه لم يشتهر النقل فيها مع حاجة الخاص والعام إلى معرفتها2.

739-

ويقول الأحناف: إنه قد يعترض بعض الناس على قبولنا وجوب الوتر، ووجوب المضممة والاستنشاق في الجنابة، مع أن هذا وذاك من خبر الواحد مما تعم به البلوى

ويردون على ذلك بأن فعل

1 كشف الأسرار حـ3 ص737.

2 أصول السرخسي حـ1 ص 369.

ص: 347

الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمور ليس من الآحاد، وإنما هو من الأخبار المشهورة، أما الوجوب فقد قبلناه، وإن كان من أخبار الآحاد، لأنه مما يجوز أن يوقف عليه بعض الخواص لينقلوه إلى غيرهم، فإنما قبلنا خبر الواحد في هذا الحكم، فأما أصل الفعل فإنما أثبتناه بالنقل المستفيض1.

740-

وأسس الأحناف المقياس الثاني وهو أن أخذ الصحابة بالحديث دليل على صحته، وإعراضهم عنه مع الاختلاف بينهم في الحكم، دليل على انقطاعه وعدم صحته -على أن الصحابة وهم الأصول في نقل الدين، لم يتهموا بترك الاحتجاج بما هو حجة ولم يتهموا بالكتمان والاشتغال بما ليس بحجة، وعنايتهم بالحجج كانت أقوى من عناية غيرهم بها -فترك المحاجة بخبر الواحد وعدم العمل به عند ظهور الاختلاف فيهم، وجريان المحاجة بينهم بالرأي والرأي ليس بحجة مع ثبوت الخبر دليل ظاهر -كما قلنا- على أنه سهو ممن رواه بعدهم أو منسوخ2 وكلاهما لا يعمل به وليس بحجة.

741-

وطبق الأحناف هذا المقياس، فردوا حديث:"الطلاق بالرجال" الذي تمسك به الإمام الشافعي، رحمه الله، في اعتبار عدد الطلاق بحال الرجل، وهو ما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الطلاق بالرجال والعدة بالنساء".. والمراد به أن إيقاع الطلاق إلى الرجال. فالكبار من الصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا في هذا وأعرضوا عن الاحتجاج بالحديث أصلًا، فذهب عمر وعثمان وزيد وعائشة رضي الله عنهم، إلى أن الطلاق معتبر بحال الرجل في الرق والحرية، وذهب علي وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما إلى أنه معتبر بحال المرأة، وهذا خلاف الحديث، ولم تحاج الطائفة الأولى الثانية بالحديث الذي سند رأيها ويقف بجانبه. وهناك قول ثالث أثر عنهم أيضًا، وهو ما روي عن ابن عمر أنه يعتبر بمن رق منهما حتى لا يملك الزوج عليها ثلاث تطليقات إلا إذا كانا حرين3.

1 المصدر السابق حـ1 ص369.

2 كشف الأسرار حـ3 ص738.

3 المصدر السابق حـ3 ص738 - 739.

ص: 348

742-

وتركوا أيضًا ما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صدقة الصبي:"ابتغوا في أموال اليتامى خيرًا؛ كي لا تأكلها الصدقة". ويقولون: لقد اختلف الصحابة، رضوان الله عليهم في وجوب الزكاة على الصبي اختلافًا ظاهرًا، ومع هذا لم يحاج بعضهم بعضًا بهذا الحديث، فذهب علي وابن عباس رضي الله عنهم إلى أنه لا زكاة في ماله، وذهب عبد الله بن عمر وعائشة رضي الله عنهم إلى الوجوب بما يدل عليه هذا الحديث.

وذهب ابن مسعود رضي الله عنه إلى أن الوصي يعد السنن عليه، ثم يخبره بعد البلوغ؛ إن شاء أدى، وإن شاء لم يؤد1.

743-

ولو كان هذا الحديث ثابتًا لاشتهر فيهم، وجرت المحاجة به بعد تحقق الحاجة إليه بظهور الاختلاف؛ لأنهم كانوا أولع بالنص ولو احتجوا به لاشتهر أكثر من شهرة فتوى كل منهم في هذه المسألة، ولرجع المخالف إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يخالفه، لأنهم كانوا أشد انقيادًا للحق من غيرهم "ولما لم يثبت شيء من ذلك علم أنه مزيف"2.

744-

ويتصل بهذين المقياسين أو شبيه بهما عرض الحديث على عمل الراوي وفتواه وخاصة عمل الصحابي من حيث موافقته لما رواه أو مخالفته له، فإن بعض الرواة قد رويت عنه أحاديث وقال أو عمل بخلافها.

745-

ويقول الأحناف: إذا كان العمل أو القول المخالف للرواية قبلها فإن ذلك لا يقدح في الخبر، ويحمل على أن ذلك كان مذهبه قبل أن يسمع الحديث فلما سمع الحديث رجع إليه، وكذلك إن لم يعلم التاريخ؛ لأن الحمل على أحسن الوجهين واجب ما لم يتبين خلافه، وهو أن يكون منه قبل أن يبلغه الحديث، ثم رجع إليه.

746-

والاحتمالات الكثيرة التي تجعل الحديث غير موثوق به إنما

1 المصدر السابق حـ3 ص379.

2 المصدر السابق حـ3 ص739.

ص: 349

تكون عند ما يعلم أنه خالف الحديث قولًا أو فعلًا بعد تاريخ روايته، ومن هنا يكون هذا الحديث غير حجة؛ لأن فتواه بخلافه أو عمله من أبين الدلائل على الانقطاع وأنه الأصل للحديث"1

إن الحال عندئذ لا تخلو من أن تكون الرواية تقولًا منه لا عن سماع، فيكون واجب الرد، أو تكون فتواه وعمله بخلاف الحديث من باب قلة المبالاة والتهاون بالحديث، فيصير بذلك الراوي فاسقًا لا تقبل روايته أصلًا؛ لاستهانته بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يكون منه عن غفلة ونسيان، ورواية المغفل لا تكون حجة.

747-

وهذا إن صح بالسنة لغير الصحابة وكبار الأئمة من التابعين فحاشا أن يكون هؤلاء كذلك، وهم العدول البررة الأطهار، الذين ضربوا السهم الوافر والقدح المعلى في توثيق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحريرها والالتزام بها قولًا وعملًا.

ومن أجل هذا فإن عمل أحدهم أو قوله بخلاف الحديث، يحمل على غير ما تقدم، وهو أنه علم نسخ حكم الحديث.

748-

ولكن

لم يروه عندئذ؟ وقد علم أنه منسوخ الحكم؟ إنه يروي -كما يقول السرخسي-: إبقاء للإسناد، وإبقاء لما صدر فعلًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم

ولا ضير حينئذ من هذه الرواية؛ لأن قوله أو عمله بخلافها يكون دليلًا على النسخ وعدم العمل به

ولكن هذا لا يزيل توهم النسيان أو الغلط، فهذا يمكن أن يقع لكل إنسان

وباعتبار هذا التعارض بين الرواية وبين القول أو العمل ينقطع اتصال الحديث ولا يكون حجة تبعًا لهذا2.

749-

ومثال ذلك ما روى سليمان بن موسى لعبد الله بن جريح عن ابن شهاب الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي

1 أصول السرخسي حـ2 ص6.

2 المصدر 7 السابق حـ2 ص605.

ص: 350

صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل"1.

750-

إن عائشة رضي الله عنها زوجت بنت أخيها حفصة بنت عبد الرحمن المنذر ابن الزبير، وكان عبد الرحمن أبو حفصة بالشام، ولم يعلم بهذا إلا بعد مجيئه، بدليل أنه غضب، وقال: أمثلي يصنع به هذا ويفتات عليه؟ ولما علمت عائشة رضي الله عنها غضبه قالت للمنذر: لتملكن عبد الرحمن أمرها، فقال المنذر: إن ذلك بيد عبد الرحمن، فقال عبد الرحمن: ما كنت أرد أمرًا قضيته، فقرت حفصة عنده.

751-

وهكذا رأت عائشة رضي الله عنها أن تزويجها بنت أخيها بغير أمره جائز، وأن العقد صحيح، بدليل أنها أجازت التمليك الذي لا يكون إلا عن صحة النكاح، وهذا يثبت استحالة أن ترى ذلك "مع صحة ما روت، فثبت فساد ما روي عن الزهري" وأيضًا فإنها لما أنكحت فقد جوزت نكاح المرأة نفسها دلالة؛ لأن العقد لما انعقد بعبارة غير المتزوجين من النساء فلأن ينعقد بعبارتها أولى، فيكون فيه عمر بخلاف ما روت2.

752-

ومثل هذا ما روي عن ابن عمر ري الله عنهما في رفع اليدين قبل الركوع وبعد القيام منه، فقد روي جابر عن سالم بن عبد الله أنه رفع يديه حذاء منكبيه في الصلاة حين افتتحها، وحين ركع، وحين رفع رأسه، فسأله جابر عن ذلك فقال: رأيت ابن عمر رضي الله عنهما يفعل ذلك.

هذا وقد روي عن ابن عمر أنه كان لا يفعل ذلك، قال مجاهد: صليت خلف ابن عمر، فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى. فعمله هذا بخلاف ما روي يدل على نسخ رفع اليدين قبل الركوع وبعده، فلا تقوم به الحجة3.

1 كشف الأسرار حـ3 ص782.

2 المصدر السابق حـ3 ص874.

3 أصول السرخسي حـ2 ص16.

ص: 351

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا" ثم صح من فتواه أنه يطهر بالغسل ثلاثًا1.

754-

وشبيه بهذا أن يعمل بعض الأئمة من الصحابة بخلاف الحديث وهو ممن يعلم أنه لا يخفى عليه مثل ذلك الحديث، فيخرج الحديث به من أن يكون حجة، لأنه لما انطقع توهم أنه لم يبلغه، كما لا يظن به مخافة حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء رواه هو أو غيره، فأحسن الوجوه فيه أنه علم نسخه.

755-

ومثال هذا ما روي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة".

756-

وقد صح عن بعض الخلفاء أنهم أبوا الجمع بين الجلد والرجم مع أنه كان لا يخفى عليهم الحديث؛ لشهرته لو صح، وصح عن عمر رضي الله عنه قوله:"والله لا أنفي أحدًا أبدًا". وقول علي رضي الله عنه: "كفى بالنفي فتنة"..!.. فدل هذا على أن هذا الحكم الذي يتضمنه الحديث وهو الجمع بين الجلد والتغريب منسوخ2.

757-

ومما هو جدير بالذكر أن النسخ -وإن كان لا يؤثر في صحة ثبوت الحديث ونسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه في مثل هذا الموقف وهو عرض الحديث على عمل الصحابي والقول به -من وجهة نظر المعارضين- انتقاص لحديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وترك له دون حجة وعدم الثقة به. وهذا يجعل القائلين به -من وجهة نظر المعارضين أيضًا- مثل الذين يتركون سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم بلا دليل، بل هم يفتحون الباب لأعداء السنة الذيينفذون منه لردها؛ يقول الإمام الشافعي: "أفيجوز في كل خبر رويته عن النبي صلى الله عليه وسلم

1 المصدر السابق حـ2 ص6.

2 المصدر السابق حـ2 ص7 وانظر رأي الإمام الشافعي في هذه المسألة في الأم حـ2 ص120.

ص: 352

أن يقال: قد كان هذا، ولعله منسوخ، فيرد علينا أهل الجهالة بالسنن بـ"لَعَلَّهُ"؟! 1

ونتعرف على وجهة النظر المقابلة، وإن كان بعضها بعد القرن الثاني الهجري لندرك ما قيمة هذه المقاييس عند الآخرين، وماذا فعلوا بالأحاديث التي ردها الأحناف؟

مناقشة الإمام الشافعي:

758-

لقد رد الإمام الشافعي هذه المقاييس بما رد به المقياسين الأولين: عرض الآحاد على الكتاب وعلى السنة المشهورة.

يقول: إنه لا يهمنا في قليل ولا كثير أن يوافق عمل بعض الصحابة أو رأيهم الحديث أو يخالفه؛ لأن الحديث يثبت نفسه، بأن يرويه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، "فذلك ثبوته، وألا نقول على حديث ليثبت أن وافقه بعض أصحاب رسول الله، ولا يرد؛ لأن عمل بعض أصحاب رسول الله عملًا يخالفه؛ لأن بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين كلهم حاجة إلى أمر رسول الله، وعليهم اتباعه، لا أن شيئًا من أقاويلهم تبع ما روي عنه ووافقه يزيد قوله شدة، ولا شيء خالفه من أقاويلهم يوهن ما روى عنه الثقة"2.

759-

وإذا كان بعض الصحابة قد خالف الحديث فليس ذلك لأنه لم يصدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن لأن كثيرًا منهم كان لا يبلغه الحديث فيفتي برأيه، أو يختلفون لأنهم لم يبلغهم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضوع اختلافهم، فالخبر حجة على كافة الأمة والصحابي محجوج به كغيره فإن قوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 3 وقوله عز وجل: {وَمَا آتَاكُم

1 اختلاف الحديث حـ7 من الأم ص218.

2 اختلاف الحديث 138.

3 الأحزاب: 36.

ص: 353

الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1 وردا عامَّينِ من غير تخصيص لبعض الأمة دون بعض.

يقول الشافعي بعد ما بين أن بعض الصحابة عمل بما يخالف الحديث: "وفي هذا ما يدل على أن الرجل يعلم الشيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم خلافه عن رسول الله، يقول بما علم، ثم لا يكون في قوله بما علم وروى حجة على أحد علم أن رسول الله قال قولًا أو عمل عملًا ينسخ العمل الذي قال به غيره وعمله"2.

760-

ويذكر الشافعي أن غياب هذه الحقيقة عن بعض العلماء جعلهم يغلطون ويتخذونه مقياسًا لرد الحديث وتضعيفه.

يقول بعد أن بين أن كبار الصحابة اختلفوا حيث لم تبلغهم الأحاديث: "وإنما وضعت هذه الجملة لتدل على أمور غلط فيها بعض من نظر في العلم ليعلم من علمه أن من متقدمي الصحبة وأهل الفضل والدين والأمانة من يعزب عنه من سنن رسول الله الشيء يعلمه غيره، ممن لعله لا يقاربه في تقدم صحبته وعلمه، ويعلم أن علم خاص السنن إنما هو علم خاص بمن فتح الله له علمه، لا أنه عام مشهور كشهرة الصلاة وجمل الفرائض التي كلفتها العامة"3.

761-

إذن ثبوت الحديث أو رده ليس بمقياس عرضه على موقف الصحابة في موضوعه ليعلم هل اشتهر بينهم أو لا وهل الذين اختلفوا في موضوعه تحاجوا به أو لا؛ وإنما ثبوته بأن يرويه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما يقول بعض متأخري الحنفية الذين رفضوا هذه المقاييس: إن بعض مما تعم به البلوى صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعلمه كثير من الصحابة، يقول ابن عمر رضي الله عنهما: كنا نخابر4 أربعين سنة

1 الحشر: 7.

2 اختلاف الحديث ص101. وانظر باب صلاة الإمام جالسًا ومن خلفه قيامًا ص98 وما بعدها.

3 اختلاف الحديث ص137 - 138 وانظر ص19، ص32.

4 المخابرة: هي مزارعة الأرض بجزء مما يخرج منها كالثلث أو الربع وهو جزء معين من الخراج.

ص: 354

حتى روي لنا رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك" فانتهينا، فلا يلزم من عموم البلوى اشتهار حكمها؛ فإن حكم الفصد والحجامة

والقهقهة في الصلاة، وإفراد الإقامة وتثنيتها، وقراءة الفاتحة خلف الإمام وتركها، والجهر بالتسمية وإخفائها وعامة تفاصيل الصلاة لم تشتهر مع أن هذه الحوادث عامة.

762-

والله سبحانه وتعالى لم يكلف الرسول صلى الله عليه وسلم بإشاعة جميع الأحكام؛ بل كلفه بإشاعة البعض، وجوز له رد الخلق إلى خبر الواحد في البعض، كما جوز له ردهم إلى القياس في قاعدة الربا، مع أنه يسهل عليه أن يقول: لا تبيعوا المطعوم بالمطموع أو المكيل بالمكيل حتى يستغني بالاستنباط عن ذكر الأشياء الستة فيجوز أن يكون ما يعم به البلوى من جملة ما تقتضي مصلحة الخلق أن يردوا فيه إلى خبر الواحد، وعندئذ يكون صدق الراوي ممكنًا فيجب تصديقه.

763-

وإذا كان من المسلم به أن الأصل فيما تعم به البلوى الاشتهار -فإنه في بعض الأحيان يحدث عكس ذلك فقد يترك كل واحد من النقلة الرواية اعتمادًا على غيره، أو لعارض آخر من موت عامتهم في حرب أو وباء أو نحو ذلك وعلى سبيل المثال فقد نقل أن محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله لما جمع الصحيح سمعه منه قريب من مائة ألف ولم تتصل الرواية إلا عن محمد بن يوسف بن مطر الفربري1.

764-

وكما رفض الإمام الشافعي هذه المقاييس لتوثيق السنة أثبت مارده الأحناف تطبيقًا لها؛ إذ كان ما رووه يثبت عنده من حيث الثقة في رواته عدالة وضبطًا، ومن هذا أحاديث رفع اليدين في الصلاة عند الركوع وعند القيام منه. وقد تقدم أن الأحناف لم يأخذوا بها، لأنها لم تشتهر مع أنها مما تعم به البلوى.

765-

وابتدأ الإمام الشافعي في إثبات هذه الأحاديث بروايتها وبيان ثبوتها من حيث السند، فذكر أن سفيان بن عيينة أخبره عن الزهري

1 كشف الأسرار حـ3 ص737.

ص: 355

عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه، وإذا أراد أن يركع وبعدما يرفع رأسه من الركوع، ولا يرفع بين السجدتين".

وروي عن سفيان أيضًا، عن عاصم بن كليب، قال: سمعت أبي يقول: حدثني وائل بن حجر قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة يرفع يديه حذو منكبيه، وإذا ركع وبعد ما يرفع رأسه". قال وائل: ثم أتيتهم في الشتاء، فرأيتهم يرفعون أيديهم في البرانس. ثم قال الشافعي: وبهذا نقول

فنقول إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، وإذا أراد أن يركع رفعهما، وكذلك أيضًا إذا رفع رأسه من الركوع، ولا يرفع يديه في شيء من الصلاة غير هذه المواضع ثم بين سبب اختياره لهذه الأحاديث وترك غيرها مما يخالفها قال:"لأنها أثبت إسناده منه، وأنها عدد والعدد أولى بالحفظ من الواحدة"1.

766-

ثم قال: إن بعض الناس يخالفه في هذا فيقول: إن الرفع لا يكون إلا في ابتداء الصلاة، ويحتج بحديث يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة يرفع يديه ثم لا يعود، ولكن هل هذا الحديث صحيح؟ -إن سفيان الثوري يبين علة هذا الحديث فيقول: إنه سمعه من يزيد دون عبارة "ثم لا يعود" ثم قدم الكوفة فسأل يزيد عن هذا الحديث فزاد هذه العبارة فقال: "فظننت أنهم لقنوه.. فهذا هو سفيان يبين أنه يغلط في هذا الحديث وكان يرى أنه ليس بالحافظ. فهو -إذن- حديث ضعيف.

767-

وإذا كان حديث الزهري عن سالم عن أبيه أثبت عند أهل العلم بالحديث من حديث يزيد؛ فإن معه أيضًا أحد عشر رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حميد الساعدي، وكذلك حديث وائل بن حجر؛ "وثلاثة عشر حديثًا أولى أن تثبت من حديث واحد".

أضف إلى ذلك أن حديث الزهري أولى لأن فيه زيادة حفظ ليست في الحديث الآخر.

1 اختلاف الحديث ص 211 - 212.

ص: 356

768-

ويقول الشافعي: إن من يروون حديث رفع اليدين قبل الركوع وبعده يقولون: إن إبراهيم النخعي أنكر حديث وائل بن حجر وقال: إن عليًّا وابن مسعود أعلم منه وهما لم يروياه ولم يفعلاه. ويرد عليهم بأنهما ربما روياه ولم يسمعه أو فعلاه وخفي عنه، وإذا أخذنا بهذا المبدأ -مبدأ نفي الحديث لأن فلانًا أو فلانًا لم يروه فمعناه أننا نترك فعل النبي صلى الله عليه وسلم إلى فعل غيره وترك غيره1.

769-

وقال بعض من يردون هذا الحديث: إن وائل بن حجر أعرابي ومعنى هذا أنه روى حديثًا كان غيره من غير الأعراب أولى بروايته، فرد الشافعي بأنكم قبلتم من هو دونه وتروون عنه مثل قرثع الضبي وقزعة وسهم ابن منجاب. وقد روى إبراهيم النخعي عنهم، فكيف تردون حديث رجل من الصحابة وتروون عمن دونه2؟.

770-

وهكذا نرى أن أساس رفض هذا الحديث هو عدم روايته عن علي وابن مسعود، وكان الأولى أن يروياه لأنه من الأمور المشهورة التي تعم بها البلوى وكان تثبيت الشافعي للحديث يقوم على أساس أن غيرهما رواه وكفى بهم أخذًا للحديث واطمئنانًا إليه3.

وحديث مس الذكر أوضح من هذا في توضيح موقف من يأخذ بمقياس صحة ما تعم به البلوى إذا كان مشهورًا وعدم صحة الآحاد منه.

771-

لقد روت هذا الحديث الصحابية الجليلة بسرة بنت صفوان، وهو كما رواه الإمام الشافعي قال: أخبرنا مالك بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمع عروة بن الزبير يقول: دخلت على مروان بن الحكم فتذاكرنا ما يكون منه الوضوء، فقال مروان: ومن مس الذكر الوضوء، فقال عروة: وما علمت ذلك؟ فقال مروان: أخبرتني

1 اختلاف الحديث ص216 - 217.

2 اختلاف الحديث ص217- 218.

3 انظر طرق هذا الحديث في نصب الراية حـ1 ص392.

ص: 357

بسرة ابنة صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ"1.

وهذا الحديث من حيث سنده صحيح، فقد قال الترمذي فيه -بعد أن رواه عن يحيى بن سعيد القطان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن بسرة- "حديث حسن صحيح".

772-

ويشير إلى أن بسرة لم تنفرد به فقد روي عن أم حبيبة وأبي أيوب وأبي، وأبي هريرة وأروى ابنة أويس وعائشة وجابر وزيد بن خالد، وعبد الله بن عمرو.

773-

وفي بعض هذه الأحاديث ما نص بعض الأئمة على صحته، قد قال ابن السكن في حديث أبي هريرة: هو أجود ما روي في هذا الباب وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وصححه الحاكم وابن عبد البر2. وقد رواه الإمام الشافعي مستدلًا به على الوضوء من مس الذكر3.

وحديث أم حبيبة أخرجه ابن ماجه والأثرم وصححه أحمد وأبو زرعة وقال ابن السكن: لا أعلم به علة.

وحديث جابر أخرجه ابن ماجه والأثرم، وقال ابن عبد البر: إسناده صالح وقال الضياء المقدسي: ما أعلم بإسناده بأسًا. وإذا كان الشافعي قد ذكر أنه سمع غير واحد من الحفاظ يرويه ولا يذكر فيه جابرًا4 فإن المرسل هنا حجة عنده وعند مالك وأبي حنيفة.

وحديث عبد الله بن عمر أخرجه أحمد والبيهقي. وقال الترمذي في العلل عن البخاري: هو عندي صحيح. وإذا تركنا الترمذي إلى غيره من الأئمة وجدنا أبا داود يسأل الإمام أحمد بن حنبل: حديث بسرة ليس بصحيح؟

1 الأم حـ1 ص15.

2 تحفة الأحوذي ص270 جـ1.

3 الأم حـ1 ث ص15.

4 الأم ص16 جـ1.

ص: 358

فيجيبه: بل هو صحيح. ويقول الدارقطني عنه: صحيح ثابت، وصححه أيضًا يحيى بن معين فيما حكاه ابن عبد البر وأبو حامد ابن الشرفي والبيهقي والحازمي. ويقول المباركفوري: "كل ما طعنوا به في صحة حديث بسرة هذا فهو مدفوع والحق أنه صحيح1.

774-

ومع صحته على هذا النحو من حيث السند لم يأخذ به الأحناف لأنه مما تعم به البلوى، ومع هذا ترويه امرأة، ولا يشتهر كما ذكرنا سابقًا.

775-

وأخذوا بحديث آخر وهو حديث ملازم بن عمرو عن عبد الله ابن بدر عن قيس بن طلق بن علي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وهل هو إلا مضغة منه أو بضعة منه؟ ".

وقال الترمذي بعد روايته وقد روى عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويعني التابعين أنهم لم يروا الوضوء من مس الذكر، وهو قول أهل الكوفة وابن المبارك2.

776-

وعلى الرغم مما قالوه في حديث طلق هذا أيضًا إلا أن الراجح أنه كحديث بسرة صحيح، وإن كان حديثها أصح وأثبت من حديثه3.

777-

وقد كان من الممكن أن يقول الحنفية كما قال غيرهم: إن هذين الحديثين صحيحان وأن المتقدم منهما منسوخ بالآخر المتأخر، لوجود بعض العوامل التي تدعو إلى ذلك، منها أن طلقًا روى حديثًا في المنع فدل ذلك على أنه شاهد الحالتين وروى الناسخ والمنسوخ4. ومنها أن مع حديث بسرة الاحتياط، والاحتياط بالوضوء أبلغ ومنها ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح: أنه نهى أن يمس الرجل ذكره بيمينه وهذا يدل على أن الذكر لا يشبه سائر الجسد.

1 تحفة الأحوذي جـ1 ص270 - 272.

2 صحيح الترمذي جـ1 ص274 - 275 على شرح تحفة الأحوذي.

3 صحيح الترمذي جـ1 ص274 - 275 على شرح تحفة الأحوذي.

4 تحفة الأحوذي حـ2 ص278.

ص: 359

ومنها أن حديث طلق يأتي على الأصل وحديث بسرة يأتي على غير الأصل فكان من المعقول أن الأصل كان أولًا ثم نسخ.

ومنها أن طلق بن علي كان قدومه على النبي صلى الله عليه وسلم أول سنة من سني الهجرة حيث كان المسلمون يبنون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا هريرة الذي روى مثل حديث بسرة كان إسلامه سنة سبع من الهجرة أي خبره بعد خبر طلق بهذه المدة، ولم يثبت أن طلقًا له رجوع إلى المدينة بعد ذلك1.ولم يكن عليهم من بأس حينئذ مع وجود القائلين بالرخصة من أجلَّة الصحابة مثل ابن مسعود وابن عباس؛ لأن ما ذهبوا إليه لا يكون فادحًا بعد ثبوت الآثار المرفوعة، والعذر من قِبَلهِم أنهم قد بلغهم حديث طلق وأمثاله ولم يبلغهم ما ينسخه، ولو وصل قالوا به، وليس هذا بمستبعد، فقد ثبت انتساخ التطبيق في الركوع عند جمع، ولم يبلغ ابن مسعود، حتى دام على ذلك مع كونه ملازمًا للرسول عليه الصلاة والسلام2.

كان من الممكن أن يقولوا ذلك، ولكن عدم شهرة هذا الحديث وهو مما تعم به البلوى هو الذي جعلهم يتركون حديث بسرة ويذهبون إلى ما هو مرجوح.

778-

وإذا كان موضوع مس الذكر مما تعم به البلوى حقًّا كما يقول الأحناف، إلا أنه يعتبر من النماذج التي تكون كذلك ولا تشتهر لاتصاله بالعضو الجنسي الذي يميل الكثير إلى عدم ذكره، ولا يقال، فلم روته بسرة -إذن- وهي امرأة؟ نقول: ربما كانت عندها جرأة ليست عند الرجال فيما يتصل بأمور الدين وخاصة عندما رأت الرجال معرضين عن ذكره، وهو من أمور الدين التي لا ينبغي كتمانها، وربما اضطرت إلى ذلك لتعليم بعض النشء الذي لا يعلم هذا الحكم الشرعي، وتربية النشء تتعرض لها المرأة أكثر مما يتعرض لها الرجل.

1 المصدر السابق حـ1 ص279.

2 تحفة الأحوذي حـ1 ص280.

ص: 360

779-

ولنتناول مثالًا آخر من الأمثلة التي رفضها الأحناف تطبيقًا للمقياس الثاني وهو ترك الصحابة العمل بالحديث مما يدل على أنه غير صحيح وهو حديث "وجوب الزكاة في أموال اليتامى".

780-

يقول الإمام الشافعي راويًا هذا الحديث: أخبرنا عبد المجيد عن ابن جريح عن يوسف بن ماهك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ابتغوا في مال اليتيم أو في أموال اليتامى حتى لا تذهبها أو لا تستهلكها الصدقة"1 وقال الشافعي: إن هذا إسناد منقطع2.

وأخرج الترمذي عن المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال:"من ولي يتيمًا له مال فليتجر له، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة".

وقال الترمذي بعد روايته هذا الحديث: إنما يروي هذا الحديث من هذا الوجه وفي إسناده مقال: لأن المثنى يضعف في الحديث.

781-

وقد ترك الأحناف هذا الحديث لأنه روي أن بعض الصحابة اختلفوا في الموضوع، ولم يحاجوا بالحديث، تركوه مع أن الحديث الذي رواه الشافعي يصلح حجة عندهم، لأنه من مراسيل أهل القرون الثلاثة الذين يحتجون بمراسيلهم.

782-

أما الإمام الشافعي فقد أيد هذا الحديث المنقطع بما رواه من الآثار الموقوفة وتدل على أن بعض الصحابة أخذ بذلك ونحن نعلم أن من أسباب كون المرسل حجة عند الشافعي أن يوافقه ما يروي عن بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوالهم ومن الموقوفات عليهم.

روى عن مالك عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه قال: كانت عائشة تليني وأخالي يتيمين في حجرها فكانت تخرج من أموالنا الزكاة.

1 الأم جـ2 ص23 - 24 وفي ص25 يتبين أن الشك من الشافعي.

2 المصدر السابق حـ2 ص25.

ص: 361

وروى عن سفيان عن أيوب بن موسى، ويحيى بن سعيد، وعبد الكريم بن أبي المخارق كلهم بخبر عن القاسم بن محمد: كانت عائشة رضي الله عنها تزكي أموالنا وإنه ليتجر بها في البحرين.

وروى عن سفيان، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم بن عيتبة أن عليًّا رضي الله عنه كانت عنده أموال بني رافع؛ فكان يزكيها كل عام.

وروي عن سفيان بن عينيه عن عمرو بن دينار أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ابتغوا في أموال اليتامى لا تستهلكها الزكاة1. إذن الحديث المنقطع هنا في حكم المتصل موضوع حجة ولهذا أخذ به الإمام الشافعي.

783-

وتأييده لهذا الحديث بالمعقول ويعرضه على الأصول يعطينا نموذجًا على أن الإمام الشافعي لم يكن يغفل توثيق المتن من حيث معناه، وإن كان لا يعتبر أن هذا الفيصل في رد الحديث أو عدم توثيقه فقال: "الناس عبيد الله جل وعز، فملكهم ما شاء أن يمكلهم، وفرض عليهم فيما ملكهم ما شاء، لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون، فكان فيما آتاهم أكثر مما جعل عليهم فيه، وكل أنعم فيه عليهم جل ثناؤه، فكان فيما فرض عليهم فيما ملكهم زكاة، أبان أن في أموالهم حقًّا لغيرهم في وقت على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فكان حلالًا لهم ملك المال، وحرامًا عليهم حبس الزكاة، لأنه ملكها غيرهم في وقت كما ملكهم أموالهم دون غيرهم فكان بينًا فيما وصفت وفي قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 2 أن كل مالك تام الملك، من حر له مال فيه زكاة سواء في أن عليه فرض الزكاة بالغًا كان أو صحيحًا أو معتوهًا أو صبيًّا؛ لأن كلا مالك ما يملك صاحبه، وكذلك يجب في ملكه ما يجب في ملك صاحبه، وكان مستغنيًا بما وصفت من أن علي الصبي

1 الأم حـ2 ص24 - 25.

2 التوبة: 103.

ص: 362

والمعتوه الزكاة عن الأحاديث؛ كما يلزم الصبي والمعتوه نفقة من تلزم الصحيح البالغ نفقته، ويكون في أموالهم جنايتهما على أموال الناس كما يكون في مال البالغ العاقل، وكل هذا حق لغيرهم في أموالهم فكذلك الزكاة والله أعلم"1.

784-

وهذا يقودنا إلى أن الإمام الشافعي رضي الله عنه فعل مثل ما يفعل الأحناف من عرض الحديث على عمل الصحابة وفتاواهم، ولكن بهدف آخر غير ما هدفوا إليه وهو تأييد الأحاديث الثابتة وتقويتها والرد على مخالفيها وتاركيها مع ثبوتها من وجهة نظره ونظر من يسير في اتجاهه.

785-

وهو ينص على أن من أسباب الترجيح عنده وتقوية الحديث أن يعمل به عدد كبير من الصحابة رضوان الله عليهم فيقول: "أو يكون الذي ذهبنا إليه أشبه بمعنى كتاب الله أو أشبه بما سواهما من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أولى بما يعرف أهل العلم أو أصح في القياس، والذي عليه الأكثر من أصحاب رسول الله"2.

786-

وقد تقدم تطبيقه في تقوية الأحاديث بالعرض على كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطبق عرضها هنا على عمل أكثر الصحابة في حديثي الإسفار والتغليس، وقد سبق عرضنا لهذين الحديثين، وترجيح الشافعي لأحدهما بعد عرضهما على كتاب الله وعلى السنة الأخرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

787-

قال الشافعي مرجحًا حديث التغليس والدخول في الصلاة في أول وقت الصبح: "وإن تقديم صلاة الفجر في أول وقتها عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وأنس ابن مالك وغيرهم مثبت3.كما فعل ذلك في باب الحجامة للصائم.

1 الأم حـ2 ص23.

2 الرسالة ص285.

3 المصدر السابق ص289.

ص: 363

788-

فقد روى حديين مختلفين وهما:

أخبرنا عبد الوهاب بن عبد المجيد عن خالد الحذاء عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن شداد بن أوس، قال: كنت مع النبي زمان الفتح، فرأى رجلًا يحتجم لثمان عشرة خلت من رمضان، فقال وهو آخذ بيدي:"أفطر الحاجم والمحجوم".

أخبرنا سفيان عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم محرمًا صائمًا.

789-

وهذان الحديثان وإن كانا مشتبهين في الإسناد إلا أن الثاني وهو حديث ابن عباس أمثلهما إسنادًا ولهذا اختاره ورجحه على حديث شداد ابن أوس، لأنه فوق ذلك يحفظه عن بعض أصحاب رسول الله والتابعين وعامة المدنيين1.

790-

وإذا كان الإمام الشافعي قد رد على الأحناف ردًّا هادئًا متأنيًا -فإننا نجد الإمام ابن حزم الظاهري "384 - 456هـ" يرد عليهم ردًّا عنيفًا في اتخاذهم هذين المقياسين وما يشبههما، ويجدر بنا أن نعرض لهذا الرد تاكيدًا لرأي الإمام الشافعي وزيادة بيان لقيمة هذين المقياسين عند الآخرين.

791-

قال ابن حزم: إننا وجدنا الصاحب من الصحابة رضوان الله عليهم يبلغه الحديث ويأتي عمله لنا على خلافه ولا يدل هذا على أنه رده أو على أنه غير صحيح، فقد يكون متأولًا له، كما وجدناهم يقرون ويعترفون بأنهم لم يبلغهم كثير من السنن، فقد قال أبو هريرة:"إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على أموالهم". وقال البراء: ما كل ما نحدثكموه سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن حدثنا أصحابنا وكانت تشغلنا رعية الإبل.

1 اختلاف الحديث ص236 - 238.

ص: 364

792-

ثم ذكر ابن حزم الأمثلة التي تدل على أن الأحاديث كانت تخفي على بعضم، فهذا أبو بكر رضي الله عنه لم يعرف فرض ميراث الجدة، وعرفه محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة، وقد سأل أبو بكر رضي الله عنه في كم كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا عمر رضي الله عنه يقول في حديث الاستئذان: أخفى على هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألهاني الصفق في الأسواق.

وقد جهل أيضًا أمر إملاص المرأة1، وعرفه غيره وغضب على عيينه بن حصن حتى ذكره الحر بن قيس بن حصن بقوله تعالى:{وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين} .

وخفي عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب إلى آخر خلافته، وخفي هذا أيضًا على أبي بكر طوال مدة خلافته فلما بلغ ذلك عمر أمر بإجلائهم، فلم يترك بها منهم أحدًا. وخفي على عمر أيضًا أمره عليه الصلاة والسلام بترك الإقدام على الوباء، وعرف ذلك عبد الرحمن بن عوف.

وسأل عمر أبا واقد الليثي عما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاتي الفطر والأضحى، هذا وقد صلاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أعوامًا كثيرة.

ولم يدر ما يصنع بالمجوس، حتى ذكره عبد الرحمن بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم ونسي قبوله عليه السلام الجزية من مجوس البحرين وهو أمر مشهور، ولعله رضي الله عنه قد أخذ من ذلك المال حظًّا كما أخذ غيره منه.

ونسي أمره عليه السلام بأن يتيمم الجنب فقال: لا يتيمم أبدًا ولا يصلي ما لم يجد الماء، وذكره بذلك عمار.

1 في الحديث أن عمر سأل عن إملاص المرأة الجنين: فقال المغيرة بن شعبة قضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بغرة "أراد بالمرأة الحامل تضرب فتملص جنينها أي تزلقه قبل وقت الولادة "اللسان".

ص: 365

وأراد قسمة مال الكعبة حتى احتج عليه أبي بن كعب بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك فأمسك.

وكان يرد النساء اللواتي حضن ونفرن قبل أن يودعن البيت حتى خبر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في ذلك، فأمسك عن ردهن.

وكان يفاضل بين ديات الأصابع حتى بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالمساواة بينهما فترك قوله وأخذ بالمساواة.

وكان يرى أن الدية للعصبة فقط، حتى أخبره الضحاك بن سفيان بأن النبي صلى الله عليه وسلم ورث المرأة من الدية؛ فانصرف عمر إلى ذلك.

ونهى عن المغالاة في مهور النساء استدلالًا بمهور النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذكرته امرأة بقول الله عز وجل: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} 1 فرجع عن نهيه.

وأراد رجم مجنونة حتى أعلم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة". فأمر ألا ترجم، وأمر برجم مولاة حاطب حتى ذكره عثمان بأن الجاهل لا حد عليه فأمسك عن رجمها.

وأنكر على حسان الإنشاد في المسجد، فأخبره هو وأبو هريرة أنه قد أنشد فيه بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت عمر.

793-

ويواصل ابن حزم رده على الأحناف ومن ينهج نهجهم فيقول: إنه قد خفي على الأنصار وعليه المهاجرين كعثمان وعلي وطلحة والزبير وحفصة أم المؤمنين وجوب الغسل من الإيلاج إلا أن يكون أنزل، وهذا مما تكثر البلوى، وخفي على عائشة وأم حبيبة أميّ المؤمنين وابن عمر وأبي هريرة وأبي موسى وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب، وسائر الجلة من فقهاء المدينة وأبي موسى وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب وسائر الجلة من فقهاء المدينة وغيرهم نسخ الوضوء مما مست النار، وكل هذا تعظم البلوى به وتعم.

794-

"وهذا كله وما بعد هذا يبطل ما قاله من لا يبالي بكلامه من الحنفيين والمالكيين: إن الأمر إذا كان مما تعم البلوى به لم يقبل فيه خبر الواحد".

1 سورة النساء: 20.

ص: 366

795-

"والعجب أن كلتا الطائفتين قد قبلت أخبارًا خالفها غيرهم تعم بها البلوى، كقبول الحنفيين الوضوء من الضحك وجهله غيرهم، وكقبول المالكيين اليمين مع الشاهد وجهله غيرهم، ومثل هذا كثير جدًّا"1.

واستطرد ابن حزم في ذكر الأمثلة التي تدل على أن بعض الصحابة والكبار منهم يتركون الحديث مع شهرته للجهل به ونكتفي بما أوردناه2.

796-

على أنه إنصافًا للأحناف نقول: إن هذا الحشد من الأمثلة التي ذكرناها لا ينطبق عليها من وجهة نظرنا ما يهدف إليه وهو كونها مما تعم به البلوى ولا يشتهر، وذلك مثل الاقتراب على الوباء، وكفن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفور النساء قبل ورود البيت، وتوريث المرأة من الدية وغير ذلك.

797-

فإذا كان من الممكن التسليم بجهل بعض الصحابة بعض الأخبار التي تعم بها البلوى -فإنه ليس من الكثرة كما ذكر ابن حزم، فبعضها لا يعم به البلوى ولا يحدث كثيرًا ويتجدد بحيث يشتهر ويعلمه جميع الصحابة.

798-

على أن الذي يعنينا أننا أصبحنا على يقين من أن علماءنا الأجلاء وعلى رأسهم أبو حنيفة وصاحباه والإمام الشافعي -قد وثقوا متن الحديث أو نقدوه بعرضه على عمل الصحابة وآرائهم ومدى شهرته بينهم، وإن تفاوتوا في درجات الأخذ بذلك، ولم يقفوا جامدين أمام موضوعات الأحاديث وما تحمل من أدلة للاستنباط مكتفين بالثقة في أسانيدها ورجالها كما رماهم بذلك الجاهلون.

وننتقل إلى مقياس آخر عمل به بعض العلماء، وهو شبيه بمقاييس هذا الفصل لأنه يتعلق بالعمل أو الفتوى وإن كانا هنا في الفصل المقبل يختصان ببلد معين وهو المدينة.

1 الإحكام 2- 143 - 144.

2 انظر الإحكام 2/ 144 - 148.

ص: 367