المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الخامس: عرض أخبار الآحاد على القياس - توثيق السنة في القرن الثاني الهجري أسسه واتجاهاته

[رفعت بن فوزي عبد المطلب]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات:

- ‌مقدمة:

- ‌تمهيد

- ‌مدخل

- ‌السنة والحديث:

- ‌توثيق السنة والمراد منه:

- ‌نظرة عامة على التوثيق في القرن الأول الهجري:

- ‌دوافع التوثيق في القرن الهجري:

- ‌الموثقون في القرن الثاني الهجري:

- ‌القسم الأول: توثيق سند الحديث

- ‌الفصل الأول: نقل السنة بالتواتر والآحاد

- ‌مدخل

- ‌حجية المتواتر والدفاع عن هذه الحجية:

- ‌حجية خبر الآحاد:

- ‌حجية المشهور عند الحنفية:

- ‌الفصل الثاني: توثيق الراوي

- ‌مدخل

- ‌ الإسلام:

- ‌ العقل:

- ‌ العدالة:

- ‌ الضبط:

- ‌الفصل الثالث: مناهج تلقي الحديث وأدائه

- ‌السماع ومصطلحات الأداء عنه

- ‌ القراءة على الشيخ أو العرض:

- ‌ المناولة ومصطلحات الأداء عنها:

- ‌ المكاتبة ومصطلحات الأداء عنها:

- ‌ الإجازة ومصطلحات الأداء عنها:

- ‌ إعلام الشيخ:

- ‌ الوصية بالكتب:

- ‌ الوجادة:

- ‌التوثيق بالكتاب في نقل الحديث:

- ‌الفصل الرابع: المتصل والمنقطع من الأسانيد

- ‌عناية النقاد بالأسانيد واتصالها:

- ‌المرسل والاتجاهات في الأخذ به وتوثيقه وعدم الأخذ به:

- ‌القسم الثاني: توثيق متون السنة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: عرض أخبار الآحاد على كتاب الله وعز وجل

- ‌الفصل الثاني: عرض أحاديث الآحاد على السنة المشهورة

- ‌الفصل الثالث: عرض الحديث على عمل الصحابة وفتاواهم

- ‌الفصل الرابع: عرض الحديث على عمل أهل المدينة

- ‌الفصل الخامس: عرض أخبار الآحاد على القياس

- ‌الفصل السادس: الرواية بالمعنى

- ‌الخاتمة:

- ‌ملخص الرسالة:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌الفصل الخامس: عرض أخبار الآحاد على القياس

‌الفصل الخامس: عرض أخبار الآحاد على القياس

849-

خبر الواحد إذا رواه من عرف بالفقه والاجتهاد كالخلفاء الراشدين والعبادلة وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري وعائشة وغيرهم من المشهورين بالفقه من الصحابة رضوان الله عليهم -كان حجة، سواء أكان موافقًا للقياس أم مخالفًا له، فإن كان القياس مخالفًا له ترك هذا القياس؛ لأن مثل هؤلاء لا يتوهم في روايتهم قصور وقد رووا هذا الحديث عن بصيرة، فلم يغيروا فيه فكأنما سمعناه منه صلى الله عليه وسلم1.

850-

أما إذا روى خبر الواحد من عرف بالضبط والعدالة والحفظ دون الفقه كأبي هريرة وأنس بن مالك رضي الله عنهما وغيرهما ممن اشتهر بالصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماع الأحاديث مدة طويلة في السفر والحضر -فما وافق القياس من روايتهم هذه يقبل وما خالفه فإما أن تكون الأئمة قد تلقته بالقبول أو لا، فإن كان الأول قبل، وإلا فالقياس مقدم عليه إذا كان في أمر ينسد فيه باب الرأي.

851-

ويشترط أن يكون التعارض بين الخبر والقياس تعارضًا من كل وجه بأن يكون عامين أو خاصين ويبطل كل واحد منهما ما يثبته الآخر بالكلية أما إذا تعارضا من وجه دون وجه بأن يكون أحدهما أعم والآخر أخص فالجمع بينهما مهما أمكن واجب بأن يخصص الأعم بالأخص2.

852-

وليس في رد الخبر على هذا النحو طعن في الصحابي الذي رواه، فالصحابة عدول كلهم، وعلى العين والرأس؛ ولكنهم لما كانوا ينقلون الخبر بالمعنى، ومن الصعوبة التعبير عن كل معنى أراده صلى الله عليه وسلم لما أوتي من جوامع الكلم، ولم يؤت غيره هذا -فإن غير الفقهاء من الصحابة، رضوان الله عليهم ينقلون بقدر فهمهم للعبارة، وربما يقصر

1 أصول السرخسي حـ1 ص342.

2 حاشية الأزميري على شرح مرآة الأصول حـ2 ص211.

ص: 391

تعبيرهم عن المراد، فيؤدي بعضه، ولتوهم هذا القصور قال الأحناف -كما يروي عيسى بن أبان-: إنه إذا انسد باب الرأي فيما روي وكان الخبر مخالفًا للقياس الصحيح وليس موافقًا لقياس آخر فلا بد من تركه؛ لأنه حينئذ كأنه مخالف للكتاب والسنة المشهورة والإجماع؛ إذ كون القياس الصحيح حجة ثابت بالكتاب والسنة المشهورة والإجماع1.

853-

ومثال ما رده الأحناف -تبعًا لرواية عيسى بن أبان- تطبيقًا لهذا المقياس حديث المصراة الذي تقدم ذكره كمثال على مخالفته لكتاب الله عز وجل والخبر المشهور -فهو مخالف أيضًا للقياس الصحيح؛ لأنه أوجب رد صاع من تمر مقابل اللبن الذي حلبه، واللبن الذي يحلب بعد الشراء والقبض لا يكون مضمونًا على المشتري؛ لأنه فرع ملكه الصحيح، فلا يضمنه قياسًا على غيره مما يكون في ملكه الصحيح، ولا يضمن بسبب العقد؛ لأن ضمان العقد ينتهي بالقبض، وهذ بعده فلا يرد، قياسًا على اللبن الآخر بعد القبض، وإذا كان اللبن المصرى موجودًا عند العقد فإنه لم يكن مالًا؛ لأنه باطن كالحبل، ولا يصير مالًا إلا بالحلب فلا يدخل تحت العقد، فيكون حينئذ كالكسب.

854-

على أننا إذا اعتبرناه مالًا فهو صفة للشاة أو غيرها فيعتبر مالًا تبعًا، ولا يضمن ويرد، وهو عندئذ كالصوف، ولا يكون حصة من الثمن ما لم يزايل الأصل، ولو زال قبل القبض فآفة من الآفات لم يسقط شيء من الثمن وهو هكذا إذا قبض والوصف متصل بالأصل لا يصير حصة من الثمن ولا يصير مضمونًا.

855-

ولئن جاز أن يقابله ضمان فهو ضمان العقد، فينبغي أن يسقط من البائع حصته من الثمن قياسًا على أنه لو اشترى شيئين ثم رد أحدهما فعل ذلك.

856-

وإذا اعتبرناه ضمان التعدي فمن الواجب أن يضمن مثل اللبن كيلًا أو دراهم قياسًا على ما يضمن بالتعدي، أما الصاع من التمر بلا تقويم،

1 أصول السرخسي حـ1 ص339 - 341.

ص: 392

قلّ اللبن أو كثر فلا وجه له في الشرع.. أضف إلى ذلك أن ظاهر هذا الحديث يدل على توقيت خيار العيب، وهو غير مؤقت بالإجماع، "فثبت أنه مخالف للقياس من جميع الوجوه فوجب رده بالقياس"1.

857-

ومن الأمثلة كذلك ما يرويه سلمة بن المحبق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيمن وطئ جارية امرأته: "فإن طاوعته فهي له، وعليه مثلها، وإن استكرهها فهي حرة، وعليه مثلها" فإن القياس الصحيح يرد هذا الحديث2 "ويتبين أنه كالمخالفات للكتاب والسنة المشهورة والإجماع"3.

858-

ويدفع الأحناف ما يعترض عليهم، ويشنع به عليهم من أخذهم بحديث القهقهة في الصلاة مع مخالفته للقياس، ومع أن رواية هو معبد الجهني وهو لم يعرف بالفقه بين الصحابة، وكان خبر المصراة أولى بالقبول والعمل به لأنه أثبت متنًا وأقوى سندًا وراويه هو أبو هريرة، وهو أعلى رتبة في العلم من معبد -يدفعون هذا بقولهم: إنه قد رواه غير معبد الجهني كثير من الصحابة مثل أبي موسى الأشعري، وجابر وأنس وعمران بن الحصين، وأسامة بن زيد وعمل به كبراء الصحابة والتابعين، مثل علي وابن مسعود وابن عمر والحسن وإبراهيم ومكحول، فلذلك وجب قبوله وتقديمه على القياس.

859-

كما يدفعون أيضًا ما رموا به هنا من الطعن في أبي هريرة بهذا المسلك وأمثاله من الصحابة -فيقولون: إنه مما لا شك فيه أنه قد ثبتت عدالته وطول صحبته لرسول الله، صلى الله عليه وسلم وحسن حفظه وضبطه، فقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك4

ولكن مع هذا قد اشتهر

1 كشف الأسرار حـ2 ص702.

2 آداب الشافعي ص170 - 171 فقيه محاورة جرت بين الحسن بن زياد اللؤلؤي وأحد أصحاب الشافعي وهو حاضر، وفيها يبين صاحب الشافعي مخالفة هذا الحديث للقياس.

3 أصول السرخسي حـ1 ص342.

4 صحيح البخاري "طبعة الشعب" حـ9 ص133.

ص: 393

عن الصحابة رضوان الله عليهم من بعدهم معارضة بعض رواياته بالقياس، وفيما عدا هذه الضرورة فإنهم يعتمدون على روايته هو وأمثاله من الصحابة رضوان الله عليهم، ونحن نفعل كذلك، فقد أخذ أبو حنيفة رحمه الله بقول أنس بن مالك رضي الله عنه في مقدار مدة الحيض وغيره، وكانت درجة أبي هريرة عند أبي حنيفة فوق درجة أنس1.

860-

والحق أن هذا الرد ليس مقنعًا أو هو من حسن الأدب فقط، فإنهم بهذا فعلًا ينتقصون من استقامة رواية هذا الصحابي الجليل وأمثاله من الصحابة رضوان الله عليهم، ولو آمنوا حقًّا بحفظهم وضبطهم لما تركوا بعضه رواياتهم، ولما تعللوا بأن روايتهم بالمعنى هي التي أخلت ببعض الروايات، وذلك لأنهم عرب، وخالطوا الرسول صلى الله عليه وسلم مخالطة غير عادية مما جعلهم في مأمن من الخطأ في رواية الحديث.

وقد سبق أن ذكرنا في التمهيد مقدار حيطتهم وحذرهم في الرواية ومظاهر هذا، مما يجعلنا نطمئن إلى أدائهم الصحيح لجميع الأحاديث.

861-

وإذا كان بعض الصحابة قد رد بعض رواية أبي هريرة فقد ثبت بالدراسة الموضوعية أنه لم يكن يخطئ فيها، وإنما كانت هناك أسباب أخرى وراء معارضته ورد بعض رواياته. كما بين ذلك الإمام الشافعي وابن حزم. كما ثبت أنه كان من الفقهاء، ولم يعدم شيئًا من أسباب الاجتهاد، وكان يفتي في زمن الصحابة ولم يكن يفتي حينئذ إلا المجتهد الفقيه2.

862-

وهذا ما يجعلنا نميل إلى الرواية الأخرى عن الأحناف رواية أبي الحسن الكرخي التي تقول: إن الأحناف يقدمون الخبر على القياس مطلقًا سواء أكان راويه مشهورًا بالفقه أم لا؛ لأننا إذا وثقنا في حفظ الراوي وضبطه فالظاهر في هذه الحالة أنه يروي كما سمع، ولو غير

1 أصول السرخسي حـ1 ص342.

2 كشف الأسرار حـ2 ص703.

ص: 394

لأصبحت روايته على وجه لا يتغير به المعنى. والقول بأن الراوي إذا لم يكن فقيهًا قد يغير في المعنى وهم لا أساس له؛ لأن الأخبار وردت بلسانهم، وعلمهم بهذا اللسان يمنع من غفلتهم عن المعنى وعدم وقوفهم عليه وعدالتهم وتقواهم وضبطهم تدفع تهمة التزيد أو النقصان في الخبر الذي يروونه1.

863-

واستدل القائلون بهذا -رواية عن الأحناف- بأن الخبر يقين بأصله؛ لأنه من حيث إنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتمل الخطأ، وإنما الشبهة في عارض النقل، حيث يحتمل الغلط والنسيان والكذب. أما القياس فالاحتمال في أصله؛ أي: في علته التي يبني عليها الحكم، فإنها لا تتحقق يقينًا إلا بنص أو بإجماع وهو أمر عارض. ولا شك أن يتيقن الأصل راجع على محتمله.

864-

وعلى تقدير ثبوت العلة فيه قطعًا يحتمل أن تكون خصوصية الأصل شرطًا لثبوت الحكم، أو خصوصية الفرع مانعًا عنه فيكون تطرق الاحتمال إلى القياس أكثر، فيؤخر عن الخبر الذي لا يتطرق الاحتمال إليه إلا في طريق نقله، وهو عارض.

865-

وقد رأينا عمر، رضي الله عنه، ترك القياس بالخبر في مسألة الجنين عندما علم أنه عليه السلام أوجب فيه الغرة2 وقال: لولا هذا لقضينا فيه بالقياس لثبوت الخبر، وكذا في دية الأصابع، حيث رأى أنها تتفاوت باعتبار منافعها فتتفاوت في ديتها، ولكنه ترك ذلك بخبر الواحد الذي يقول: "في كل إصبع عشر من الإبل، وكذا في ميراث الزوجة من دية زوجها وكان يرى أن الدية للورثة، ولأنها ليست من ملك الزوج فلا ترث الزوجة منها فأخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بتوريث الزوجة منها، فرجع إليه وترك القياس بخبر الواحد.

1 كشف الأسرار حـ2 ص703.

2 الغرة: العبد أو الأمة، والغرة عند الفقهاء ما بلغ ثمنه نصف عشر الدية من العبيد والإماء "النهاية".

ص: 395

866-

أضف إلى ذلك أنه لو قدم القياس على خبر الواحد للزم تقديم الأضعف على الأقوى، واللازم باطل إجماعًا، فالملزوم مثله فالخبر يجتهد فيه في أمرين: عدالة الراوي ودلالة الخبر، والقياس يجتهد فيه في ستة أمور: حكم الأصل، وتعليله في الجملة، وتعيين الوصف الذي به التعليل، ووجود ذلك الوصف في الفرع ونفي المعارض في الأصل، ونفيه في الفرع.. هذا إذا لم يكن أصل القياس خبرًا، فإن كان كذلك وجب الاجتهاد في السنة المذكورة، مع الأمرين المذكورين، وهما العدالة والدلالة، وظاهر أن ما يجتهد فيه في مواضع كثيرة احتمال الخطأ فيه أكثر والظن الحاصل به أضعف فيكون أضعف من الخبر1.

867-

وإذا كان القياس الصحيح هو الذي يوجب الوهن في رواية غير الفقهية فإن الوقوف عليه متعذر، فيجب قبول الخبر حتى لا نوقف العمل بالأحاديث تبعًا لهذه الحجة المتعذر الوقوف عليها والاتفاق عليها أيضًا، ولهذا وجدنا أن بعض العلماء، ومنهم الإمام الشافعي وابن تيمية، يقولون: إن القياس مع حديث المصراة وليس عليه وبينوا ذلك بحجج يمكن أن تكون مقبولة2 كما يمكن أن تقبل حجج غيرهم وما هذا إلا لتعذر الوصول إلى القياس الصحيح، ونظر كل واحد منهما إلى جانب من المسألة لا ينظر إليه الآخر.

868-

والحق أن هذا الرأي وهو أن الخبر مقدم على القياس مطلقًا هو ما يمكن أن ينسب إلى أبي حنيفة وصاحبيه، فقد عملوا جميعًا بخبر أبي هريرة رضي الله عنه في الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا، وإن كان مخالفًا للقياس، حتى قال أبو حنيفة رحمه الله: لولا الرواية لفلت بالقياس.

869-

ويقول صاحب الطبقات السنية: إن مما شنع به الخصوم على

1 حاشية الأزميري حـ2 ص211.

2 القياس في الشرع الإسلامي: تقي الدين أحمد بن تيمية "661 - 728هـ" المكتبة السلفية -الطبعة الثالثة- القاهرة 1385هـ ص 36 - 37.

ص: 396

أبي حنيفة أنه قدم القياس1 الذي اختلف الناس في كونه حجة على الأخبار الصحيحة التي اتفق العلماء على كونها حجة.

870-

ثم أجاب عن ذلك بأن هذا زعم منهم؛ لأن أبا حنيفة أخذ بكتاب الله تعالى، ثم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بما اتفقت عليه الصحابة، ثم بما جاء عن واحد من الصحابة، وثبت ذلك واشتهر، ولم يظهر له فيه مخالف، وإن كان أمرًا اختلف فيه الصحابة والعلماء فإنه يقيس الشيء بالشيء حتى يتضح الأمر. ثم بالقياس إن لم يكن في الحادثة شيء مما ذكرناه2.

871-

ثم ذكر من قول أبي حنيفة ما يدل على ذلك في كتابه إلى أبي جعفر المنصور. ثم ذكر بعض المسائل الشاهدة على أنه يقدم الخبر الصحيح على القياس ومنها "مسألة الرجل الذي يرد عبدًا آبقًا من مسيرة ثلاثة أيام".

فقد قال أبو حنيفة: له الجعل أربعون درهمًا، وكان القياس ألا يجب، فترك القياس، وأخذ في ذلك بالخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه في خبر طويل أن رجلًا قدم بآبق من الفيوم. فقال القوم: لقد أصاب أجرًا، فقال ابن مسعود: وأصاب جعلًا.

وفي مسألة تزوج الأمة على الحرة:

قال أبو حنيفة: لا يجوز، وكان القياس أنه يجوز. إلا أنه ترك القياس وأخذ في ذلك الخبر، وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تنكح الأمة على الحرة"3.

1 وذكر صاحب "جامع مسانيد الإمام الأعظم" أن ممن يتهمون أبا حنيفة بذلك الخطيب البغدادي. جامع مسانيد الإمام الأعظم: محمد بن محمود الخوارزمي "665هـ" طبعة أولى -دائرة المعارف- حيدر أباد الهند "1332هـ". 1/ 43.

2 الطبقات السنية 1/ 143 - 144.

3 قال الزيلعي في نصب الراية: روى الدارقطني في سننه في الطلاق من حديث مظاهر بن أسلم عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلاق العبد اثنتان، ولا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، وقرء الأمة حيضتان، ويتزوج الحرة على الأمة ولا يتزوج الأمة على الحرة". ومظاهر بن أسلم ضعيف. وهناك أحاديث مرسلة وموقوفة على ابن مسعود وجابر بن عبد الله وعلي حـ3 ص175.

ص: 397

وفي مسألة تزوج الرجل امرأة وهو غير كفء لها:

قال أبو حنية: للأولياء حق الاعتراض، وكان القياس ألا يكون لهم ذلك، ترك أبو حنيفة القياس، وأخذ بالخبر، وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تزوج النساء إلا من كفء".

وغير ذلك من الأمثلة والمسائل الكثيرة التي أخذ فيها أبو حنيفة بالخبر وترك القياس حتى ولو كان هذا الخبر موقوفًا على الصحابي كما في المسألة الأولى1.

872-

أما أبو يوسف رحمه الله فقد نقل عنه في بعض أماليه أنه أخذ بحديث المصراة وأثبت الخيار للمشتري2.

ويقول في كتابهخ الخراج في مسألة الرجل الذي يسرق أو يشرب الخمر أو يزني لا ينبغي أن يقيم القاضي عليه الحد برؤيته لذلك حتى تقوم به عنده بينة "وهذا استحسان لما بلغت في ذلك من الأثر فأما القياس فإنه يمضي ذلك عليه، ولكن بلغنا نحو من ذلك عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما3".

873-

وأما محمد رحمه الله فقد قال في الأصل: أرأيت رجلًا توضأ ونسي المضمضة والاستنشاق، أو جنبًا فنسي المضمضة والاستنشاق ثم صلى، قال: أما ما كان في الوضوء فصلاته تامة، وأما ما كان في غسل الجنابة أو طهر حيض فإنه يتمضمض ويستنشق ويعيد الصلاة. قلت: من أين اختلفا. قال: هما في القياس سواء، إلا أنا ندع القياس للأثر الذي جاء عن ابن عباس رضي الله عنه4.

1 الطبقات السنية 1/ 146 - 151.

2 كشف الأسرار حـ2 ص703.

3 الخراج ص193.

4 ورقة 10 عن الإمام محمد 266 والمبسوط حـ10 ص77. الطبقات السنية حـ1 ص148. وقال الزيلعي في "نصب الراية" حـ1 ص79 قال البيهقي في المعرفة، قال الشافعي: وقد اعتمد بعض الناس في ذلك على أثر ورد عن ابن عباس، ثم أخرج البيهقي من طريق الدارقطني بسنده عن أبي حنيفة عن عثمان بن راشد، عن عائشة بنت عجرد، عن ابن عباس فيمن نسي المضمضة والاستنشاق قال: لا يعيد إلا أن يكون جنبًا. قال: وزعم أن هذا أثر ثابت يترك به القياس وهو يعيب علينا الأخذ بحديث بسرة في مس الذكر وعثمان بن راشد وعائشة بنت عجرد غير معروفين ببلدهما، فكيف يجوز لأحد أن يثبت ضعيفًا مجهولًا ويوهن قويًّا معروفًا؟!.

ص: 398

وقال في رده على أهل المدينة حين رأوا أن القهقهة في الصلاة تبطل الصلاة ولا تنقض الوضوء: لولا ما جاء من الآثار كان القياس على ما قال أهل المدينة، ولكن لا قياس مع أثر، وليس ينبغي إلا أن ينقاد للآثار1.

874-

وكان الإمام محمد يرى أن من سبقه الحديث بغير قصده وهو في الصلاة ينصرف فيتوضأ ويبني على صلاته، وأخذ في ذلك بالأثر الذي روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال:"من قاء أو رعف أو أمذى في صلاته، فلينصرف وليتوضأ، وليبن على ما مضى من صلاته ما لم يتكلم". وقد روى عن أبي بكر وعمر وعلي ابن مسعودوابن عباس أنهم بنوا على الصلاة بعد الوضوء دون الاستقبال.

875-

وأخذ الإمام محمد على مالك أنه كان يقول بذلك أولًا ثم رجع إلى أن عليه أن يستقبل الصلاة؛ لأن رجوعه هذا رجوع من الآثار إلى القياس2.

876-

ووجه القياس هنا أن الطهارة -كما تكون شرطًا لابتداء الصلاة تكون كذلك لبقائها، "فكما لا يتحقق شروعه في الصلاة بدون هذا الشرط" فكذلك بقاؤها3.

877-

وهذا يجعلنا نرى -كما يقول بعض الباحثين: أن "هذا يدل على أن الإمام محمدًا ما كان ينظر إلى القياس إذا صح الأثر لديه مهما يكن الأصل المقيس عليه، والعلة الجامعة بين الأصل والفرع"4.

878-

والحق، كذلك، أنه يبدو أن مدرسة الأحناف بأئمتها الثلاثة كانت تستخدم القياس في هذا الباب ولكن -مثل استخدام المقاييس الأخرى

1 الحجة ص 266.

2 المبسوط حـ1 ص 169.

3 الإمام محمد ص 267.

4 المصدر السابق ص 267.

ص: 399

فيما رجحناه، أن في تأكيد ما ثبت ضعفه وانقطاعه أو انضمامًا إلى علامات أخرى توضح ضعف الخبر، فحديث المصراة عندهم ضعيف قبل أن يصلوا إلى النظر إليه من حيث ملاءمته للقياس أولًا، ثم تأتي مخالفته للقياس فتنضم إلى مخالفته للكتاب وللسنة المشهورة في نظرهم.. ولا محل للقياس ابتداء في ثبوت الخبر أو تضعيفه حتى ولو كان راوي الخبر غير فقيه، والقول بغير ذلك "قول مستحدث"1.

879-

وهذا ما خرج به الأستاذ أبو زهرة من دراسته لأبي حنيفة، حيث رأى أنه يقدم القياس في أخبار الآحاد التي لم يكن سندها مقبولًا عنده.

ولكننا لا نوافقه في قوله: إن أبا حنيفة يقدم القياس على أخبار الآحاد إذا كان القياس قطعيًّا2.. ونقول كما قال أبو الحسن الكرخي، وكما تبين من هذه الدراسة، إنه لا يترك الخبر من أجل القياس قطعيًّا أو غير قطعي3، وكما يقول ابن تيمية:"ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما بظن وإما بهوى، فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث التوضؤ بالنبيذ في السفر مخالفة للقياس، وبحديث القهقهة في الصلاة مع مخالفته للقياس لاعتقاده صحتهما، وإن كان أئمة الحديث لم يصححوها"4.

الخبر والقياس عند مالك:

880-

وإذا تركنا الأحناف وجدنا أنه روي عن مالك تقدم الخبر على القياس عند تعارضهما، ويقول الأستاذ أبو زهرة، إن الكثيرين من المالكية يقررون ذلك، وإنهم بالإجماع يذكرون أنه أحيانًا قد أخذ بالقياس ورد خبر الآحاد في تلك الحالة5.

1 كشف الأسرار حـ2 ص703.

2 مالك: ص299.

3 كشف الأسرار حـ2 ص703.

4 صحة أصول مذهب أهل المدينة ص24.

5 مالك ص298.

ص: 400

881-

وقال القرافي: "حكى القاضي عياض في التنبيهات وابن رشد في المقدمات: في مذهب مالك في تقديم القياس أحد قولين1.

ثم ذكر الحجة في تقديم القياس على خبر الواحد، فقال: إن القياس موافق للقواعد الفقهية من جهة تضمنه لتحصيل المصالح أو درء المفاسد، أما الخبر المخالف لها فيمنع من تحقيق هذه المصالح أو من درء تلك المفاسد فيقدم الموافق للقواعد على المخالف لها2.

وإذا كانت حجة من منع تقديم القياس على خبر الآحاد أن القياس فرع النصوص والفرع لا يقدم على أصله، لأنه لو قدم على أصله لأبطل الأصل، ولو أبطل أصله لبطل -فإنه يبدو من كلام القرافي أنه يرى أن مذهب مالك تقديم القياس على خبر الواحد بدليل أنه ينقد حجة من يرى تقديم القياس على خبر الآحاد فيقول:

ولا يقال: إن القياس فرع النصوص والفرع لا يقدم على أصله وإلا لأبطل أصله، لأن النصوص التي هي أصل القياس غير النص الذي قدم عليه القياس لا تناقض، فلم يقدم الفرع على أصله، بل على غير أصله2.

882-

وذكر الدبوسي في تأسيس النظر4 والشاطبي في الموافقات5 كثيرًا من المسائل التي يقدم فيها مالك رضي الله عنه القياس على خبر الواحد ومن هذه المسائل: "غسل الإناء من ولوغ الكلب، فقد جاء الحديث" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال:"إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فيلغسله سبع مرات"6.

1 تنقيح الفصول ص387.

2 شرح تنقيح الفصول ص387.

3 المصدر السابق ص387 - 388.

4 تأسيس النظر: عبد الله بن عمر الدبوس الحنفي. نشر زكريا علي يوسف - القاهرة ص65 - 67.

5 الموافقات حـ3 ص 10 - 11.

6 الموطأ: ص 47.

ص: 401

883-

قال الشاطبي: إن مالكًا قال في هذا الحديث: لا أدري ما حقيقته، وكان يضعفه ويقول: يؤكل صيده، فكيف يكره لعابه؟! فقد اتخذ من أكل صيده الثابت بأصل قطعي، وهو قوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِين} -دليلًا على طهارة لعابه، والحديث يدل على نجاسته، فتعارض الحديث مع استنباط قطعي من القرآن الكريم.

884-

ومن هذه التي تعارضت مع القياس، فردها الإمام مالك رضي الله عنه -كما يذكر الشاطبي- حديث خيار المجلس الذي يوجب أن يكون لكلا العاقدين الحق في فسخ العقد ما دام المجلس متحدًا لم يتفرق.

885-

وهذا الحديث رواه الإمام مالك في الموطأ عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار" وقال بعد روايته: "وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه"1. ورده؛ لأن المجلس ليس له نهاية معلومة، بحيث يكون للفسخ مدة معلومة، وإن شرط الخيار يبطل إجماعًا إذا لم تكن له مدة معلومة، فكيف يثبت بالشرع حكم لا يجوز شرطًا بالشرع؟

ولو كان يجوز الخيار لمدة مجهولة لجاز اشتراط الخيار من غير مدة ويضاف إلى ذلك أن الحديث بجهالة مدته يعارض قاعدة نفي الغرر والجهالة في العقود2.

886-

ومن الأمثلة التي ردها كذلك لمعارضتها بالقياس حديث صيام الأيام الست من شوال وفضيلتها، فقد نهى عن صيام ست من شوال، وأخذ من ذلك بمبدأ سد الذرائع خشية أن تؤدي المداومة عليها إلى زيادة رمضان واعتقاد وجوبها.

887-

وقد روى هذا الحديث مسلم بن الحجاج فقال: حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد، وعلي بن حجر جميعًا عن إسماعيل قال ابن أيوب

1 الموطأ: ص416.

2 مالك: ص300.

ص: 402

حدثنا إسماعيل بن جعفر، أخبرني سعد بن سعيد بن قيس، عن عمر بن ثابت بن الحارث الخزرجي، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه حدثه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال:"من صام رمضان، وأتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر"1.

888-

ونكتفي بذكر هذه الأمثلة ومناقشتها؛ لأن غيرها لا يخرج بعضه عن طبيعتها وبعضها الآخر واضح منه تمامًا أنه يرفضه لا من أجل قياس، وإنما لمعارضته نص آخر أقوى منه، ومن هذا حديث عدد الرضعات الذي رده؛ لأنه يتعارض مع إطلاق الآية الكريمة:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُم} 2 وحديث المصراة الذي يتعارض مع الآية والحديث، كما سبق أن ذكرنا.

889-

أما الحديث الأول: وهو حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب فالواقع أن الإمام مالكًا لم يرده؛ لأنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، غاية الأمر أنه لم يجعل الأمر للوجوب، وإنما جعله للندب، ثم استخدم القياس فقط لتأييد فهمه هذا، وكلام ابن القاسم الذي ورد فيه قوله: إنه "لم يدر حقيقة هذا الحديث" يدل على ذلك، وقد أورده ابن عبد البر في كتابه الاستذكار كاملًا وهو:"جملة مذهب مالك عند أصحابه اليوم أن الكلب طاهر، وأن الإناء يغسل منه سبعًا عبادة، ولايهرق شيء مما ولغ فيه غير الماء وحده ليسار مؤونته، وأن من توضأ به إذا لم يجد غيره أجزأه وأنه لا يجوز التيمم لمن كان معه ما ولغ فيه كلب، وأنه لم يدر ما حقيقة هذا الحديث، واحتج بأنه يؤكل صيده، فكيف يكره لعابه؟ وقال مع هذا كله لا خير فيما ولغ فيه كلب: ولا يتوضأ به أحب إلى هذا كله ما روى ابن القاسم عنه"3.

1 صحيح مسلم بشرح النووي حـ3 ص230 - 231.

2 النساء: 23.

3 الاستذكار، لمذاهب فقهاء الأمصار: أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر "463هـ" تحقيق علي النجدي ناصف. المجلس الأعلى للشئون الإسلامية 1391هـ - 14971، حـ1 ص258.

ص: 403

890-

وهكذا رأينا أن مالكًا لم يستطع أن يترك الحديث وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبله، وكان من نتائج هذا القبول أن قال: إن غسل الإناء سبعًا على وفق ما جاء به الحديث عبادة، وأنه لا خير فيما ولغ فيه كلب، ولم يقل بنجاسته ووجوب غسله لأنه -بهذا الفهم- يتعارض مع ظاهر الآية الكريمة التي تحل أكل ما يصيده الكلب المعلم {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِين} 1.

891-

ومثل هذا تمامًا حديث النهي عن أكل عن كل ذي ناب من السباع، فقد أخذ به، لكنه لم يحمل النهي على التحريم، وإنما على الكراهة؛ لأنه يتعارض -بفهم التحريم- مع كتاب الله تعالى -ولما كان ثابتًا ومعه العمل قال بالكراهة كما قلنا.

892-

أما عبارة "أنه لم يدر حقيقة هذا الحديث" فتدل على حيطة مالك وحذره إزاء ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما تدل على الجرأة على تركه، كما فهم بعض الدارسين لفقهه؛ لأنه -على الرغم من أنه يقول: إن الأمر بالغسل للاستحباب- فإنه لا يريد أن يحكم على الحديث بهذا الذي ذهب إليه، فأعلن أنه لا يدري ما حقيقة هذا الحديث من حيث فهمه، لا من حيث ثبوته، فهو ثابت عنده بدليل ما سبق من كراهته للماء الذي يشرب منه الكلب واستحباب غسل الإناء، وبدليل روايته في كتابه الموطأ فهو لا يروي فيه إلا أحاديث الثقات فقد سأله بعضهم عن راو، فقال: "هل رأيته في كتبي

؟ أي إنه لا يدون في كتبه إلا الثقات وأحاديثهم"2.

893-

إذن لم يترك مالك هذا الحديث بالقياس -كما فهم بعض الباحثين- وإنما قبله لأنه صح عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد استخدم القياس هنا حقًّا، ولكنه استخدمه لتأييد فهمه للحديث لا لرده.

1 المائدة: 4.

2 المحدث الفاصل "المطبوع" ص410.

ص: 404

894-

والحديث الثاني شبيه بهذا من حيث إن الإمام مالكًا رواه في موطئه، فهذه دلالة على أنه صحيح، ومن حيث فهمه له فهمًا خاصًّا غير ما يدل عليه ظاهره، وهو تفسير التفرق بالكلام وإتمام الإيجاب والقبول؛ يقول الدكتور محمد يوسف موسى عليه رحمة الله مبينًا وجهة نظر مالك وغيره ممن ذهب مذهبه في خيار المجلس، موضوع هذا الحديث "أما من ناحية الأحاديث التي استدل بها الذين أثبتوا هذا النوع من الخيار، فإن الآخرين يعمدون إلى تأويلها -كما قلنا- وفهمها على نحو آخر لا يجعلها يؤخذ منها وجوب خيار المجلس للمتبايعين متى تم البيع بصدور الإيجاب والقبول من طرفيه عن رضًا منهما

ومعنى هذا أن تلك الأحاديث -أحاديث خيار المجلس- صحيحة عند الجميع"1.

895-

وقد ذهب مالك إلى هذا الفهم حتى لا يتعارض الحديث مع الآية الكريمة التي تقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فالله تعالى قد أباح للمشتري أكل ما يشتري، وللبائع أخذ الثمن بعد وقوع التجارة، وهي الإيجاب والقبول في عقد البيع وعن تراض، فالذين يمنعون ذلك بإيجاب الخيار "مدة المجلس" يخرجون عن ظاهر الآية ويخصصونها من غير دلالة وهذا ما توقاه مالك رحمة الله تعالى عليه2.

896-

ويقول ابن العربي المالكي عند الكلام على هذه الآية مبينًا أنها هي وغيرها من الآيات التي وردت في ذكر البيع والشراء والمداينة والمعاملة إنما هي مطلقة لا ذكر للمجلس ولا لافتراق الأبدان فيها: "قوله تعالى: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} هو حرف أشكل على العلماء حتى اضطربت فيه آراؤهم،

واختار الطبري أن يكون تأويل الآية إلا تجارة تعاقدتموها، وافترقتم بأبدانكم عن تراض منكم فيها، وهذه دعوى.. إنما يدل مطلق الآية على التجارة على الرضا وذلك ينقضي بالعقد، وينقطع بالواجب وبقاء

1 البيوع والمعاملات المالية المعاصرة: د. محمد يوسف موسى -الطبعة الثانية "1373هـ - 1954م" دار الكتاب العربي بمصر 60.

2 أحكام القرآن للجصاص حـ2 ص175.

ص: 405

التخاير في المجلس لا تشهد له الآية لا نطقًا ولا تنبيهًا. ثم بين أن الآيات التي ذكرت في البيع والشراء لا تدل على خيار المجلس1.

897-

أرأيت كيف أن مالكًا لم يترك الحديث للقياس، وإنما فهمه فهمًا معينًا يتلاءم مع الآيات القرآنية الكريمة؟! وحتى لو قلنا: إنه ترك هذا الحديث فإنه لم يتركه مؤثرًا القياس عليه، وإنما لمعارضته للآيات القرآنية الكريمة وبعبارة أخرى: تركه لمعارضته لظاهر القرآن الكريم.

898-

وعبارته تعقيبًا على هذا الحديث: "ليس لهذا عندنا حد معروف، ولا أمر معمول به فيه" إنما تشير إلى أن الأمر ليس كما يفهم من ظاهر الحديث، فهو بهذا الظاهر لا يعمل به، وإنما يحتاج إلى فهم يتلاءم به مع النصوص القرآنية.

899-

ويقول القاضي عياض في هذه العبارة قولًا آخر يدل كذلك على غير ما ذهب إليه بعض الناس من أنه رد هذا الحديث من أجل القياس، يقول:"وقول مالك في هذا الحديث بعد ذكره له في موطئه: "وليس لهذا عندنا حد محدود ولا أمر معمول به" وهذه المعارضة أعظم تهاويلهم وأشنع تشانيعهم، قالوا: هذا رد للخبر الصحيح إذ لم يجد عليه عمل أهل المدينة، حتى قد أنكره عليه أهل المدينة، وقال ابن أبي ذئب فيه كلامًا شديدًا معروفًا، فالجواب أنه إنما أتيت بسوء التأويل، فإن قول مالك هذا ليس مراده رد البيعين بالخيار وإنما أراد بقوله ما قال في بقية الحديث، وهو قوله: "إلا بيع الخيار" فأخبر أن بيع الخيار ليس له حد عندهم، لا يتعدى إلا قدر ما تختبر فيه السلعة وذلك يختلف باختلاف المبيعات، فيرجع فيه إلى الاجتهاد والعوائد في البلاد وأحوال البيع2.

900-

وننتقل إلى الحديث الثالث، وهو حديث صيام الست من

1 أحكام القرآن: أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي تحقيق على محمد البحاوي - الطبعة الثانية عيسى البابي الحلبي "1387هـ 1967م".

2 ترتيب المدارك حـ1 ص72.

ص: 406

شوال1 وهذا الحديث هو الذي يمكن أن نقول فيه: إن مالكًا رحمه الله تركه، فلم يذكره في الموطأ، وإنما أفتى بخلافه فيه فقد قال يحيى بن يحيى: سمعت مالكًا يقول في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان: "إنه لم ير أحدًا من أهل العلم والفقه يصومها ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم يكرهون ذلك، ويخافون بدعته، وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء لو رأوا في ذلك رخصه عند أهل العلم ورأوهم يعملون ذلك".

901-

ومن كلام مالك هذا نفهم أنه لم يرد الحديث للقياس وإنما لأن السلف لا يفعلون ذلك، والسلف لا يتركون هذه السنة لو صحت ولأنه لا يجد أحدًا من أهل العلم يفعل ذلك؛ اقتداء بالسلف، وعدمك بلوغهم هذا الحديث؛ لأن أحدًا منهم لا يستطيع أن يرغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

902-

ومما يؤيد ذلك تسميته له بالبدعة، ولم يقل أحد إن أهل العلم يكرهون رخصة من الرخص التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحض عليها؛ لأن العامة سيحلقونها بفريضة من الفرائض ويعتقدون وجوبها ويحيطونها بالبدعة.

903-

إذن فالأمر لا يعدو أن مالكًا رضي الله عنه عرض هذا الحديث على عمل الصحابة والتابعين فوجدهم لا يفعلونه بل يرغبون عنه فرأى أن الحديث لم يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومناقشة مالك في هذا

1 قال النووي في شرح هذا الحديث في مسلم "حـ2 ص231" فيه دلالة صريحة لمذهب الشافعي وأحمد وداود وموافقيهم في استحباب صوم هذه الستة، وقال مالك وأبو حنيفة: يكره ذلك، قال مالك في الموطأ: ما رأيت أحدًا من أهل العلم يصومها. قالوا: فيكره لئلا يظن وجوبه. ودليل الشافعي وموافقيه هذا الحديث الصحيح الصريح، وإذا ثبتت السنة لا تترك لترك بعض الناس أو أكثرهم أو كلهم لها، وقولهم: قد يظن وجوبها، ينتقد بصوم عرفة وعاشوراء وغيرها من الصوم المندوب، قال أصحابنا: والأفضل أن تصام الستة متوالية عقب يوم الفطر".

ص: 407

الحديث لا تكون على أساس: هل أخذ بخبر الواحد أو بالقياس وإنما على أساس آخر، وهو هل نترك خبر الواحد لعمل الصحابة أو بعضهم أو عمل العلماء أولًا؟ وأظننا نصل إلى جواب عندما نقرأ موقف الأحناف من عمل الصحابة أو فتواهم وموقف الشافعي المعارض له وهو ما سبق أن ذكرناه.

904-

والذي أرجحه أن مالكًا رحمه الله لم يصله هذا الحديث بطريق صحيحة، فضم إليه قرينة عدم العلم من السلف وغيرهم فتركه.

905-

وبعد، فلعلنا نستطيع أن نقول: إن مالكًا رحمه الله لا يترك الحديث الصحيح الثابت من أجل قياس من الأقيسة، وأن نوافق قول أحد العلماء الذي يقول:"وقد حكى عن مالك أن خبر الواحد إذا خالف القياس لا يقبل، وهذا القول باطل سمج، مستقبح عظيم، وأنا أجل منزلة مالك عن مثل هذا القول، ولا يدري ثبوته منه"1.*

الإمام الشافعي وعرض الخبر على القياس:

906-

وإذا تركنا ما قيل عن الإمام مالك إلى الإمام الشافعي وجدنا أنه يعلن أن لا مكان للقياس مع خبر الواحد، وغير الواحد من باب أولى، فوجود الخبر والقياس بمنزلة وجود الماء والتراب، وكما لا يجوز التيمم مع وجود الماء لا يجوز القياس مع وجود الخبر، يقول مبينًا هذا: "ويحكم بالكتاب والسنة المجتمع عليها التي لا اختلاف فيها فنقول لهذا: حكمنا بالحق في الظاهر والباطن، ويحكم بالسنةقد رويت عن طريق الانفراد لا يجتمع الناس عليها، فنقول: حكمنا بالحق في الظاهر؛ لأنه يمكن الغلط فيمن روي الحديث، ونحكم بالإجماع ثم القياس، وهو أضعف من هذا، ولكنها منزلة

1 كشف الأسرار حـ2 ص697.

* ويقول الخطيب البغدادي: إن أصحاب مالك يقدمون القياس على خبر الواحد "الفقيه والمتفقه مج1 حـ4 ص133" فيبدو أن هذا نسب إلى مالك كما نسب إليه تقدم عمل أهل المدينة على خبر الواحد، وبعض أصحابه هم الذين فعلوا ذلك.

ص: 408

ضرورة، لأنه لا يحل القياس والخبر موجود كما يكون التيمم طهارة في السفر عند الإعواز من الماء، ولا يكون من طهارة إذا وجد الماء، إنما يكون طهارة في الإعواز"1.

907-

لكنه رحمه الله استخدم القياس على نحو آخر، وهو تعضيد ثبوت الأخبار وترجيحها على غيرها، يقول عن الأحاديث:"ومنها ما يختلف، ومنها ما لا يخلو من أن يكون أحد الحديثين أشبه بمعنى كتاب الله أو أشبه بمعنى سنن النبي صلى الله عليه وسلم مما سوى الحديثين المختلفين، أو أشبه بالقياس، فأي الأحاديث المختلفة كان هذا فهو أولاهما أن يصار إليه"2.

908-

وبعض الأمثلة التي ذكرها في كتابه اختلاف الحديث توضح ذلك:

في باب صلاة المنفرد خلف الصف روي "عن سفيان بن عيينة عن حصين

عن هلال بن يساف

قال: أخذ بيدي زياد بن أبي الجعد فوقف بي على شيخ بالرقة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: وابصة بن معبد، فقال: أخبرني هذا الشيخ "أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة".

وقد سمعت من أهل العلم بالحديث من يذكر أن بعض المحدثين يدخل بين هلال بن يساف ووابصة فيه رجلًا، ومنهم من يرويه عن هلال، عن وابصة، سمعه منه، وسمعت بعض أهل العلم منهم كأنه يوهنه بما وصفت.

909-

"وسمعت من يروي بإسناد حسن أن أبا بكر ذكر للنبي، صلى الله عليه وسلم أنه ركع دون الصف، فقال له النبي: "زادك الله حرصًا ولا تعد" فكأنه أحب له الدخول في الصف، ولم ير عليه العجلة

1 الرسالة ص599 - 600.

2 اختلاف الحديث ص57 - 58.

ص: 409

بالركوع حتى يلحق بالصف، ولم يأمره بالإعادة، بل فيه دلالة على أنه رأى ركوعه منفردًا مجزئًا عنه1.

910-

وهكذا نحن أمام حديثين مختلفين: أحدهما يحكم على صلاة المنفرد خلف الصف بالبطلان، والثاني يقول: صلاته صحيحة، وإن كانت مكروهة.

911-

والحديث الذي رواه الإمام الشافعي ثانيًا حديث ثابت كما يقول، أما الحديث الذي رواه أولًا فهناك شك في ثبوته أو هو متأرجح بين الثبوت وعدمه.. وعلى كل حال سنفترض ثبوته، فأيهما يرجح على الآخر؟

912-

يرى الشافعي أن الحديث الثاني أولى أن يؤخذ به لأن معه القياس وقول العامة "ثم يوضح هذا، فيقول: "فإن قال قائل: وما القياس وقول العامة؟

قيل: أرأيت صلاة الرجل منفردًا أتجزئ عنه؟ فإن قال: نعم. قلت: وصلاة الإمام أمام الصف، وهو في صلاة الجماعة؟ فإن قال: نعم. قيل فهل يعدو المنفرد خلف المصلي أن يكون كالإمام المنفرد وأمامه أو يكون كرجل منفرد يصلي لنفسه منفردًا، فالشافعي هنا قاس صلاة المنفرد خلف الصف بصلاة من يصلي وحده أو مع الإمام متقدمًا عليه وهذا جائز، فكذلك الحالة التي معنا، ثم قاس هذا على حكم آخر يدل عليه الحديث، وهو صلاة المرأة منفردة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن مالك أن جدته مليكة دعت النبي صلى الله عليه وسلم إلى طعام صنعته، فأكل منه، ثم قال: قوموا فلأصلي لكم، قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد أسود

فنضحته بالماء، فقام عليه رسول الله، وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلى لنا ركعتين، ثم انصرف، وذكر الشافعي طريقًا آخر لهذا الحديث ثم بين ما يهدف إليه وهو أن هذا شبيه بذاك، وبالقياس عليه تتبين صحة صلاة المنفرد خلف الصف فيقول:

1 اختلاف الحديث ص 218 - 219.

ص: 410

"فأنس يحكي أن امرأة صلت منفردة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فرق في هذا بين امرأة ورجل، فإذا أجزأت المرأة صلاتها مع الإمام منفردة أجزأ الرجل صلاته مع الإمام منفردًا كما تجزئها هي صلاتها"1.

913-

وفعل الشافعي مثل ذلك في غير هذا الحديث، فرجح مثلًا حديث ابن الصمة الذي يقول: إن التيمم مسح الوجه واليدين إلى المناكب3 رجح الأول على الثاني؛ لأنه أشبه بالقرآن وأشبه بالقياس بأن البدل من الشيء إنما يكون مثله"4.

914-

ورجح حديث أن الحجامة لا تفطر الصائم على حديث آخر يقول: إنها تفطره؛ لأن الأول معه القياس، وهو "أن ليس الفطر من شيء يخرج من جسد إلا أن يخرجه الصائم من جوفه متقيئًا، وأن الرجل قد ينزل غير متلذذ، فلا يبطل صومه. ويعرق ويتوضأ، ويخرج منه الخلاء والريح والبول ويغتسل

فلا يبطل صومه، وإنما الفطر من إدخال البدن أو التلذذ بالجماع أو التقيؤ، فيكون على هذا إخراج شيء من جوفه كما عمد إدخاله فيه"5.

915-

وقد يعبر الشافعي رحمه الله عن القياس بكلمة "المعقول" أي: إذا كان عقلًا هذا الشيء شبيه بذاك فإنه يأخذ حكمه. ويرجح به بعض الأحاديث على بعض، ومثال ذلك مسألة: "من أصبح جنبًا في شهر

1 اختلاف الحديث ص218 - 221.

2 انظر هذا الحديث في سنن أبي داود. طبعة حمص عام "1388هـ - 1969م" بتحقيق عزت عبيد الدعاس حـ1 ص233 - 234.

3 انظر جامع الترمذي بشرح تحفة الأحوذي فيما روي عن عمار من أن المسح للوجه والكفين وقال الترمذي فيه: حسن صحيح "حـ1 ص440 - 442"، وما روي عنه أن المسح إلى المناكب والإباط وقال الترمذي: إنه ضعفه أهل العلم، وقال بعضهم: ليس مخالفًا للرواية الأولى؛ لأنه في الثانية لم ينسبه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم "ص451".

4 باب التيمم في اختلاف الحديث ص94 - 98 على هامش الأم حـ7.

5 اختلاف الحديث ص238.

ص: 411

رمضان"، فقد روى الشافعي بسنده عن عائشة رضي الله عنها أن رجلًا قال لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو واقف على الباب وأنا أسمع: يا رسول الله، إني أصبح جنبًا، وأنا أريد الصوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنا أصبح جنبًا وأنا أريد الصوم

".

وروى بسنده ما يخالف هذا، وهو أن أبا هريرة يقول:"من أصبح جنبًا أفطر ذلك اليوم".

916-

رجح الإمام الشافعي حديث عائشة وحديث أم سلمة الذي هو مثل حديث عائشة: لأنهما زوجتاه وزوجتاه أعلم بهذا من رجل إنما يعرفه سماعًا أو خبرًا، ولأن عائشة مقدمة في الحفظ وأم سلمة حافظة، ورواية اثنين أكثر من رواية واحد.

917-

وبعد أن رجح أحد الحديثين على هذا النحو أيد ذلك بأن الحديث الراجح معه "المعقول" وبين ذلك بقوله: إن الرجل يحتلم في نهار رمضان فيجب عليه الغسل ويتم صومه؛ لأنه لم يجامع في نهار رمضان، فكذلك من يصبح جنبًا؛ لأنه لا يجامع في نهار رمضان ووجوب الغسل لا يفطر1.

918-

وماذا قال في الكلب يلغ في الإناء؟.

إنه إذا كان بعض الناس قد ادعى أن مالكًا نفى الحديث فيه لأنه يتعارض مع القياس فإن الشافعي، رضي الله عنه قد أكد ثبوته بالقياس حين بين أن ما ذهب إليه مالك من عدم وجوب الغسل يخالف القياس، وكذلك جواز شرب اللبن مما شرب منه الكلب.

919-

وحجة مالك أن الكلاب لم تزل في البادية، وهناك من الحرج في منعها عن مثل هذه الأشياء، ورد عليه الشافعي بأن الفأرة مثلًا ألزم لأهل القرية من الكلاب لأهل البادية والكلاب أقل امتناعًا منها وإذا ماتت فأرة

1 اختلاف الحديث ص232 - 235.

ص: 412

أو دابة من دواب البيوت في الماء أو في اللبن في قرية أو بادية تنجسه فكذلك الكلاب، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن النجاسة تكون في الفأرة وهي في البيوت:"وإنما قال في الفأرة قولًا عامًّا وفي الكلب قولًا عامًّا".

920-

ونهمس في أذن أستاذنا وأستاذ الجميع الإمام الشافعي: هل الكلام فيما شرب منه كلب حي وفأر حي أو في وقوع كلب ميت أو فأر ميت في شراب أو طعام؟! وهذا يختلف عن ذاك ومن القياس أن يكون هذا له حكم وذاك له حكم آخر.

921-

وهكذا استخدام الشافعي، رضي الله عنه القياس بهدف زيادة تثبت الأخبار وزيادة توثيقها، ونعتقد أن هذا هو ما فعله الأحناف والمالكية فظن خصومهم أنهم يستخدمون القياس في نفس السنة، والحق أن الأمر ليس كذلك كما رأينا.

922-

ونخلص من هذا بالتعرف على وجه آخر من وجوه العناية بالمتن واستخدام القياس من أجل توثيقه بعيدًا عن السند؛ بل الأمر في وجه من وجوهه توثيق للسند عن طريق المتن حتى يرجح الأمر إلى توثيق المتن نفسه، وترك ما عداه، أو ترك العمل بما عداه في حالة النسخ وهو مربط الفرس كما يقولون.

923-

ولعلنا على ذكر من أن بعضهم قال: إن الرواية بالمعنى من غير الفقيه ربما تؤدي إلى تغيير في الحديث وخلل بمعناه الأمر الذي احتاج إلى وضع ضوابط للأداء بالمعنى، فتعميم الراوي من الخطأ في الرواية، وقد وضع هذه الضوابط الذين يجيزون رواية الحديث بالمعنى على حين تشدد الآخرون فلم يجيزوا الرواية بالمعنى ولكل حجته، وهذا ما سنفصله فيما يلي - بإذن الله عز وجل وفضل منه سبحانه وتعالى.

ص: 413