الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
150-
وهذا العلم في الحقيقة لا يحصل بفعل المخبرين، وإنما هو من صنع الله عز وجل حيث خلق الله الناس على طباع مختلفة تبعثهم على الاختلاف والتباين، واتفاقهم بعد ذلك لا بد أن يكون بشيء خارج عن طباعهم، مثل ما ركب الله في عقولهم من الاتفاق على المتواتر من الأخبار، وفي هذا حكمة بالغة، وهي بقاء الأحكام بعد وفاة المرسلين، تنقل إليهم بالتواتر فيعملون بها، ويكونون بمنزلة من سمعوا هذه الأحكام في حياتهم. وقد ختمت النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان مبعوثًا إلى الناس كافة، وقد أمرنا بالرجوع إليه والتيقن بما يخبر به، قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 1، وهذا الخطاب لكل الناس في عصره، وفي غير عصره، والطريق في الرجوع إليه للأخيرين هو الرجوع إلى ما نقل عنه بالتواتر، وهو كالمسموع في حياته، وقد قامت الدلالة على أنه، صلى الله عليه وسلم، كان لا يتكلم إلا بالحق خصوصًا فيما يرجع إلى بيان الدين، فيثبت منه بالسماع وبالأخبار علم اليقين2.
1 النساء: 59.
2 أصول السرخسي 1/ 283، 284.
حجية خبر الآحاد:
151-
وإذا كان الذين ينكرون المتواتر والأخبار عامة قلة قليلة خالفت عامة المسلمين وجماهيرهم، وأنكرت ما هو معلوم ضرورة -فإن خطورتهم من أجل هذا لم تكن كبيرة، ولم تكن مثل خطورة من أنكروا أخبار الآحاد، فهم أكثر منهم عددًا، ولهم حجتهم التي من الممكن أن تنطلي على كثير من الناس لو تركت وشأنها ومن هنا كان جهد الشافعي أكبر من جهده السابق، وناقشهم بشيء من التفصيل وبكثير من الأدلة.
وقبل أن نعرض مناقشة الإمام الشافعي هذه فإنه يجدر بنا أن نذكر منزلة خبر الواحد عند عامة المسلمين، وإلى أي مدى هو موثق عندهم حتى يقبلوه ويبنوا عليه أحكام دينهم، كما نذكر حجة من يرفضونه ولا يثقون فيه.
152-
قال الفقهاء وكثير من المحدثين: إن خبر الواحد العدل حجة للعمل به في أمر الدين ولا يثبت به علم اليقين، يقول ابن حزم: وقال الحنفيون والشافعيون وجمهور المالكيين: إن خبر الواحد لا يوجب العلم.
ومعنى هذا عند جميعهم أنه قد يمكن أن يكون كذبًا أو موهومًا فيه وقال سائر من ذكرنا أنه يوجب العمل1.
153-
وقال بعض أهل الحديث يثبت بخبر الواحد علم اليقين، وهو مذهب أحمد بن حنبل2، وروي هذا عن مالك، رضي الله عنه3.
وقال بعض الناس لا بد فيه من عدد الشهادة ليكون حجة ومنهم من اعتبر أقصى عدد للشهادة وهو أربعة4.
وخبر الواحد عند هؤلاء جميعًا موضع ثقة، فأخذوا به في الحلال والحرام وجعلوه مصدرًا من مصادر التشريع.
منكرو خبر الواحد وحجتهم:
وقال بعض الناس: إن خبر الواحد لا يكون حجة أصلًا في الدين، فلا يوجب العلم ولا العمل، وينسب هذا الرأي إلى المعتزلة، ابتداء من القرن الثاني الهجري، كما ذكر ابن حزم في "الإحكام"، قال:"فإن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، يجري على ذلك كل فرقة فيعلمها؛ كأهل السنة والخوارج والشيعة والقدرية، حتى حدث متكلمو المعتزلة بعد المائة من التاريخ فخالفوا الإجماع في ذلك، ولقد كان عمرو بن عبيد "144هـ"، يتدين بما يروى عن الحسن ويفتي به، هذا أمر لا يجهله من له أقل علم"5.
1 الإحكام في أصول الأحكام: أبو محمد علي بن حزم الأندلسي الظاهر "456هـ". نشر زكريا علي يوسف، مطبعة العاصمة بالقاهرة 1/ 107.
2 كشف الأسرار 2/ 691، الأحكام للآمدي 2/ 32.
3 الإحكام لابن حزم 1/ 107.
4 أصول السرخسي 1/ 321.
5 الإحكام لابن حزم 1/ 102.
154-
وينسب هذا الرأي إلى الشريف المرتضى أيضًا من الشيعة "436هـ"، فهو يقول:"لا بد في الأحكام الشرعية من طريق يوصل إلى العلم ولذلك أبطلنا العمل بأخبار الآحاد؛ لأنها لا توجب علمًا ولا عملًا وأوجبنا أن يكون العمل تابعًا للعلم؛ لأن راوي خبر الواحد إذا كان عدلًا فغاية ما يقتضيه الظن بصدقه، ومن ظننت صدقه يجوز أن يكون كاذبًا"1.
155-
وحجة هذا الفريق أن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 2، وإذا كان خبر الواحد لا يوجب العلم لم يجز اتباعه، والعمل به بهذا الظاهر.
156-
وقال تعالى: {وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَق} 3، وخبر الواحد إذا لم يكن راويه معصومًا عن الكذب والغلط لا يكون حقًّا على الإطلاق، ولا يجوز القول بإيجاب العمل به في الدين.
وقال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُون} 4، وقال عز من قائل:{وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} 5، ومعنى الصدق في خبر الواحد غير موجود إلا بطريق الظن.
وخبر الواحد محتمل للصدق والكذب، وإذا كان النص الذي هو محتمل للتأويل لا يكون موجبًا للعمل بنفسه، مع أن كل واحد من الاحتمالين فيه يجوز أن يعمل به، فلأن لا يجوز العمل بما هو محتمل للكذب -مثل خبر الواحد- أولى؛ لأن الكذب باطل أصلًا6.
وإن الله سبحانه وتعالى هو صاحب الشرع، وهو موصوف بكمال القدرة، فكان قادرًا على إثبات ما شرعه بأوضح دليل، ولا ضرورة له في التجاوز عن الدليل القطعي إلى ما لا يفيد إلا الظن7.
1 أصول الفقه للمظفر 1/ 70.
2 سورة الإسراء: 36.
3 سورة النساء: 171.
4 سورة الزخرف: 86.
5 سورة النجم: 28.
6 أصول السرخسي 1/ 321.
7 كشف الأسرار 2/ 690.
مناقشة الإمام الشافعي:
والآن نعرض لما قاله الإمام الشافعي، رضي الله عنه، في توثيق خبر الواحد من حيث حجيته، ووجوب العمل به.
157-
لقد بدأ بإيراد الأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي تدل على أن خبر الواحد أقام به الرسول صلى الله عليه وسلم الحجة، وعمل المسلمون به في عهده صلى الله عليه وسلم.
1-
روى بسنده عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"نضّر اللهُ عبدًا سمع مقالتي، فحفظها، ووعاها، وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم1".
ثم قال: "فلما ندب رسول الله إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها امرأ يؤديها، والامرؤ واحد -دل على أنه لا يأمر أن يؤدي عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه؛ لأنه إنما يؤدي عنه حلال يؤتى وحرام يجتنب، وحد يقام ومال يؤخذ، ويعطى، ونصيحة في دين ودنيا2".
2-
وروى بسنده عن أبي رافع أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، مما نهيت عنه أو أمرت به، فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه"3.
1 روى هذا الحديث أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه والدارمي عن زيد بن ثابت إلا أن الترمذي وأبا داود لم يذكرا: ثلاث لا يغل عليهن إلى آخره.
نضر -نعم من النضارة وهي في الأصل حسن الوجه والبريق، إنما أراد حسن خلقه وقدره يغل من الغل وهو الحقد يغل من الإغلال وهو الخيانة، والمراد أن المؤمن لا يخون في هذه الثلاثة ولا يدخله ضغن يزيله عن الحق حين يفعل شيئًا من ذلك والمعنى:"أن هذه الخلال يستصلح بها القلوب فمن تمسك بها طهر قلبه من الدغل والفساد". تحيط بهم من ورائهم: أي تحدق بهم من جميع جوانبهم. "تحقيق الأستاذ أحمد شاكر للرسالة ص401-402".
2 الرسالة ص401-402.
3 سبق تخريج هذا الحديث ص24 من هذا البحث، وانظر تحقيق أحمد شاكر للرسالة ص89-91.
ويقول الشافعي: إن في هذا تثبيت الخبر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأنه لازم للمسلمين أن يعملوا به، حتى وإن كان ما جاء به من الحكم ليس منصوصًا عليه في كتاب الله عز وجل1.
3-
روى بسنده عن عطاء بن يسار "أن رجلًا قبّل امرأته وهو صائم، فوجد من ذلك وجدًا شديدًا، فأرسل امرأته تسأل عن ذلك، فدخلت على أم سلمة، أم المؤمنين فأخبرتها؟ فقالت أم سلمة: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم يُقبل وهو صائم، فرجعت المرأة إلى زوجها فأخبرته، فزاده ذلك شرًّا، وقال: لسنا مثل رسول الله، يحل الله لرسوله ما شاء، فرجعت المرأة إلى أم سلمة، فوجدت رسول الله عندها. فقال رسول الله: ما بال هذه المرأة؟. فأخبرته أم سلمة. فقال: ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك؟ فقالت أم سلمة: قد أخبرتها، فذهبت إلى زوجها، فأخبرته، فزاده ذلك شرًّا، وقال: لسنا مثل رسول الله، يحل الله لرسوله ما شاء. فغضب رسول الله، ثم قال: والله إني لأتقاكم ولأعلمكم بحدوده"2.
ويبين الشافعي وجه استدلاله بهذا الحديث فيقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما سأل أم سلمة بإخبارها عن فعله، صلى الله عليه وسلم، كان في ذلك دليل على أن خبر أم سلمة عنه مما يجوز قبوله؛ لأنه لا يسألها ذلك إلا وفي خبرها الحجة على من أخبرته. وهكذا خبر المرأة إن كانت من أهل الصدق عنده3.
4-
إن أهل قباء حولوا قبلتهم من الشام إلى الكعبة بخبر واحد؛ روى الشافعي بسنده عن ابن عمر قال: "بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ أتاهم آت، فقال: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد أنزل عليه قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة4".
1 الرسالة ص403-404.
2 المصدر السابق ص404-405، والحديث في المرطأ ص195، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 166-167 "ورجاله رجال الصحيح".
3 الرسالة ص404-406.
4 هذا الحديث في الموطأ رواية يحيى ص138.
ويبين وجه الاستدلال بهذا الخبر، فيقول: إن أهل قباء من سابقي الأنصار، وأهل فقه، وقد كانوا يستقبلون قبلة فرضها الله عليهم، ولم يكونوا بتاركي هذا الفرض إلا بما تقوم به الحجة
…
وكان ذلك بخبر الواحد -كما رأينا في هذا الحديث- ولم ينتظروا أن يسمعوا ذلك من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أو ينقل إليهم هذا الخبر عامة الناس، فيكون متواترًا. كما أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم ينكر عليهم ما فعلوا، ولو كان يرى أن خبر الواحد لا تقوم به الحجة"، لقال لهم: إن شاء الله-: "قد كنتم على قبلة، ولم يكن لكم تركها إلا بعد علم تقوم به عليكم حجة، من سماعكم مني، أو خبر عامة، أو أكثر من خبر واحد عني"1.
5-
وامتنع بعض الصحابة من شرب الخمر بعدما أتاهم آت وأخبرهم بتحريمها، فروى الشافعي بسنده عن أنس بن مالك قال:"كنت أسقي أبا طلحة، وأبا عبيدة بن الجراح، وأبي بن كعب شرابًا، من فضيخ وتمر، فجاءهم آت، فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها فقمت إلى مهراس لنا، فضربتها بأسفله، حتى تكسرت2".
ولم يقل أحد من الموجودين نحن على تحليلها؛ حتى نلقى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مع قربه منا، أو يأتينا خبر عامة، وإنما قبلوا خبر الواحد هذا3.
6-
وأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم أنيسًا أن يغدو على امرأة رجل، ذكر أنها زنت، "فإن اعترفت فارجمها"، فاعترفت فرجمها4.
ولو لم تقم الحجة بخبر الواحد ما اكتفى بأن يكلف واحدًا بالقيام بهذا الذي كلف به أنيسًا5.
1 الرسالة ص408.
2 الحديث في الموطأ ص528 مع خلاف قليل في بعض الحروف. الفضيخ هو شراب يتخذ من البسر المفضوخ أي المشذوخ. والمهراس: حجر مستطيل منقور يتوضأ منه ويدق فيه.
3 الرسالة ص409، 410.
4 مسند أحمد 4/ 115.
5 الرسالة ص410، 411.
7-
وأرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أيام الحج، فجاء الناس بمنى، فبلغهم أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقول لهم:"إن هذه أيام طعام وشراب، فلا يصومن أحد"1.
ووجه الاستدلال أن رسول الله لا يبعث بنهيه واحدًا صادقًا إلا لزم خبره عن النبي، خاصة، وقد كان قادرًا على أن يذهب إلى هؤلاء الناس، فيشافههم، وقد كان قادرًا أيضًا على أن يبعث إليهم عددًا، "فبعث واحدًا يعرفونه بالصدق، وهو لا يبعث بأمره إلا والحجة للمبعوث إليهم وعليهم قائمة بقبول خبره عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم2". وكان هذا أولى بالأجيال التي تأتي بعده، صلى اللهعليه وسلم، ممن لا يمكنهم ما أمكن أصحابه3.
8-
وفي الحج أيضًا بعث، صلى الله عليه وسلم، رسوله إلى الناس ليقول لهم: إنه يأمرهم أن يقفوا على مشاعرهم؛ لأنهم على إرث من إرث أبيهم إبراهيم عليه السلام4.
9-
وبعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبا بكر أميرًا على الحج في سنة تسع، وحضر الحجاج من أهل البلدان المختلفة، فأقام لهم مناسكهم، "وأخبرهم عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بما لهم وما عليهم5".
1 يقول أحمد شاكر: إسناد هذا الحديث صحيح جدًّا، ولم أجده في غير كتاب الرسالة إلا أن الشوكاني أشار إليه في نيل الأوطار: 4/ 352 ونسبه لابن يونس في تاريخ مصر، ولم يشر الترمذي إليه فيما يقول فيه:"وفي الباب". "تحقيق الرسالة ص412".
2 الرسالة ص411، 412.
3 المصدر السابق ص413.
4 هذا الحديث رواه أبو داود 2-133-134 والترمذي 2-99-100 من تحفة الأحوذي، والنسائي 2-45، وابن ماجه 2-123، والحاكم 1-462 والبيهقي في السنن الكبرى 5-115 "تحقيق الرسالة ص114".
5 البخاري طبعة الشعب 6-81.
كما بعث علي بن أبي طالب في تلك السنة إليهم، فقرأ عليهم يوم النحر آيات من سورة "براءة"، ونبذ إلى قوم على سواء، وجعل لهم مددًا، ونهاهم عن أمور1.
فكان أبو بكر وعلي معروفين عند أهل مكة بالفضل والدين والصدق، وكان من جهلهما أو أحدهما من الحاج وجد من يخبره عن صدقهما وفضلهما، ولم يكن رسول الله، صلى الله عليه وسلم ليبعث واحدًا إلا والحجة قائمة بخبره على من بعثه إليه - إن شاء الله تعالى2.
10-
وقد بعث النبي، صلى الله عليه وسلم عماله إلى النواحي يعلمون الناس أمور دينهم، ويأخذون منهم حقوق الله في الأموال3.
ولم يقل من بعثوا إليهم ليس لكم أن تأخذوا منا ما لم نسمع رسلول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أنه علينا. وهذا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى أن الحجة تقوم بمثلهم على من بعثهم إليهم، وعلم هؤلاء ذلك فأطاعوهم4.
11-
ومثل هذا أمراء السرايا الذين أمّرهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم على الجيوش، وكلهم حاكم فيما بعثه فيه، "لأن عليهم أن يدعوا من لم تبلغه الدعوة، ويقاتلوا من حل قتاله5".
وقد كان يمكنه، صلى الله عليه وسلم، أن يبعث بدل الواحد اثنين وثلاثة وأربعة وأكثر. وقد بعث، صلى الله عليه وسلم اثني عشر رسولًا في وقت واحد إلى اثني عشر ملكًا، ولم يبعثهم إلا إلى من قد بلغته الدعوة وقامت عليه الحجة فيها.
1 البخاري طبعة الشعب 6/ 81.
2 الرسالة ص 414، 415.
3 انظر التراتيب الإدارية: عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني. نشر حسن جعنا. بيروت 1 - 240 - 247.
4 الرسالة ص415 - 417.
5 الرسالة ص417 وانظر التراتيب الإدارية 1 - 314.
ولم تزل كتب رسول الله، صلى الله عليه وسلم تنفذ إلى ولاته بالأمر والنهي على يد رسول صادق، ولم يترك أحد من ولاته أمره، صلى الله عليه وسلم، أو نهيه عندئذ1.
12-
وقد كانت كتب خلفائه، صلى الله عليه وسلم، مثل كتبه، وعمالها مثل عماله وأجمع المسلمون على ذلك2.
ثم أعقب الإمام الشافعي ذلك بقوله: "ففيما وصفت من سنة رسول الله ثم ما أجمع المسلمون عليه منه - دلالة على فرق بين الشهادة والخبر والحكم3".
وكأنه يرد بذلك على من يقولون: إن خبر الواحد لا يكون حجة إلا إذا اعتبر فيه عدد الشهادة4.
158-
وبعد أن ساق هذه الأخبار لتثبيت خبر الواحد، وإثبات كونه حجة انتقل إلى لون آخر من الاستدلال، فقال: إن خبر الواحد نعمل به في حياتنا فيما لا يقل عن الأحاديث التي يرويها الآحاد من الرواة، وذلك أننا نرى القاضي يقضي على الرجل للرجل بحكم من الأحكام
…
هذا الحكم في حقيقته إنما هو خبر يخبر به القاضي عن بينه تثبت عنده، أو إقرار من الخصم، ثم ينفذ هذا الحكم
…
إن هذا في معنى المخبر بحلال وحرام وبعبارة أخرى في معنى راوي السنة أو الأحاديث5.
159-
ثم يرد الإمام الشافعي على من يقولون: إن من علامة الضعف في خبر الواحد ترك البعض الأئمة له، فيقول:
1 الرسالة ص418 -420 - وانظر عن العمال والكتب التي حملوها كتابًا هامًّا في هذا الموضوع وهو: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة جمع د. محمد حميد الله، دار الإرشاد - بيروت، الطبعة الثالثة 1389هـ - 1969م. القسم الثاني: العهد النبوي عبد الهجرة من ص 37 - 309.
2 مجموعة الوثائق السياسية: القسم الثالث: الخلافة الراشدة 311 - 404 والرسالة ص419 - 420.
3 الرسالة ص 420.
4 انظر ص: 83 من هذا البحث.
5 الرسالة ص 420، 421.
إن خبر الواحد ثابت على كل حال، حتى لو عمل بغيره أحد الأئمة، أو لم يمض عمل من الأئمة بمثله؛ لأن كل هذا يحدث، حين يجهلون بعض الأخبار، وعندما يصلهم علم بهذه الأخبار؛ فإنهم يتمسكون بها ولا يحيدون عنها.
160-
فعمر رضي الله عنه قاس على خبر من الأخبار حين قضى في دية الأصابع، في الإبهام بخمس عشرة، وفي كل من السبابة والوسطى بعشر وفي التي تلي الخنصر بتسع وفي الخنصر بست، لقد رأى أن النبي صلى الله عليه وسلم، قضى في اليد بخمسين، ففرقها على الأصابع بأقدار مختلفة لأنها مختلفة1.
161-
ولكن وجد كتاب عمرو بن حزم، وثبت أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه:"وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل" - فصاروا إليه، وترك قول عمر، رضي الله عنه2.
162-
ويوضح الإمام الشافعي رضي الله عنه أن هنا أكثر من دلالة:
1-
قبول خبر الواحد في الوقت الذي ثبت فيه، وإن لم يمض عمل من الأئمة بمثل الخبر الذي قبلوا.
2-
أنه لو مضى عمل من أحد الأئمة، ثم وجد خبر عن النبي، صلى الله عليه وسلم يخالفه ترك هذا العمل إلى خبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
1 القياس هنا، كما يقول الأستاذ أحمد شاكر: المراد به الاستنباط المبني على التعليل، ولا يريد به القياس الاصطلاحي "تحقيق الرسالة ص422".
2 الرسالة ص422، 423 - ويقول الأستاذ أحمد شاكر:"وأما كتاب آل عمرو ابن حزم، فإنه كتاب جليل، كتبه النبي، صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن وأرسله مع عمرو بن حزم، ثم وجد عند بعض آله، رووه عنه، وأخذه الناس عنهم، وقد تكلم العلماء طويلًا في اتصال إسناده وانقطاعه، والراجح عندنا أنه متصل صحيح.. وساقه الحاكم مطولًا في المستدرك 1/ 153، 158""تحقيق الرسالة ص423".
وانظر النصوص الكاملة لهذا الكتاب والاختلاف بين الروايات فيه في "مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة ص173 - 178.
3-
أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
، يثبت بنفسه لا بعمل غيره بعده1.
162-
وإذا كان عمر، رضي الله عنه، لم يبلغه هذا الخبر، فلم يصر إليه -فإنه في بعض الحالات وصله الخبر بخلاف ما أفتى، فرجع عن فتياه إلى خبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فعن سعيد بن المسيب:"أن عمر ابن الخطاب كان يقول: الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئًا". حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته، فرجع إليه عمر2.
164-
وفي بعض الأوقات يجمع الصحابة ليبحث عندهم عن حديث يقضي به فيما عنده من مشكلات، ولا يبيح لنفسه أن يقضي فيها برأيه عندما يجد حديثًا في موضوعها عن الصحابة، رضوان الله عليه وعليهم
…
عن طاوس: "أن عمر قال: أذكِّر الله امرأ سمع من النبي في الجنين شيئًا، فقام حمل بن مالك بن النابغة، فقال: كنت بين جارتين لي -يعني ضرتين- فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، فألقت جنينًا ميتًا، فقضى فيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم بغرة، فقال عمر: لو لم أسمع فيه لقضينا بغيره3.
165-
وأيضًا لم يكن عمر، رضي الله عنه، يأخذ الجزية من المجوس، حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أخذها من مجوس هجر، وقال: أشهد لسمعت رسول الله يقول: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب"4.
1 الرسالة ص423، 424.
2 الرسالة ص425، 426. وهذا الحديث رواه أحمد في المسند 3/ 452، وأبو داود 3/ 90 والترمذي 3/ 184 من تحفه الأحوذي، وابن ماجه 2/ 74 وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". "تحقيق الرسالة ص 426".
3 المصدر السابق ص426 - 427. وإسناد هذا الحديث هنا مرسل ولكن رواه أحمد 4 - 79 - 80 بإسناد متصل صحيح. المسطح: عود من أعواد الخباء والفسطاط. والغرة: كما يفهم من كلام ابن الأثير في النهاية مقابل الدية للكبيرة وتكون في الجنين إذا سقط ميتًا.
4 الحديث رواه مالك في الموطأ 1/ 264. وقال ابن عبد البر: هذا منقطع
…
إلا أن معناه متصل من وجوه حسان، وقد روى الشافعي حديثًا بعده متصلًا في معناه "تحقيق الرسالة ص 430".
قَبِل عمر رضي الله عنه هذا في الوقت الذي يعرف فيه أن القرآن الكريم يقول: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 1 ويأمر بقتال الكافرين حتى يسلموا، فهم عنده من الكافرين، لأنه لا يعرف فيهم شيئًا عن النبي، صلى الله عليه وسلم؛ لكنه أتاه خبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس، فاتبعه، وترك عمله وفهمه، وذهب إلى خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم2.
166-
ثم ثنّى الإمام الشافعي بالرد على من يقولون بالعدد في قبول خبر الواحد، وقد يستدلون بطلب عمر راويًا آخر مع رجل أخبره خبرًا عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيقول: إن عمر، رضي الله عنه لا يفعل هذا إلا لأحد أسباب ثلاثة:
1-
إما للحيطة فقط، وإن كانت الحجة تثبت بخبر الواحد عنده، فخبر الاثنين يزيدها ثبوتًا، وهذا مثل ما نراه عند القاضي، فقد يثبت عنده الشاهدان العدلان والثلاثة، فيقول للمشهود له: زدني شهودًا، وإنما يريد بذلك الحيطة والتأكد والاطمئنان النفسي.. لكنه -لو لم يزده المشهود له لحكم له بالشاهدين؛ لأن الحجة تقوم بهما.
2-
وربما طلب مخبرًا آخر؛ لأنه لا يعرف الأول، فيقف في خبره حتى يأتي مخبر آخر يعرفه: وهذا هو الواجب، فلا يقبل الخبر إلا عن معروف، حتى يمكن الوقوف على الصفات التي يقبل بها خبر الراوي.
3-
ويحتمل أن الذي أخبره ليس بمقبول القول عنده، فيرده، حتى يجد غيره ممن يقبل قوله3.
167-
وكل الأخبار التي رويت عن عمر ترجع إلى أحد هذه الأسباب:
1 سورة التوبة: 29.
2 الرسالة ص428 - 432.
3 الرسالة ص432 - 434.
فعندما أخبره أبو موسى الأشعري عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم أن الاستئذان ثلاث مرات، ثم يرجع الزائر إذا لم يؤذن له -طلب آخر يخبره بذلك، وقد صرح في بعض الروايات بأن هذا للحيطة، حيث قال:"أما إني لم أتهمك، ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله، صلى الله عليه وسلم".
168-
وإذا كانت الرواية التي يصرح فيها عمر بأنه لم يتهم أبا موسى الأشعري، كما روى الشافعي، منقطعة1، فإن المعقول يقويها، لأن عمر في غير هذا الخبر قبل خبر الواحد، ولا يجوز على إمام عاقل أن يقبل خبر الواحد مرة، وهو يعلم أنه تقوم به الحجة، ثم يرد مثله مرة أخرى إلا لسبب آخر مثل زيادة الاحتياط وتعليم الناس ذلك، كما هنا2.
169-
وفي القرآن الكريم دليل على أن الحجة على الخلق تقوم بالواحد من الرسل، ومع هذا، وزيادة في تأكيد الحجة على القوم الذين أرسل إليهم الرسل -قد يرسل الله عز وجل أكثر من رسول، قال تعالى:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} 3. عقب الإمام فكذبوهما، فعززنا بثالث، فقالوا: إنا إليكم مرسلون3". عقب الإمام الشافعي على هذا بقوله: "فظاهر الحجج عليهم باثنين، ثم ثالث وكذا أقام الحجة على الأمم بواحد، وليس الزيادة في التأكيد مانعة أن تقوم الحجة بالواحد4".
1 الحديث هكذا رواه منقطعًا: الموطأ طبعة الشعب ص597. رواه البخاري 3/ 72 ومسلم 4/ 859 - 862 بشرح النووي وكلاهما رواه متصلًا دون قول عمر: "أما إني لم أتهمك
…
إلخ" وقد جاءت رواية عند مسلم تتضمن هذا المعنى، إذ تقول: إن أبي بن كعب قال لعمر: "يا ابن الخطاب، فلا تكونن عذابًا على أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: سبحان الله! إنما سمعت شيئًا فأحببت أن أتثبت ص862.
يقول النووي في شرح هذا الحديث: "ومما يدل على أن عمر لم يرد خبر أبي موسى لكونه خبر واحد أنه طلب منه إخبار رجل آخر، حتى يعمل بالحديث، ومعلوم أن خبر الاثنين خبر واحد، وكذا ما زاد حتى يبلغ التواتر فلما لم يبلغ التواتر فهو خبر واحد""شرح مسلم جـ4 ص860".
2 الرسالة ص 435.
3 سورة يس: 13، 14.
4 الرسالة: 432 - 438.
170-
وإذا ثبت أن الواحد يقبل خبره، وليس ذلك في الشهادة، مما يرد على الذين يشترطون العدد في الأخبار كالشهادة -فإنما يرد عليهم أيضًا أن المسلمين قبلوا خبر المرأة فيما لا يكتفى فيه بالمرأة في الشهادات، فقد روت الفريعة بنت مالك بن سنان: "أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، تسأله أن ترجع إلى أهلها، في بني خدرة1، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له، حتى إذا كان بطرف القدوم2 لحقهم فقتلوه، فسألت رسول الله أن أرجع إلى أهلي، فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه، قالت: فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: نعم، فانصرفت، حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني، أو أمر بي، فدعيت له، فقال: كيف قلت؟. فرددت عليه القصة، التي ذكرت له من شأن زوجي، فقال لي: امكثي في بيتك، حتى يبلغ الكتاب أجله، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرًا، فلما كان عثمان أرسل إلي، فسألني عن ذلك؟. فأخبرته فاتبعه، وقضى به3.
171-
فعثمان رضي الله عنه في إمامته وعلمه، قضى بخبر امرأة بين المهاجرين والأنصار4.
وفعل زيد بن ثابت، رضي الله عنه، مثل ما فعل عثمان، رضي الله عنه، فقد كان يرى أن النهي عن صدور الحاج حتى يكون آخر عهده بالبيت -عام، حتى سمع ابن عباس، رضي الله عنهما، يفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت، فأنكر عليه ذلك، فأحاله ابن عباس إلى صحابية من الأنصار، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يستند إليه ابن عباس في فتواه، فسألها زيد، فأخبرته، فرجع يقول بما يقول به ابن عباس. وأساس هذا كما نرى رواية امرأة5.
1 قبيلة من الأنصار.
2 مكان على بعد ستة أميال من المدينة.
3 رواه مالك في الموطأ ص365، وأحمد في المسند 6/ 370، 420 - 421.
4 الرسالة ص 438 - 439.
5 الرسالة ص 438 - 442. وهذا الخبر في المسند 1/ 226، 348.
172-
وفي موقف الصحابة الآخرين ما يبين لنا بجلاء -أنهم قبلوا خبر الواحد، ورجعوا إليه، وعارضوا ما يخالفه، فابن عباس، رضي الله عنه خطأ رجلًا قال: إن موسى، صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل. ورد عليه بخبر أبي بن كعب عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذي يقول: إن موسى صاحب الخضر عليه السلام هو موسى بني إسرائيل1. وسأل طاوس ابن عباس عن الركعتين بعد العصر؟ فنهاه عنهما. قال طاوس: فقلت له: ما أدعهما!. وهنا بدا لابن عباس أنه يخالف سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فتلا له قوله عز ذكره:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا} 2. "فرأى ابن عباس الحجة قائمة على طاوس بخبره عن النبي، صلى الله عليه وسلم3"
…
وكان ابن عمر يرى المخابرة جائزة، وينتفع بها، حتى أخبره واحد لا يتهمه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نهى عنها فتركها، ولم يستعمل رأيه مع ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم4.
173-
ويلفت الشافعي النظر هنا إلى أن عمل بعض الصحابة بخلاف الخبر لا يضعفه، وبهذا يرد على من اتخذوا هذا مقياسًا لعدم صحة الخبر، ولا يثبتونه عندئذ، فيقول:"وفي هذا ما يبين أن العمل بالشيء بعد النبي، صلى الله عليه وسلم، إذا لم يكن بخبر عن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يوهن الخبر عن النبي عليه السلام5".
1 الرسالة ص 442، 443 البخاري 1/ 35، 36، 1/ 194 - 197 من فتح الباري، ومسلم 2/ 227.
2 سورة الأحزاب: 36.
3 الرسالة 443 - 444، وقد نقل السيوطي هذا الحديث في الدر المنثور 5/ 201 ونسبة لعبد الرزاق وابن أبي حاتم وابن مردوية والبيهقي.
4 المخابرة: هي مزارعة الأرض بجزء مما يخرج منها. وقد روى أحمد أحاديث فيها. المسند 3/ 304، 313.
5 الرسالة ص 445، 446.
174-
ورأى أبو الدرداء معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنه باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا، وقال معاوية: ما أرى بهذه بأسًا
…
فلم يعجب أبا الدرداء أن يرد معاوية خبر رسول الله، وقال: من يعذرني من معاوية، أخبره عن رسول الله، ويخبرني عن رأيه! لا أساكنك بأرض، "فرأى أبو الدرداء أن الحجة تقوم على معاوية بخبره، ولما لم ير ذلك معاوية فارق أبو الدرداء الأرض الذي هو بها، إعظامًا لأن ترك خبر ثقة عن النبي"1.
وفعل مثل هذا أبو سعيد الخدري حين لقي رجلًا، فأخبره عن رسول الله شيئًا، فذكر الرجل ما يخالفه، فقال أبو سعيد:"والله لا أواني وإياك سقف بيت أبدًا".
175-
وإذا تركنا الصحابة إلى التابعين وجدنا الأمر كذلك، يتمسكون بخبر الواحد ويرجعون إليه، وإن خالف رأيًا رأوه أو فتيًا أفتوا بها.
فعمر بن عبد العزيز قضى برد عبد ظهر فيه عيب وغلته، فأخبره عروة أن عائشة أخبرته أن رسول الله قضى في مثل هذا أن "الخراج بالضمان3"، أي لا يرد غلة العبد، لأنها مستحقة بسبب ضمان المشتري له، فرجع عن قضائه الأول إلى خبر الواحد هذا، وقال:"فما أيسر علي من قضاء قضيته، الله يعلم أني لم أرد فيه إلا الحق، فبلغتني فيه سنة عن رسول الله، فأرد قضاء عمر، وأنفذ سنة رسول الله4".
176-
وقضى سعد بن إبراهيم على رجل في قضية برأي ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فأخبره ابن أبي ذئب بخلاف، ما قضى به، فقال سعد
1 الرسالة ص446، 44.
2 المصدر السابق ص447.
3 قال الأستاذ أحمد شاكر بعد دراسة طرق هذا الحديث المختلفة: الحديث صححه الحاكم 2/ 15 ووافقه الذهبي والترمذي
…
فظهرت صحة الحديث بينة، تحقيق الرسالة ص449، 450".
4 الرسالة ص448، 449.
لربيعة: هذا ابن أبي ذئب، وهو عندي ثقة، يخبرني عن النبي بخلاف ما قضيت به؟
…
فرأى ربيعة أنه قد مضى حكمه باجتهاد، وأنه لا داعي لأن يرجع فيه، فرد عليه سعد: واعجبًا! !. أنفذ قضاء سعد بن أم سعد، وأراد قضاء رسول الله؟!. بل أرد قضاء سعد بن أم سعد، وأنفذ قضاء رسول الله، فدعا سعد بكتاب القضية، فمزقه، وقضى بالخبر الذي رواه له ابن أبي ذئب1.
177-
وعلى الرغم من أن الإمام الشافعي رضي الله عنه قد أفاض في تثبيت خبر الواحد، وتوثيقه -كما رأينا- فإنه يقول: إن هناك أحاديث أخرى كثيرة تثبت أن خبر الواحد حجة إلا أنه اكتفى بذلك منها2.
وأجمل بعد هذا قبول علماء الأمصار لخبر الواحد، ثم قال: إنه لو جاز لأحد من الناس أن يقول في خبر "الخاصة": أجمع المسلمون قديمًا وحديثًا على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه، بسبب أنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحدًا إلا وقد ثبته -لو جاز لأحد ذلك لجاز له
…
ولكنه يصوغ القضية صياغة واقعية يقول: "ولكني أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد، بما وصفت من أن ذلك موجودًا3 على كلهم4".
178-
وفي نهاية المطاف فرق الإمام الشافعي بين حجية المتواتر، أو خبر العامة وبين حجية خبر الواحد، فقال: إن العذر مقطوع في الواقع فلا يسع أحدًا من المسلمين الشك فيه، كما لا يسعه الشك في القرآن؛ لأن كلاهما نقل على درجة واحدة وهي التواتر، وعلى هذا فالذي يمتنع عن قبوله يستتاب.
1 الرسالة ص 450، 453.
2 المصدر السابق والصفحة.
3 قال الأستاذ أحمد شاكر في التحقيق:
هكذا هو بالنصب في الأصل بإثبات الألف ومعها فتحتان، وهو جائز على قلة على لغة من ينصب معمولي أن، وفي سائر النسخ بالرفع كالمعتاد "تحقيق الرسالة ص 458".
4 الرسالة ص 453 - 458.
179-
أما خبر الآحاد أو خبر الخاصة -كما يعبر الشافعي- فالحجة فيه قائمة، ولازم للمسلمين أن يعملوا به، كما يلزمهم أن يقبلوا شهادة العدول
…
ولكنه دون نص كتاب الله وخبر العامة، بحيث لو شك فيه شاك لمنقل له: تب، "وقلنا ليس لك -إن كنت عالمًا- أن تشك، كما ليس لك إلا أن تقضي بشهادة الشهود العدول، وإن أمكن فيهم الغلط، ولكن تقضي بذلك على الظاهر من صدقهم، والله ولي ما غاب عنك منهم1".
180-
وعلى الرغم من هذه الإفاضة فإننا نلاحظ أن أكثر من أورده -إن لم يكن كله- يعتمد على خبر الواحد الذي ينكره الخصم، ومع هذا فيبدو أن الذين كان يجادلهم الشافعي يعرفون تلك الأخبار، ويسلمون بها، أو كما يقول السرخسي معتذرًا عن إيراد عيسى بن أبان "220هـ". لها أيضًا: إنما استدل بها؛ لكونها مشهورة في حيز التواتر2، ويقول البخاري صاحب كشف الأسرار: إن هذه الأخبار، وإن كانت أخبار آحاد لكنها متواترة من جهة المعنى، كالأخبار الواردة بسخاء حاتم، وشجاعة علي فلا يكون لقائل أن يقول: ما ذكرتموه في إثبات كون خبر الواحد حجة هي أخبار آحاد3.
جهود أخرى:
ومن الإنصاف أن نقول: إنه لم يكن الشافعي وحده في ميدان المدافعين عن خبر الواحد، وإنما كان معه في عصره أئمة دافعوا عن السنة ضد هؤلاء المهاجمين لها أو التاركين، ويهمنا أن نشير في هذا الصدد إلى جهود مدرسة الأحناف، فقد ذكر السرخسي أن الإمام محمد بن الحسن الشيباني ذكر دفاعه في كتاب "الاستحسان"، كما ذكر عيسى بن أبان كثيرًا من الأدلة التي تثبت حجية خبر الواحد، ووجوب العمل به4.
1 الرسالة: 460، 461.
2 أصول السرخسي جـ1 ص328.
3 كشف الأسرار جـ2 ص695.
4 أصول السرخسي جـ1 ص328 - أصول البزدوي "في الإشارة إلى أدلة محمد" جـ2 ص694.
181-
ويكفينا عن إيراد هذه الأدلة ما ذكره الإمام الشافعي، ولكننا نذكر هنا ما أورده السرخسي من مناقشة عقلية بعيدة عن تلك الآثار -استكمالا لصورة الدفاع، وعرضًا لجانب هام من جوانبه الذي قدمه الأحناف ولا يبعد أن يكون أصوليوهم قد نقلوه عنهم.
182-
لم يهتم السرخسي إذن بإيراد الآثار التي أوردها الشافعي وعيسى ابن أبان؛ أولًا لشهرتها
…
وثانيًا لأن الخصوم -كما قلنا- سيقولون: كيف يحتجون على وجوب العمل بخبر الواحد من الأخبار، وهو نفس الخلاف1؟ ولهذا فقد اتجه اتجاهًا آخر هو ما نبينه هنا:
1-
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} 2 الآية الكريمة. وقال جل شأنه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَه} 3، ففي هاتين الآيتين نهى كل واحد عن الكتمان، وأمر بالبيان والتبيلغ؛ لأن الحكم في الجمع المضاف إلى جماعة يتناول كل واحد منهم؛ ولأن أخذ الميثاق من أصل الدين، والخطاب للجماعة فيما هو أصل الدين يتناول كل واحد من الآحاد، وهذا يقتضي من المبلغ القبول والعمل بما جاء به المبلغ أو المخبر. "فكل واحد إنما يخاطب بما في وسعه، ولو لم يكن خبره حجة لما أمر ببيان العلم4".
وإذا كان الفاسق يدخل في هذين النصين، فإنه مخصوص منهما بنص آخر، وهو قوله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 6 ففيه أمر بالتوقف في خبر الفاسق5.
وقال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
1 أصول السرخسي جـ1 ص138.
2 البقرة: 159.
3 آل عمران: 187.
4 أصول البزدوي جـ2 ص691.
5 الحجرات: 6.
6 أصول السرخسي 1/ 322.
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} ، والفرقة اسم للثلاثة فصاعدًا، والطائفة من الفرقة بعضهما، وهو الواحد أو الاثنان، فيثقفه الواحد، ويحذر قومه بالإنذار، ويلزمهم ذلك وهذا لا يكون إلا لأن خبر الواحد حجة.
وإذا كان المتقدمون قد اختلفوا في تفسير الطائفة، فقال بعضهم: تطلق على الواحد، وقال بعضهم: تطلق على الاثنين، وقال آخرون: تطلق على العشرة -فإن أحدًا لم يقل إنها تطلق على ما يزيد على العشرة، ومعلوم أن خبر العشرة وإنذارهم يحتمل الكذب، "فعرفنا أنه لا يشترط لوجوب العمل كون المخبر بحيث لا يبقى في خبره تهمة الكذب"، وهو ما يحتج به منكرو خبر الآحاد.
ولا يقال: هذا خطاب لجميع الطوائف بالإنذار، وهم يبلغون حد التواتر، فيكون خبرهم مستفيضًا مشتهرًا -لا يقال هذا؛ لأن الجمع المضاف إلى جماعة- كما قلنا: يتناول كل واحد منهم. وفي قوله تعالى: {إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِم} ؛ ما يدل على أن ذلك يتحقق بالواحد؛ لأن الرجوع إنما يتحقق لمن كان خارجًا عن القوم، ثم صار قادمًا عليهم وإتيان جميع الطوائف إلى قوم لا يكون رجوعًا إليهم.
على أن هذا لو كان شرطًا لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، وكلفهم أن يفعلوه ولو فعلوه لاشتهر، ولكن لم ينقل من الآثار ما يدل على ذلك.
وأيضًا فلو سلمنا بما تقولون فالذين يتحقق بهم الإنذار على الطوائف كلها لا ينقطع توهم الكذب على خبرهم؛ لاحتمال التواطؤ فيما بينهم، فكان الاستدلال قائمًا.
وقد يقال: إن إنذار الطائفة ليس معناه إلزام المبلغين بالقبول؛ بل المقصود أن يشتهر ذلك، وعند الاشتهار تنتفي تهمة الكذب، فتصير حجة عندئذ، وذلك بمنزلة الشاهد الواحد، فإنه مأمور بالشهادة وإن
كان العمل بشهادته لا يجب ما لم ينضم إليه شاهد آخر، وتظهر عدالته بالتزكية.
ويرد السرخسي على هذا الاعتراض بأن الشاهد الواحد ليس عليه أداء الشهادة إذا كان وحده -كما يدعي هؤلاء- لأن شهادته لا تنفع المدعي فلو لم يكن خبر الواحد حجة وواجب العمل به هنا لما وجب الإنذار بما سمع، وهذا بخلاف الشاهد إذا كان وحده.
وإذا ثبت بالنص أنه مأمور بالإنذار، فإنه يجب القبول منه؛ لأنه في هذا بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان مأمورًا بالإنذار، وكان قوله ملزمًا للسامعين، وقد بين الله عز وجل في النص حكم القبول والعمل به في قوله سبحانه وتعالى:{لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} أي: لكي يحذروا عن الرد والامتناع عن العمل بعد لزوم الحجة إياهم بخبر الواحد1.
2-
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} ، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، الرسالة بلا خلاف، وهو صلى الله عليه وسلم، لم يأت كل واحد بنفسه فشافهه، ولكنه بلغ قومًا بنفسه وآخرين برسول من رسله وآخرين بكتاب من كتبه
…
فلو لم يكن خبر الواحد حجة لما كان مبلغًا رسالة ربه بهذا الطريق إلى الناس كافة، وعندما فتحت بلدان نائية في عهده صلى الله عليه وسلم، أرسل إلى كل بلد عاملًا عن عماله، ولو لم يكن خبر الواحد حجة في أمور الدين لما اكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا العامل أو ذاك.
وكذلك النساء في البيوت على عهده، صلى الله عليه وسلم، إنما كانت تبلغهن أمور الدعوة، وهن مخدرات في بيوتهن بإخبار أزواجهن الذين كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يبلغونهن ويعلمونهن ولو لم يكن خبر الواحد حجة لأمرهن الرسول، صلوات الله وسلامه عليه
1 أصول السرخسي: 1/ 322 - 324.
2 سبأ: 28.
بالذهاب دائمًا إليه والسماع منه، ولكن ذلك لم يحدث؛ لأنه لو حدث لاشتهر1.
3-
ونحن نعلم أنه عليه السلام كان مأمورًا بأكل الطيب من الطعام قال عز ذكره: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} 2. وربما كان يُهدى إليه، فقد روي أن سلمان، رضي الله عنه أهدى إليه طبقًا من رطب كما وأن بربرة رضي الله عنها كانت تهدي إليه عليه الصلاة والسلام
…
كما كان صلى الله عليه وسلم يدعى إلى طعام
…
وفي هذا دليل على حجية خبر الواحد؛ لأنه لو لم يكن خبر الواحد حجة للعمل به في حق الله تعالى ما اعتمد عليه فيما يأكله صلى الله عليه وسلم.
4-
وقد أمر الله القاضي أن يقضي بالشهادة، ومعلوم أن احتمال الكذب يبقى بعد شهادة شاهدين.. وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهادات والأيمان مع احتمال هذا الكذب، وأعلن عنه حين قال، صلى الله عليه وسلم:"إنما أنا بشر مثلكم أقضي بما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فكأنما أقطع له قطعة من النار" 3
…
هذا مع أنه كان ممكنًا له أن ينتظر الوحي، فيقضي باليقين ويزيل هذا الاحتمال.
ولو ان شرط وجوب العمل باللخبر انتفاء تهمة الكذب عن كل وجه ما وجب على القاضي الحكم بالشهادة مع بقاء هذا الاحتمال؛ إذ النتيجة تكاد تكون واحدة4.
5-
وقد سمى الله عز وجل خبر الواحد علمًا، قال تعالى:{وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} 5، وإنما قالوا ذلك سماعًا من مخبر أخبرهم به، وقال جل
1 أصول السرخسي 1/ 324، 325.
2 المؤمنون: 51.
3 رواه الشيخان. انظر اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان: محمد فؤاد عبد الباقي - عيسى البابي الحلبي 2/ 192 - 193.
4 أصول السرخسي 1/ 326.
5 يوسف: 81.
ذكره: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} 1، وإنما قال ذلك باعتبار غالب الرأي، واعتماد نوع من الظاهر، ففي هاتين الآيتين الكريمتين دليل على أن خبر الواحد علم لا ظن، والظن إنما هو خبر الفاسق، ولهذا أمر الله سبحانه وتعالى بالتوقف في خبره، حتى لا يصاب قوم بجهالة
…
ومن اعتمد خبر العدل في العمل بهذا العلم الذي ليس ظنًّا يكون مصيبًا؛ لأنه عمل بعلم لا بجهالة2.
6-
إن الذين لا يجوزون العمل بخبر الواحد يفزعون إلى القياس، مع أن الاحتمال من حيث الخطأ أقوى منه في خبر الواحد؛ لأن الأخير لا شبهة فيه، والشبهة إنما تكون في طريق الاتصال به، وفي القياس الشبهة والاحتمال في المعنى المعمول به، والطريق فيهما غالب الرأي، فكان العمل بالقياس دليلًا على جواز العمل بخبر الواحد بالطريق الأولى، ولا يستقيم عقلًا ترك العمل بما هو أقوى، والعمل بما هو دونه.
7-
إن حاجتنا إلى معرفة أحكام الدين وحقوق الله علينا لنعمل بها مثل حاجة من كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، هؤلاء الذين كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، هؤلاء الذين كانوا يسمعون منه، ومعلوم أنه بعد طول الزمن بيننا وبين رسولنا الكريم لا يوجد خبر تواتر في كل حكم من أحكام الشرع، فوجب أن يجعل خبر الواحد حجة للعمل به؛ لتحقق الحاجة إليه على هذا النحو.
8-
وإذا كان من حجة الدين لا يجوزون العمل بخبر الواحد أننا لو قبلنا خبره وهو غير معصوم عن الكذب لازدادت درجته على الرسول المعصوم الذي يتنزل عليه الوحي؛ لأن خبر الرسول يكون واجب القبول لاقتران المعجزات به، أما خبر الواحد فيقبل على النحو الذي تقولون به من غير دليل
…
- فيرد السرخسي بأن هذا غلط بيّن؛ لأن الرسول في حاجة إلى
1 الممتحنة: 10.
2 أصول السرخسي 1/ 326، 327.
المعجزات لثبوت علم اليقين بنبوته، ولم نقل: إن علم اليقين يثبت بخبر الواحد. كما يفيد خبر الرسول بالمعجزات في بادئ أمره1.
9-
إن2 الإجماع قد انعقد من الأمة على قبول خبر الواحد في المعاملات؛ فإن العقود كلها بنيت على أخبار الآحاد، مع أنه قد يترتب على قبول خبر الواحد في المعاملات ما هو حق الله تعالى، كما في الإخبار بطهارة الماء ونجاسته، والإخبار بأن هذا الشيء أهدى إليك فلان، وأن فلانًا وكلني ببيع هذه الجارية أو بيع هذا الشيء، كما أجمعت على قبول من لا يقع العلم بقوله مع أنها قد تكون في إباحة دم، وإقامة حد واستباحة فرج، وأجمعت على قبول قول المفتي للمستفتي مع أن فتواه هذه مبنية على ما بلغه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بطريق الآحاد، فإذا جاز القبول فيما ذكرنا من أمور الدين والدنيا جاز في سائر المواضع، ومنها أخبار الآحاد عن الرسول صلى الله عليه وسلم3.
183-
ثم انتقل السرخسي إلى الرد على من يقول بأن خبر الواحد يوجب العلم، كالخبر المتواتر، وقد حكاه ابن الصباغ عن قوم من أهل الحديث، وعزاه أبو الوليد الباجي "245 هـ"، إلى الإمام أحمد، وابن خويز منداد إلى مالك، وإن نازعه فيه المازري بعدم وجود نص له فيه4.
184-
وحجة القائلين بهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لمعاذ حين وجهه إلى اليمن:"ثم أعلمهم أن الله تعالتى فرض عليهم صدقة في أموالهم"، ومراده الإعلام بالإخبار.
وإذا لم يكن خبر الواحد موجبًا للعلم عند السامع ما عبر عنه صلى الله عليه وسلم بالإعلام.
1 أصول السرخسي 1/ 327، 328.
2 هذا الدليل من أصول البزدوي وشرحه كشف الأسرار.
3 أصول البزدوي وشرحه كشف الأسرار 2/ 695، 696.
4 تدريب الراوي 2/ 75.
185-
وأيضًا فإن العمل بخبر الواحد واجب، ولا يجب العمل إلا بالعلم، قال تعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 1
…
ولأن الله عز وجل قال في نبأ الفاسق: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} 2، وضد الجهالة العلم، وضد الفسق العدالة، ففي هذا دلالة على أن العلم لا يقع بخبر الفاسق، وأنه يثبت بخبر العدل.
186-
وقد يثبت بالآحاد من الأخبار العلم فقط مثل عذاب القبر وسؤال منكر ونكير ورؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة -مما يبين أن خبر الواحد يوجب العلم3.
187-
رد على هؤلاء فقال: إن القائلين بهذا خلطوا بين أمرين: بين سكون النفس وطمأنينة القلب وبين علم اليقين، والذي يحدث في خبر الواحد إنما هو طمأنينة القلب لا علم اليقين؛ لأنه ما دامت هناك شبهة الكذب واحتماله؛ فلا يوجد اليقين، وطمأنينة القلب هذه نوع من العلم من حيث الظاهر، وهذا هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم، في حديث معاذ:"فأعلمهم"، ويجوز العمل بهذا، كما يجوز العمل بمثله في تحري القبلة عند الاشتباه
…
وينتفي هذا العلم بالجهالة؛ لأنه في خبر العدل يترجح جانب الصدق بظهور عدالته، أما في خبر الفاسق فلا يترجح فيه جانب الصدق، والجهالة مثله.
188-
وأما الآثار المروية في عذاب القبر فهي توجب عقد القلب عليها؛ أي: طمأنينتة وسكينته، والابتلاء بعقد القلب على الشيء بمنزلة الابتلاء بالعمل به أو أهم وسمى بعضهم هذا نوعًا من العمل، وعقد القلب هذا غير العلم قال تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} 4، وقال جل شأنه:{يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُم} 5 "فهم تركوا عقد القلب على ثبوته بعد العلم به"، فهذا غير ذاك6.
1 الإسراء: 36.
2 الحجرات: 6.
3 أصول السرخسي: 329.
4 البقرة: 146.
5 أصول السرخسي 1/ 329.
189-
ويشير صاحب "كشف الأسرار" إلى أن معرفتنا عذاب القبر ومثله مما أثاروه بدلالات النصوص من كتاب الله عز وجل وإشاراتها لا بأخبار الآحاد1.
190-
وهناك رأي قريب من هذا الرأي الذي سبقت مناقشته، وهو أن خبر الواحد موجب للعلم ضرورة عند اقترانه ببعض الأسباب، وهذا الرأي يحكى عن النظام من المعتزلة2، وهو يقول: إنه علم يحدثه الله تعالى في قلب السامع بمنزلة العلم
للسامع بخبر التواتر؛ لأن التواتر ليس إلا مجموع الآحاد، ويجوز القول بأن الله سبحانه وتعالى يحدثه في قلب بعض السامعين دون بعض. وحجة هذا الرأي أن الواقع يشهد بذلك، ألا ترى أنه لو مر إنسان بباب، فرأى آثار غسل الميت، وسمع عجوزًا تخرج من الدار، وتقول: مات فلان، فإنه يعلم موته ضرورة بهذا الخبر.
وهذا قول باطل -كما يقول السرخسي- لأن الثابت بالبضرورة لا يختلف الناس فيه، بمنزلة العلم الذي يحدث بالمعاينة والمشاهدة، وبمنزلة العلم الواقع بخبر التواتر، ولكننا نشاهد أن خبر الواحد يختلف فيه.
191-
وعلى هذا الرأي يبطل كثير من أحكام الشرع، ولا يرجع إلى كثير من البينات، والأيمان عند تعارض الدعوى والإنكار، ولا المصير إلى اللعان وعند قذف الزوج زوجته، فإن القرائن من أبين الأسباب، وينبغي أن يكون خبر الزوج موجبًا للعلم ضرورة، فلا يجوز للقاضي أن يصير عند ذلك إلى اللعان، وفي سائر الخصومات ينبغي للقاضي أن ينتظر حتى يحصل له هذا العلم الضروري وبخبر الواحد فيعمل به3.
192-
وأخيرًا
…
هل يشترط للعمل بخبر الواحد عدد الشهادة ولا يكتفي براو واحد، كما لا يكتفي بشاهد واحد؟
1 كشف الأسرار 2/ 697.
2 الإحكام للآمدي 2/ 22.
3 أصول السرخسي 1/ 230.
رأى ذلك بعض الناس، وحجتهم في ذلك أن الشرع قد اعتبر عددًا في الشهادة لثبوت العلم على وجه يجب العمل به، فعرفنا أن الأقل من هذا العدد لا يثبت علمًا على هذه الحال، ولهذا وجدنا أبا بكر رضي الله عنه حين شهد عنده المغيرة بن شعبة، رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، ورث الجدة السدس -قال: ائت بشاهد آخر، فشهد معه محمد بن مسلمة رضي الله عنه.. وطلب عمر رضي الله عنه من أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه أن يأتي بشاهد آخر عندما روى له خبر الاستئذان، فشهد معه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه
…
ورفض عمر حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قائلًا: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت
…
وروى أبو سنان الأشجعي رضي الله عنه خبرًا في مهر المثل، فقال علي كرم الله وجهه: ماذا نصنع بقول أعرابي بوال على عقبه. فاعتبر عدد الشهادة في كل هذا شرطًا في قبول خبر الواحد كما كانوا يعتبرون العدالة في كل.
193-
ويرد على هؤلاء بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، وهذا النعت لكل مؤمن، ولا يكون كذلك إلا إذا كان يجب العمل بما يأمر به من المعروف، فاشتراط العدد في الأمر والنهي يكون زيادة على ما في كتاب الله عز وجل
…
ويقول السرخسي: إن كل ما رددنا به على المنكرين لحجية خبر الواحد هو رد أيضًا على هؤلاء، وهذا حق؛ لأننا أثبتنا أن خبر الواحد حجة بنقل راو واحد له.
194-
أما الآثار التي ذكروها أدلة على ما يقولون فلا حجة لهم فيها، لأنهم لا يستطيعون أن يثبتوا أنها نقلت إليهم على شرطهم، وهو نقل الاثنين عن الاثنين إلى أن وصلت إليهم. ولا حجة لهم فيها أيضًا إذا سلمنا أنها كذلك، فقد طلب أبو بكر رضي الله عنه شاهدًا آخر من المغيرة، لا لأن ذلك مذهبه، بل لأنه شك في خبره لداع رآه، أو لأنه أخبر أن هذا القضاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان بمحضر من الجماعة، فأحب أن يتثبت لذلك
…
وكذلك عمر طلب من أبي موسى الأشعري أن يأتي بشاهد آخر، لأنه أخبر بما تعم به البلوى، فكان بنبغي أن يعرفه العام
والخاص، فأحب أن يستوثق من ذلك، ولو لم يأت بشاهد آخر لقبل حديثه؛ لأنه قبل حديث راو واحد، في غير ذلك من الأخبار، قبل حديث الضحاك ابن سفيان رضي الله عنه في توريث المرأة من دية زوجها، وقبل حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في الطاعون حين رجع من الشام. وقبل حديثه أيضًا في أخذ الجزية من المجوس، ولم يطلب منه شاهدًا آخر. وإنما لم يقبل حديث فاطمة بنت قيس، لأنه يخالف كتاب الله، في رأيه، فقد نص القرآن الكريم على سكنى المطلقة، قال تعالى:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} على حين أنها قالت: لم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى.
195-
ولم يقبل علي رضي الله عنه حديث أبي سنان لمذهب خاص اتخذه لنفسه من أجل توثيق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أنه كان لا يقبل رواية الأعراب، وكان يحلف الراوي إذا روى له حديثًا إلا أبا بكر رضي الله عنه، فإنه كان لا يستحلفه، لثقته فيما يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد عمل علي بخبر الواحد، ومن هذا قبوله رواية المقداد في حكم المذي.
وقد قبل ابن مسعود حديث أبي سنان، هذا الذي رفضه علي، وسر به؛ لأنه لم يكن له مذهب على الذي ذكرناه.
196-
على أن باب الشهادات غير باب الأخبار، ولا يلتقان دائمًا، ففي الشهادات تقوم المرأتان مقام رجل واحد، وفي الأخبار الرجال والنساء سواء. واشتراط العدد في الشهادات توقيفي لمعنى يعلمه الله تعالى، واستأثر عز وجل بعلمه، والواجب علينا اتباع النص، وإلا فإن تهمة الكذب لا ترتفع بعدد الشهادة1.
197-
وإذا كان المحدثون لا يرون بأسًا برواية الواحد، ولا يشترطون عدد الشهادة فإنهم قد يلتقون على نحو ما مع هؤلاء؛ لأنهم يكرهون الحديث
1 أصول السرخسي 1/ 331ـ 332- كشف الأسرار 2/ 694.
الذي يرويه واحد عن إمام مشهور من أئمة الحديث، ويسمون هذا الحديث غريبًا، ويسمون راويه منكر الحديث1، يقول ابن حجر: إن ابن حنبل يطلق على من يغرب على أقرانه في الحديث، أي يأتي بالغرائب: إنه منكر الحديث
…
وقال الإمام مالك: شر العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس
…
وقال ابن المبارك: العلم الذي يجيئك من ههنا وههنا -يعني المشهور
…
وروي عن الزهري قال: حدثت علي بن الحسين بحديث، فلما فرغت قال: أحسنت بارك الله فيك، هكذا حدثنا، قلت: ما أراني إلا حدثتك بحديث أنت أعلم به مني!. قال: لا تقل ذلك، فليس من العلم ما لا يعرف، إنما العلم ما عرف وتواطأت عليه الألسن2
…
وحذر الإمام أبو يوسف من رواية هذا النوع من الحديث؛ لأنه منزلق للخطأ، فيقول: من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب غريب الحديث كذب، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس3.
198-
وكان الإمام الشافعي رضي الله عنه يرى أن حديث اثنين أرجح من حديث واحد، وحديث خمسة أولى من حديث واحد4"
…
كما تكون المتابعة من أسباب ترجيح حديث على حديث5 عنده.
ومن أعجب الأمور عند الشافعي -إن صحت نسبة هذا إليه- أنه لا يعترف برواية الواحد من أهل العراق إلا إذا كان هناك لروايته أصل في مكة أو المدينة، يقول فيما يرويه ابن أبي حاتم بسنده:"والله لو صح الإسناد من حديث العراق، غاية ما يكون الصحة، ثم لم أجد له أصلًا عندنا "يعني بالمدينة ومكة" على أي وجه كان: لم أكن أعني بذلك الحديث على أي صحة كان"6.
1 تدريب الراوي 1/ 347.
2 المصدر السابق 2/ 182.
3 الكفاية الطبعة المصرية: ص225.
4 الرسالة ص180، 281 - اختلاف الحديث 212، 230، 234.
5 العلل لابن المديني: ص89، 90، 97.
6 آداب الشافعي: ص200.