الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: عرض الحديث على عمل أهل المدينة
799-
ما لا شك فيه أن للمدينة مكانتها العلمية الكبيرة التي لا يسمو إليها غيرها من بلدان العالم الإسلامي في القرنين الأول والثاني الهجريين؛ لأنها -كما يقول الإمام مالك في رسالته إلى الليث بن سعد "175هـ"- موطن هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبها أسس الدولة الإسلامية، "وبها نزل القرآن، وأحل الحلال وحرم الحرام ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهر أهلها يحضرون الوحي والتنزيل، ويأمرهم فيطيعونه ويسن لهم فيتبعونه، وبعد وفاته، صلى الله عليه وسلم قام من بعده الصحابة، رضوان الله عليهم وهم أتبع الناس له من أمته، فما نزل بهم أنفذوه، وما لم يكن عندهم فيه علم سألوا عنه، ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك، ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك، ثم كان التابعون فيها من بعدهم يسلكون تلك السبيل ويتبعون تلك السنن"1.
800-
ومن أجل هذه المكانة كان ينظر إليها كثير من الفقهاء نظرة إكبار، ويعتبرون أن أقوال أهلها وعملهم خير من عمل غيرهم. ولكن، إلى أي مدى كان هذا الإكبار وذلك الاعتبار؟.
801-
إن الإمام مالكًا وبعض العلماء يرون أن الأمر إذا كان ظاهرًا معمولًا به فيها فليس لأحد خلافه؛ للذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادعاؤها، فهم الذين على ثقة مما يأخذون وما يعملون "ولو ذهب أهل الأمصار يقولون: هذا العمل ببلدنا، وهذا الذي مضى عليه من مضى منا- لم يكونوا من ذلك على ثقة ولم يكن لهم من ذلك الذي جاز لهم"2 ومن ناحية أخرى فهم كانوا أطلب الناس لما ذهب علمه عنهم، "منها يسألون عنها على المنبر وعلى المواسم وفي المساجد وفي عوام الناس، ويبتدءون فيخبرون بما لم يسألوا عنه، فيقبلون ممن أخبرهم ما أخبرهم إذا ثبت لهم -فإذا حكم أحدهم الحكم فهو موافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغير مخالف له، فيقدم حديث غيرهم إذا خالفهم"3.
1 ترتيب المدارك 1/ 64.
2 ترتيب المدارك 1/ 65.
3 الأم 7/ 242.
802-
وفريق آخر يخفف من هذه القيمة التي أعطاها الفريق الأول لعمل أهل المدينة، فحقيقة كانت المدينة موطن السابقين من المهاجرين والأنصار، ولكنهم خرجوا للجهاد في سبيل الله، وتفرقوا في الأمصار المختلفة يعلمون الناس تعاليم الله، وأصبحت هذه الأمصار بفضل دعوتهم ونشر علمهم، وبفضل المتابعة العلمية من الخلفاء -تحمل علمًا كثيرًا ربما يضارع في القرن الثاني الهجري علم أهل المدينة
…
بالإضافة إلى ذلك فقد اختلف التابعون فيما بينهم في المدينة، بل ربما اختلف الواحد منهم في فتواه، عندما يفتي في الموضوع الواحد أكثر من مرة الأمر الذي جعل علماء الأمصار الآخرين يلتمسون الفتوى الصحيحة فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند غيرهم؛ لأنها عازبة عنهم ورواها الصحابة في الأمصار التي انتقلوا إليها.
803-
وقد بين ذلك الإمام الليث بن سعد في رسالته إلى الإمام مالك بن أنس، وكان قد أرسل إليه الأخير أنه يفتي بغير ما يفتي به أهل المدينة وقال له:"بلغني أنك تفتي الناس بأشياء مختلفة لما عليه جماعة الناس عندنا وببلدنا الذي نحن فيه، وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك، وحاجة من قبلك إليك، واعتمادهم على ما جاء منك حقيق بأن تخاف على نفسك، وتتبع ما ترجو النجاة باتباعه"1.
ثم أفاض الإمام مالك في بيان فضل المدينة وما فيها من علم وعمل كما سبق أن ذكرنا.
804-
فرد عليه الإمام الليث برسالة: "وما أجد أحدًا ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا، ولا أشد تفضيلًا لعلماء أهل المدينة الذين مضوا، ولا آخذ بفتياهم فيما اتفقوا عليه -مني، والحمد لله رب العالمين لا شريك له
…
وأما ما ذكرت من مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ونزول القرآن بها عليه بين ظهري أصحابه وما علمهم الله منه، وأن الناس صاروا
1 كتاب المعرفة والتاريخ لأبي يوسف يعقوب بن سفيان العيسوي "ت 277" - تحقيق د. أكرم ضياء العمري - مطبعة الإرشاد بغداد - 1394هـ - 1974 م مج1 ص 695 - 697 "نص الرسالة كاملًا" - ترتيب المدارك حـ1 ص64.
به تبعًا لهم فيه، فكما ذكرت. وأما ما ذكرت من قول الله تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} 1 -فإن كثيرًا من أولئك السابقين الأولين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله، فجندوا الأجناد، واجتمع إليهم الناس، فأظهروا بين ظهرانيهم كتاب الله وسنة نبيه، ولم يكتموهم شيئًا علموه، وكان في كل جند منهم طائفة يعلمون لله كتاب الله وسنة نبيه، ويجهدون برأيهم فيما لم يفسره لهم القرآن والسنة، وتقدمهم عليه أبو بكر وعمر وعثمان الذين اختارهم المسلمون لأنفسهم، ولم يكن أولئك الثلاثة مضيعين لأجناد المسلمين ولا غافلين عنهم، بل كانوا يكتبون في الأمر اليسير لإقامة الدين، والحذر من الاختلاف بكتاب الله وسنة نبيه
…
فإذا جاء أمر عمل فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمصر والشام والعراق على عهد أبي بكر وعمر وعثمان ولم يزالوا عليه حتى قبضوا لم يأمروهم بغيره
…
إن أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا بعد الفتيا في أشياء كثيرة ثم اختلف التابعون في أشياء بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سعيد بن المسيب ونظراؤه أشد الاختلاف ثم اختلف الذين كانوا من بعدهم، فحضرتهم بالمدينة وغيرها، ورأسهم يومئذ ابن شهاب وربيعة بن أبي عبد الرحمن
…
وكان يكون من ابن شهاب اختلاف كثير إذا لقيناه، وإذا كاتبه بعضنا2".
805-
وكانت هذه النظرة وتلك هما الأساس في اختلاف بعض الموقف التي اتخذها كل فريق من بعض المسائل، ويهمنا الآن بيان موقف كل منهما من سنة الآحاد إذا تعارضت مع عمل أهل المدينة.
806-
ويوضح القاضي عياض موقف الإمام مالك من خبر الآحاد مع عمل أهل المدينة بأنه على ثلاثة وجوه:
1 التوبة: 100.
2 كتاب المعرفة والتاريخ مج1 ص 687 - 695 "نص الرسالة كاملًا" - أعلام الموقعين جـ3 ص72 - 74.
الوجه الأول:
وهو ما يكون العمل مطابقًا لأخبار الآحاد، فهذا يؤكد صحتها إن كان العمل من طريق النقل، ويرجحها إن كان من طريق الاجتهاد.
الوجه الثاني:
يكون عمل أهل المدينة مطابقًا لخبر يعارضه خبر آخر، وفي هذا الوجه يكون عملهم مرجحًا للخبر الذي يوافقه، وهو أقوى ما ترجح به الأخبار إذا تعارضت.
807-
ويقول ابن تيمية في هذا الوجه مبينًا رأي مالك وغيره: "إذا تعارض في المسألة دليلان كحديثين وقياسين جهل أيهما أرجح وأحدهما يعمل به أهل المدينة وفيه نزاع، فمذهب مالك والشافعي أنه يرجع بعمل أهل المدينة ومذهب أبي حنيفة لا يرجح بعمل أهل المدينة ولأصحاب أحمد وجهان:
أحدهما: وهو قول القاضي أبي يعلى وابن عقيل أنه لا يرجع.
والثاني: وهو قول أبي الخطاب وغيره أنه يرجح به. وقيل: هذا هو المنصوص عن أحمد، ومن كلامه: إذا رأى أهل المدينة حديثهما وعملوا به، فهو للغاية، وكان يفتي على مذهب أهل المدينة، ويقدمه على مذهب أهل العراق، ويقول: إنهم أتبع للآثار"1.
الوجه الثالث:
أن يكون عمل أهل المدينة مخالفًا للأخبار جملة، فإن كان إجماعهم من طريق النقل ترك له الخبر، إذ يشبه العمل هنا التواتر ويفيد القطع واليقين، ولا يتركان لغلبات الظنون، وهذا مثل مسألة "الصاع" و"المد" والوقوف،
1 صحة أصول مذهب أهل المدينة: ابن تيمية - مكتبة المتنبي ص27.
وزكاة الخضروات، فقد نقلوا مقدار الصاع والمد ونقلوا صدقة الخضروات والأحباس1.
808-
ويقول ابن تيمية: إن هذا الوجه حجة باتفاق العلماء الشافعي وأحمد وأصحابهما، كما هو حجة عند مالك، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وقد اجتمع أبو يوسف بمالك، وسأله عن هذه المسائل وأجابه مالك بنقل أهل المدينة المتواتر، فرجع أبو يوسف إلى قوله وقال:"لو رأى صاحبي مثل ما رأيت لرجع مثل ما رجعت"2.
809-
وهذا يدل على أن أبا حنيفة حين خالفهم في مقدار الصاع والمد مثلًا فإنما خالفهم لأنه لم يبلغه هذا النقل، كما لم يبلغه وغيره من الأئمة كثير من الحديث، فلا لوم عليهم في ترك ما لم يبلغهم علمه. وكان رجوع أبي يوسف إلى هذا النقل كرجوعه إلى أحاديث كثيرة اتبعها هو وصاحبه محمد، وتركا قول شيخهما لعلمهما بأن شيخهما كان سيرجع إليها لو بلغته وصحت عنده.
810-
إذن ليس الاختلاف في اعتماد نقل أهل المدينة على هذا النحو، وإنما لعلم بعضهم بأن ما يعلمه أهل المدينة على النقل على حين لا يعلم بعضهم الآخر ذلك.
811-
ومثل هذا في كونه حجة عند مالك العمل القديم قبل مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، لأن أهل المدينة في عهد الخلفاء الثلاثة عملوا بسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم وما خالفوها
…
أما العمل المتأخر فليس بحجة على قول المحققين من أصحاب مالك، وكذلك عند الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم.
812-
والدليل على أن العمل المتأخر لا ينظر إليه مالك على أنه حجة يجب على جميع الأمة اتباعه إن خالف النصوص إنه لم يوافق الرشيد أو غيره
1 ترتيب المدارك حـ1 ص70 - 71.
2 صحة أصول مذهب أهل المدينة ص23.
أن يحمل الناس على موطئه، وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وإنما جمعت أهل بلدي1، فهو إذن مع الإمام الليث في أن الصحابة تفرقوا في الأمصار، وأخذ عنهم أهل البلدان التي ذهبوا إليها.
813-
أما إذا كان العمل في هذا الوجه من غير طريق النقل، فإن الإمام مالكًا يأخذ بالخبر إذا صح عنده.
814-
ويذكر ابن تيمية أنه إذا كان مالك في الموطأ يذكر الأصل المجمع عليه عند أهل المدينة على كل الوجوه السابقة؛ فإنه يحكي مذهبهم سواء أأخذ به أم لم يأخذ.
815-
ويبدو أن بعض أصحاب مالك لم يفهموا منه هذا فأخذوا بما يخاف ما رواه من الأحاديث -من عمل أهل المدينة، وإن كان مالك لا يأخذ به وإنما حكاه عنهم فقط. وسنرى ذلك من خلال مناقشة الإمام الشافعي لهؤلاء.
الليث بن سعد وعمل أهل المدينة:
816-
وقبل أن نعرض لمناقشة الإمام الشافعي تشير إلى إنكار عالمين كبيرين معاصرين للإمام مالك بعض ما يفتي به أهل المدينة ويعملون به مخالفين السنة. وهما اليث بن سعد، ومحمد بن الحسن الشيباني.
817-
وقد ذكر الإمام الليث بن سعد في رسالته إلى الإمام مالك أنه ينكر ما ذهب إليه بعض العلماء بالمدينة، وربما منهم الإمام مالك من القول يجواز جمع أجناد المسلمين بين الصلاتين ليلة المطر، وقال له: إن مطر الشام أكثر من مطر المدينة بما لا يعلمه إلا الله، ومع هذا لم يجمع إمام قط في ليلة
1 صحة أصول مذهب أهل المدينة ص28. وهناك رواية تقول: إن هذا القول كان للمهدي، وأخرى تقول: إنه للرشيد. انظر كلمة عن الموطأ للأستاذ د. محمد كامل حسين في مقدمة الموطأ "طبعة الشعب" ص27.
مطر، وفيهم من الصحابة اللذين ينفذون سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم أبو عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص ومعاذ بن جبل الذي قال فيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل". وشرحبيل
بن حسنة، وأبو الدرداء، وبلال بن رباح.
وكان أبو ذر بمصر والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص، وكان بحمص سبعون من أهل بدر
…
وبالعراق ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعمران بن الحصين، ونزلها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة سنين، وكان معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجمعوا بين المغرب والعشاء قط1.
818-
إذن كان في المدينة عمل يخالف ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أماكن أخرى من أمصار الدولة الإسلامية. وهذا يجعل عمل الناس فيها وفتوى علمائها محل نظر وتمحيص وأخذ ورد.
819-
وانتقل الإمام الليث إلى مثال آخر مما ينكره على أهل المدينة؛ لأنهم خالفوا فيه السنة، وما عليه أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم الذين التزموا بالسنة خير التزام، قال له: إنه يقضي في المدينة بشهادة شاهد ويمين صاحب الحق، ولم يقض به أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم بالشام وحمص وبمصر والعراق، ولم يكتب به إليهم الخلفاء الراشدون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم لما ولي عمر بن عبد العزيز -وهو قد أحيا السنن- كتب إليه زريق بن الحكم: إنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد ويمين صاحب الحق، فكتب إليه عمر إنا كنا نقضي بذلك بالمدينة، فوجدنا أهل الشام على غير ذلك فلا نقضي إلا بشهادة رجلين عدلين أورجل وامرأتين
…
وعمر بن عبد العزيز أيضًا لم يجمع بين العرب والعشاء قط ليلة المطر، والمطر يسكب عليه في منزله الذي كان بخناصر ساكنًا2.
1 أعلام الموقعين حـ3 ص74.
2 أعلام الموقعين حـ3 ص74.
820-
إلى غير ذلك من الأمثلة التي ساقها الإمام الليث بن سعد ليدل على أن المدينة لا تختص دون غيرها بعمل الصحابة والالتزام بالسنة والنظر إليها على أنها موضع حجة على غيرها من البلدان الإسلامية، وإعطاء علمائها الحق الذي ليس لعلماء الأمصار الأخرى ومحاجتهم بعملها وإجماعها فهي كغيرها قد تأخذ بغير السنة عندما يغيب عن علمائها العلم بها، ومن هنا فلا يصح أن يكون عمل أهلها مقياسًا في أيديهم يأخذون به ويدعون من الروايات.
مناقشة محمد بن الحسن:
821-
وقد ناقش أهل المدينة في مقياسهم هذا أيضًا الإمام محمد بن الحسن الشيباني الذي كان من مدرسة أخرى لا ترى هذا الحق الذي يرفض به بعض أهل المدينة بعض السنن.
822-
وكان الإمام محمد بن الحسن قد تتلمذ على الإمام مالك وأخذ عنه الموطأ، ودرس فقه أهل المدينة وما هم عليه من عمل وما به يحتجون على الآخرين، ولهذا كان أقدر على مناقشتهم، وبيان ما بينهم وبين مدرسة أهل العراق -التي ينتمي إليها- من خلاف، وإظهار ما يراه حقًّا. ويخالفهم فيه.
823-
وتجلى هذا في الموطأ الذي رواه عن الإمام مالك شيخه، كما تجلى في كتاب الحجة الذي ألفه للرد عليهم خاصة في مسائل الخللاف التي بينه وبينهم.
824-
وهذا الكتاب يعد أكثر كتب الإمام محمد بن الحسن الفهقية التي تشتمل على الأحاديث والأخبار؛ لأنه كان يريد الإكثار من الأحاديث والأخبار محاولًا أن يثبت لأهل المدينة أن أهل العراق لا يقلون عنهم معرفة بالسنن والآثار إن لم يكونوا أكثر منهم "ولذا كان في مناقشته يشير إلى الاحتجاج بالأحاديث، وأنه يعرف الكثير منها وأن أهل المدينة لا يعرفون
الآثار أو يعرفونها ويتركونها، وإن ظنوا غير ذلك"؛ لأن العمل بالمدينة على خلافها1.
825-
يقول لهم مثلًا في باب المرور بين يدي المصلي: "ولو أردنا أن نحتج عليهم بأحاديث كثيرة من الأحاديث في هذا ونحوه لاحتججنا عليهم لكن احتجاجنا بأحاديثهم أوجب في الحجة عليهم2.
وفي باب المسح على الخفين يقول: "الآثار في المسح للمقيم يومًا وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها كثيرة معروفة، وما كنت أظن أحدًا ممن نظر في الفقه يشكل عليه الآثار في هذا"3.. ويقول: إن هؤلاء يروون عن ابن شهاب الزهري المسح على ظاهر الخفين وباطنهما، ولكن مالك بن أنس يروي خلاف ذلك، فهو يروي عن هشام بن عروة أنه رأى أباه يمسح على الخفين. وكان يمسح على ظاهرهما ويمسح على باطنهما وعقب على ذلك بقوله: فهذا قول عروة، وهو كان أفقه وأعلم بالرواية عن ابن شهاب4.
826-
وهو يؤكد في هذا الكتاب أن اتباع الأوثق من السنة هو الواجب دون غيره، فيقول في "باب الوتر":"قد جاءت في الوتر أحاديث مختلفة، فأخذنا بأوثقها، فرأينا أن يوتر بالأرض ولا يوتر على بعيره؛ لأن الفقهاء شددوا في الوتر ما لم يشددوا في غيرها من الصلوات، سوى الصلوات الخمس، فقال بعضهم: سنة لا ينبغي تركها، وقال بعضهم: واجبة، ورووا في ذلك حديثًا؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله قد زادكم صلاة يعني الوتر" وقد اختلف في الوتر بعينها: فروي أن ابن عمر رضي الله عنهما كان ينزل بالأرض فيوتر عليها، ويروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذنا بأوثقها وأشبهها بالحق، وبما جاءت
1 الإمام محمد بن الحسن ص349.
2 الحجة: ص42.
3 المصدر السابق ص24.
4 الحجة: ص39.
به الآثار من التشديد في الوتر"1. وكأنه يريد أن يقول لأهل المدينة: هذا هو الطريق الأمثل لا ترجيح العمل على السنة.
مناقشة الإمام الشافعي:
827-
وقد ناقشهم الإمام الشافعي لأن القول بعمل أهل المدينة في بعض المسائل مقياس غير قائم على أساس صحيح إذا كان يخالف السنة الصحيحة وخاصة ما يرويه الإمام مالك منها وهو منهم.
828-
لقد كانت مناقشة الإمام الشافعي لهؤلاء تقوم أساسًا على دعامتين، كما يفهم ذلك واضحًا وصريحًا في "كتاب اختلاف مالك والشافعي" من كتاب الأم2.
الدعامة الأولى:
مناقشتهم فيما يرويه الإمام مالك من الأحاديث التي يخالفونه فيها، فأدلته للرد عليهم تعتمد على هذه الأحاديث. وهذا يجعلنا نرى أن هذه الترجمة خاطئة؛ لأن الشافعي لا يختلف مع مالك هنا، وإنما يختلف مع بعض أصحابه الذين جروا وراء عمل بعض الأئمة فيها وتركوا ما يرويه مالك لفهم خاطئ مؤداه: أن مالكًا عندما ينص على العمل في المدينة يعمل به كما أشرنا.
الدعامة الثانية:
وهي ما يردده الإمام الشافعي مرارًا وتكرارًا من أن حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم يثبت إذا حدث الثقة عن الثقة به حتى ينتهي إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وأن حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم إذا ثبت على هذا النحو فهو مستغن بنفسه، ولا يلتفت إلى ما يخالفه مما يروى عمن هو دون رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن حديث رسول الله
1 الحجة: ص44.
2 الأم حـ7 ص177 - 249.
صلى الله عليه وسلم أولى أن يؤخذ به، ولو علمه من روى عنه خلاف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خالفه1.
مناقشة دعوى الإجماع:
829-
وإذا كان هؤلاء يدعون أنهم يثبتون ما اجتمع عليه أهل المدينة، وأن الإجماع في رأيهم أن يحكم أحد الأئمة: أبو بكر أو عمر أو عثمان رضي الله عنهم -فإن الشافعي رضي الله عنه قد رد عليهم:
أولًا: بأنهم لا يعرفون حكم واحد منهم إلا عن طريق الانفراد أو الآحاد الذي ردوا مثله، مما روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم فرضًا من الله عز وجل. والحق أن ما روي عمن دون رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل محل ما روي عنه صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: وقد كان بعض الأئمة من الصحابة يحكمون في بعض المسائل بما يخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها لم تبلغهم، فإذا بلغتهم ذهبوا إليها ورجعوا عن حكمهم، فعمر مثلًا مع فضل علمه وطول صحبته وكثرة مسألته وتقواه قد حكم أحكامًا بلغه في بعضها حكم لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فرجع عن حكمه إلى ما بلغه عن رسول الله، ورجع الناس عن بعض أحكامه بعده، دلالة على أنه لم يبلغه عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم حتى توفي رضي الله عنه، "فإنه قد يعزب عن الكثير الصحبة الشيء من العلم يحفظه الأقل علمًا وصحبة منه، فلا يمنعه ذلك من قبوله".
ثالثًا: وأنتم الذين تتركون السنة لعمل أهل المدينة بحجة أن أحد الأئمة قال بهذا الحكم أو ذاك تتركون وتخالفون مثل عمر بن الخطاب لأن ابن عمر يخالفه أو تتركونه لرأي أنفسكم، ولم يخالف عمر فيه أحد غيركم فهل نعتبركم بهذه المخالفة تخرجون عن الصواب؟!.
إنكم تخالفون عمر في أكثر من مائة قول، وتخالفون أبا بكر في القراءة في الصلاة وفي نهيه عن عقر الشجر وتخريب العامر، وعقر ذوات الأرواح
1 الأم حـ1 ص177.
إلا لمأكله.. وتركتم على عثمان أنه كان يخمر وجهه وهو محرم وغير ذلك كما تركتم الكثير من رواية الثقات من أهل المدينة غيرهم من الصحابة وكذلك من التابعين وتابعيهم
…
فأنتم فارقتم مذهبكم الذي تدعونه1.
رابعًا: لقد كان بالمدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نحو من ثلاثين ألف رجل إن لم يزيدوا، ولعلكم لا تروون عنهم قولًا واحدًا عن سنة، وإنما تروون القول عن الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة متفرقين أو مجتمعين والأكثر التفرق، فأين الإجماع؟!.
830-
وإذا كنتم تقولون: إن المراد بالإجماع أن يكون الأكثر مجتمعين؛ كأن يكون خمسة نقر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا قولًا متفقين عليه وقال ثلاثة قولًا مخالفًا لقولهم، فالأكثر أولى بالاتباع -فإننا نقول: إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا كثيرين، وربما كان مع الثلاثة الكثيرون الذين لم يتكلمون، ومع الخمسة القلة، "والصدق فيه أبدًا ألا يقول أحد شيئًا لم يقله أحد أنه قاله.. ولو قلت: وافقوا بعضهم، قال غيرك: بل خالفوه.. وليس الصدق أن تقول وافقوا ولا خالفوا بالصمت"1.
831-
ثم قال الشافعي: إن الإجماع الحقيقي ليس في المدينة وحدها، وإنما في كل بلد، وفي الفرض وخاصة من العلم؛ ذلك الذي لا يسع أحدًا جهله من الصلوات والزكاة، وتحريم الحرام.. وأما علم الخاصة في الأحكام الذي لا يضير جهله على العوام، وعلمه عند الخواص عن مثلهم فنقول فيه واحدًا من قولين:"نقول: لا نعلمهم اختلفوا فيما لا نعلم اختلفوا فيه.. ونقول فيما اختلفوا فيه: اختلفوا واجتهدوا" فنأخذ من هذا ما أشبه أقاويلهم بالكتاب والسنة، يصح أن نحدد أكثر من هذا، فنقول فيما اختلفوا فيه: ذهبنا إلى قول ثلاثة دون اثنين وأربعة دون ثلاثة، ولا نقول هذا إجماع؛ فإن الإجماع قضاء على من لم يقل ممن لا ندري ما يقول3.
1 الأم حـ7 ص242 - 243.
2 المصدر السابق حـ7 ص244.
3 الأم حـ7 ص244.
832-
وإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم قد اختلفوا فيما ليس فيه كتاب ولا سنة، فإنهم قد اختلفوا أيضًا فيما فيه كتاب وسنة، وذلك لأن الآية من كتاب الله تعالى قد تحتمل معنيين، فيقول بعض أهل اللسان بأحدهما، ويقول بعضهم بالمعنى الآخر الذي يخالفه. والآية محتملة لقولهما معًا؛ لاتساع لسان العرب. وأما السنة فتذهب إلى بعضهم وكل من ثبتت عنده السنة قال بها -إن شاء الله. ولم يخالفها؛ لأن كثيرًا منها واضح ليس فيه تأويل، ومثل الشافعي لذلك باختلافهم في مدة القرء واختلافهم في الوضوء من مس الذكر1.
مناقشة دعوى العمل وصلته بالخبر:
833-
ويترك الشافعي، رضي الله عنه دعوى الإجماع إلى دعوى العمل، فيبين أنه ليس من اللازم أن نقبل الخبر إلا إذا تقدمه العمل كما يقول هؤلاء، فليس من عوامل تثبيت الخبر أن يتقدم به عمل من الأئمة: أبي بكر وعمر وعثمان، وقد حفظنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أشياء لا يحفظ عن أحد من خلفائه فيها شيء. وقد "استغنى فيها بالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن بعده، وذلك أن بالخلق الحاجة إلى الخبر عنه، وأن عليهم اتباعه"2.
ومثال هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقه". ويقول الشافعي: "لا أشك أن قد ورد على جميع خلفائه؛ لأنهم كانوا القائمين بأخذ العشر من الناس، ولم يحفظ عن واحد منهم فيها شيء وله أمثال كثيرة3.
834-
ثم بين الشافعي رضي الله عنه الطريقة المثلى والصحيحة لأخذ الأحكام، فيقول: وإنما العلم اللازم الكتاب والسنة، وعلى كل مسلم
1 المصدر السابق حـ7 ص245.
2 المصدر السابق حـ7 ص243.
3 الأم حـ7 ص243 - 244.
اتباعها.. فإذا لم يكن ذلك صرنا إلى أقاويل أصحاب رسول الله أو واحد منهم، ثم كان قول الأئمة: أبي بكر أوعمر أو عثمان إذا صرنا فيه إلى التقليد أحب إلينا، وذلك إذا لم نجد دلالة في الاختلاف تدل على أقرب الاختلاف من الكتاب والسنة فنتبع القول الذي معه الدلالة
…
فإذا لم يوجد عن الأئمة فأصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم من الدين في موضع أخذنا بقولهم، وكان اتباعهم أولى بنا من اتباع من بعدهم
…
والعلم طبقات شتى" ثم ذكر هذه الطبقات: الكتاب، فالسنة الثابتة، فالإجماع، فقول بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما لا يعلم لهم مخالفًا فيه منهم، فاختلافهم، فالقياس على هذه الطبقات، "ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان".. ثم التفت إلى من يقولون بعمل أهل المدينة فقال لهم: "وإنما يؤخذ العلم من أعلى، وبعض ما ذهبتم إليه خلاف هذا
…
ذهبت إلى أخذ العلم من أسفل1.
835-
وإذا وجد الكتاب أو السنة فلا نعبأ بقول الأكثرية من أهل المدينة أو الأقلية منهم، فمثلًا ذهب بعضهم إلى تحريم لبن الفحل وقلنا بترك التحريم
…
و"لا أذهب إذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء إلى أن أدعه لأكثر أو أقل مما خالفنا في لبن الفحل"2.
836-
وفي النهاية بين الشافعي مكمن الخطأ الكبير الذي وقعوا فيه -في رأيه- وهو ما وجدوه في الموطأ، وذكر قول بعضهم الدال على ذلك:"إن لنا كتابًا قد صرنا إلى اتباعه -يعني الموطأ- وفيه ذكر أن "الناس اجتمعوا" و"الأمر المجتمع عليه عندنا" و"الأمر عندنا". كما بين تناقضهم عندما يقولون ذلك، ثم يخالفون أهل المدينة،
فهي كلمات يطلقونها لا معنى لها، "فلم تكلفتموها، فما علمت قبلك أحدًا تكلم بها، وما كلمت منكم أحدًا قط فرأيته يعرف معناها، وما ينبغي لكم أن تجهلوا إذا كان يوجد فيه ما ترون".
1 الأم حـ7 ص246.
2 الأم حـ7 ص247.
837-
وكان على الشافعي مع هذه المناقشة التي فند فيها ما يقول به -أصحاب الإمام مالك- الذين قالوا بعمل أهل المدينة وبإجماعهم فتركوا بعض السنن من أجل ذلك ومنها ما يرويه مالك نفسه -كان عليه مع هذا أن يبين المسائل التي خالفوا فيها السنة تطبيقًا لقياسهم، وهذا ما عقد له كتابًا من الأم.
838-
وسنجتزئ بذكر بعض الأمثلة التي تدل على تطبيق الإمام الشافعي لما قاله أثناء تفنيد أصلهم هذا.
في "باب فوت الحج" روي عن مالك، عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار، عن ابن عباس:"أن الفضل بن العباس كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فجاءته امرأة من خثعم فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله في الحج، أدركت أبي شيخًا كبيرًا، ولا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم. وذلك في حجة الوداع"1.
وروى حديثًا آخر عن مالك، عن أيوب، عن ابن سيرين أن رجلًا جعل على نفسه ألا يبلغ أحد من ولده الحلب، فيحلب ويشرب ويسقيه إلا حج وحج معه، فبلغ رجل من ولده الذي قال الشيخ، وقد كبر الشيخ، فجاء ابنه إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر، فقال: إن أبي قد كبر، ولا يستطيع أن يحج، أفأحج عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم.
وروى حديثًا ثالثًا فقال: إن مالكًا ذكر، أو غيره، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن ابن عباس أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمي عجوز كبيرة لا تستطيع أن نركبها على البعير، وإن ربطتها خفت أن تموت، أفأحج عنها؟ قال: نعم2.
1 الموطأ ص 236 "طبعة الشعب".
2 انظر هذه الأحاديث الثلاثة في الأم حـ7 ص196.
839-
فقد ثبت -إذن- بهذه الأحاديث التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أجاز أن يحج إنسان عن آخر برواية مالك نفسه، لكن بعض أصحابه قالوا: ليس على هذا العمل مع أن مالكًا لم ينص على ذلك في الموطأ واكتفى بروايته للحديث الأول فيه.
840-
وهنا رد عليهم الشافعي بأنهم خالفوا ما رووا عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وما رواه غيرهم. وقد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما رواه غيرهم. وقد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم بن أبي طالب وابن المسيب والحسن وابن عباس. وابن شهاب وربيعة وهم بالمدينة يفتنون بأن يحج الرجل عن الرجل، "وهذا أشبه شيء يكون مثله عندكم عملًا، فتخالفونه كله لغير قول أحد من خلق الله علمته من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وجميع من عدا أهل المدينة من أهل مكة والمشرق واليمين من أهل الفقه يفتنون بأن يحج الرجل عن الرجل"1.
841-
ومن الأمثلة التي ناقشهم فيها أيضًا مسألة "العمرى" وهي أن يقول الرجل لآخر: أعمرتك داري أو أرضي أو إبلي ويقول: هي لك عمري. وتنتقل للموهوب له ولورثته من بعده.
ذهب الشافعي فيها إلى أنه لو شرط فيها شرطًا يبطل الشرط وقال مخالفوه من أهل المدينة: لا يبطل الشرط فيها، فلو شرط أن ترد له بعد وفاة الذي يعطاها جاز الشرط ولا يأخذها ورثته.
وقد روى الشافعي عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه -فإنما هي للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطى"، لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث.
ثم قال الشافعي: وبهذا نأخذ ويأخذ عامة أهل العلم في جميع الأمصار
1 الأم حـ7 ص196 - 197.
غير المدينة. وقد روي هذا مع جابر بن عبد الله زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
842-
وقد رأى هؤلاء الناس من أهل المدينة أن العمرى ترجع إلى الذي أعمرها إذا لم يقل: هي لك ولعقبك. وتركوا هذا الحديث لأن القاسم بن محمد من فقهاء المدينة قال: ما أدركت الناس إلا وهم على شروطهم في أموالهم وفيما أعطوا1.
843-
قال لهم الشافعي: أتخالفون الحديث وأنتم تروونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! إن هذه الأحاديث رواها الصادقون وإذا قبلنا خبر الصادقين -فمن روى هذا عن رسول الله أرجح ممن روى عن القاسم قولًا يخالفه
…
"لا يشك عالم أنما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى أن يقال به مما قاله أناس بعده قد يمكن ألا يكونوا سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغهم عن شيء، وإنهم لناس لا نعرفهم"2.
844-
وقد ردوا على الشافعي بأن القاسم بن محمد حينما يقول: "قال الناس" هنا فإنما يعني الجماعة من أصحاب رسول الله أو من أهل العلم الذين لا يجهلون للنبي صلى الله عليه وسلم سنة، ولا يجمعون أبدًا من جهة الرأي، ولا يجمعون إلا من جهة السنة.
845-
قال الشافعي يرد عليهم: لقد أفتى القاسم بن محمد فيمن قال لأهل زوجته: "شأنكم بها": إنها -كما قال الناس- تطليقة، وأنتم تزعمون أنها ثلاث تطليقات فإن لم يكن قول القاسم والناس هنا حجة عليكم في رأي أنفسكم لهو عن أن يكون على رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة -في العمرى مثلًا- أبعد. وإن كان حجة فقد أخطأتم بخلافكم إياه برأيكم"3.
1 انظر الموطأ ص471. وقد روى مالك الحديث وقول القاسم وما عليه أهل المدينة من عمل.
2 الأم حـ7 ص201.
3 ص214 - 237 حـ2.
846-
ونكتفي بمناقشة هؤلاء الأئمة الثلاثة الذين عاشوا في القرن الثاني الهجري موضع بحثنا، ولكننا نشير إلى أن بعض العلماء وخاصة من الظاهرية ومن أصحاب المذاهب الأربعة قد عارضوهم في أصلهم هذا وأفاضوا في مناقشتهم. ومن هؤلاء ابن حزم في كتابه الإحكام1، وابن القيم في كتابه أعلام الموقعين2.
847-
والحق أن عمل كل بلد كان له تأثير في رأي أصحابه واجتهادهم ولكنه ينبغي ألا يرجح على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان الأولى بمن قالوا بعمل أهل المدينة وإجماعهم ورجعوهما على بعض السنن أن يفعلوا كما فعل الإمام مالك رضي الله عنه، فقد أقر بالسنة وأخذ بها، وقدم عمل أهل المدينة كنوع من الخلاف ربما كان له وجه من الصواب، شأنه في ذلك شأن ما عليه أهل الأمصار الأخرى. وهذا ما جعله لا يرضى أن يحملوا على الموطأ وما فيه من رواية وعمل عندما أشار عليه أحد الخلفاء بذلك.
848-
والنتيجة الأهم من ذلك هي أننا أصبحنا على يقين من أن علماءنا -من خلال هذا المقياس أو الأصل- نظروا إلى الحديث من حيث معناه وفنه ليوثقوه بعيدًا عن إسناده، فعل ذلك الآخذون بعمل أهل المدينة إذا تعارض مع الآحاد والمنكرون على السواء، كما رأينا، وكما تجلى عند الأئمة الليث بن سعد ومحمد بن الحسن والشافعي رضوان الله عليهم أجمعين.
والآن فإلى مقياس آخر من مقاييس توثيق متن الحديث، وهو عرض أخبار الآحاد على القياس، وحقيقة الأمر في تطبيقه عند بعض العلماء.
1 ص 214 - 237 حـ2.
2 حـ2 ص294 وما بعدها.